احتلال بئر الفكة
مشاغلة مؤقتة أم استراتيجية قضم عدائية ثابتة؟
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي*
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
توطئة سريعة موجزة:
في مناقشة قضايا العراق (الجديد) صار لزاما الحذر من أية مفردات قد تنزلق تفسيراتها بل تأويلاتها باتجاهات تُبعد الحوار والمعالجة عن الهدف الرئيس وتخرجه من صلب الموضوع.. إذ بات كثير من الكتّاب الموضوعيين – وعلى الرغم من كل التأني والتدقيق والحذر - وبمجرد تناولهم واقعة بعينها عرضة للاتهامات الباطلة والتضليلية تلك التي تحاول وضعهم في خانة دولة إقليمية أو أخرى ففلان عميل إيراني أو بالعكس عميل عروبي وهكذا تنتهي المناقشة مختزلة بهذي التهمة فيما تنتفي مناقشة الموضوع الرئيس؟ ولا عجب في مثل هذا الخطاب غير المستقيم فهو أدخل في حملة مقصودة في الغالب كيما يختفي الرأي الصائب ويوقف عن التأثير في جمهوره...
لكننا في محاولة لتجنب مثل هذه اللغة وتجنب تيه مَن يستهدفون التضليل أو يقعون عن غير قصد أحيانا فريسة خطابه، ندعو إلى حصر أية مناقشة بجوهر الموضوع المتمثل في الواقعة قيد المعالجة.. وهنا في معالجتنا هذه يتمثل الموضوع بسلسلة من الوقائع العدوانية والتجاوزات وأشكال التدخل والاختراق في العراق تلك المحددة والمتوجة بنموذج بعينه هو احتلال بئر الفكة.. كما ندعو إلى أمر ثانِ ِ أهم في قراءتنا وهو تأكيد الحرص على معالجة القضية موضوعيا وبدقة تستند إلى الوقائع على الأرض بالملموس وبطريقة لا تتجه ولا تدعو إلى أية حلول عنفية بأي وجه كانت. وندعو كذلك [وبناء على منطق العقل العلمي الحصيف] إلى توكيد إيماننا المشترك بوحدة نسيج المجتمع العراقي شعبا يحترم تعددية أطيافه القومية والدينية والمذهبية ويحيا بروح العدل والمساواة بين أبنائه جميعا على أساس الهوية الإنسانية الجوهر وعلى أساس مرجعية (الوطني العراقي) والرفض التام القاطع لتهمة (العمالة) تجاه أي طيف عراقي؛ وهي تهمة عادة ما يفترضها بعضهم في تأويلات تخلط الأوراق ليتجنبوا مناقشة الحقائق وفضحها.. وتوكيدنا الرابع في توطئتنا لمعالجتنا هذه يتمثل في موقفنا الثابت في توكيد علاقات التعايش السلمي وحسن الجوار وبناء جسور الإخاء بين شعوب المنطقة على أساس المواثيق الدولية واحترام المصالح المشتركة ورفض استخدام القوة في علاقات الجوار واللجوء بالأساس إلى الحلول الدبلوماسية والحوار في القضايا العالقة...
قراءة في مسلسل الاعتداءات:
نبدأ قراءتنا بسجل حافل لسلسلة من الخروقات التي طاولت الحدود العراقية من (قوات) الجارة إيران. فلطالما شهدت الحدود الشمالية الشرقية من مدن كوردستان وقراها اعتداءات مسلحة بمختلف أنواع الأسلحة وتوغلات تذرعت دائما بمطاردة (العصاة المتمردين حسب مصطلحهم؟!). وتغييرات على الأرض في العلامات الحدودية رصدها المواطنون من أبناء المناطق الشرقية للعراق ومعروفة (أيضا) أخبار أم الرصاص ومشكلات المتغيرات في شط العرب وشاطئيه، وليس أخيرا استكمال سلسلة التجاوزات برفع العلم الإيراني على البئر الرابع لحقل الفكة؟
الاعتداءات ليست متوقفة وهي سلسلة متصلة كان من بين أخطرها تغيير مجاري عدد من الأنهر وحجب بعضها نهائيا عن دولة المصب (العراق) خلافا للأعراف الدولية؛ فالوند بقي وادِ ِ بلا مياه النهر الذي وجهوه إلى اتجاهات جديدة أخرى، وأكبر منه وأهم هو نهر الكارون، وما جرَّهُ ويجره تغيير مجراه بالكمال والتمام من مشكلات خطيرة هددت الحياة في مدينة الثغر العراقي (البصرة) بملايين سكانها..
وفوق ذلك وإمعانا في السياسات التي إن لم تسجل اعتداء سافرا مباشرا فهي تسجل تهديدات غير مباشرة بإنشاء مشروعات نووية وأخرى كيمياوية حتى بات تصريف النفايات باتجاه المدن العراقية المتاخمة يهدد حيوات أبناء المدن العراقية الجنوبية وكل شكل للحياة هناك بالذات تهديد الثروتين الحيوانية والنباتية! وبالمرة نذكـِّر هنا بتلك الأفعال التي هاجمت الثروة السمكية والطيور في الأهوار قبيل مدة قصيرة، مما يعرفه أبناء المنطقة جيدا...
إنَّ إحصاء موجزا لمثل هذه الممارسات العدائية الصغيرة منها والكبيرة وتهديداتها لأمن العراق لن يقف عند هذا السجل حسب بل يفتضح الأمر بمقدار مراجعة ما أعلنته القوات الأجنبية وبعض الأرصاد المعتمدة لوجود الأنشطة الاستخبارية وأعمال الدعم اللوجيستي بالمال والسلاح للميليشيات داخل الأراضي العراقي، وخلق أشكال الغطاء والتخفي من أنشطة تجارية وأخرى تحتمي في ظلال واجهات من (بعض) منظمات مجتمع مدني أو (بعض) أحزاب سياسية أو على وجه الدقة عناصر محددة فيها...
فصار للجارة إيران [لسلطتها السياسية] الأذرع التي وصلت إلى الحد الذي جرى تغطية كل تلك الاعتداءات مثلما جرت وتجري محاولات تمريرها والتعتيم عليها بتصريحات (رسمية) نيابة عن المسؤولين الإيرانيين!!! إذ لم يحصل في العرف الدبلوماسي أن انبرى وزير أو مسؤول من دولة للتغطية على عدوان دولة أخرى على شعبه وسيادة أرض دولته، سوى ما حصل ويحصل من (شخصيات) بعينها في المشهد الرسمي العراقي!
ففي وقت يفضح الإعلام وصوت المواطن ما يجري من عدوان سافر يصرّ (مسؤولون) عراقيون على عدم وجود مثل هذا العدوان والأدهى أن مثل هؤلاء (من المسؤولين العراقيين) يوغلون في إصرارهم على نفي العدوان على الرغم من اعتراف مسؤولي إيران أنفسهم بحدوثه!؟ ويمكننا تمييز (بعض) هؤلاء في عضوية البرلمان العراقي وهم ممن انتمى لما يسمى جيش القدس أو فيلق القدس وآخرون في مسؤوليات حكومية وهم لعهد غير بعيد ممن خدم في اطلاعات غير الخافية تركيبتها ومهامها...
ولطالما جرى التبرير الرخيص وإطلاق أعذار أقبح من ذنب بعدما يجري لا افتضاح التجاوزات وأشكال العدوان بل الاعتراف الصارخ به من جهة مسؤولي العدوان والتجاوز وهكذا صرنا في اعتياد على وجود أصوات [تبقى محددة محدودة] رسمية مسؤولة في الحكومة العراقية تدافع باستمرار عن إيران وأعمالها العدوانية في داخل الأراضي العراقية وتبرر لهم وتحاول تسويغ ممارساتهم حتى مع وجود أصوات رسمية إيرانية تعترف بجريمة العدوان...
ويمكن على سبيل المثال أن نتابع حديث بعض المسؤولين عن (حقول نفطية مشتركة) تبريرا لجريمة العدوان واحتلال أراض عراقية.. وفيما المصطلح يشير إلى إمكان استثمار مشترك للحقل كل طرف من داخل أراضي دولته، يحاول المسؤول العراقي أن يبرر الاحتلال بهذا المصطلح بخلاف معانيه ومحدداته وهو ما يعني استغفالا واضحا للشعب ومحاولة لتمرير الجريمة أو التغطية عليها.. وحصل هذا في (بعض) تصريحات لـ(بعض) مسؤولين كبار في وزارة النفط بالخصوص.
وقد نفى [أيضا] على سبيل المثال ناطق مسؤول في الحكومة العراقية الاحتلال الإيراني وعندما تأكد افتضاح الواقعة عاد ليتحدث عن انسحاب لم يتم على أرض الواقع والمؤكد ميدانيا اليوم وجود القوات الإيرانية على مبعدة خمسين مترا من البئر المحتل فيما تقف القوات العراقية على بعد 300 متر عن البئر العراقي علما أن هذا البئر يقع داخل الأراضي العراقية بمسافة بيِّنة، فكيف نفسر الأمر؟!
بعد كل هذه الحقائق؛ كيف نفسّر سلسلة الوقائع العدوانية الإيرانية؟ أهي مجرد أخطاء والتباسات بسبب بعض القطعات العسكرية أو بسبب بعض القراءات غير المتعمدة من أطراف في الحكومة الإيرانية؟ أهي مجرد شطحات عناصر متشددة لا سلطة للحكومة الإيرانية عليها؟
بمراجعة سريعة لفلسفة السلطة العليا في إيران نجدها تعلن بوضوح توجهها لتصدير تلك الفلسفة وإنشاء إمبراطورية تمتد من أعماق آسيا لتعبر الحدود العراقية تحديدا فيه تتجه إلى كربلاء والنجف حيث فلسفة التقية المعتمدة رسميا وهي طاقية التخفي وراء شعارات الطائفة والمذهب والدين وكل هذا من المطامع المفضوحة براء... ويرصد المتابع تصريحات رسمية إيرانية تتحدث عن تبعية لا الأراضي العراقية بل دولة عربية بأكملها (البحرين) حيث مازالوا يحتفظون بممثل لها في مجالسهم الإيرانية الرسمية العليا وطبعا ما زال احتلال الجزر الإماراتية الثلاث وبات من نافلة القول الحديث عن العلاقات (غير الطبيعية) مع أذرع في لبنان واليمن وفلسطين وبلدان عربية كمصر والمغرب وغيرها...
وذكر هذه الأمثلة هو محاولة لتسليط الضوء على جوهر فلسفة السلطة الإيرانية.. ولتسجيل شامل دقيق لهذه الفلسفة التي تعتمد الروح العدواني تجاه المنطقة وخلق القلاقل وبعثرة الجهود وشرذمة الوضع وتفتيت الوحدة الوطنية في بلدان الجوار تسهيلا لتدخلاتها. ولمن يريد توصيف السلطة الإيرانية عليه أن يتجه لقراءة موقف الشعوب الإيرانية في انتفاضتها الجماهيرية الواسعة الجارية اليوم وطبيعة القمع الدموي لكل صوت يطالب بحقوقه المشروعة..
فلا القوميات ولا المجموعات الدينية والمذهبية تحظى بحقوقها المشروعة والثورات تتوالى مطالبة بحقوق الكورد والعرب وغيرهم.. أما حقوق الإنسان فقد وصلت إلى المستوى المتدني الذي باتت فيه أجهزة القمع تضرب حتى عناصر من داخل النظام ذاته.. وتوسعت عمليات القتل اليومي والاعتقالات وطاولت مرجعيات دينية وسياسية كبيرة ومهمة هناك جملة أحداث تكشف حقيقة النظام وفساده وعدائه لشعبه ولشعوب المنطقة والعالم...
إنّ هذه الحقائق تجعلنا نتساءل عن سرّ الدفاع عن السلطة الإيرانية من (بعض) من الساسة العراقيين (الجدد) وبعض ممن يحسب نفسه على قائمة الكتّاب (العراقيين)؟ ونحن بالمناسبة لا يعنينا هنا سوى أمرين هما:
1. البحث في وسائل تكفل سلامة شعبنا وسيادة العراق واستقرار المنطقة وابتعادها عن الهزات المفتعلة وعن المطامع واختلاق الأحقاد والاحتراب وروح العداء..
2. التضامن السلمي الإنساني مع الشعوب الإيرانية في نضالها التحرري وتطلعاتها في التأسيس لعلاقات صحية سليمة مع الجوار.. وبما لا يخرج عن الموقف الأدبي المعنوي في هذا التضامن ولا يسجل أي شكل من أشكال التدخل في خيارات الشعوب الإيرانية وقرارها المستقل تماما..
ومن الطبيعي أن يكون لكل فعل رد فعل مناسب؛ فالقمع السلطوي العنفي الدموي تجابهه انتفاضة الشارع الإيراني المطالبة بالحقوق الديموقراطية العادلة وبالتأكيد تنتظر الشعوب الإيرانية تضامنا فاعلا من الأشقاء والأصدقاء.. الأمر الذي يجب أن يلتزم ويتحدد بالشرعة الدولية وقوانين حقوق الإنسان ولا يتجاوزها وهو ما أشرنا إليه بحدود التضامن ومفرداته وأساليبه..
وفيما يخص العراق ودول المنطقة وشعوبها فبمقابل استراتيجية العدوان ومفرداتها في التدخل ومحاولة شرذمة الأوضاع وهزّ استقرارها ينبغي أن توجد استراتيجية جماعية للعراق ولدول المنطقة ترسم وسائل الرد (السلمي) الذي يقرأ حجم التهديدات وطبيعتها ليضع المعالجات الكفيلة برد الحقوق من جهة ومنع التجاوزات والأعمال العدائية ويطمِّن في الوقت ذاته علاقات حسن الجوار ويجعلها الفلسفة البديلة للعدوانية ولروح العنف والعداء لدى الآخر..
ومن ضمن استراتيجية الدفاع والحلول السلمية يلزم تنقية الوطن من الامتدادات والأذرع التابعة وتعميد ثقافة الوحدة الوطنية والمرجعية الوطنية الثابتة التي تتمسك بالعدل والمساواة والإخاء وبالتوجه للآخر بأيدي علاقات التعايش السلمي والتعاون لمصلحة شعوب المنطقة ودولها..
على أنه ينبغي القول: إنّ التوكيد على الحلول السلمية لا يأتي من ضعف الحال (بخاصة في الوضع العراقي) ولا يأتي من التعب من الحروب بل من إيمان مبدئي ثابت برفض تلك الحروب (العبثية) وإيمان راسخ بالبدائل للغة العنف والاحتراب وإشعال الفتن وأشكال الاقتتال الداخلي كما يجري في دعوتنا للحلول التي تعتمد توفير السلم والاستقرار والتنمية وتوفير المزيد من الإجراءات الديموقراطية لصالح شعوب المنطقة بالضد من فعاليات (قوى سلطوية إيرانية تحديدا) في دعمها الإرهاب عراقيا وشقها الصف الوطني فلسطينيا وإشعالها أو تغذيتها حربا طاحنة في اليمن وتهديدها الأمن والسلم الأهليين في عدد من دول المنطقة وفي كونها بنك الإرهاب الدولي الذي يبقى بهذه السياسات الرعناء من بين مصادر ذاك الإرهاب الأخطر عالميا..
ألا نحتاج لحذر جدي مسؤول يمنع تلك التدخلات والأعمال العدوانية، ولا يكتفي بالقراءات السياسية أو بالبيانات والتصريحات الحزبية بل يبحث في الخطة الاستراتيجية المناسبة أم أننا سنبقى أسرى الخشية من مفردات خطط التضليل وخلط الأوراق..
لا أعتقد إلا بواجب الثقة التامة بأهلنا من العراقيين بكل أطيافهم بلا استثناء في الدفاع عن وجودهم وحقوقهم الوطنية والتصدي لأعدائهم.. وتلك تجربة احتلال بئر الفكة التي لا ينبغي أن تمر مرورا عابرا فتكون الثغرة التي تتسع حتى تشمل البلاد وتسبي العباد... فالحذر الحذر!