مشاريع الثقافة والمثقفين

وحكاية الخلافات الشخصية ودعوة لإعلان عيد التسامح والوفاق

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2004\ 03 \22

E-MAIL: TAYSEER1954@naseej.com

نضج كثير من أسباب التقدم والتطور في العراق بعد مسيرة ما يقارب القرن من الاستقلال الوطني. وكان من نتائج ذلك ظهور طبقة من المتنورين المتعلمين ومن المثقفين والأكاديميين المتخصصين في شتى شؤون المعرفة. ومن الطبيعي أنْ يرافق ذيّاك التطور واتساع قاعدة الثقافة والمثقفين أنشطة نوعية متقدمة منها العمل المنظَّم وتشكيل الجمعيات والاتحادات والجماعات الثقافية متنوعة المدارس والمذاهب الفنية والأدبية والعلمية...

ولكنَّ قوانين التطور لا تسير دائما بطريق مستقيم بل تسير متعرِّجة أحيانا وتكتنفها مصاعب ومجابهات أو ثغرات تنتمي إلى أمراض الوضع العام للمجتمع أو إلى خلفيات المجتمع التاريخية وماضيه البعيد. وهنا في العراق نجد بقايا المجتمع البدوي الرعوي ما زالت ببعض تقاليدها تضغط بعناصرها السلفية الماضوية على حالات الولادة الإيجابية للنظم المجتمعية المنسجمة مع العصر.. كما نجد كذلك ثغرات وضعنا العائد لمنطق القوانين الحياتية المعروفة في بلاد كبلادنا...

ونركز هنا على الروح الفردي للأنشطة الذي أعاق عملية التطور من جهة وخلق مشكلات معقدة بوجه العمل الجمعي النوعي للثقافة والمثقفين. فحيثما سطا العمل الفردي على التنظيم الجماعي أوجد فيه عميق الثغرات. ولقد عالج كتـّابنا هذه الإشكالية في محاولات لتجنب آثارها المرضية السلبية, ولكنَّ ما أبقى عليها لم يكن تقصيرا من تلك المعالجات؛ ولكنَّ قراءة صحيحة لقوانين التطور الموضوعية تجعلنا نعترف بالظاهرة بوصفها حالة توجد في مسارنا بهذا القدر أو ذاك مما يتحدد حجمه بحسب قدرات العمل وتوفيقه في المعالجة المناسبة...

إنَّ عامة مثقفينا يمتلكون النية المخلصة ويعملون من أجل وضع خطواتهم في المواضع المناسبة. لكنَّنا لم نخـْـلُ من روح الفردنة لدواعي عديدة منها شدّة الاعتداد بالذات والانتماء لتصورات اجتماعية وتربوية اختلط فيها البدوي الرعوي بالريفي القروي. وظلت قيم العائلة والأسرة الرأسية بامتداديها العمودي والأفقي ظلت تفرض مبادئ الأبوية البطرياركية فيما كان للعشيرة والقبيلة إسقاطاتـُهما في توكيد النزعة الفردية وشحنها بعوامل الوجود والتمكن والسطوة والبروز...

ولعلَّنا ونحن نؤكِّد على هذه الحقيقة نشدِّد أيضا على ما لحالات التنافس والصراع الاجتماعي والسياسي وحالات احتكاك بين مكونات المجتمع بخاصة منها تلك المنتمية إلى أصول سلوكية أخلاقية وتقاليد أدخل في الطقوسي التعبدي حيث تبدو للفرد قراراته كونها مشرعنة بإرادة فوقية عليا عادة ما تكون حالة من التشنجات وردود الفعل الجامدة غير القابلة للتفاعل مع الآخر إيجابيا أو بقول أدق تكامليا بل هي تتداخل اتلافيا أو على أساس من التقاطع والمجابهة أو على أقل تقدير التنافر والاحتكاك السلبيين...

وبالعودة للربط بين ظهور المشاريع الجمعية من جهة وروح الفردنة وتعارض المسألتين وتقاطعهما اتلافيا, نستذكر ظهور عدد من مشاريع تكوين الجماعات الفنية والأدبية والتجمعات الثقافية والاتحادات وفي عدد منها كنّا بصدد بروز البعد الفردي وخصوصية فعله [وتأثيراته]. وقد أحال بعضنا مسائل الخلل والفشل أو الإحباط والتلكؤ في تلك المشروعات إلى الفردنة ونوازعها ونتائجها, وهم على حق في بعض إحالاتهم ومعالجاتهم...

وقد سمّى بعض نقادنا تلك المشاريع بأسماء مفعـّـليها والناشطين في النهوض بمهام التأسيس, وإذا كان من المناسب أنْ ننسب كلَّ شئ إلى مبدعه فإنَّ مشاريع من نمط العمل التنظيمي الجماعي نحتاج فيها إلى كثير من التوقف قبل أنْ نحيل تسميتها إلى أفراد مع أنَّ هذه الحقيقة تظل ذات أثر خاص من حيث المبدأ والمنطلق وليس من حيث مصادرة فعل العمل الجمعي...

ففي الوقت الذي نعترف فيه لدور بعض الأفراد في المبادرة والدفع بالعمل إلى مستويات نوعية متقدمة فإنَّنا في الوقت ذاته لا يمكن أنْ نتساهل إلى حدِّ مصادرة عمل المنظمات والاتحادات النوعي وتسميته باسم شخص بعينه. أو مصادرة العمل الجمعي واختزاله بوضعه في خانة الفعل المحدود للفرد..

ولعلَّ مثل هذه التقويمات الاختزالية هي مصدر خطير من مصادر الإحباط وعرقلة العمل الجمعي ما يدفع بعضهم للبقاء في دائرة النشاط المستقل على أساس من روح الانفصال والعزلة والابتعاد عن العمل التعاوني الجمعي, وهكذا ندخل دوامة بين إصرار من عناصر تريد التطوير النوعي ولكنَّها محاطة بهالة حاجبة مانعة من الاتصال بالآخر ما يُفشِل محاولاتها ويبقيها في دائرة الفردنة المعزولة من جهة وبين تلك الاستقلالية ذات الطابع الانعزالي ما يضعها في دائرة التشرذم والتشظي وتعزيز روح الفردي على حساب الجمعي...

وبعد ذلك فليس لنا إلا أنْ نأمل في تشخيص دقيق يدفع بنا للشروع بعلاج ناجع للحالة. وهو ما لا يأتي من جهد فردي أو قراءة فرد بعينه بقدر ما يأتي من مداولات ومؤتمرات ومنتديات تنشِّط الجدل الموضوعي وتفعِّل تبادل الرؤى والمعالجات بما يقدِّم للمجموع ما يحرِّك البركة الساكنة الراكدة...

أما مسوِّغنا للعمل الجماعي فيعود إلى حقيقة الذائقة الجمعية وكذلك الوعي الجمعي وجماليات التعاطي مع المنتج ومع الحركة [أية حركة] ومعطياتها الدلالية وعلاقتها بالمشترك بين أعضاء الجماعة البشرية, إذ ليس صحيحا ما يكون مناسبا عند عضو يكون كذلك عند الآخر ما يعني ضرورة الذهاب إلى القواسم المشتركة بين الأعضاء ومفاعلة الرؤى والتصورات للوصول إلى نقاط اللقاء...

هنا في موضع البحث والدراسة والتناول تبدأ حكاية عودة أفراد بعينهم إلى موروثهم الفردي الخاص وإلى تصوراتهم الذاتية أحيانا المنغلقة أو الانعزالية أو المتعالية الفوقية التي تنحو منحى بعيدا عن توفير الأرضية المشتركة المناسبة للقاء, بقدر ما توفر أرضية الخلاف والاختلاف إنَّها أرضية الاصطراع والتنافس السلبي الذي يفتـِّـتُ العمل الجمعي ويضعفه بدلا من تقويته...

وحكاية الفردنة هي حكاية الخلافات الشخصية بين بعض أفراد من مجتمع الثقافة الذي أشرنا إليه للتو في تمهيدنا هذا.. ومعالجتنا هذه تحاول الإشارة إلى ما يطفو على السطح في أيامنا من اصطراعات مفتعلة لغاية محددة. لقد جرى على سبيل المثال في ظروف العراق المعقدة وفي ظل إمكانات جهات معينة, جرى تصنيع كتّاب وأصحاب شهادات وتخصصات وتمَّ تخليق أسماء وتلميعها وتُرِكت تقوم بمهام أسهلها تخريبي تجاه العمل الجمعي...

ومما ضاعف هذا التخريب قدرات استغلال الإنترنت وإمكانات النشر الصحفي والإعلامي, مما تتلقطه الصحف الصفراء وتعمل على النفخ فيه. من هنا يقرأ المتلقي لأفراد من هذا النمط المصنَّع الملمَّع, من نمطِ ِ لغتـُهُ في الحوار الخلاف والشقاق وحتى هذا لا يقوم إلا على لغة الشتيمة والمهاترة أو في أفضل الأحوال إثارة نوازع أو تداعيات الاصطراع وإشعال نيران تشغل الذهن بعيدا عن أولويات الحياة وحاجاتها الحيوية...

وسؤال الناس يعلن احتجاجا ضمنيا؛ إذ ما دواعي الانشغال بالشخصي بالفردي بالذاتي بالمشاحنات بين فردين اثنين؟ ما علاقة ذلك بالمعالجات الثقافية أو غيرها من الخطابات؟ إنَّ القراءة أو التفسير الوحيد للمشاحنات الفردية تسجل إشغالا للمتلقي بعيدا عن الاهتمامات الجدية وبعيدا عن جماليات الحياة وخطاباتها الإنسانية البشرية...

وإذا كان من حقِ ِ لطرفِ ِ في التقاضي مع طرف آخر وفي معالجة اختلافه الشخصي وإياه فإنَّه يظل في إطار لا يخص الجماعة ولا ينبغي أنْ يشغلها ومن الصحيح وضع كل شئ في موضعه وليس من الخطأ إعلان الحوارات الدائرة بهذا الشأن من باب دراسة الخبرات والتفاعل معها بما ينفع الآخر ويخدمه ولكن بما لا يشغله عن أولويات حياته...

ولنلاحظ وعيا عميقا وانتباها واضحا لما يجري من أجهزة إعلامية وصحف ومواقع نشر من جمهور التلقي ومعالجات جدية لتلك المجريات من جرائم موجهة إلى ذياك الجمهور ولكنَّ الأمر يأخذ سياقا آخر عندما نجد استسهالا أو استقبالا عاديا أو طبيعيا لمسلسل الشتائم والإسفاف والهبوط حيثما ظهر بين اثنين من الملمَّعين أو بين مصنَّع من هذه الأصوات النشاز وطرف نزيه يجري الهجوم عليه لهذا السبب أو ذاك بقصد مبيَّت معروف والأعقد أنْ يجري الأمر بين شخصيتين وطنيتين نزيهتين فاعلتين...

في مثل هذه الحالة سنجابه خسائر جدية في علائقنا البينية وفي مسار الإبداع في كل خطاباتنا. ولست أدري لماذا يسمح المثقف الصحيح النظيف النزيه لنفسه أنْ يدخل تلك المسالك كما يبدو في بعض الحوارات الخشنة اليوم. قد يكون شدة الضغط الذي عاناه وقد يكون شدة الهجوم عليه وقد يكون الغربة وعنفها وقد يكون أيِّ ِ من الأسباب الشبيهة ولكن في جميع الأحوال يظل المثقف بعزلته واقعا تحت ما يظهر منه نزعات فردية تحط من قدره أو تنحدر بلغته لمستويات دون حقيقته الراقية السامية..

وليس صحيحا توجهات لصناعة الوجاهة والمكانة من منطلق الانتصار في التشاتم والتقاذف بالسباب والكلمات الخشنة. وليس صحيحا استسهال التشنج والقبول بلغة الانفعال وردود الفعل الحادة.. وإلا فلماذا نضع لأنفسنا راية التعاطي بلغة التحضر والتمدن ونزعم حمل الشهادات العليا في العلوم والثقافة والإبداع. أهي درجات تكريمية اعتبارية مزيفة كاذبة؟ أم أنَّها مجرد أوراق وحبر عليها؟!

أيّها السادة لقد قرأت لكثير من المشتبكين اليوم باحتداد, ووجدتني بوصفي متلقِ ِ متفاعلا مع تلك الكتابات الرائعة والموضوعية. ولكنني أَعـْجـَب مندهشا حينما أقرأ في ثنايا بعض كتاباتهم توظيفا لألفاظ أو عبارات أو لا تستقيم مع مكانة يحتلونها أو علم يعقلون أو أخلاق كريمة يحملون! فهذه مشكلة ليست سهلة العلاج ولكنَّها من الخطورة بمكان أنْ تترك على عواهنها تسير بغير نهاية! أو بنهاية مأساوية!

وقد ينتهي العجب عندما نقبل بحقيقة تكويننا البشري وبحقيقة ما للانفعال من أثر في حياتنا وبما للضغوط وللظروف المعقدة المحيطة بنا من تسبيب للاحتكاكات. كما يمكن أنْ نستذكر من أيام البداة الرعاة والقرويين الريفيين احتفالهم بالمناسبة الاجتماعية وتقديمهم لها قرابين من التنازلات الشخصية الفردية, كما هو حال الميل لتناسي الاختلافات والشحناء والتباغض والعداوات المتولدة عنها..

وهنا لا ننقطع نحن عن جذورنا الاجتماعية وعن معطيات مكونات شخصياتنا ولأنَّ مثقفنا وصاحب الخطاب الإنساني بحالة من الرقي والمعرفية العالية فإنَّ ذلك سيكون عاملا مضافا من أجل أنْ نصنع لأنفسنا المناسبة أو نختارها لكي نضع إعلانا يشكل الأرضية لوقف السجالات غير الموضوعية أو لإحالتها لمناقشة وتناول من قبل مقرّبين للتحكيم وفض الأمور بروح حضاري مميز...

وليكن لمناسبة مرور عام على إزاحة الدكتاتورية من بلادنا تلك القوة الغاشمة التي عملت على تمزيق وحدتنا وشرذمة قوانا, ليكن من هذه المناسبة فرصة لإعلان مشترك من جميع مثقفينا للتسامح والتصالح والعودة لطاولة الحوار المعهود فيهم ولحكمة العقل الذي يتميزون برجاحته.. وليكن هذا الإعلان ردا على أيام التمزق والتقاتل والاحتراب التي لا تأخذ إلا من قوانا وحيواتنا نحن الأفراد والجماعات..

وليست المسألة بحاجة للقمان الحكيم ولكنّها بحاجة لقرار من جميعنا وكافتنا من المخلصين لوطننا العراق المتحرر من قوى الشرِّ ولشعبنا وخلاصه من قوى التخريب وفلسفتها البعيدة عن رؤى خاصتنا ونخبنا المتسامية روحا وحكمة وفكرا نيِّرا...

ورجائي ألا تؤخذ هذه الدعوة على محمل نيات طيبة [بمعنى تسطيحها] وتوجهات حسنة وعظية أو فيها من الوصاية لأنني أدرك أنَّ كلامي هذا موجود في رؤانا جميعا وقد يكون زميل آخر سبقني أو سيسبقني إلى تفعيل ما هو أنضج.. فإذا جاء الاعتراض بخصوص أولئك المتخصصين من مرضى الشتيمة الذين لن ينتهوا بهذا الإعلان فإنني أقول إنَّ هذا لا يشمل أولئك الرخيصين بل يهتم بقوانا الفاعلة الحية النزيهة التي ستحاصر المرض وتقضي عليه ولا تترك له أنْ يحاصرها ويضيِّق الخناق عليها.

وإلا فكيف بي أسمح لنفسي أنْ ألغي شخصية وطنية لأنّها ارتكبت أخطاء أسلوبية ووظفت لغة غير راقية أو مهذبة في لحظات تفاعلات سلبية أو انفعالية؟ وكيف لي أنْ أصادر شخصية وطنية أو أبعدها في لحظة نحتاج فيها لجهود الجميع وطاقاتهم وتكاتفهم بسبب من اختلافات فردية أو حتى رؤى متنوعة في الحلول والمعالجات؟ وكيف ستكون حالة الإيمان بالتعددية والتنوع والاختلاف واحترام الآخر المستقل عني شخصا وفكرا وبرامج وسياسات في ظلال نوازع الإقصاء والتقاطع؟

أليست التهدئة مطلوبة بين الحين والآخر؟ أليست حالة التسامح وغض النظر عن بعض الأخطاء مطلوبة في أحيان؟ أليست نزعات السلام الاجتماعي من مقتضيات انتقالنا إلى عالمنا الجديد وعراقنا الجديد؟ إذن أليست كل هذه المبادئ المخزونة في دواخلنا جميعا ونحملها وندافع عنها سويا منذ عقود من الزمن, أليست بكفيلة لدفعنا نحو مناسبة للإعلان العراقي للتسامح؟

ولتبدأ الشخصيات الوطنية المعروفة جميعا بهذا لأنَّ دعوة بعض الأحزاب قد تجابهها حاليا مصالح وظروف وتداخلات كثيرة تعترض مسألة التسامح واللقاء ولنبدأ إذن اليوم قبل الغد في هذه الروح البنّاءة المعطاءة...

ولحديثي هذا تفصيل وبقية تشتمل على حوار مع التفاعلات المنتظرة وعلى صيغة إعلان أدفعه بشكل مقترح أو يدفعه آخرون ليكون توافقنا عليه منطلــَقا لبداية جديدة فاعلة ... وليس بعد ذلك إلا أنْ نقرأ ما يجري بروح الحسم واتخاذ قرار أهل الخبرة والحل والربط والمعالجة بشأنْ من ينزع إلى الاسترسال في إشغال المتابع المتلقي بأمور سلبية غير مقبولة أما كاتب هذه الكلمات فيعتذر لأي طرف يرى فيه أنَّه مسَّه ولو من بعيد في شئ غير مقبول وإنْ كان لي هنا من كلمة فأنا أتشرف بذياك القبول الإنساني للآخرين مني ولتسامحهم معي كوني لم أسمع منهم إلا كل الخير وكلمات الأخوة والصداقة والتعاطف وتكريمي بقبول مشاركتي لهم وللجميع والكافة من أبناء شعب العراق الطيب المتسامح وجـْدَ حب الوطن والناس والعمل من أجل غدنا الجميل...