السيادة والمرجعية بين الشعب والفقيه؟
أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان
04 2006/10/
E-MAIL: tayseer54@hotmail.com
يذكّرنا التاريخ الإنساني مذ ولادة الدولة أن جميع المصلحين وأن جميع الأنبياء والأولياء الصالحين كانوا يعايشون أبناء جلدتهم ويحيون حيواتهم ويتفاعلون معهم. وأنَّهم جميعا كانوا يمدون يد المشاركة في العمل اليومي للناس.. حتى أنهم كانوا يجنون أرزاقهم من جهدهم الخاص المباشر.
وفي التاريخ الإسلامي للدولة بالتحديد وجدنا أن النبي (ص) لم يكن معتكفا في صومعة ورفض الإسلام فكرة الرهبنة والانقطاع عن الحياة الإنسانية والعمل. وقد خرج النبي (ص) في تجارة تعود لسيدة [امرأة] من قريش وشارك في العمل بأشكاله في حياته بمراحلها وكان من تبسطه وتواضعه يخيط بيده الطاهرة ما يحتاج لإصلاح من ملبسه وأدواته ومثل هذا فعله الأنبياء الذين رعوا الأغنام وعملوا في مؤسسات دولة كوزير لفرعون على سبيل المثال لا الحصر وغير هذا عديد من الأمثلة.. ولم نسمع يوما في التاريخ الإسلامي عن الخلفاء والأئمة أنهم اعتكفوا وهم المرجعيات الكبار العظام في أزمنتهم..
وقد كانت الدولة تُدار في شؤونها المدنية مستقلة في مرجعيتها ومرجعية إداراتها وقضائها حتى أن تلك الشخصيات الإسلامية التي كانت مرجعا كانت تحضر بنفسها لتقف أمام قاض أو مرجع أو مسؤول للدولة. ولم تستنكف تلك الشخصيات المبجلة الطاهرة العظيمة أن تذهب مشيا ساعية بقدمها إلى حيث المسؤول وإلى حيث العمل يتطلب وجودها.. وصارت هذه المسألة قانونا وشِرعة بل النص المقدس يؤكد الأمر بلا لبس حيث لا رهبنة في الإسلام وحيث العمل مقدم على غيره من الفروع سوى ما نراه اليوم خلاف ذلك من فلسفة أحزاب التأسلم...
وللمزيد نشير إلى ما كان لإدارة شؤون الدنيا والدين من مشورة وتبادل رأي حتى بين النبي الأكرم (ص) وبين أصحابه وكان يقصدهم عندما يستدعي أمر ويقتضي. ولم تكن حكاية حصر الحكم والقضاء والإدارة والرئاسة في فرد وإلغاء المجموع المحيط من السادة والعامة موجودة حتى في حياة النبي المصطفى (ص) وخلفائه...
وللأديان ومنها الإسلام موقف تؤكد فيه على تطور الحياة وتقدمها ولزوم التعاطي مع المتغيرات والاجتهاد في معالجة المستجدات في ضوء روح النص ومقاصده في الحياة الإنسانية دائمة التغير مستمرته وهو ما أبيح لفقهاء الدين ما جعلنا نشهد لكل دين مذاهبه أي اجتهاداته لتبسيط تنفيذ تعاليمه..
ولكننا لا نغفل عن قراءة التاريخ بخاصة منه ذلك الذي يشير إلى مراحل مظلمة من التاريخ البشري حيث جرى إخضاع النصوص الدينية للتأويل واللوي بعيدا عن الجوهر الصائب وفي قلب الإعوجاج حيث حكم الخطاب السياسي الخاضع لمصالح الضلالة والظلام ومن تمثلهم من حكّام وطغاة وأصحاب مصالح نفعية. وفي هذه الأجواء ظهرت مصطلحات تحاول استغفال الناس في طقسية تُخضعهم لسلطة شخوص ومرجعيات من تلك الأجواء التاريخية..
وفي حاضرنا فإننا نشهد نُظما من نمط تركيز كل السلطات الدينية والدنيوية في يد مرجع بمُسمى ولاية الفقيه الذي يعود فيه حتى خيار الشعوب ليُخضَع لسلطة الفرد [المرجع] وأوامره ونواهيه!! ومثل هذا الأمر لا يمكننا إلا أن نحاكمه بالاستناد إلى ما يزعم تمثيله والعودة إليه ممثلا في الدين الإسلامي [مثلا] حيث لا نموذج في الإسلام الصحيح لحصر السلطات جميعا في فرد ولا نموذج لإلغاء مجموع القادة والمسؤولين كما في زمن النبوة والصحابة الأطهار...
فمن أين جاءت قدسية بشر وعصمته وعلوّه؟ ومن أين جاءت سلطته واعتلاؤه على جمهور الشعب وسيادته وعلى جمهور ممثلي الشعب المنتخبين وسلطتهم؟ وإلى أية فلسفة أو دين استـُند في كل ذلك؟ وحتى لو فرضنا افتراضا القبول بقدسية إنسان فرد لمرجعيته لمجموعة بعينها، فمن أين يأتي بحقه في حصر السلطات جميعا فيه وفي عودة الشعب بكل معنى وجوده السيادي على نفسه [وبكل مجموعاته وأطيافه التي تتعدد في اعتقاداتها وفي رؤاها الدينية والمذهبية فضلا عن حقوقها الدنيوية في الحريات المكفولة دستوريا] ليرجع إلى الفقيه الفرد فيما يعتكف ذاك الفقيه في مكانه بخلاف كل توصيفنا للتاريخ الإنساني والديني بالتحديد منه تاريخ نبينا الكريم (ص) وخروجه للناس وفيهم لقضاء حواجهم ومراجعة أمورهم واستشارة صحبه والمعنيين حتى من الأديان الأخرى وهو النبي المعظم بكل جلالته وقدره!؟
وكيف تنبني الثقة في فرد شخص معتكف لا يدري الناس ما وراء أمور الاعتكاف وهل هو في داره أو مكتبه أم في مكان آخر؟ وهل هو في اتصال مع الناس ومصالحهم أم في مشاغل واتصالات أخرى غريبة على الناس وعلى مصالحهم؟ وكيف يكون لمن في معمعة العمل وميادينه بكل خبرات الحياة العملية مشورة ومرجعية فيمن يعتكف وراء جدران معزولة عن ضياء ميادين الفعل والعمل؟ ومن اين تتنزل المشورة والحكمة على فرد بغير قراءة الواقع بعين الحكيم كما كان حكماء الحياة ومصلحيها والأنبياء والصالحين في سالف الزمن.. فكيف بنا ونحن في زمن العمل وتجاذب القرار في أرض الواقع لا في ميدان الخيال!؟
وفي واحدة من نتائج قراءة الحالة التي نحن بصددها نشير إلى عديد من الحالات الراهنة التي زار فيها [بعض] مسؤولي الدولة [المرجعية الدينية الشيعية] للتشاور والاستفادة من رؤاها في عدد من مجريات الأحداث الدائرة. وأمر التشاور لا يُختلف عليه مطلقا.. كما أن المرجعية ذاتها ليست منتقدة بخصوص أفعال غيرها...
ولكننا هنا نتساءل كيف يمكن أن نلغي سيادة الشعب على نفسه وهو الأمر المثبت في الدستور؟ وكيف نلغي سلطة الدستور والقانون وكيف نُتـْبِع مؤسسات الدولة المدنية العراقية التي تمثل سيادة الشعب لفقيه أو مرجع ديني؟ وفي أي نص دستوري تحول فيه العراق ليكون دولة ولاية الفقيه؟ وكيف يمكن أن يتحول مسؤول بدولة سجلت مسارها الديموقراطي التعددي التداولي في دستورها وفي قوانين مؤسساتها إلى دولة مرجعية الفقيه وولايته؟!
ألا يشكل هذا انقلابا وتعطيلا للدستور؟ ألا يشكل هذا تراجعا ونكوصا عن القوانين المرعية للتعددية ولاحترام المجموعات التي يتكون منها العراق؟
وهنا ومرة أخرى لا انتقاد للمرجعية الدينية لأي دين أو مذهب في توجه مسؤول إليهم ولكن المعالجة هنا تكمن في مسؤولية البرلمان وهو مرجعية الدولة لكي يقول كلمته: هل الدولة مرجعيتها تكمن خارجه بالتحديد في مرجعية دين ومذهب بعينه وإلغاء مجموع الديانات الأخرى؟ أم أن الدستور ثبَّت احترام مجموع الطيف العراقي واعتقاداته وأدخلها في موجبات سن القوانين حيثما استدعى الأمر؟
هل من الصائب أن يمضي مسؤول لمرجعية من دين ومن مذهب بعينه ولا يذهب لمرجعيات من مذهب آخر أو دين آخر؟ وهل من الصحيح فرض سلطة مرجعية مذهبية بعينها على مجموع المرجعيات الدينية والمذهبية الأخرى؟
المبدأ هنا ألا مرجعية فوق مرجعية توافق المجتمع العراقي بكل مكوناته على مرجعية الدستور والبرلمان المنتخب وأنه لا يجوز بالمرة لمسؤول في أثناء مسؤوليته وعمله في الحكومة ولا يصح أن يقوم بممارسة فلسفته واعتقاداته وإيمانه برؤى تتقاطع مع محددات مسؤوليته الممثلة في احترام القوانين ومرجعية الدستور في أداء المهام تلك..
إن الاستمرار في خرق الدستور والاستهانة بحق الشعب في احترام سيادته ممثلة في مرجعية مؤسسات الدولة وسيادتها على كل مواطني البلاد بمساواتهم جميعا أمام القانون لا يعلو فيهم فرد على آخر بأية حال من الأحوال ولأي سبب كان! إنّ ذلك لأمر يدعو لا إلى محاسبة المسؤول المعني بل إلى إقصائه عن مهامه لأنه نحا بها بعيدا عن العمل بمبادئ ومحددات وشروط مسؤوليته وأداء فروضها..
ويلزم هنا أن يتابع البرلمان الأمر بوضوح وشفافية وعدم تردد في منع تهميش مرجعية الدولة وهيبتها وموقعها لأن هيبة الدولة ومؤسساتها هي هيبة الشعب وسيادته حيثما التزمت بالقانون والدستور مرجعية عليا.. ويلزم التعاطي مع تمثيل روح الدستور والتوجه لدمقرطة الحياة العراقية الجديدة لا إلى اللعب عبر سلطة توازنات القوى [بخاصة سلطة تهديد الناس بمسلحي الأحزاب الطائفية] لفرض تغييرات في القوانين وفرض تغييرات في الدستور لصالح منطق أسلمة الدولة بفلسفة لا منطق الدين الإسلامي نفسه كما مر معنا ولا حتى بمنطق عدد من المرجعيات الدينية النابهة بل بمنطق أحزاب التأسلم و [مرجعياتها] وقرءاتها الطائفية ومصالحها الدنيوية البحتة التي منها إهانة سيادة الشعب وسلطته ونزوعه إلى العيش السلمي الديموقراطي التعددي وسلبه ثرواته ونهبها بسلطة ميليشيات مسلحة ومافيات معروفة...
ويبقى أن نسجل هنا أننا في الوقت الذي ندعو لمرجعية الدستور ومؤسسات الدولة وسلطتها نحترم حقوق كل مواطن عراقي ومن ذلك حقه في تزعم حركته السياسية أو مجموعته الدينية أو ممارسة طقوسه ومعتقداته والدعوة لها وتقديمها بوصفها معالجة ورؤية لحلول قضايا الساعة على أن يكون كل ذلك في إطار ما يكفله الدستور المتوافق عليه من آليات عمل في إطار الوطن الواحد والشعب الواحد المتساوي بكل فئاته وموطنيه ومجموعاته القومية والدينية وحقوقها تامة كاملة..
كما نسجل هنا أنّ العراق الجديد هو عراق ديموقراطي تعددي تداولي فديرالي موحد يحترم أبناءه جميعا على حد سواء وهو يعلي من شأن العلماء والأساتذة والمبدعين والمثقفين ويعتز بمنجزاتهم كما يحترم الزعامات والمرجعيات الاجتماعية والدينية على وجه الخصوص بالاستناد إلى ضمانات دستورية قانونية وإلى أعراف مجتمعنا وتقاليده وإلى قيم الديانات السمحاء في تبجيل المضحين الفاعلين العاملين من أبناء البشر وعلى رأسهم المصلحين والمرجعيات الحقة المبجلة..
ولسوف يكون لسيادة القانون ومرجعيات مؤسسات الدولة دور أساس في ضمان مثل ذاك الاحترام على أسس صحيحة صائبة بخلاف العلاقات التي يمررها بعض الأفراد من أحزاب وسياسيين بعينهم في ما يدفع باتجاه تخريب المسيرة الديموقراطية للعراق الفديرالي الموحد...
فهل سنجد من يسمعنا في البرلمان الذي جاء به شعبنا وسيغيره [إذا ما أراد] بآخر في السنوات القليلة المقبلة بما يعزز احترام التعددية والتداولية؟ أم سيتمادى أصحاب المسؤولية في تعزيز سلطتهم الانقلابية وفلسفاتهم السلبية بمخادعة تضليلية عبر اللعب على وتيرة الصلة مع مرجعية دينية بعينها؟؟؟
ولشعبنا البصر والبصيرة فيما يتخذ من موقف تجاه هذه القضية التي تتطلب كل الجرأة في التناول والتمسك بمعالجتها بموضوعية..