الوسطية والاعتدال البديل للقطبية والتطرف
لا مصالحة حقيقية بلا اعتراف بالآخر النقيض
ولا حياة صحية صحيحة بلا منطق الحياة الإنسانية وشروط بنائها
أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان
24\11\2007
شخصيا وبحدود خبرتي ومعرفتي المتواضعتين أعترف أنَّنا لم نستطع حتى اللحظة في هذه المرحلة التاريخية أنْ نقنع أو نكسب جمهرة واسعة من الشبيبة الفاعلة من تلك التي صارت تنظر إلى الحياة من بوابة الاحباط وفقدان الأمل حيث اتجهت لا إلى احتقار الحياة الإنسانية بل وإلى القطيعة معها وهجرها مع توسّع ذاك الحقد الداخلي والتذمر الشديد إلى درجة التحول لمرحلة تالية في حياة تلك الجموع حيث لغة الانتقام تدفع لحالة مرضية تتوهم عالما آخر يدعوها للانتحار والمرور إليه عبر آلية القنبلة البشرية التي تتفجر غيظا وحقدا وانتقاما...
وبالمقابل نرصد القوى المؤمنة بالحياة تردّ بآلية لكل فعل ردّ فعل يساويه بالمقدار ويعاكسه بالاتجاه كما تقول المعرفة العلمية البشرية.. وهنا يكون الانفصام والتقاطع بين طرفين إنسانيين من منطلقات السياسة ودواعيها ومن منطلقات الاختلاف الفكري السياسي البحت.. وفي ضوء كل فعل يجري رد الفعل محكوما بشروطه..
أقصد [من زاوية بعينها] أنّ القوى الإيجابية في الحياة البشرية تحصر نفسها في إطار ردّ الفعل عندما تتعامل مع هذه القوى التخريبية بفعلها الانتقامي المرضي الأهوج.. ومن هنا تظل الأمور بعيدا عن أية آليات للقاء والحوار الموضوعي الهادئ ومن ثمَّ التغيير والاقناع والمعالجة..
فما كان يوما ردّ الفعل علاجا أو فعلا إيجابيا بخاصة عندما يكون ردّ الفعل مربوطا بقوانين الفعل السلبي كما الأفعال الانتقامية المرضية.. لأنّه [أي رد الفعل] سيكون محكوما في أقل تقدير بشروط السلبية من عنف وشدّة ومن وقوع في أسر القطبية والانفصام والتشدد أو التطرف على الجهة النقيضة الأخرى للطرف [السلبي] أو الأول...
إنَّ جموع الشبيبة المضللة أو أسيرة أمراض المجتمع والحياة البشرية المحكومة بقوانين المرحلة التاريخية ليست مخلوقات فضائية غريبة هبطت على عالمنا وحيواتنا بل هم أبناء مجتمعنا نفسه الذي نحيا فيه.. وهم في الحقيقة واقعون تحت إسار أوضاع نفسية واجتماعية وسياسية ناجمة عن خصائص محيطهم وعن الأسباب والدوافع الموضوعية والذاتية التي تحولهم لوحوش ضارية لا تعرف إلا لغة الانتقام والدم..
وطالما كنّا الطرف النقيض أو وضعنا أنفسنا في المستوى ذاته والآلية ذاتها أو حصرنا أنفسنا في التقابل والتضاد والتقاطع؛ فإنَّنا نساهم بهذا القدر أو ذاك في أنْ نكونَ جزءا من دوافع اختلاق هذه الظواهر المرضية وتوسيعها أو تمكينها من الاستمرار والفعل كما يريد من يقف وراء هذه الجريمة بحق البشرية وبحق السماء والديانات السمحاء وبحق الفلسفات الإنسانية السلمية التي تدعو جميعها إلى احترام الوجود الإنساني والحياة البشرية والعيش على الأرض التي اُستُخلِف عليها البشر لإعمارها لا لهدمها وتخريبها ولا لقتل الأنفس التي حرّمت الديانات والشرائع مسّها بسوء...
ولسوء التوازنات ما زالت القوى الحكيمة [الوسطية المعتدلة] في وضع مهمَّش أو ضيق بعيد عن سلطة القرار.. فقوى الوسط والاعتدال لا تمتلك القدرات أو الإمكانات لضبط حالات الاقتتال الدموي سواء في الفعل الإجرامي المرضي للموتورين والحاقدين على حياة يستحقرونها لكثرة ما يركزون على جانبها الأسود الكالح وثغراتها ونواقصها وعيوبها ولعدم وجود مُحاوِر أو مُقنِع لهم يزيل عنهم غمامة الضلال وسطوة العقول المريضة عليهم..
فنحن لا يمكن أنْ نتحدث عن حوار إلا و وضعت له بعض الأطراف المنحازة للحياة البشرية السليمة شروط استثناء أوساط عنيدة متشددة بطريقة تقطع سبل التغيير واحتواء الظاهرة بطريقة موضوعية محكومة بشروط المنطق العقلي الموضوعي وهم بذلك كما سبقت الإشارة يضعون تفاعلهم مع هذا الآخر تحديدا مشروطا برد الفعل ومن ثمَّ بشروط فلسفة عنفية دموية اقصائية لا تسمح لنا بتجفيف منابع قوى الإرهاب المرضية بقدر ما تمنحهم فرص التوسع والبقاء..
إنَّ حالة إخراج تفاعلنا أو معالجتنا للظاهرة الواقعة في إطار التشدد والتطرف والعمليات الإرهابية من سماته المتطرفة المقابلة ومن خطاب العنف والاقتتال لا يعني أنَّنا نمارس رومانسية حالمة وعواطف إنسانية ساذجة في التعاطي مع المجرمين ولكنّنا أمام واجب أنْ نتمالك أعصابنا وانفعالاتنا مع الظاهرة في أعتى لحظاتها أزموية واشتدادا...
ومن المنطقي أنْ يجري الحوار الذي نتحدث عنه في إطار شروط العقل وضوابطه الموضوعية ولكن ليس على أساس ترك انفلات الأمور.. فالمريض بحاجة لمعالجات جدية فيها من الشدّ والجذب والضبط والقوة ما ينبغي ألا ينسينا طابع هذا المرض ودهاليز ألاعيبه لتمرير فرص بقائه ونشاطه..
وكما يرى قارئ هذه الأسطر فإنني لا أستند إلى مواقف حزبية أو فئوية ضيقة في التعاطي مع المجموعات التي يستند إليها الإرهاب في آلياته؛ بل أستند إلى قوانين العلوم الإنسانية والمعارف التراكمية التي تدرس الظواهر بدقة وموضوعية، بعيدا عن تلك المسبقات التي تشطر المجتمع على طرفين متعارضين فئويا متقاطعين [بتطرف واحتدام دموي] بلغة الخطاب السياسي البحت..
فيما نحن بحاجة جدية حقيقية للاعتراف بالآخر النقيض.. الآخر الذي يمكننا أن نكون له نحن الفعل وهو ردّ الفعل بحيث يقع في حركته في إطار شروطنا وشروط الحياة البشرية للتطور والتقدم. وهذا أمر ممكن ومتاح لأنَّ الأغلبية هي أغلبية مؤمنة بلغة الحياة السلمية الموضوعية: حياة البناء لا الهدم، حياة الصحة لا المرض، حياة المنطق العقلي لا التمرد والضلال...
هنا نبدأ رحلة تجفيف منابع القوى الإرهابية بحق ونسير في طريق طمأنة المجتمع الإنساني.. بخلاف بقائنا خلف لغة العنتريات والاقتتال وحرب الدم والموت التي لا نهاية لها طالما شاركنا فيها وكنّا موردا من مواردها لوجستيا بل وحتى فعليا بوضع أنفسنا طرفا مباشرا في رحاها فنكون أحد قطبي الرحى وهو ما تنتظره قوى الدمار نفسها لكي يستمر غطائها في الوجود...
المواد الأساس لقطبي الرحى، هم الناس الأبرياء. فلنوقف المطحنة بألا نكون إحدى مفردتيها أو طرفيها فالرحى يا سادتي لا تعمل بطرف واحد... لنخرج من لعبة الاستقطاب وآلية استيلاد متصل مستمر لطرفين نقيضين..
وبديلنا لن يكون غير استيعاب الآخر ومعالجته كما نعالج مدمني المخدرات ونحتضنهم لإعادتهم إلى الحياة السوية بدلا من محاصرتهم ومنعهم من استعادة صحتهم وانتمائهم للمجتمع السوي.. مجتمع الأسوياء..
ولأن المدمن بحاجة لخصوصية في العلاج وليس للتفاعل العاطفي الانفعالي فإنَّ الحال الآخر للمتطرف المحبط الذي يكاد يشرع بعمليات الانتقام والتخريب الدموي بحاجة لإعادة الأمل وإقناع أو ما يسمونه غسيل دماغ كما غسيل الدم عند المدمن من دون استثناء جزاء الجرائم كما يتحمل المدمن آلام غسيله وتحوله لكائن إنساني صالح، فتلك لا نريد لعلم الاجتماع ولعلم النفس أن يزعم حقه في مصادرة العلوم السياسية والقانونية في معالجاتها هي الأخرى...
ولعلني في هذه الكلمة أؤكد على أن التوفيق في خلق حياة إنسانية كريمة تتأسس على:
1. الامتناع عن القطبية والتطرف في اتجاهين متعاكسين في الحياة الإنسانية العامة..
2. إيجاد أوسع ميدان للاعتدال والوسطية أو الموضوعية والهدوء والمنطق العقلي في التعامل مع الظواهر كافة في ظل أية مرحلة..
3. وعلى إيجاد فرص أوفر وأكبر لتحول القوى الإيجابية للعمل بشروط الفعل الإيجابي لا العمل بشروط ردّ الفعل السلبي...
4. وخلق أرضية القبول بالآخر الذي لا يكون بالضرورة مفصَّلا على مقاسات السائد أو الحاكم أو المنتظر أو المؤمل، بل من الواجب أن يكون قبولنا بالآخر الحقيقي الذي قد يقابلنا ويتقاطع معنا...
5. تعزيز فرص التنوع وحوار أو تفاعل المختلفين حقا من منطلق نسبية الأمور والحقائق والأفكار في صوابها وخطئها.. أي بالامتناع عن فرض مسبق لصواب مطلق لرؤية أو أخرى...
6. اعتماد حقيقي تام لاحترام حق خيار نمط الحياة للفرد والجماعة من دون استثناءات إقصائية أو إلغائية بتوسيع دائرة العيش المشترك بين الأفراد والجماعات مع حماية الحقوق التي لا تنتقص من الآخر أو تتجاوز عليه أو على القواسم المشتركة العظمى...
إنَّ توكيد هذه اللغة وخطابها الفلسفي وتوجهنا فيها إلى أوسع جمهور وانفتاحنا على علائق متنوعة غنية في شروط منطقها العقلي سيعني بداية نوعية جديدة لحسم معركة البشرية بين الفعلين الإيجابي البنّاء والسلبي الهدَّام، بين الصحي والمرضي، بين المصيب والمضلل المخطئ.. حينها فقط سيمكننا القول: إنَّنا انتصرنا للبشرية على قوى الدمار فيها.. إذ المفيد أن نقي المجتمع كما نقي الجسد بديلا عن انتظار تفاقم الورم المرضي لنتحدث عن البتر والكيّ وكل ما شابه من العلاجات المؤلمة وما تحمله من عوارض...