التأثيرات السلبية لروح الفرْدَنَة والانعزالية

في الحياة السياسية والعمل الجمعي عامة

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2003\ 12 \ 12

لا مناص لي في البدء من القول بأنَّ هذه الإشكالية العويصة تظل من جهة الحلّ بيد المتخصصين من علماء النفس والتربية وعلم الاجتماع كذلك.. أما ما أتناوله هنا فينصبّ على التأثيرات السلبية في المشهد السياسي وفي مجال العمل الجمعي بعامة. وتبرز ظاهرة الفردنة وروح العزلة عند الأفراد في المجتمعات شديدة المركزية في الحكم الذي يسوسها وفي تلك التي تستظل بمبادئ الروح البطرياركي التوتاليتاري الشمولي. حيث يتمّ في مثل هكذا وضع استلابُ الشخصية من حرية التصرف العلني نظرا لطبيعة الاستبداد في الحكم من جهة ولمنع النمو الطبيعي لها ولكلّ مفردات أو مكوّنات المجتمع الأساسية كالعائلة وأعضائها.

ومثل ذلك ما يستتبع النظام المركزي من تشديد في المراقبة إلى حدّ يتجاوز المنطق الإنساني العادي لتتوالد ظواهر جديدة منها حالات انعدام الثقة بين المجموعات والأفراد أنفسهم؛ وتعميق ظاهرة تبادل الاتهامات وإطلاقها جزافا بغير دليل بخاصة مع خواء الذهنية أو الخلفية العقلية للشخصية. كما تتعزز حالة الدفاع السلبي للشخصية ضد مثل هكذا استلاب لطبيعتها الإنسانية العادية وإخضاعها للمتابعة والمراقبة القاسية المتمثلة بسيادة حقيقة (الحيطان لها آذان). ومن ثمَّ تتمظهر حالة الدفاع السلبي في العزلة التي تفرضها الشخصية على ذاتها في محاولة لمنع الاختراق ومنع تعرضها للمحظورات التي تودي بها إلى الهلاك.

ولعلّ ما يتلو العزلة في الظروف غير الطبيعية للمجتمع هو روح الاستئثار والنظرة الأحادية الضيقة التي لا ترى إلا قيم الفرد وحاجاته المقدَّمة أولا على كلّ ما عداها من قيم إنسانية. وفي حالتنا العراقية وصل الاختراق في انعدام الثقة حتى داخل العائلة العراقية ما وفّرَ مبررات أبعد وأشدّ لذاك الروح الفردي ولمحاولة إحاطة الذات بمزيد من الحذر والحيطة غير الموضوعيتين! وتوالد عن التراكمات المتعاظمة عبر امتداد عقود الحكم الدموي مزيد من التقوقع على الذات وسيادة الفردنة واضمحلال القيم الجمعية وتراجعها. ومن الطبيعي أنْ تكون معطيات مؤسسات الدولة وجوهر سماتها السبب البعيد للإشكالية التي نحن بصددها...

ولا غرابة بعد ذلك من قراءة ظواهر عدم الاستجابة للعمل الجمعي ومنه عمل النقابات والجمعيات والأحزاب والمنابر السياسية والاجتماعية بل اهتزاز الثقة بكل هذه القوى إلى الحدّ المَرَضي السلبي الذي لا يحاصرها ويضعفها بل قد يؤدي إلى القضاء عليها في ضوء متوالية رفض كلّ الماضي: السلبي منه والإيجابي كذلك.. أيّ رفض القوى السياسية الأصيلة التي كافحت طويلا وقدمت أكبر التضحيات من أجل رسم الغد الأفضل. إنَّ ما يبرِّر للنفس العزلوية الفردانية تصرفاتها مضاعفات الواقع السياسي ومتغيرات الأوضاع التي جاء بعضها باتجاه مزيد من التخريب عبر ترافق انهيار المؤسسة الخدمية مع هزيمة مؤسسات الدولة الفاشية القديمة, وسيكون تكرر مشهد الأداء التقليدي السلبي لهذه المؤسسات من رشاوى ومحسوبية وما إلى ذلك ما يعرقل خدمة المواطن مزيدا من التأثير المرضي...

إنَّ حالة عدم الاستقرار القائمة هي حالة طارئة مؤقتة في وجودها وفي الظواهر الناجمة عنها. ولكنها لا تنتهي بشكل آلي طبيعي بل تحتاج لمعالجات جدية مسؤولة ومتفاعلة مع الواقع. ينبغي لها أنْ ترتقي إلى مستوى الأعباء الكبيرة المطلوبة لإزالة آثارها بأقل الأضرار والكُلَف وبالسرعة التي تمنع دخولنا في دوامات تفريخ الأزمات والعقد بمتوالية هندسية خطيرة (أقصد بالهندسية مضاعفة الآثار السلبية وتراكماتها) يصعب الخروج منها لاحقا..

إنَّ الافتراض الأول للفردنة والانعزالية هي سقوط أي قيمة للتعاضد والتعاون ومن ثمَّ للعمل التضامني أو لشراكة العمل الجمعي. والافتراض الآخر سيادة التأويلات السلبية لأي مقترح من الآخر الذي يشترك معنا في العمل وفي ضوئه إعوجاج قيم الألفة والتفاعل في عملنا. أما الافتراض الثالث فيكمن في الحساسية تجاه فعالية الآخر وافتراض كونها موجّهة بالضد من الذات المتقوقعة بصفة الفردنة والانعزالية أو في أقل تقدير عجزها عن خدمة مصالحه.. والمشكلة المضاعفة حين تتولّد وساوس تآمر المحيط الجمعي على تلك الذات حيث تصبح العزلة غير موجهة من فرد لفرد ولكنها متقاطعة مع منطق وعي العمل الجمعي فتنخلق محفزات خطيرة في الامتناع المتخفي عن مُثُل العمل الاجتماعي وقيمه العليا..

إنَّ تخفِّي الفردَنَة والانعزالية هو الأمر الأخطر فيها لأنَّنا بمجابهة حالات مَرَضية مقنَّعة بوجه (ضحوك) ولكنَّها في جوهرها تخريبية مدمِّرة لقيم الجماعة وعملها المشترك. وتنخر ظاهرة الفردانية الانعزالية التي تتملك شخصية الإنسان الفرد في جسم الحياة العامة كالسرطان عندما لا يتمّ الكشف عنه مبكرا يستفحل إلى الدرجة القاتلة التي لا مفرَّ من الوقوع بعدها أسرى تلك اللحظة المُهلِكة في حالة الاستسلام للمصير المحتوم بلا أيّ إمكان للعلاج..

وفي حالتنا السياسية القائمة نحن في حالة من الصراع العنيف القاسي ضد هذه الظاهرة وما ينجم عنها من خلق أجواء انحسار العمل السياسي الحزبي وغيره.. ونحن هنا نحتاج إلى خفض مسؤولية تحميل الأحزاب السياسية عن انحسار أو تراجع الاستجابة الجماهيرية عن المتوقع بعد سقوط النظام القمعي .. لأنَّ تلك الأحزاب [وأعضاءها بالتحديد] هي جزء من الواقع الذي خلق تلك الشخصية [الانعزالية] التي نتحدث عنها وعن سلبيات وجودها. ولأنَّ المراحل الانتقالية عادة ما تكون قلقة وغير مستقرة بل سريعة التقلب في المزاج العام والفردي وتحتضن كثيرا من المضمر الذي لم تُفصِح عنه المستجدات [سواء كان ذلك سلبيا أم إيجابيا].

ولعلَّ ما يستنطق هذه الحقيقة هو القول المأثور لأحد القادة الثوريين من "أنَّنا نقوم بالثورة ونحن مشوبين بقيم تربوية للنظام القديم ولكنَّ الجيل الذي يتربى في رحم المجتمع الجديد [لما بعد الثورة] هو الذي يمكنه بناء قيمها الإنسانية الجديدة بتطهّر من سلبيات الماضي التي تشوب قوى التغيير". وعلينا ألا نتخوَّف من التأثيرات السلبية ولكننا مسؤولين عن منع مضاعفتها وتركها تستفحل كالسرطان.

وفي العمل السياسي الجديد علينا خلق أجواء تصحيح المزاج العام أولا وهو ما يجري عبر تنشيط الفعاليات الاجتماعية المشتركة من خلال المنظمات والجمعيات والنقابات الجماهيرية وفعالياتها ذات الطابع الفني الاجتماعي العائلي. ومن أبرز هذه الفعاليات وأخطرها اليوم هي الاحتفالات الكرنفالية الجماهيرية الواسعة .. على أنْ نفكِّر أيضا بكثافة هذه الفعاليات وأهميته هنا في خلق الجو المناسب لإعادة إحياء الذات الجمعي وروح تبادل الثقة وإنعاش القواسم التبادلية في العلاقات الإنسانية وكسر الحواجز النفسية واستئصال العقابيل المرَضية منها. وليس حزب سياسي أنْ يرى بأنَّ هذه المهمات ليست من مهامه المباشرة اليوم, إذ أنَّ الجميع مشمولين بالعدوى وعليه لابد من تفعيل دور الأحزاب ماديا وبشكل ملموس بهذه الفعاليات...

أما الجانب الآخر فلدينا وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي .. بل من الإعلام ولكن ليس بالمعنى الضيق أو الحرفي المهني هناك المسرح والسينما وكل ما يستتبع خصوصيتهما ودرهما الخطير... و بقدر نجاح الجهاز الإعلامي في مهامه تسطع (بروجكترات) أو شموس التنوير الفكري السياسي وآثارهما التربوية في إعداد الشخصية الجديدة ومعافاة الشخصية العراقية مما أصابها من افتقاد الثقة وتراجع قيم العمل الجمعي.. وعلى الأحزاب التي ترى نفسها معبرة عن مصالح الناس أنْ تقترب منهم متحمّلة مواقفهم منها أحيانا السلبية لتخترق الحواجز التي عشعشت في ظروف سطوة النظام المنهار في الذهنية العراقية..

وللإعلام مهام غير الدعاية الحزبية الضيقة ومقياس توزيع جريدة الحزب لا يمثل القوة التصويتية الانتخابية اللاحقة؛ فقد يُفاجأ الحزب من طبيعة التصويت ولذا كان لزاما البحث في مضاعفة التوزيع بوصف ذلك أرضية أولية للاتصال ومن ثمَّ قراءة ردود الفعل وإحصاء الاستجابات على القرارات الحزبية وأنشطتها وكلما تعمق أمر الحوار واستجابت القرارات السياسية لتلك الاستطلاعات والقراءات الإحصائية الاستبيانية وجد الحزب المعني نفسه الأبعد في التأثير الإيجابي وفي المعالجة الجدية للظاهرة..

ولكننا ينبغي أنْ نعترف بقصورنا في معالجة تلك المشكلات لعوامل منها طبيعة التركيبة التنظيمية الحزبية التي ما زالت في حالة استجابة للتنظيم السري الذي كان قائما في الظروف القمعية والتداخل الإتلافي في العمل التنظيمي الذي بدأ حملات إقصاء أو استجابت المراكز الحزبية العليا لقرارات الإقصاء والتعطيل للخبرات الفكرية والعلمية أو تلكأت في قراءة الحالات وحسمها, فتمَّ سيادة الشلل في توظيف الطاقات والخبرات الأكاديمية المتوافرة أو القريبة من العمل الحزبي فضلا عن الانشغال عن مثل هذه المهام أمام استعجال الحصول على المكاسب المباشرة على حساب التأني والنظر إلى الآتي البعيد هذا غير مسألة التشرذم والانقسامات والانشقاقات الحزبية والتشظي ...

إنَّ الاعتقاد بكفاءة القيادة التقليدية وبحكمة برامج الأحزاب السياسية وتصوراتها عن الواقع لا ينبغي له أنْ يقف بمجابهة مع واقع متحرك ومع قيم المشترك الجمعي في العمل السياسي والاجتماعي.. كما على الأحزاب السياسية التي ترمي إلى إحياء واقع جديد أنْ تتعاضد لتحقيق هذا الأمر بخاصة على صعيد اللقاء مع جماهيرها وإلا فإنَّ واقعنا سيظل تحت سيطرة قوى ردود الفعل المتشنجة والانفعالية المتطرفة وهي التي ستكسب الرهان في ظروف مؤاتية تماما لمساحة حركتها وعملها أي ظروف الشخصية الموجودة وخلفيتها الانعزالية الفردانية المريضة الأمر الذي سيعقِّد الوضع أكثر ...

ومن الطبيعي أنْ نلجأ في رسم خططنا إلى علماء الاجتماع والنفس والتربية وإلى المتخصصين فيما سيوفر تراكم أوسع الخبرات والكفاءات في مجالات التخطيط الستراتيجي والتكتيكي وفي أطر الإعلام والاتصال الجماهيري وفي التأثير لتصحيح الأمراض الموجودة .. كلّ ذلك يتمّ ونحن نعرف أنَّ التغييرات في البنية التحتية توفر الأسباب الموضوعية للتغييرات في البنية الفوقية ولكنّنا لا يمكن أنْ ننتظر مسار العملية سامحين للتراكمات السلبية بالتضاعف وإلا فما معنى دور العامل الذاتي في تهيئة الظروف وإنضاجها للتغيير الإنساني المتفتح.

إذن فلا نميلنَّ إلى الاطمئنان الكاذب ولا إلى القلق المفرط ولنضع خطواتنا الجدية تطبيقيا ولنذهب إلى الناس في قراهم وأكواخها ومدنهم وبيوتها حيث يستلقون في حالة من السخرية بالوضع والشتيمة والامتعاظ والتذمر في استجابة سلبية تجاه المحيط المحبط لنفوس محبطة هناك ينبغي أنْ يدور الجدل حيث الأبناء يريدون أشياء من آبائهم والزوجات من أزواجهم والأقرباء من أقربائهم وحيث تكون مشكلة رغيف الخبز أهم عند المعيل لمن يعولهم من مشكلة كراسي مكتب الحزب وأصواته الانتخابية وحيث يقول بلا وعي البسطاء الذين تشوّه وعيهم ليذهب الحزب والساسة والسياسيون إلى الجحيم وبمزيد من السخرية والتنكيل لا يعترف لهم حتى بإذن للكلام معه أو عليه أو إليه! هناك فقط ينبغي أنْ نكون وأنْ نسحبهم من تلك الاستلقاءة السلبية لنجذبهم إلى عالم العمل وإعادة البناء بناء الذات المخرّبة والمحيط المدمّر..