الأزمة العراقية بين خطابي الكتل السياسية الفكري والسياسي
أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان
16\08\2007
tayseer54@hotmail.com E-MAIL:
الأزمة العراقية ليست من صنع الخيال العلمي لقوى قادمة من فضاء المجرات البعيدة.. وواقعنا ليس بعيدا عن وجودنا نحن العراقيين ومن يحيط بنا من الشعوب والجماعات والكتل والقوى المنتمية إلى الوجود البشري المعاصر. ومن ثمَّ فكل قضية نناقشها في جوهرها تنتمي إلى معطيات الفكر البشري وتناقضاته وبديهيات قوانين المجتمع الإنساني ومساراته..
لقد عالج الفكر البشري أسئلة وجوده بوساطة الأسطورة وقوانين الفكر الأسطوري في طفولة ولادة آليات اشتغال العقل البشري. وصار إلى إجابات الفلسفة في مرحلة تالية ثمَّ اتخذ من الفكر الإصلاحي والديني مسارا لآلياته وانتقل في العصر الحديث بقوة إلى التعاطي مع الفكر العلمي عبر رباعي العلوم الحديثة داروين وفرويد وماركس وفريزر...
إلا أنَّ البشرية في كل حالات انتقالاتها من مرحلة إلى أخرى لم تترك منطق التفكير السابق وآلياته نهائيا بسبب من تفاوت مستويات التطور والنمو ودرجة الاستعداد للمراحل التالية فضلا عن جملة أسباب أخرى لبقاء آلية تفكير أو للعودة إليه في مرحلة متقدمة زمنيا... كما في تراجع مجتمع إنساني إلى مستويات تطور متخلفة على العصر وآلياته المفترضة...
وبتركنا هذا التمهيد العام وولوجنا حال من التخصيص نجد أن الواقع العراقي كان بعامة يحمل مسار التعاطي مع المنطق العقلي المتنامي تطورا فكريا فشكَّل تراث الإنسانية وسار منتصرا للمنطق العقلي في أحلك ظروف أبنائه في مجابهتهم لبيئتهم القاسية ثم لاختراقات محيطهم بخاصة في الانكسارات العسكرية...
ولقد بقي للعراقيين هذه السمة المتفتحة المتنورة وإن بدا طمسها أكثر من سطوعها.. لكن قوة الأمل وعمق الجذور الفاعلة في الروح العراقي تبقى الأقوى وتعاود المساروالمسيرة دائما وذلك هو ما يجري اليوم. فلقد تراجعت القوى المعبرة عن مسيرة الشعب العراقي بأطيافه وارتقت منصة قيادته قوى عادت بالشعب والوضع إلى مراحل تاريخية متخلفة أو في أفضل توصيف لها هي كونها سالفة انقرض زمنها...
ولكن الشعب يعاود المسيرة بأنشطة نوعية محسوبة وها هو يتقدم بخطى أسرع من خطى القوى السياسية المضطرة لوضع أنفسها في زوايا ضيقة في إطار دبلوماسية التعاطي مع الواقع وفئات الشعب تتظاهر وتضرب وتعتصم وتنتفض وتعبر عن مطالبها بوضوح لأنها مطالب الحياة الإنسانية الكريمة التي تطلع إليها الشعب طويلا...
وللحديث عن البعد الفكري لخطاب الكتل والمجموعات السائدة اليوم نحيل إلى أبرز خطابين وهما يتمظهران في الخطاب الديني والخطاب العلماني... وفي الخطاب الديني كثيرا ما يختزل الأمر في تكرار لجريمة المصادرة والاستلاب في الحديث عن الخطاب الإسلاموي.. فيما الخطاب الديني العراقي حقيقة ينبغي أن يتسم بالتعددية المقرونة بالمساواة في حق التعبير في ظل مبدأي الدستور والعدالة وقوانين حقوق الإنسان وحقوق المجموعات البشرية كافة ومن ذلك في مجال الاعتقاد والإيمان الديني..
وفي مجال التعددية لا يمكن لمنصف إلا أن يذكر إلى جانب الإسلام المحمدي بمذاهبه وطوائفه، المسيحية بكل مذاهبها وأطيافها والمندائية والأيزيدية واليهودية وهناك مجموعات دينية وطائفية أخرى تمتلك فكرها ووجودها الذي ينبغي أن يُحترَم على قدم المساواة والعدل ومنع المصادرة والاستلاب من أفق الحال الجاري...
طيب هل نجد لهذه التعددية ظهورا في العراق الجديد؟ وما طبيعة هذا الوجود وشخصيته وهوية التعبير عن خطابه؟ وهل من الصائب الحديث عن خطابات الديانات المتعددة؟ مع الإشارة للاحتفاظ بتنوعات طروحاتها الاعتقادية وأحيانا تعارض أو تناقض تلك الطروحات لدواعي الخضوع لرؤية من هذا الخطاب أو غيره... والسؤال هنا عن مجرد ظهور الخطاب الديني الآخر وليس عن فرصه في التصدي لحل المعضلات ولا لتعاطيه مع الواقع بطريقة تسهل مهمة المساهمة في بنائه وتسييره...
إنَّ حالة الإقصاء والحظر وقطع الطريق على التعددية وعلى احترام الآخر ودوره الحياتي، لأمر سائد بأحادية مقيتة تصور الأمور بمخادعة وتزييف والآخر لا حول له ولا قوة في المنافحة عن حقه في المساواة وفي حرية التعبير دع عنك المشاركة بالمسيرة ورسم مشروعاتها...
من هنا اسمحوا لي بالحديث عن المسيحي والمندائي والأيزيدي واليهودي بالقول: إنَّ هذه الديانات بمجموعاتها التي تؤمن بها ما زالت محاصرة في أقبية سؤال حماية أبنائها وأتباعها من الآخر الحاكم الإسلاموي كون ممثل الإسلام ليس المعتنق له المعتدل وممثل الديانة ومرجعياتها الحقة .. وآخر حدث يمكن الإشارة إليه ما جرى بحق الأيزيدية برجم رجلين علنا جهارا أمام المسؤولين ورجال حماية الأمن باسم الله أكبر الإسلاموي! والتفجيرات الإرهابية التي طاولت مئات منهم في نينوى فضلا عن مصادرات الأموال والأملاك وأشكال الاستغلال والفواحش الإجرامية المرتكبة...
وطبعا ينبغي أن أذكر بمثال صارخ آخر هو ما يُسمى التطهير بمعنى إخراج المسيحيين من الأرمن والآثور من محافظة البصرة ومن أحياء في بغداد... وما جرى بحق المندائيين في الناصرية والعمارة وهذه أقل مما حصل لليهود في أربعينات وخمسينات القرن المنصرم... ولنتخيل الأمر وتداعياته..
فكريا واعتقاديا ينبغي المساواة بحق التعبير وممارسة الطقوس وإبداء الرؤى التي تساهم في العمل الجاري ولكن كيف يمكن تحقيق ذلك والكنيسة والمعبد تحت عمليات الهدم والمؤمن بتلك الديانات مطارد لا في شكليات حياته بل في حياته ذاتها التي تصير على وفق نهج التطرف التكفيري ملكا للإرهابي لا لبارئها...
بقراءة المشكل في الخطاب الديني الذي نشير إليه نلاحظ سمات الانغلاق والعزلة التي يجري العمل بها لأسباب ذاتية وأخرى موضوعية طاردة مفروضة قسرا على تلك الديانات... وهو الأمر الذي دفع لارتكاب جرائم كما تلك التي حصلت لمثال حي قريب في رجم أيزيدية أحبت شخصا من غير دين.. وكما في الاستشكالات التي تجري بين المذاهب الدينية المسيحية ما ينعكس على وحدة الوجود حتى في أولياته كما في التسمية التي تعكس اختلافا بشأن قراءة الوجود القومي والديني.. وهذا بالتأكيد ينعكس سلبا على تطلعات أتباع المسيحية وحقوقهم المضاعة..
إنَّ الخطاب الديني لتلك الديانات المحاصرة يقف بآليات أقل من مستوى الدفاع عن أتباعه حتى أنه ما زال يتحدث عن الرعية والرعاية مستسلما في أحيان عديدة للنظرة الفوقية الاستعلائية في التعامل معه من جهة الحاكم الإسلاموي [لا أقصد هنا المسلم ولا الإسلامي] وعليه فإن الخطاب الديني التعددي ينتفي لضعف مشاركة القوى المتعددة وترك الميدان لطرف أحادي وحتى هذا الطرف الأحادي يتعرض لمصادرة واختزال في المجموعات التكفيرية والمتطرفة المتشددة التي لا يهمها إلا قشور طقوسية مقيتة لا تُعنى بواقع الإنسان ومعاناته وبالجريمة الجارية بحقه في ضوء سطوة جهلة في صحيح الخطاب الديني من جهة عنايته بالتعبير عن مصالح الإنسان وإعمار الأرض المستخلف عليها كما يريد الخطاب الديني ويطرح في نصوصه الأصل...
عليه لابد من الالتفات إلى أنه من دون مشاركة تعددية ولقاء مشترك بين أصحاب الديانات المتنوعة المختلفة لن تتحقق فرص اللقاء وفرص بلورة خطاب ديني صحيح وسيفسح هذا المجال واسعا لخطيئة بل جريمة التفرد ومن ثمَّ جريمة الاختزال للمتفرد في مرجعيات مشوَّهة للخطاب الديني مستغلة له تضليلا وتزييفا لمصالح فئوية ضيقة..
لاحظوا معي صعود ظاهرة الفتاوى التكفيرية للمجتمع الإسلامي بطبيعته وتركيبته وتنامي العودة لأوليات سلفية مقيتة مستكرهة رُفِضت حتى في زمنها لكن بعض نفر اليوم يقومون بالنبش في قبور المكتبة السلفية المتعصبة ليعيدوا الحياة لرميم الفتاوى البائسة من تلك التي جرت مخصوصة بظرف تاريخي وبواقعة منفردة محصورة منسوخة حتى في آي القرآن وسوره بصراحة..
ولننظر إلى مثال تعطيل المرأة ومنطقها العقلي وحبسها في أدراج وأرفف مغارات الجهل بيتا وزيا اي بما تلبس وترتدي والقصدية استغلالها بتشييئها وامتلاكها في ظاهرة عودة زمن العبودية والرق والاتجار به.. أشير إلى آخر فتوى دينية في البصرة بشأن زي المرأة كما أشير إلى فتوى الإرضاع وفتاوى الزيجة من المحرمة المولودة عن زنا على وفق المصطلح الديني وغيرها...
إنَّ كل ذلك هو جوهر الخطاب الديني المعاصر ومرجيات دينية بعينها... وما أريد الوصول إليه أن مثل هذا الخطاب يوفر الأرضية للسياسيين المعنيين المتسترين به لمواصلة جرائمهم.. والمصادرة لا تتلفع بخطاب سياسي بل بخطاب ديني مقدس! ومن ثم لا يمكن السماح بعدها للجدل والمناقشة والحوار بل ولا يأتي بعدها سوى القمع تنفيذا للأمر الإلهي كما يزعم أصحاب هذا الخطاب....
ومن الطبيعي أن نشهد سمة جلية في تعاطي الخطاب الديني مع الأزمة العراقية من جهة يسم ما يجري للعراقيين بكون انتقام الرب منهم ومن جهة يشير إلى تكفير المجتمع ويدعو للجهاد ضربا وطعنا في أبناء هذا المجتمع ومن جهات أخرى يعمل على فرض سلطة الكهنوت والمرجعية الدينية وقدسية ما تقول وتأمر به ومصادرة أي رأي مخالف كونه كفرا وإلحادا ومعاداة للإله وما يريد بفرض نيابة المرجع البشري عن المرجع الإلهي وعصمة المرجع ما يوجب لا منع مخالفته بل طاعته المطلقة بلا تفكير ولا مناقشة..
هذا يخلق فلسفة المرجعية الدينية الواجبة الطاعة والخضوع المطلق لها ونظام ولاية الفقيه الملزم العودة وبتنا اليوم نلاحظ عودة أعلى المسؤولين المنتخبين أو المفروض أنهم منتخبين لا إلى مرجعيتهم أي من انتخبهم لتنفيذ الدستور الذي أقره واستفتى عليه بل إلى هذا المرجع الديني أو ذاك بالمخالفة مع الدستور ومع المرجعية المدنية المشروعة قانونا ممثلة في الشعب...
وهذا كله يبقى في حدود اختزال الحياة ومشكلاتها وتنوعها وغناها في فتاوى فقهية تعود لخطاب الفقيه الديني ومرجعياته المحدودة بعلوم القرون الوسطى في أفضل قراءة تاريخية.. وهل من عجب بعد ذلك في تعاطي علمائنا في الذرة وفي الطاقة وفي الفيزياء والكيمياء مع تلك القراءة وتلك المرجعية..؟! وهل من عجب في تعاطي علماء اجتماع وتكنوقراط عصرنا ويومنا في أخذ أوامرهم من مرجعية في ضوء معارفها القروسطية؟!!
وتسألأونني أين المشكل الذي يصنع المعضلات والأزمات العراقية القائمة.. لقد انفضَّت قوى شعبنا العريضة وفئاته عن الخطاب الديني ولكنها حتى اللحظة لا تجد البدائل ومن نكاية الوضع أن الأحزاب الدينية بل والمرجعيات الدينية أدركت ما جرى في الحس الشعبي فباتت تخاطب ممثلي العلمانيةي ليكونوا ممثليها التالين في الخطاب الجديد في محاولة تضليلية ودفعت بتسميات جديدة للمسميات ذاتها وصرنا نسمع عن جبهة المعتدلين للقوى السياسية ذاتها التي ارتدت عباءة الخطاب الديني وفلسفة مرجعياته...
وبودي هنا القول: إنَّ الخطاب الديني ليس إلا جزئية أو جناح من أجنحة خطاب القوى الممثلة للخطاب الشوفيني الاستعلائي الفاشي في أدائه والمتمثل في القوى الطبقية التي تتقلب بين أي خطاب استعلائي وآخر يمكنه تمرير سلطتها الفاشية وهذه القوى الطبقية ممثلة في حثالة المجتمع مثلما هي ممثلة في البرجوازية الكومبرادورية والطفيلية التي تعتمد فرص الكسب الاستغلالي السريع على حساب سحق كل القيم البشرية وحقوق الإنسان ومصالحه..
ومن الطبيعي أن يتمثل الأمر فكريا على هذا الصعيد في الفكرين الديني المتطرف والقومي الشوفيني. ما يلزمنا الانتباه في التعاطي معهما إلى طبيعتهما الفاشية وآليات عملهما الإجرامية التي تستند إلى فلسفة العنف الدموي واللعب التآمري والخبث السياسي القائم على تقية أو على العمل السري المغطَّى بعباءات تضليل ومخادعة لا تكتفي بالقدسية الدينية والبطولة القومية بل وباستغلال كل تفاصيل المشاعر الإنسانية وآليات الفعل النفسي والاجتماعي البشري السوي مشوِّهة ذلك مستغلة إياه أسوأ وأبشع ما يكون..
وبمقابل حال من القمع المستشري للآخر الديني التعددي الموجود في أفضل أحواله بصيغ مشروطة محددة مستلبة محاصرة بمحددات ومحظورات فيما الإشكالية في خطاب الكتلة الإسلامية أنها إذا نظرت للآخر وتعاملت معه لا يأتي ذلك إلا من حالتين:
- التهميش على أساس كونها المرجعية الإلهية الأخيرة..
- الاستصغار على أساس الكمي في الحديث عن أغلبية وأقلية وعن فوقية ودونية...
وفي ضوء ذلك لا تتملك الخطاب الديني الإسلاموي إلا الفلسفة الفكرية الأحادية وهو ما نلمسه قاعدة لتبرير كل الإجراءات والقرارات الصادرة في شكل ماضوي من الفرمانات والفتاوى المنافية للعدل والمساواة إلى حدّ ترسيخ حالة التناقض مع النص الديني ذاته أو تشكيل ظاهرة الانفصام في الشخصية والتناقض مع الذات المعتدل المنصف...
وإذا قرأنا الأمر بتفصيل آخر فإن الدين لم يكن يوما حالة من النصوص المعزولة عن أن تولد من رحم الحياة البشرية ومن هنا فإن حالة الاجتهاد ووجود المرجعية المقدسة هي رؤية دينية تنبثق من درجة السلطة الدنيوية لرجال الدين ودورهم في التحكم بالإنسان وحركته وحياته
ولقد تحكم كهنوت المعبد بإنسان مرحلة العبودية عندما اُطروا لإيجاد مرجعية تبرر استعباد الإنسان ببناء المعبد المقدس الذي أخذ تلك القدسية من عزلة مفتعلة
واليوم يُحظر الحديث عن المرجعية وكل نقد أو معالجة أو اقتراب يُصادر بالتكفير حيث المرجعية ليست بشرا عاديا ولم تكن يوما كذلك وممنوع الحديث عن طفولة مرجع وتلمذته واشتغال المرجع طوال مسيرته وحياته..
هكذا يكون هذا الساس الديني المفتعل جوهرا لخطابه الإقصائي...
وطبيعي أن تكون القوى السياسية المهتدية به تضع برامجها في ضوء فلسفة قاصرة كما اشرنا في تتبع سريع للأمر...
وبخلاف ذلك نراجع القوى العلمانية منشطرة بين جزئية تنطوي في مسيرة الفئات التي حملت الخطاب الديني أو تلك التي تحمل رايات الفكر القومي الاستعلائي الشوفيني وفي كلتا الحالتين سيكون التحالف الجوهري لهذه القوى قائما على أي الخطابات التي تحقق مصالحها الاستغلالية ومن هنا وجدنا فئات البعث القومي الاستغلالي تنضوي في ظل راية الصدرية تيارا ديني الخطاب طائفي التوجه لتمرر أحلامها ومطامحها التخريبية والعودة لسدة الحكم والسلطة وهي في قسمها الآخر تشكل تنظيمات قومجية تستغل جهة طائفية مغايرة..
وحسابات أغلب هذه القوى يظل خارج مصالح الفئات الشعبية فيما النسبة الأخرى تندرج في الخط الموضوعي عندما يكون ميزان القوى في كفة القوى الشعبية وتحت قيادة تيارات سياسية صحيحة البرامج...
من هنا يمكن قراءة توجهات القوى الطائفية [أي الدينية الإسلاموية الراهنة] وتبديلات خطوات برامجية لها في تسميات وتمظهرات تظل مضللة إذا لم تجد الحسم الشعبي والتحالفات المتينة التي تجبرها على الانحناء لمطالب جماهيرية مثلما أجبرتها الفعاليات الشعبية على تغيير قميصها رداء خارجيا يلزم أن يلحقه تغيير آخر على مستوى الجوهر...
إن الخطاب الفلسفي الفكري للقوى السياسية يظل متأرجحا بين حالة التبني والإيمان والخضوع بحسب تفاعلات الواقع وفي جميع الأحوال الفئات التي تشكل أرضية الفاشية لا إيمان اعتقادي لها بقدر ما لديها التبني المؤقت لما يخدم انتهازيتها ومصالحها الطفيلية بخلاف القوى السياسية العلمانية المعبرة عن مصالح القوى الشعبية العريضة التي تجد نفسها في حال من القناعة الفمرية المبدئية الثابتة ما يتطلب التفكير بالآليات التي تتلائم ومتغيرات الواقع سياسيا...
إن القوى الدينية جاهزة بمنطق فلسفتها وآليات عملها لإصدار الفتوى النقيضة لسابقتها إذا ما تطلب الأمر لتسيير مفردات نهجها ومصالحها وهي تطيح بالرؤوس التي لا تخدم تلك المصالح بهمجية ودموية بيِّنة بينما القوى العلمانية بحاجة لآليات مختلفة في التعاطي مع المتغير ومع الواقع الراهني...
عليه ينبغي الحديث عن صراحة ووضوح في خطط وبرامج القوى الصحية بمقابل تقية وسرانية وخبث وانتهازية في العلاقات وفي النهج والتعاطي مع الواقع للقوى الشوفينية الدينية والقومية..
ولكن ما تحتاجه القوى الصحية للوصول إلى جمهورها لا يمكنه النجاح بصحة النية ومصداقيتها إذ الجمهور يتأثر مرحليا بتوجهات تسود لظرف تاريخي بعينه ولمؤثرات نفسية واجتماعية سياسية عريضة.. فهو يحتاج إلى آلية مناسبة لاختراق العزلة وللوصول إلى جمهوره بطريقة موضوعية صائبة...
بالعودة إلى واقع التحالفات الراهنة يمكننا الحديث عن لقاءات سياسية بحتة بسبب من كون الظرف الذي يحكم العلاقات الراهنية ظرف طارئ واستثنائي وإن أغلبية التحالفات تقوم على برامج مؤقتة وجزئية لا تمتد لأكثر من مهمة زمنية قصيرة...
وفي مثل هذه الحال لن نصل إلى معالجة المستعصي من الأمور لأن التحالفات ذات النهج الطارئ القصير تمرر معها نواقص خطيرة وضمنا توصل رسائل خاطئة لجمهورها مثال حالة التعاطي الانتخابي بين اليسار العراقي والوفاق القومي ما يلزم له تحضيرات وتثقيف أو إعلام بحجم كاف لتوضيح الحالة...
هذا طبعا مع حساب موازنة مناسبة للخسائر والأرباح الراهنية والستراتيجية...
وبنفس الوتيرة تجري اليوم حالة تحالف أخرى إجرائية بالبقاء في حكومة محكوم عليها بالفشل في ضوء برامجها ويبدو لي أنه إذا صحت فكرة التحالف الانتخابي المؤقت مع الوفاق من قبل الياسر العراقي فقد تكون الخطوة التي اُتُخذت بالقاء في حكومة المحاصصة الطائفية أمر يحمل كثيرا من الجفاء مع القراءة الفكرية والسياسية الصائبة وفي كلتا الحالتين دفع اليسار والعلمانية ثمنا باهضا فيها... في الأولى لعدم التعاطي مع القواعد والجماهير بكفاية إعلامية حتى أنني لم أجد أية قراءة تخص ذلك التحالف تصل الصحف حتى اليسارية المتخصصة والثانية في محاولة الإعلان أن اليسار له استقلاليته في القرار عن العراقية قائمة انتخابية وكان الارتجال ورد الفعل السلبي يحكم الحالة...
ويبدو لي أن قيادة اليسار قد قررت التحالف الراهني مع أحزاب إسلامية كما حصل في إعلان التحالف بين الشيوعي والاشتراكي من جهة وبين الحركتين الإسلاميتين في كوردستان معلنة ما يشبه فك الارتباط بالقيادة الكوردستانية في سابقة غير محمودة النتائج أو غير محسوبتها... ومثل ذلك البقاء في حكومة المحاصصة العاجزة عن أداء أبسط أوليات البرامج الطارئة والسائرة في طريق منتقد ويبدو لي أن التأخر عن اتخاذ الإجراء واللحاق بالركب تاليا وهو ما ستضطر الظروف إليه في لحظة أشد أزمة لن تتوانى فيها القوى الإسلامية عن الإسفار عن وجهها ومواقفها وهي تحضر له بين الفينة والأخرى وتتردد لأسباب ودواعي مرحلية مؤقتة مثلما هو الحال في مهاجمة الشخصيات الوطنية العلمانية ومحاولة محاصرتها عبر هذه الهجمات والتشويه المتعمد لها ومنع ظهورها في الإعلام الواسع وتصفيتها الجسدية وعبر خطابات التكفير وسلسلة من الخطوات الممنهجة ..
إن التعاطي مع هذه الأمور لا ينبغي أن يقوم على حساب الخسائر الشرسة لصعوبة المجابهة المباشرة الآنية بل ينبغي أن يحسب حسابات الخسائر النفسية والتعبوية التاريخية التي تتعرض لها الحركة في ضوء المهادنات غير الموضوعية وغير المحسوبة..
لقد كسب اليسار سمعة واحتراما حتى من أعدائه نتيجة مواقفه المبدئية ولكنه يخسرها اليوم بسبب من ردود الفعل تجاه القرارات الخاصة بالتحالفات ونهج ردود الفعل وليس الفعل في التعاطي مع واقع مرير ليس من السهل اتخاذ خيار فيه ولكن بحاجة للشجاعة والهدوء والموضوعية وللرجوع إلى مفكري المرحلة لدراسة القرارات...
يهمني أن أتوقف فقط حيث قلت إن مرجعية أي تيار فكريا ليست هي ذاتها سياسيا فالفكري يمنح المبدئي أو يمنح الثوابت والمحاور الرئيسة صحيحة أم خاطئة والسياسي يُعنى بالمتغير ويقبل التعاطي المؤقت بالتأكيد حتى مع حال من التنازل عن بعض الثوابت لتمرير أمر استثنائي أو طارئ وعلينا توضيح ذلك لأوسع جمهور القوى السياسية بغاية التعاطي الأسلم مع القرارات والبرامج ...
والتحالف ينبغي أن يستند إلى أسس لقاء طبقي إيديلوجية أو أن يستند إلى فروض الظروف الميدانية والتعاطي مع واقع لتمرير أزمة.. فما الذي دفع إلى تحالفات من هذا النمط المؤقت؟ أقصد القراءات الأخيرة التي جرت لأزمة حكومة محكومة بفشل نهجها وبخطل الأسس التي قامت عليها أي المحاصصة والإقصاء والتهميش والتفرد والاستعلاء والتساهل مع الاختراقات