الكورد الفيلية.. الحل الوطني المنتظر
أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان
12\02\2008
الطيف العراقي مركَّب اجتماعي أثني قومي عميق الجذور تاريخيا، ولأنَّ هذه البلاد كانت الموئل للتراث الإنساني الحضاري ولأنَّها الأرض المعطاء وأبناؤها الأكثر إنتاجا، فقد تعايشت فيها جماعات إنسانية وشكَّلت أطياف كينونة المجتمع العراقي القديم.. ولقد بقي موزائيك المجتمع العراقي محافظا على وحدته متمسّكا بتنوعه الثرّ في ضوء استقرار علائق النسيج المجتمعي وتعمّدها عبر التاريخين القديم والمعاصر... وأنتَ لا تجد كتابا أو دراسة أو بحثا أو سجلا أو وثيقة لا تمرّ على إشارات واضحة أكيدة على طبيعة التنوع في إطار الشخصية العراقية...
إنَّ هذه السمة [التنوع] لـَتُمثِّل عمودا ثابتا في الهوية الوطنية العراقية. وهي تشير إلى أنَّ التعاطي مع أيّ من أطياف المجتمع العراقي لن تكون بطريقة عزل طيف أو آخر أو التشكيك في عراقيته وانتمائه؛ فذلكم لن يضرب طيفا عراقيا لوحده ولن يمزق اللحمة الوطنية العراقية لوحدها بل سيضرب في العمق، الوجودَ الوطني العراقي بأكمله..
وفي هذا الإطار، إذا كنّا نقرأ مواقف النُظُم السابقة.. فإنَّنا لا يمكن أنْ نقبلَ مواصلة تلك المواقف السلبية الخطيرة التي تؤسس لتمزيق بنية الشعب العراقي ووحدته الوطنية القائمة على مبدأ التنوع المتداخل المتلاحم النسيج. ومن هنا سنقرأ قضايا الوطنية العراقية هويةَ َتعتز وتفتخر بنسيجها هذا، مسجِّلةَ َ وجود العرب والكورد والتركمان والكلدان الآشوريين السريان والصابئة والأرمن ووجود الشيعة والسنة والكاثوليك والأرثودوكس والمندائيين والأيزيديين واليهود وهي تسجل بفخر بين مفردات النسيج الوطني العراقي هذه جميعا، الكورد الفيلية الذين ينتمون للوجود العراقي وللوطنية العراقية...
لقد سجل الكورد الفيلية وطنيتهم وانتماءهم لا عبر إعلانات أو مواقف أو أعمال بعينها حسب بل عبر طبيعة الهوية التي يحملون في خصائص تركيبهم النفسي الاجتماعي وفي فلسفتهم فكرا وسياسة وفي سجل تاريخهم ووثائق تثبيت هذا التاريخ وجودا إنسانيا وقوميا وبالتأكيد وطنيا في الانتساب للهوية الوطنية العراقية بوضوح في كل مفردات عيشهم وعطائهم وحركتهم وتطلعاتهم...
ولكن؛ على الرغم من وضوح هذه الحقيقة فإنَّ ما وقع عليهم من حيف وما نالهم من جرائم اعتداء على حقوقهم الإنسانية والوطنية ما زالت تطاردهم بسياط الجلد والتعذيب والاستهانة. فما زالت القوانين التي طاولتهم ظلما واستباحة تفعل فعلها حتى في أجواء إلغاء قرار نكبة الوطنية العراقية يوم ترحيلهم القسري وإعدام وتصفية خيرة الشبيبة العراقية من أبناء الكورد الفيلية المتمثل بإلغاء قرار [مجلس قيادة الثورة] المنحل سيء الصيت...
وللمتابع الحريص أنْ يلاحظ أنَّ الكوردي الفيلي ما زال يُنظر إليه رسميا كونه من التبعية الأجنبية (الإيرانية) وأنه بهذا منزوع الهوية والجنسية وإذا أُعيدت إليه الجنسية العراقية فهو بلا شهادة الجنسية التي من دونها لا يحمل العراقي جواز السفر الوطني العراقي.. ومشكلة التبعية المنقسمة بين الإيرانية والعثمانية في جوهرها إلغاء لأولوية الشخصية العراقية وهويتها الحضارية بل هوية الوجود التاريخي الماضي والحاضر...
وخلف أسوار هذه الرؤية السلبية الخطيرة تقبع مشكلات لا تقف عند حدود معاناة الكورد الفيلية وجراحاتهم بل ومشكلات الوطنية العراقية ونسيج المجتمع العراقي اليوم بمستوييه الفوقي لطبقات الحكم السياسي والتحتي لبنية طبقاته وفئاته المكوِّنة.. حيث تتشوه البنية بتمزقات قسرية وبفعل النتائج الناجمة عن القرارات الظالمة الممتدة في آثارها حتى يومنا..
والأنكى من كل ذلك أنْ نجد من يستغل الأمر داخل البلاد وخارجها. فــ دول إقليمية أدخلت أصابعها لتغيير البنية السكانية والدفع بجالية مصطنعة اليوم تحت ذريعة إعادة الكورد الفيلية إلى بلادهم وجنَّست بطرق شتى أرقاما كبيرة من بدلاء الكورد الفيلية فيما أبناء العراق من الكورد الفيلية الحقيقيين ما زالوا منسيين في مخيمات بائسة في هذه الدولة الجارة أو غيرها بكل معنى المعاناة الجارحة والإنسانية الكليمة المبتلاة مستلبة الحقوق مهضومتها بلا مَن يقول: إنَّ أولئك من مسؤولية الدولة العراقية حكومة ومنظمات ومجتمع مدني...
إنَّ حلَّ قضية الكورد الفيلية سيكون من هذه الناحية فضلا عن الاستجابة الفورية العاجلة المؤملة لمطالبهم العادلة الثابتة الإنسانية والوطنية، سيكون قطعا لطرق النفوذ والاختراق الحاصلة التي يمكنها أنْ تستمرَ طويلا موسِّعة من فضاء الجرح الغائر في بلادنا المبتلاة بجروحها الأخرى راهنيا ومنعا لنتائج هذا الاختراق [السكاني \ الديموغرافي] مستقبلا... وبالتاكيد هنا منعا صريحا لاستغلال العراقيين من الكورد الفيلية من أيّ طامع ومن ثمَّ منع أيّ شكل من أشكال استمرار الجريمة بحقهم...
لقد جاءت كارثة الترحيل القسري بنتائج نفسية واجتماعية وسياسية خطيرة. منها تلك الجروح الغائرة في أنفس الأطفال والنساء والشيوخ وردود الفعل السلبية القهرية لتلك المظالم إلى جانب حالة توسيع دائرة الطلاق وتشطير الأسر العراقية المتداخلة من أكثر من طيف عراقي والنتائج المزرية لتخلف التعليم والحرمان منه في ظل أجواء عدم الاستقرار والتجول في بلدان العالم بلا وثيقة أو جواز سفر أو مرجعية تتبنى هذه المجموعة الإنسانية منزوعة الجنسية..
إنَّ صورة التعاطي مع الكوردي الفيلي ستظل تحمل أخطر النتائج إذا لم يعبر المجتمع العراقي بمؤسساته الرسمية والشعبية عن موقف جدي منتظر يرتقي لمستوى القضية حيث سيكون هذا الموقف الردّ الأسمى لتصحيح العلائق واستعادة الروح الوطني وعودة الحقوق الثابتة ما سيعطي دفقا وحيوية بخلاف مشاعر النكاية والاستياء التي ستولدها حالة التلكؤ في التعاطي مع حقوق المظلومين الأمر الذي يعمّق الجرح والثغرة بين أطراف العلاقة وطنيا وإنسانيا...
إذ كيف يمكن لمواطن عراقي يقف أمام موظفي السفارات أو في داخل الوطن مبهوتا متعجبا من طبيعة السرّ الذي يقف وراء عدم منحه جواز السفر العراقي وهو العراقي ابن العراقي دما ومبادئا وتطلعات وهو العراقي الهوى والتفكير والشعور وهو العراقي الانتماء والوجود!! وكيف له أمام مشكل وريقة ما يُسمى شهادة الجنسية عثمانية النسب أن يُخرَج من انتمائه الحق؟!
إنَّ استمرار قضية الكورد الفيلية ليست إشكالية أوراق رسمية.. وهي ليست قضية قرارات رسمية سواء انتمت للأمس أم ليومنا بل هي قضية قيم إنسانية وحقوق عيش بكرامة وعدل ومساواة بلا مظالم. ويوم تُحَل هذه القضية سيكون الانتصار للروح الوطني العراقي وسيكون أمر تلبية مطالب إنسانية ما عاد يمكن القبول بالسكوت عليها أو محاولات طمسها من مختلف الفرقاء طمعا في ممارسات سياسية ومستهدفات مرضية بائسة سواء من داخل الوطن أو من خارجه ومن قوى إقليمية ودولية لها مآربها..
ويبقى الكورد الفيليون أبناء العراق الأصائل يمتلكون حقوقهم الإنسانية والوطنية التي لا تقبل الجدل والمماطلة والتسويف أو وضعهم على طاولة المصالح الأنانية لقوى دعية تتاجر بقضيتهم أو لقوى معادية لكينونة المجتمع العراقي في نسيجه المتنوع التعددي المشرق عبر تاريخه في وحدته وهويته الوطنية العليا...
ومن هذا المنطلق فإنَّ حل القضية لا يكمن في إجراءات مادية محدودة بقضية عقارية أو مالية وهي مسألة ينبغي حلها بالتأكيد، ولكنه يكمن في التصدي للقضية بمستوى حجمها النوعي لنبدأبـِ:-
1. تشكيل مركز وطني عراقي أعلى لقضية الكورد الفيلية.. وتعود جميع الأوراق الرسمية والسجلات والوثائق إليه لكي ينهض بمهمة دراسة القضايا واقتراح التشريعات المناسبة للبرلمان الوطني العراقي وللحكومة الاتحادية..
2. تشكيل مركز مستقل لإجراء الإحصاءات الضرورية للكورد الفيلية وفي مختلف مفردات الإحصاء اللازمة لمتابعة حل القضايا العالقة...
3. افتتاح مركز دراسات الكورد الفيلية يتناول توثيق أوضاعهم ومعالجة المشكلات التي نجمت عن القرارات التعسفية القسرية السابقة والحالية..
4. تشكيل منظمات ومؤسسات مجتمع مدني تخصصية وقطاعية تُعنى بمختلف شرائح الكورد الفيلية بخاصة منهم النساء لتبني مطالبهم جميعا والعمل على تشخيصها واقتراح الحلول العاجلة لها... ومن الجهة الرسمية ينبغي دعم تلك المؤسسات وتفعيل أدوارها في قراءة المشهد بدقة وموضوعية وعن كثب معايشة...
5. تثبيت اسم الكورد الفيلية طيفا عراقيا أساسا حيثما ورد ذكر المكونات والأطياف العراقية في الوثائق الرسمية المعتمدة...
6. معالجة مشكلة جواز السفر العراقي للكوردي الفيلي بغض النظر عن شهادة الجنسية لحين معالجة مشكلة ثنائية الجنسية وشهادة الجنسية المطلوبة من العراقي لإثبات انتمائه الوطني.. والعمل بالأداء الأمثل والتوقيت المناسب لحل هذه الثنائية في تعريف العراقي وإخضاعه لأوراق ثبوتية غير عراقية(عثمانية \ إيرانية) على حساب أولوية وجوده وانتمائه الوطني العراقي الحقيقي...
7. منح الكورد الفيلية الحقوق الثقافية وجملة المتطلبات المخصوصة لدعم الأنشطة ولتفعيل الدور الوطني لهم...
8. إصدار التشريعات اللازمة وتحديدا القانون الذي يكبح أشكال التمييز بحقهم في التشريعات والقوانين العراقية من مخلفات الماضي أو ما صدر من دون قراءة وافية وشاملة راهنا وتجاوز على حقوقهم، على أن يكون القانون مقدما على ما عداه من تلك التي تواصل توكيد أصناف الظلم الواقع على العراقي كونه كورديا فيليا فقط...
9. اعتماد الوثائق العراقية المصادرة من مخلفات أجهزة الأمن والمخابرات وأجهزة الحكومات العراقية السابقة لتدقيق مسائل الأوراق الثبوتية الرسمية بخاصة منها بشأن المسفَّرين قسرا والمنزوعة عنهم الجنسية العراقية.. والإفادة من إمكانات المنظمات الدولية ووثائقها المعتمدة بالخصوص...
10. تشكيل جهة مختصة من وزارتي المالية والداخلية لقراءة إشكالات الأمور العقارية بدقة وموضوعية وحلها حلا قانونيا عاجلا ومنع التلكؤ في هذه القضية.. على أن تُرفع أية عقبات قد تنشأ غلى اللجنتين الحكومية والبرلمانية لحسمها نهائيا وبلا تسويف أو تأخير..
إنَّ هذه القضية تنطلق اليوم عبر فعاليات ومؤتمرات ووفود كوردية فيلية وأخرى وطنية عراقية تحمل هذا الهمّ الوطني. ولكن الأجدى في النهاية للخلاص من روتين الممارسات البيروقراطية والوقوع مجددا ضحايا الخلافات السياسية أو التنيظيمية يكمن في العمل الوطني الذي ينتظم في التنسيق بين جميع الأطراف من دون استثناء وأن تمضي الأنشطة على وفق برنامج عمل شامل وموحد يتأسس على مفردات إجرائية لتلك الحركات والتفاعلات بكل هوياتها المتنوعة الوطنية العامة أو الكوردية الفيلية المخصوصة..
كما إن القرارات والإجراءات المؤملة ستبقى قاصرة من دون مركز وطني مختص ومن دون مراكز دراسات معتمدة ومدعومة بالخصوص وعليه ليبادر الأخوة الكورد الفيلية بتقديم مشروع المركز الوطني للكورد الفيلية لإقراره في البرلمان عاجلا ولتقديم مشروعات مركز الدراسات واللجنة الحكومية المختصة من المالية والداخلية للحكومة العراقية لإصداره واعتماد العمل به.. ولتكون جهة رسمية محددة مختصة هي جهة المتابعة والحسم حتى ننتهي من لغة كتبنا وكتابكم ولغة السجالات السياسية المطلبية التي تدور في دوامة بلا مستقر...
بغير هذه التوجهات الحاسمة المهمة سنبقى في إشكالات تتوالد لتنتج مزيدا من التعقيدات والشروخ الخطيرة في نسيج المجتمع العراقي وفي زيادة مظالم أبنائه من الكورد الفيلية...
وبالمناسبة فإنني أعوّل هنا على وفد وطني من الشخصيات العراقية المعروفة والمؤتمنة لتقديم التصور الأنضج والأشمل لهذه القضية ومتابعة حسمها وحل القضايا العالقة من تلك التي ما زالت تهصر أبناءنا العراقيين من الكورد الفيلية يوميا ألما وجراحا ومعاناة وظلما... ولعل الحل عندها سيبقى بين أيدي الزعامات العراقية لتقرر مشاطرة هذا الوفد المركب من الأطياف العراقية كافة حلوله المستقاة من الجرح والألم ومن الدراسة المتمعنة ومن رؤى وطنية متفاعلة لا متطاحنة...
ولنتطلع لدعم مهمة الوفد الوطني العراقي لحل قضية الكورد الفيلية نهائيا...