التأسيس لمرحلة نهضوية جديدة
تفرض ألا نهمل تاريخنا الثقافي والمدني
من رواد النهضة في العراق: الكاتب الأديب علي الجميل 1889-1928
في يومنا تتضافر تناقضات حادة وحال من التراجع الشامل لتخلق صراعات عميقة وعقبات معقدة بمجابهة حركة التغيير والتقدم.. وتتعاظم محاولات التحديث واستعادة حركة النهضة لوتيرة مسار تطورها واستكمال مفردات منجزها الثقافي المدني المتحقق...
وبالعودة إلى جذور حركة النهضة في العراق سنشهد أدوار مهمة لرجالات الثقافة والمجتمع من أولئك الذين أسَّسوا الجذور الأولى لصرح البلاد وتمدنها.. وقد سجّل التاريخ الحديث أسماءهم بحروف من نور، لولا اجتياحات قوى الظلام التي ركزت على محاولات محو الذاكرة وتراث المعرفة التنويرية وأعلامها...
إنَّ المهمة الحقيقية اليوم لكي نعيد البناء ونواصل المشوار، تكمن في نفض الغبار عن أيقونات تاريخنا لنعيد لها بهاءها ونمكّنها من الاستمرار في إشعاع دائم عبر ما تركته من نصوص إبداعية جمالية ونقدية معرفية...
ومن بين رجالات عهد الحراثة في الأرض البكر المطموسة بمئات سنوات الحكم العثماني وغيره كان السيد علي الجميل المولود 1889 الشخصية الموسوعية التي لم تكتفِ بإبداع الكلمة بل نشطت في أداء مهمات ميدانية لتنظيم جمهور المعرفة والثقافة عبر منتديات اجتماعية بما يمثل جهدا مبكرا في وعي أهمية التنظيم في الحياة العامة فكان بادرة هيأت لفكرة التنظيم المهني والسياسي لاحقا...
والسيد الجميل الذي اكتسب معارفه وثقافته من محيطه المباشر كونه من عائلة متنورة مثقفة علّم نفسه ودرَّبها مذ وقت مبكر من حياته القصيرة فصار يكتب الشعر ويقرضه بغنى مضامينه وبذور تمرده الأولى على كلاسية تقليدية رتيبة... فالمتابع يمكنه أنْ يلمس رومانسية ثائرة في جماليات شعره وهو تجديد في الأسلوب وتحديث في المنهج...
أما المضامين فقد تابع عرضها في قلمه الصحفي الذي عالج به كمبضع الجراح قضايا المنطقة والعراق بإيجابية الموقف السياسي العام وباستقلالية الرؤية والقرار باحثا عن وسائل نحت مصطلحات سياسية بعيدة عن تلك المفردة التقليدية التي تعكس الروح المحافظ بكل سلبياته...
ولأنَّ الجو العام كان يشتمل على حال التخلف وتردي الأوضاع فقد كان (الإحساس) عاملا تأسيسيا في وسط التجربة الفقيرة لمحيطه ما دفعه للتعبير شعريا إلى جانب القراءات الموضوعية لقلمه الصحفي.. فجاشت عاطفته رقراقة لتكسِّر كما المويجات المتهادية جلمود التكلس على سطح البحيرة الراكدة...
إنَّ رجالات القرن التاسع عشر لم يخشوا أنهم ينطلقون لأول مرة في رحلة الريادة ولم يترددوا للحظة في التعاطي مع التحديث على الرغم من هول ذاك السديم من كتل التخلف وتقاليده المحافظة وبادروا لصنع الجديد بمقدار ما استطاعوا وهذا هو الدرس الأهم من سجل نقرأه لهم وفيهم فيضخ فينا اليوم إرادة الحياة والمبادرة العملية المعاشة...
ولننظر إلى مصطلح الأمة العراقية الذي لم ينحته علي الجميل من فراغ بل من دراية أثبتت التجربة بعد ثمانين عام من رحيله أن العراق يدخل منعرجا لا يسطيع فيه الدفاع عن أبنائه من دون توظيف هذا المصطلح العميق في أبعاده التاريخية والاجتماعية والسياسية وفي بعد الوعي الحضاري وعمقه في وطن ما بين النهرين...
ولننظر إلى بعض أبيات شعرية من نسج منطقه وجمالياته:
إذا الحر لم ينهض من الذل نفسه فليس إلى ما يرتجيه وصــــــــــول
وإن هو لم يقرن بما قال فعلــه فذاك على علم به لجهــــــــــول
وما شرف الإنسان إلا فعالــــــــــه فرب فعالٍ للأصــــــــــول
أليس منطق العمل لا القول هو مصداق ما يُنتظر من إنسان؟ وتلكم - أي التبجح بالقول وترك الفعل - بلية ورزية أصابت مجتمعا أراد السيد الجميل أن ينجو به منها بالتذكير والجدل المنطقي المؤثر..
وليس هذا الحث والحض سوى دلائل تجديد لم تقف عند أسلوبه الشعري بل اندفعت لتطرق أبواب التناول النقدي لمنوضوعات حيوية آنذاك وخطيرة حتى أنه تحدث عن مكانة المرأة وأسباب تفعيل دورها في الحياة بتربيتها وحسن تعليمها وتثقيفها وهي بادرة جد مهمة في زمن كأيام من القرن التاسع عشر في نهايات الدولة العثمانية التي قضت بتكفين المرأة بخرقة سوداء تخدم مستعبدة في بيت أهلها حتى إذا انقطعت أنفاسها واروها التراب بلا ذكر لاسمها ووجودها سوى باستبدال الخرقة التي يلفونها بها...
تلكم ومضة في حياة رجل كتب خبرة وتجربة ثرية في عمر لم يتجاوز ثلاثينات شبابه وهو ما يتيح لنا أن نضع ثقة في أن شعبا ما زال يذكر أبناءه ويمنحهم مكانتهم السامية ويُعلي من موضع مبدعيه ومفكريه يمكنه أن يتجاوز المحن والآلام والتراجعات ليرنو إلى ذرى المجد متابعا خطى أمثال رائد التنويرية النهضوي السيد علي الجميل...
وإني لأقترح هنا تكريما لهذا الرائد بل تكريما لمعاودة مسيرة النهضة العراقية السليمة أن نقيم له تمثالا في ساحة وشارع باسمه وأن تنهض المؤسسات المعنية في وزارة الثقافة العراقية بجمع تراثه من بين تراث رواد النهضة في سلسلة مهمة منتظرة مضافا إليها دراسات مفكرينا ومبدعينا ونقادنا.. وسيكون مثل هذا الجهد من الأهمية عندما نضعه بين أيدي أكاديميينا وجامعاتنا وباحثينا وعندما نسطيع عقد مؤتمرات بحثية مناسبة في ضوء ما يتجمع لدينا وعسى جامعة الموصل تهتم بهذا الأمر وتبادر لهذا المؤتمر ولتسجيل موضوعات بحثية بالخصوص... وأثق أن هذا سيكون بفضل إصرار جمهرة مثقفينا من جهة واحتضان أبناء شعبنا لمثل هذه المبادرات المهمة والبناءة...
وبعد فإنني لأشكر بالمناسبة الزميل العزيز الأستاذ الدكتور سيار الجميل حفيد هذا التنويري الرائع على مبادرته في تفعيل أقلام المتخصصين وجمعها في مكان لكي يجري توثيقها بطريقة دقيقة ومبوبة صحيحة وتلك لخطوة آمل أن تمثل الخطوة الأولى في رحلة الألف خطوة المؤملة...
* كُتِب لرابط تراث آل الجميل في موقع الدكتور سيار الجميل. 01\10\2008