مدرسة اليسار العراقي الصحفية: التراث المجيد ورحلة التطور والتجديد ؟
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية \ ناشط في حقوق الإنسان
31\07\2008
كلمة للاحتفالية ولصانعيها المحتفلين علنا اليوم في بغداد
اليوم الحادي والثلاثين من تموز يوليو 2008 هو العيد الثالث والسبعين الذي يُحتفَل به عيدا لصحافة اليسار الديموقراطي في العراق.. مؤرِّخا لصدور جريدة كفاح الشعب التي أعقبها صدور عدد آخر من الصحف والدوريات الأسبوعية والشهرية من مثل الشرارة والقاعدة واتحاد الشعب وخيرا طريق الشعب التي مرّ على صدورها حوالي الأربعة عقود ونصف. ولقد مثلت صحافة الحزب الشيوعي العراقي ما هو أكبر من المدرسة الصحفية التقليدية المحكومة بقوانين التعبير اللغوي وخطاب الإعلام القائم على صناعة الخبر أو الحدث الصحفي بطريقة الإثارة والجذب.. بل فارقت هذه الفلسفة الصحفية لتقدم وسائلها في جذب جمهورها النوعي والعام...
لقد وزَّعت تلك الصحف نسخا أكبر مما وزعت الصحف العلنية أمام تلك التي صدرت سرية وحققت الصحف العلنية انتشارا واسعا أكبر مما حققته أية جريدة أخرى على الرغم من طبيعة الظروف المحيطة من عقبات ومطاردة وحرب شعواء ضدها وضد محرريها والعاملين فيها... أما سرّ هذا الانتشار المميز فلا يكمن في الإثارة ولكنه يكمن في العلاقة الودية الصريحة مع جمهورها بسبب اعتماد الحقائق دقيقة شفافة وبسبب من كشف خبايا الضيم والظلم التي تقف وراء تعاسة الجمهور وأشكال استغلالهم...
لقد كانت الصحافة اليسارية مدرسة بكل الخطابات التي تناولتها وعُرِضت على صفحاتها. فقد كانت واضحة سهلة حتى في تقديم القضايا الفكرية المعقدة. إذ مالت إلى البساطة في الأداء وفي الامتناع عن الفذلكة والتقعر وفي استخدام لغة السهل الممتنع لغة تتناسب وأسلوب شعبي جماهيري يحترم الأخلاقيات الإيجابية المتجذرة في الحياة العراقية وإعلاء ذياك الإرث المعرفي الذي حفظته الذاكرة الشعبية جيلا فجيل مذ وُلِدت المكتبة السومرية في أرض الرافدين... ولقد تجنبت مدرسة الصحافة اليسارية المماحكات وأغلفة التضليل التي تسلفِن المادة بحلوى وهمية كاذبة فقدمت مرارة الواقع مزيحة عنه أستار العتمة فاضحة من يقف وراء ثغراته..
وذهبت صحافة اليسار والديموقراطية إلى حيث المحرومين المظلومين والبائسين فتوجهت إلى المرأة المطوية في نسيانات البيوت ومظالم التقاليد البالية وإلى حيث المرأة التي تحدَّت زمنها وظرفها القاسي المؤلم وخرجت تصارع من أجل تحررها الاقتصادي والاجتماعي ومن أجل دور لها في خيمة العمل السياسي الحر وبيَّنت مظالم الأولى وأعلت من نموذج الثانية. وتحدثت عن ظروف الطلبة والشبيبة والحرمانات والمطالب فيما حافظت بثبات على دفاعها المكين عن قضايا الشغيلة والفلاحين مبيِّنة مواضع الاستلاب والاستغلال والمعالجات..
لقد كان لصحافة اليسار ذكاء تعاملها مع مختلف الموضوعات ولم تتخلَّ عن مطالب الطبقة الوسطى وعن المثقفين والتكنوقراط الأكاديميين وغيرهم كما لم تضع الأمور بيد الاصطراعات العدمية العبثية منتبهة إلى التعامل مع كل ظاهرة بموضوعية ومنطق عقلي متنور.. ورافق كل تلك المواقف الفكرية الصائبة أسلوب عمل وحرفية مهنية صاغت وسائل وصول واتصال بناءة ناجعة، أفادت منها الصحافة العراقية المختلفة.. وهكذا لم يأتِ الإخراج الصحفي وكل مفرداته الفنية التقنية المطلوبة إلا بأسس جدية ترتقي بذائقة القارئ وتتفاعل معها إيجابيا وبروح بناء يوظف أحدث الخبرات الصحفية...
إن عامل الإخلاص والقرب من الناس ومن وقائع الأحداث الجارية بقي العامل الأهم في العلاقة مع القارئ. وكانت كل بقية المفردات في خدمة القارئ ذاته وفي الارتقاء بنوعية تلك الخدمة كان الصحفي اليسري ينكب دارسا متمحصا للتجاريب مدخرا المعارف ليخلق تجربته الخاصة ويصبها في الخدمة الصحفية للصحافة اليسارية، كما جرى ذلك دوما في العراق مذ عشرينات القرن الماضي ومذ يوم ولادة "كفاح الشعب" لتسجل تاريخا صار عيدا لصحافة اليسار الديموقراطي وهو العيد الذي يحتفي به العراقيون جميعا بوصفه واحدا من أهم وأبرز أعيادهم الثقافية العريقة..
ولظروف البلاد السياسية والمطاردات الأمنية القمعية ظل أغلب تلك الاحتفالات مختفية تحت الأرض (سرية) يقيمها الناس في بيوتهم وبساتينهم.. ولكنها بين الفينة والأخرى تتحدى التعقيدات لتخرج إلى العلن بحجم الدفق الجماهيري الملتف حول الحركة اليسارية وحول صحافة اليسار الديموقراطي تحديدا حيث هذي الصحافة ما زالت تمثل كلمة السرّ في العلاقة بين الجموع الشعبية وحركة الثقافة والفئات المتعلمة من جهة وبين الناطق باسمهم جميعا وباسم مصالحهم ومطالبهم وتطلعاتهم كافة...
إنَّ جملة وقائع رحلة صحافة اليسار قد تركت إرثا مجيدا على جميع الصُعُد ممثلة أبرز المدارس الصحفية العراقية وأعرقها وأثبتها جمهورا.. وليس من دليل نظري على الأمر بل الدليل هو لهفة الجمهور عبر تلك الرحلة للبحث عن الصحيفة وعلاقته بها حتى في أحلك الظروف ولعل صدور أول صحيفة بعد انعتاق بغداد من سلطة الطاغية واحد من أهم تلك الأدلة ألم تكن صحيفة اليسغار الديموقراطي "طريق الشعب" هي تلك الصحيفة الأولى في الصدور وهي الصحيفة الأقرب إلى الناس تلبي تطلعهم وبحثهم عن الخبر الأصدق وعن المعالجة الأنجع؟
غير أن الإرث الأروع للمدارس الصحفية ممثلا في الإرث المجيد لصحف اليسار والديموقراطية لا يمكنه أن يحتفظ بألقه من دون مواصلة مشوار التحديث والتجديد والتطور.. وفي زمن الأنترنت والتكنولوجيا الحديثة ينبغي الاهتمام الجدي الأبعد بالعودة إلى أفضل الخبرات في هذا المجال وإلى التوسع بالطاقات والكوادر المتخصصة التي درست وهضمت تلك الآليات الجديدة لكي تطوعها لجديد الانتاج الصحفي المبدع لهذه المدرسة..
لإنَّ هذه المدرسة الصحفية لا يمكنها المراوحة أو النوم على وسادة التراث المجيد المضمخ بالدم والتضحيات منذ أول شهيد خرَّ صريعا مدافعا عن حرية الكلمة وحق التعبير ومطلب الظرف الآمن لعمل السلطة الرابعة، ويجب لها أن تنتبه إلى ضرورة ابتعاث محرريها لمزيد من الدرس والتقصي مستفيدة من اتساع مجالات التخصص وتعمقها ومن إمكانات معايشة الحدث في لحظته ومكانه عبر أهم عيون المراسلة ممثلة في رفاق حركة اليسار وفي جماهيرهم نفسها وهي تبحث عن صوتها بمكبر صوت مدرسة اليسار الأنسب لأصواتهم...
بقي أن نقول: لنحتفل سويا ولننفتح على الآخر ولنقرأ بجميع الأحرف وكل اللغات تعبيرات التنوع والحريات في زمن الهتاف والحماس لنصرة الديموقراطية بأوسع أشكال وجودها وإذا ما حصل أي تلكؤ في لحظة بعينها تجاه مطاردة متغيرات عصرنا فإنَّ مدرسة اليسار الصحفية ستخسر أهم عنصر امتلكته طوال عمرها متجسِّدا في العلاقة مع محرريها من الكتّاب المتنورين والطاقات والخبرات الممثلة للناس ولأصواتهم الحرة بكل أطيافها وألوانها ومعالجاتها..
ويبدو لي أن احتمال ظهور التكلس والجمود والعيش على الإرث الطيب والذكريات يمكنه أن يطفو في لحظة أو أخرى ولكنه لا يمكن أن يحيا في مدرسة تطرِّي وترطِّب أجواءها باستمرار.. لأنها في وقت تمتلك الخبرات المعرفية تلك كلها تمتلك أيضا سمة الديمومة المستندة إلى التطوير والتحديث والتجديد.. وكما تثبت تجربة الاحتفال بعيد الصحافة اليسارية اليوم فإنَّها تحتفل بعيد ثقافي ولكنه شعبي لا يعزل النخبة من المثقفين والمفكرين والمنظرين عن الحياة العامة بل يندمج الجميع في احتفالية واحدة منسجمة بحق.. وتلك هي البذرة التي دعونا لها طويلا وها هي تتحقق اليوم على هدير موسيقا دبكات الشغيلة والطلبة والشبيبة والنسوة ومجموع الطيف الشعبي والمثقف العراقيين..
ومن هنا فإنَّ خلاصة كلمة احتفال اليوم وحكمته تكمن في الدرس التالي بمقدمة من أرث مجيد وبحث من رحلة سِفر خالد وحاضر يعدّ لغد من التقدم والتطور والتجديد.. ذلكم بعض الدين يرده تلامذة اليوم لأساتذة الأمس ممن نذر نفسه فأوقد مشاعل النور بكل رايات الصحافة الإنسانية الصادقة العراقية الوطنية الأمينة الوفية وتلكم هي بالأمس واليوم وتبقى لغد مشرق صحافة اليسار والديموقراطية ومدرستها العتيدة.