قراءة في بعض مفردات عمل وزارة الثقافة
التحول النوعي المؤمَّل من انغلاق الدائرة (البغدادية) للوزارة إلى انفتاح الدائرة (العراقية) لها!؟
أ.د. تيسير عبدالجبار الآلوسي*
نحن في السنة السابعة وما زال مثقفو العراق يحلمون متطلعين (بمعنى الفعل وممارسة الجهد وعدم الاكتفاء بالحلم)، حيث ترنو الأعين إلى "مجلس وطني للثقافة" في العراق. مثلما يحاولون الانتصار لوزارتهم كيما تبقى بعيدة عن مشكلات العراق [الجديد] بخاصة منها (السياسية) تلك التي يحصد فيها الصراع الحزبي والمحاصصات أغلبيته المتحكّمة السائدة! بدعم العناصر الحية الفاعلة فيها وبوسائل موضوعية مناسبة أخرى...
مَن يتمعن في وزارة (الثقافة) سيُصدم من كونها (على العموم) جزءا من (حكومة التوافق) وممارستها وأنشطتها وليس جزءا من مشروع إعادة إحياء الثقافة وغنى فعالياتها وعمقها الإنساني وجوهر الهوية الوطنية بكل ما فيها من تنوع وتعدد في المشارب والروافد والمصبات...
وللحقيقة والدقة لابد من القول: إنَّ الوزارة تحتضن بعض الطاقات الثقافية والشخصيات التي تحاول جاهدة أن تفعل شيئا ولكنها تبقى مكبلة بسلطتين رئيستين:
1. إدارة طارئة على الثقافة من تلك التي تتعاطى مع محاصصة من العمائم (وغير العمائم) ومصالحها الفئوية الضيقة، وتحتل بعض المسؤوليات لتمارس عبر قراراتها وحركتها الدور الأكبر في عرقلة المشروع الثقافي الحقيقي المؤمل.
2. وعلى الرغم من هذه الإدارة التابعة أو الممالئة للحكومة وفلسفتها (السياسية) تمعن خطة الحكومة (المنتخبة) في تهميش كل ما له علاقة بالمعرفة.. فتمحض وزارة الثقافة ميزانية لا تسمن ولا تغني من (جوع)!؟ وليس هذا بعجيب إذ أن الميزانية الحكومية تنظر شزرا إلى وزارة التربية وإلى وزارة التعليم العالي والبحث العلمي وإلى وزارة التكنولوجيا والعلوم وإلى كل ما يهمّ العقل العراقي ومنحه فرصة الحركة الصحية السليمة بعد عقود وسنوات من زمن حصار وإفقار ومصادرة واستلاب وتصفية!؟
تداعى هذا وبعض ملاحظات إلى الذهن وأنا أراجع مع بعض أصدقاء محاولات المثقف العراقي وتجمعاته الثقافية في الوطن والمهجر من أجل تفعيل ما ترسَّموه من خطط لولادة المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون وخطط تفعيل وزارة الثقافة وأنشطتها.. وتحديدا عندما تطلعتُ لبضع محاولات جدية على سبيل المثال محاولات عقد مهرجانات للثقافة؟
وللذاكرة كنتُ شخصيا، من بين آخرين، قد دعوت في مطلع المتغيرات الدراماتيكية في عراق ما بعد 2003 إلى الشروع بمنح استقلالية حقة للثقافة ومؤسساتها ومنحها الدعم المناسب لحجمها ودورها الأبرز في الحياة العامة.. وفي الإطار كانت دعوتي لعقد كرنفالات جماهيرية بمواسم أعياد العراقيين وأفراحهم في محاولة لإزالة الغمة وسوداوية الأجواء الماضوية وتلك التي كنّا نرى تبييت (بعض القوى الجديدة الدخيلة) للعراقيين أرادوا اصطناعها وفعلوها..
وبدل أن يحتفي العراقيين بالمتغير الجديد، وبدل أن يحتفوا بعودة أبنائهم المهجَّرين، وبدل أن يحتفوا بإعادة إحياء حقوقهم المستلبة ليمارسوا الحياة الإنسانية بأفراحها وانتصاراتها وأعياد العمل والبناء والولادات المجيدة؛ بدل كل ذلك صاروا إلى طغيان مفرط (بولغ فيه) حتى غطى كل السنة بسوداوية طقسية وكأن الحياة انعقدت على مدارها لنبكي طوال أيام السنة أسلافنا أجدادنا الذين رحلوا وهم الذين أوصونا بكلماتهم وأفعالهم بأن نحيا وجودنا بروح إنساني صادق وعقل صحيح سليم بخلاف ما يُفرض اليوم على الحياة العامة للعراقيين من عزاءات متصلة مستمرة...
ومع ذلك فقد نفذ بعض مثقفي الوطن ومنهم تحديدا ممثلو ثقافة المجموعات القومية والدينية العراقية المتآخية ممن ظلت أزمنة الدكتاتورية والطغيان تستلبهم حق الحياة والفعل عقودا طويلة..
فانعقد في بغداد على سبيل المثال مهرجان للثقافة الكوردية بميزانية ليست من (كيس) وزارة الثقافة [الاتحادية] في بغداد.. ومع ذلك فالعجيب الغريب انعقد المهرجان بلا جمهور!!!
وعند الحديث عن الأسباب ستتوارد أسئلة كثيرة من نمط أين كانت دائرة الثقافة الكوردية في الوزارة البغدادية؟ وما الظروف التي منعتها من النهوض بواجب الربط بين المبدعين وجماهيرهم؟ وأين كانت الدوائر الإعلامية للوزارة الاتحادية؟ وأين كانت الصحف والفضائيات المعنية بهذه الأنشطة؟ أليس مجيء مبدعي كوردستان ومثقفيه إلى بغداد خطوة محورية مهمة لتفعيل الوحدة الوطنية التي يُفترض أن الحكومة المنتخبة تتحدث عنها وأن مهمة وزارة الثقافة الاتحادية تصب وتتمحور فيها؟
هل كانت الصورة ستكون كذلك وتبقى قاعة الاحتفالية فارغة كما بدت لو كان من خبر مناسب عنها؟ وإذا كان جمهور ما سيعزف عن الاحتفالية لأي سبب أو تبرير، فهل كان مئات ألوف الكورد ممن يعيشون في بغداد سيعزفون عن هذا النشاط الذي يعبر عن جمالياتهم واحتفالهم بالحياة؟ هل بالفعل لا توجد جماهير لاحتفالية كبيرة ومهمة كهذه؟
ثم ألا توجد جهات إعلامية حزبية تساند إعلاء كلمة الثقافة التعددية ومصادر تنوع الهوية في إطار وحدتها الوطنية الإنسانية؟ ألا يوجد من يناصر احتفاليات المجموعات المسيحية، المندائية، الأيزيدية؛ والكلدانية الآشورية السريانية والتركمانية والأرمنية والصابئية؟ الأدهى من ذلك أن الاحتفالية كانت تمثل أحد جناحي العراق اللذين سجلهما الدستور بوصفهما مكوني العراق الفديرالي الجديد؟ الاحتفالية مثلت ليس وزارة الثقافة الكوردستانية حسب بل فلسفة توكيد الروح الفديرالي الوطني العراقي وطبيعته الثقافية الغنية بتنوعاتها.. فلماذا تنعقد الاحتفالية هكذا بلا جمهورها بل بعدد محدود من ممثلي المسؤولية الرسمية والحزبية في بغداد أي حتى بلا معنيين بالنشاط الثقافي من نخبة ومسؤولين؟!
سؤال لم أستطع توجيهه لأيّ طرف رسمي أو شعبي (محدد) في حينه.. في محاولة متأنية للاطلاع على ظروف دائرة الثقافة الكوردية في الوزارة الاتحادية قبل السؤال وقبل نتائج التفاعل وقبل احتمالات الإجابة وطبيعتها...
ولكن مع ذياك التأني وفي محاولة لرصد الحقيقة وعند الاقتراب والتعرّف إلى أوضاع تلك الدائرة التي أشرنا إليها سيفضي إلى نتيجة تؤكد القول: إنّ تسمية وزارة الثقافة الاتحادية بالوزارة البغدادية سيكون أكثر من صادق ودقيق.. فهي بحق محاصرة لا تستطيع مدّ يدها إلى محافظات البلاد ولا حتى إلى ضواحي العاصمة البعيدة عن مقرها! والعلة ما زالت في المخصصات!!؟
ولكن الأدهى يتكشف عندما تأتي بمنجز وبميزانية ليست من جيب الوزارة (البغدادية) ولكن النتيجة تكون كما ظهر في احتفالية بغداد التي بقيت فيها المقاعد فارغة فيما احتفالية حزب في ذات القاعة غصت كراسيها بجمهوره بل إنّ عرضا مسرحيا دام بجمهور غفير (ملء تلك القاعة) طوال أكثر من شهرين!!!
المسألة عند الرصد ستحتاج إلى مراجعة، بخاصة مع اكتشافنا أن دائرة الثقافة الكوردية في وزارة الثقافة البغدادية ما زالت مقصية مهمشة لحد يصل بتدنيه إلى ما هو أسوأ من زمن الدكتاتورية!؟ فلا الدوريات ولا المطبوعات والكتب ولا الاحتفاليات والبرامج والأنشطة بمتاحة بأية طريقة ويمكن لقارئي اليوم أن يسأل المعنيين عن الأرقام المدهشة في ميزانية تلك الدائرة وإمكانات حركتها والعناية بأنشطتها؟
طبعا، هذا بخصوص دائرة الثقافة الكوردية فما بالك بثقافة سريانية أو تركمانية أو مندائية؟ هل يمكن أن نسمي وزارة الثقافة الاتحادية هذه وزارة الثقافة العراقية؟ هل يمكن بمثل هذه الأوضاع أن نسميها بالفعل وزارة فديرالية؟ وزارة تُعنى بالتعددية القومية والدينية، اللغوية الثقافية؟ هل يمكن تسميتها وزارة عراقية تُعنى بكل العراقيين على أساس من المساواة والإخاء والعدل في حين لا مقارنة تُذكر بين ما ترصده وبين رصيد ميزانية اتحاد أدباء دهوك ومبناه ونتاجاته وأنشطته تعادل عشرات المرات ميزانية دائرة مختصة على المستوى الاتحادي؟
المثقف العراقي يخجل من هذي الثغرات الخطيرة التي تتقصد مواصلة التهميش والاستلاب وعرقلة الجهود الوطنية للعناية بأنشطة العقل الإبداعي العراقي بكل أطيافه.. ولكنه بريء من سطوة (السياسي) على (الثقافي) في الوزارة (البغدادية) التي ينبغي لها ألا تبقى بحدود بغداد كونها وزارة اتحادية تشمل [افتراضيا] جميع العراقيين بمساواة وعدل!؟
وملخص السؤال الاحتجاج الذي يثور في استنتاجنا هنا يقول: لماذا هذا الإجحاف والإمعان في تهميش ميزانية دائرة الثقافة الكوردية على سبيل المثال؟ ولماذا التراجع في دعم خططها وأنشطتها؟ ولماذا هذا الانكفاء عن الاستجابة للبرامج الآتية من جموع مثقفي الوطن بأطيافهم ومنابع هوياتهم الثقافية الإبداعية؟ إنَّ هذه الأسئلة تولد من هنا في المهجر.. فما بالنا بأولئك الذين يعيشون الهمّ يوميا؟
الأسئلة ستتحدث عن مشروعات وصلت الوزارة البغدادية ومسؤوليها من مشروع المجلس الوطني للثقافة وحتى مشروعات تحديث المؤسسة الثقافية في مجالات السينما والمسرح والتراث والمتاحف والفلكلور ومديريات الثقافة للسريان، للتركمان، للكورد، لكل لغة ووجود يلزم أن نعلي احترامنا وأن نحقق اعترافنا الوطني والإنساني به..
فهل سنسمع غدا مثلا بمديرية ناشطة فاعلة للثقافة الصابئية المندائية؟ التركمانية؟ والسريانية؟ أضع هذا السؤال على أساس أن الثقافتين العربية والكوردية ستحظيان بالميزانية وبالدعم المنشودين وبالفاعلية والنشاط.. وعلى أساس أن سنّة التقدم والتطور ومسيرة الزمن وتراكمه سيؤدي إلى تعزيز الاهتمام بثقافات الوطن بلغاته، بمنتجه الذي يحترم الجميع ويزيل غمام زمن التخلف والمصادرة والتهميش...
لا نريد خطابات دعائية بخاصة في مرحلة الانتخابات.. ولا نريد ديماغوجية تضحك على الذقون تعلن أمرا وتضمر آخر. وما عاد مثل هذا يمرّ على المواطن، أو يسكِّن بعضا من آلامه وأوجاعه وأوصابه..
ننتظر فعليا إقرار مطالب وبرامج وتطلعات وطموحات بخطط عملية للبناء والتقدم.. نتطلع لأن نرى برلمانا ثقافيا عراقيا حيا فاعلا في الوطن والمهجر، ينعقد مؤتمره باستقلالية تنظيمية وبغطاء مالي رسمي مناسب بخاصة في اتجاه إيجاد صندوق للدعم سواء في الأزمات والطوارئ التي تصادف المبدعين أم في دعم مشروعاتهم الإبداعية.. نتطلع لوجود روابط واتحادات ثقافية لأدباء وفناني المجموعات القومية والدينية وأن نجد الجمعيات التخصصية مدعومة مفعلة في إطار مجلس وطني للثقافة والآداب والفنون من مثل جمعية مندائية جمعية أيزيدية جمعية تركمانية جمعية أرمنية جمعية شبكية جمعية يهودية جمعية مسيحية جمعية سريانية كلدانية آشورية وجمعيات كوردية وأخرى عربية بمساحة الوطن ومهاجره القصية..
ننتظر مثلا مبادرات رسمية كتلك التي جاءت إلى برلين داعمة جهدا ثقافيا مهما وأن تتحول إلى ممارسة وطنية رسمية متصلة في أبرز تجمعاتنا المهجرية كما في لندن ولاهاي واستوكهولم وغيرها.. وأن نجد خططا سنوية لاحتفاليات كرنفالية شعبية واسعة كما في الاحتفالية السومرية الجذور في 14 تموز الدالة على عيد الحياة وتتويج ثمار ربيعها ومهرجانية كما في أعياد العمل والحصاد وشجرة العراق والعالم الأولى لنعيد احتفالية وعيدا للنخلة التي تكاد تغادرنا مكسوفة مكسورة إلى دول صحراوية تتحول اليوم بها إلى خضرة وسواد بدل خضرة وادي الرافدين و (سواد) غاباته... نتطلع لاحتفاليات تكريم الأحياء وطنيا بعد أن بادرت وزارة الثقافة الكوردستانية للشروع باحتفاليات الوفاء التكريمية هذه..
فهل سنكرّم الزهاوي والرصافي؟ وهل سيطول انتظارنا لتكريم الجواهري ولو أن هذا يأتي بعد رحيله؟ هل سنكرم السياب والبياتي والملائكة؟ هل سنكرم عبدالجبار عبدالله؟ هل سنكرم علماء وأدباء وفنانين ما زالوا يقارعون الألم والمرض والقهر في منافيهم ومهاجرهم أو بين جدران بيوتهم العتيقة؟ هل سنمضي في إعلاء شأن احتفاليات الفرح؟ هل سنوجد فرصا لميزانيات استعادة تراثنا المنهوب؟ وهل سنمضي في عناية مخصوصة بآثارنا؟ ومكتباتنا؟ وهل سنلتفت إلى دور العبادة المندائية والأيزيدية واليهودية والمسيحية وهذه جميعا نمتلك فيها مراكز ((حج)) أتباعها والمؤمنين بها هنا في بلادنا وعلى أدنى تقدير لأسباب ودواعِ ِ سياحية ومادية وثقافية مدنية؛ لنتجه إلى استثمارات دولية فيها مفسحين مجالا، فاتحين بوابات جدية كبرى ليكون ملتقى الديانات هنا تعبيرا عن الحوار بينها واللقاء والتفاعل كما كانت هذي الأرض ميدانا للتسامح والسلام والتفاعل الإيجابي البناء..
هل وهل وهل وكيف ولماذا، بدأت في كلمتنا هذه بواقعة استثارت كل هذي الأسئلة ولكنها لم تنتهِ كما ترون إلا على أسئلة كبرى تهمّ الفكر الذي يسود اليوم والخطط الاستراتيجية البعيدة على المستوى الوطني والإنساني وعلى مستوى التعاطي مع الحقائق بعيدا عن التبريرات والترقيعات والدفاع عن فعل هذا ومنجز ذاك بخلفية سياسية محاصرة بالمحاصصة وبأزمة الدعم والاهتمام وبأولويات حكومية حزبية متعارضة مع أولوية العقل ومنطقه تعليما وثقافة...
وهل من مجيب؟ في جزئية أو كلية مما ورد هنا، بخاصة من تلك العناصر الإيجابية التي تثابر في محاولة للبناء من داخل الوزارة ومؤسساتها.. وللحديث بقية.
للاطلاع على مشروعات ثقافية سابقة يرجى التفضل بدخول الروابط الآتية:
http://www.somerian-slates.com/p373.htm مشروعات للثقافة للتطوير والتأسيس
http://www.somerian-slates.com/p563jcm.htmالمقدسات الدينية بين خطاب التسامح والتفاعل افيجابي وفلسفة التنوير الثقافي
http://somerian-slates.com/C016.htmكرنفالات سومرية في مدن العراق كافة
* رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر \ رئيس جامعة ابن رشد في هولندا \ مستشار رابطة الكتّاب والفنانين الديموقراطيين العراقيين في هولندا