الفساد ظاهرة الانتحار الإنساني المؤجل؟!
باحث أكاديمي في الشؤون السياسية\ ناشط في حقوق الإنسان
14\07\2008
1. مقدمة وتعريف في ظاهرة الفساد
الفساد لغةَ َ للشخص إذا جانبَ الصواب وعكسه صلح، وللطعام إذا عطِب وتلف، وللعقد إذا بطَلَ وانتقض، والفساد للحال أو للأمر إذا اضطرب وأصابه الخلل.. وأفسَدَ بمعنى أتلف أو خرَّبَ كما في قولنا أفسد علاقة أو أفسد الجو بين طرفين. والفاسد بهذا هو المرء غير الصالح أو هو الطعام التالف أو هو العقد الباطل والحال المختلّ والأخلاق المنحلة، وبيولوجيا الخلايا التي هزلت وعطبت حتى لم تعد تنهض بوظيفتها البيولوجية. والمفسدة الضرر يصيب البدنَ أو الأخلاق عند إنسان فيحرفه عن مهامه الصحيحة في محيطه فلا يأتي منه بعد فساده إلا الضرر والباطل...والفساد اصطلاحا ظاهرة تمثل الانحراف الأخطر في التعاطي مع الثروتين القيمية والمادية لملكية المجتمع والفرد. وظاهرة الفساد لا تهدد بالإطاحة بالإنسان الفرد أو الجماعة بل هي (أي ظاهرة الفساد) إطاحة فعلية متحققة بالقيم السلوكية الإيجابية للفرد والمجتمع.
إنَّ الطعام إذا أصابته بكتريا (جراثيم) التعفن المرضية تصدر عنه روائح كريهة تعافها النفس البشرية فيُرمى بعيدا في النفايات؛ وهذا فساد يعني تخريب مكونات الطعام والشراب وإحالتهما من فائدتهما البنائية الغذائية فتصيرمواد سمية ضارة. وكذلك إذا أُصيب عضو في الجسد بتلك البكتريا المرضية نخرته وعفـَّنته ومنعته من أداء وظيفته البيولوجية الطبيعية حتى لا يمكن إصلاحه فيُبتَر كي لا يصيب بقية أعضاء الجسم كما في إصابة الغنغرينا.. ومثل هذين المثلين عندما كان يفسد شخص في أخلاقه فيتعرض للقيم العامة ويستهتر بها، كانت تخلعه المجموعة البشرية كما في خلع القبيلة للفاسد من كيانها وكما في فصل العضو من حزب أو جمعية يسيء لتقاليدها ومبادئها وكما في إبعاد مجموعة لشخص لا يلتزم سلوكا قويما كما تلتزمه تلك المجموعة..
ومن الفساد: الأدب الرديء عندما تجد نصا يخرق قيم اللغة وقواعدها وأصول البنية التعبيرية الجمالية بطريقة التكسير الاعتباطي رافضا التمسك بمضمون صحي صحيح أو بنية فنية أدبية تحتكم لمنطق جمالي صائب.. وفي الفن مثلما في الأدب صرنا محاصرين بالأغاني الهابطة وذلكم فساد، والإسفاف في المشاهد البصرية الصادمة على شاشات التلفزة والسينما فساد، ومن الفساد أيضا وضع الشخص في غير مكانه المناسب بالاحتكام لنفعية أو انتهازية مرضية لا تستقيم وشروط المكان وما يتطلبه من إمكانات للنهوض بوظائفيته، ومثل ذلك إزاحة العناصر الصحية ذات الكفاءة من مراكزها حتى لا تشكل خطرا على العناصر الفاسدة المحيطة أفقيا أو عموديا...
والفساد مادي ومعنوي أدبي: فأما في المادي فيكون في المال وما يماثله من رشاوى وما يماثلها اليوم من مصطلحات تدور في شراء الذمم وتبادل المصالح وشراء كرسي أو منصب أو وظيفة أو مقابل إنجاز مهمة أو معاملة سواء منها الباطلة المخالفة للقانون وهي الغالبة أم العادلة القانونية ولكنها المتعسرة عمدا بقصد فرض الأتاوة قبل الإنجاز... والفساد معنويا أدبيا في تبادل المصالح النفعية وفلسفة الانتهازية وخطابات فرض قسري لرؤية مرضية كما في توزيع وظائف الدولة بناء على المحاصصة طائفية أم حزبية أو غيرهما بما يضع شخصا غير كفوء بمكان الشخص الكفوء الذي كان ينبغي أن يشغل المهمة المناسبة لكفاءته...
وسنفصِّل في مكان آخر في مثل هذي الظواهر والحالات ونضعها تحت مبضع التشريح النفسي الاجتماعي والسياسي بما يمهد للمعالجة ووضع الحلول المؤملة... ولكننا قبل ذلك نشير إلى الأسباب التي تقف وراء ظاهرة الفساد من منظور عام أي بقطع النظر عن تلك الإشارات الخاصة بفساد مادة طبيعية أو غذائية، بيولوجية أو كيميائية والتركيز على موضوعنا إنسانيا حيث نتابع هنا متناولين ظاهرة الفساد في حياتنا بدءا من الفرد والعائلة وتوسعا نحو الفئات والطبقات الاجتماعية ومؤسساتهما الجمعية العامة والخاصة..
2. الأسباب الكامنة وراء ظاهرة الفساد
بالأساس تولد الظاهرة من عاملين، موضوعي وذاتي: الأول متأتِ ِ من الخلل في تلبية المطالب والحاجات الإنسانية بمعدلها العام والهبوط تحت مستويات الخطوط المحددة والمقاسة أو المقدرة في ضوء دراسات دقيقة.. وهذا ناجم عن الوضع الاقتصادي العام والمشكلات التي يتعرض المجتمع لها من أزمات طارئة أو تلك المتولدة عن تحولات جوهرية وهزات كبرى تحصل في البلاد..
ففي حالات الحروب والكوارث الكبرى يتعرض الناس بخاصة منهم العامة للحرمان من الحاجات الضرورية بل للسحق والخراب والموت، وفي الوقت ذاته يشهد هؤلاء حالات الرخاء والبحبوحة التي يحياها تجار الحروب والقابعون في بروجهم البعيدين عن أية مظاهر "سلبية" تمسَّهم حيث تلك الفئات الانتهازية الوصولية التي تنهب وتسرق وتسطو على ما هو أكبر من حاجاتها المباشرة وغير المباشرة؛ فيثير ذلك أشد الآثار النفسية والاجتماعية لدى الفئات الواسعة المسحوقة، في وقت لا تجد فيه تلك الفئات مقابل كل هول هذا الاستلاب والسحق طرفا يلبي ولو هامشا بسيطا من مطالبها أو يشاطرها همومها الحياتية المعقدة وأوصاب تفاصيل يومها غير العادي...
ويترافق مع هذه الأوضاع حال من الانشغال في تحصيل لقمة العيش العصية حتى لا يكاد المرء يرى عائلته ونفسه بسبب استغراقه في كسب رزقه وقوت عياله فينجم عن هذه الوضعية موقف التخلي عن المشاركة الاجتماعية أو المساهمة في الأمور العامة أو في اتخاذ موقف محدد ودخول مجال الفعل العام، بمعنى موقف "الشعلينة لازم" أي ما علاقتنا بهذا الأمر أو ذاك وما علاقتنا بإصلاح هذا أو معالجة ذاك من الأشخاص الفاسدين أو الأمور العرجاء المعوجة...
إنَّ حالة تخلي الفرد من العامة عن المشاركة الاجتماعية وظاهرة السلبية من المساهمة في الفعل الإصلاحي العام يعود لشعور عميق بتخلي المجتمع والآخرين عن الفرد نفسه.. حيث يجد نفسه مسحوقا لا تُلبَّى حاجاته من المجتمع فتتعمق لديه السلبية في التعاطي مع الآخر بخاصة عندما يتعلق الأمر بالإصلاح والتغيير التي لا يعدّها مهمته بل مهمة من كان وراء فساد الأحوال وخرابها. ولكنه طبعا لا يرى بهذا أنه يساهم في ظاهرة قبول الفاسدين والفساد...
إنَّ مما يشجع على هذي السلبية حال غياب سلطة القانون من جهة وحال عدم التساوي في تطبيق القانون ذاته إنْ وُجِد على الجميع.. أي حال تطبيقه قاسيا صارما على الإنسان البسيط وإفلات المسؤولين الكبار من طائلة المحاسبة القانونية تحت خيمة التجاذبات والتوازنات في مراكز السلطة والقرار... وأولوية تبادل التنازلات لمصلحة توزيع المناصب والوظائف على الأداء القانوني المؤسساتي الذي يحترم مبادئ الدستور ومفرداته ومصالح الناس...
إنّ هذه الحقيقة تبرر للمفسدين استمرارهم في فعاليات فسادهم في ظل شعار "حلال على الشاطر ما يحظى به" وشعار "لست مسؤولا عن إصلاح الكون، وأبعد مسؤولية لي تكمن في وجودي وعائلتي الصغيرة" ولن يقف الأمر عند تبرير فعل الفساد بل تشكلت فئة اجتماعية سطت على الأوضاع وصار نفوذها مطلقا في زمن صار الجاه لرأس المال وليس لرأس الحكمة (العقل ومنطقه) حيث يجري شراء الذمم وابتياع المكانة والمنصب ولكلِّ ِ ثمنه...
لقد ضاعت الضوابط والقوانين في خضم لعبة الشطار [وعودة زمن العيارين الذين لا يردعون أنفسهم عن أهواء مرضية] والشطارة في زمننا مقدار الانتفاع بلعبة الشطارة والحذلقة واستغلال الفرص والثغرات [القانونية وغير القانونية] بدءا بأصغر وظيفة ومنصب وحتى أعلاها. وطبعا كما يعرف القارئ يجري إبعاد أي نزيه لوضع من يساهم في لعبة الفساد والمفسدين النفعية..
ويزيد الفساد إيغالا في سطوته وسلطته أننا صرنا لا نقف على أعتاب السلبية في الموقف بل وصرنا أبعد من التعاطي مع المفسدين وتقبلهم، نخافهم ونخشاهم لأنهم إن لم يكونوا اليوم في منصب يهددنا في عيشنا ورزقنا فسيكون في الغد. إذ المناصب صارت على حين غفلة تُسند لفاسد بشراء أو مداهنة أو بأي من أساليب لعبة الشطارة والفساد.. وحينها لن يساندنا أحد في التصدي للمسؤول الجديد وهو يحرمنا من مصدر العيش أو ينغصه علينا.. فحتى اجتماعيا سيملك صاحب المال جاهاَ َ وسطوة تؤثر في موقف المجتمع المحيط بي مني حيث يراني هذا المحيط متخلفا غبيا في التعاطي مع الواقع المرّ الذي يزكي "الذي عنده فلس يساوي فلسا" على حساب الذي عنده مبدأ أو وازع من بقية ضمير حي!
إنَّ مشكلة التقبل الاجتماعي أخطر من الفساد ذاته لأنه يمثل الحاضن والينبوع المستمر للفساد، وكلما بترت أو عالجت جزئية أو بؤرة وُلِدت أخرى.. وفي الحقيقة جاء هذا من عقود ممتدة من التشويه الذي أصاب مجتمعنا حتى فُقِدت قيم الالتزام الاجتماعي والضوابط الأخلاقية العامة وسلطة التقاليد الإيجابية منها تحديدا.. وما كان عيبا كان ضابطا يخشى الفرد منه على سمعته وكان للحكيم مكانته ووجاهته وكلامه قانون يلتزم به الجميع وهكذا فالفاسد والفساد كان محيَّدا هو الذي يخشى الظهور ويحيا في الظلام مذعورا من الفضيحة والعيب...
إنَّ عمليات التغيير الاجتماعي العميقة في الحياة العامة لمجتمعنا سواء لنموه وتطور وسائل الانتاج وطبيعة الخطاب الفكري الاجتماعي أم لمجاراة المتغيرات القيمية الإنسانية عالميا، قد شهدت رفضا لكثير من القيم العتيقة لكنها لم تصادف وضع بدائل مناسبة وذات كفاية يلتزمها المجتمع الأمر الذي أضاع "الرقصتين" كما يقول المثل الشعبي المحكي وصرنا بمجابهة مع ظاهرة النفعية [الوصولية والانتهازية] بكل ما جرّته علينا من كوارث قيمية رديئة...
وفي مجال الوظيفة العامة ظل العراقي في علاقة غير سوية مع الجهاز الحكومي نتيجة مفارقة الانفصام بينه وبين السلطة ومصالحها وأدت السياسات البائسة للسلطة الحكومية إلى سيادة المصالح الضيقة وظواهر الرشوة والمحسوبية والمنسوبية والوساطات للحصول على حاجة أو مطلب بعينه.. وطبعا أدخلت هذه السياسات الرخيصة المواطن في دائرة أو منظومة فساد مؤسسة الدولة الخاوية قيميا...
إنَّ جملة هذي الأسباب تقع في العامل الموضوعي وإن تداخلت أحيانا مع طبيعة العامل الذاتي وهذا بدوره لا يقوم على المواقف القيمية الضائعة المستلبة أو المصادرة لديه ولا بالانحرافات الاجتماعية القسرية الناجمة عن ضغوط الواقع حسب بل يقوم أيضا على البعد النفسي الداخلي الذي تشكل تربويا للفرد مذ مرحلة طفولته وشبابه وحتى دخل مرحلة النضج والبلوغ. وفي حقبة طويلة للضغوط التي تعرض فيها الإنسان [العراقي] للأزمات ولعمليات الطحن والتشويه والتضليل جرى إمراض الأساليب التربوية سواء في داخل العائلة أم في المدرسة والمؤسسة الاجتماعية وخطابات الإعلام والحياة العامة ونتيجة كل ذلك لا يمكننا إلا أن نكون بصدد شخصية مرضية تحمل في دواخلها الاستعداد النفسي لتمرير ظاهرة الفساد...
إنَّ تبرير حال تقبل الفساد نفسيا يعود لذرائع أو أسباب تستند إلى عوامل التحكم بالسلوك لدى الفرد؛ فالإنسان يبقى في حال من الاستعداد للدفاع عن وجوده ويعتمل هذا في داخله، فبالمقارنة بين ما يمتلكه الفرد من أفكار وقيم نشأ وتربى عليها وبين ما يمكنه فعليا أن يلبي طموحاته وحاجاته قد يكتشف مع الوقت أنَّ ما يملكه من قيم ومبادئ لن تحقق رغباته، الأمر الذي يجعله يتركها ليلتزم ما يشيع في محيطه مغيِّرا قناعاته بآلية نفسية تنمو في داخله وتتمظهر تدريجا أو بشكل انقلابي مفاجئ بحسب الحال العملي الذي يجابه فردا أو آخر.. وطبعا سيبقى كل تغير نفسي داخلي مبررا بضغوط سيادة القيم المشوهة للفساد اجتماعيا في محيط الفرد حيث يكسب الدفاع عن الأنا معركة صراعه مع قيم الضمير ومحدِّداته وتتبدل بهذا الانقلاب النفسي موضع القيمة بين الإيجابي والسلبي بحسب سطوة حال الفساد وقيمه ويكون ذلك مقدمة لتقبل الفساد وسببا آخر فيه...
وسنفصِّل في موضع تالِ ِ أمثلة: من نمط الحصول على وظيفة لا يتم إلا بتزكية أو توصية من هذا الحزب أو ذاك المسؤول بطريقة تخضع لخطاب المنفعة المصلحي ولفلسفة الحصص الفئوية الطائفية ولإخضاع المحكوم فردا وجماعة لشروط الحاكم الفرد المتسلط بقيمه المرضية الفاسدة هذا موضوعيا وذاتيا سنتحدث عن طبيعة الشخصية المرضية واستعدادها المرضي لتقبل أو تمرير فعل الفساد وركوب الظاهرة ومفرداتها...