أيُّ وجهٍ يُرَادُ لِبَغدادَ في عراقٍ جديدٍ؟
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
بغدادُ اليوم هي عاصمة العراق الفديرالي الجديد. وهي تعاني بكل الاتجاهات والمقاييس. فهي مبدئياً تعاني من خرابٍ ودمار لعقود من الإهمال ونتائج الحروب العبثية أسوة بزميلاتها من المحافظات. ولكنَّها تختص بكبير الخراب ومشاهده البشعة منذ تمّ هدم أسوارها التاريخية ومروراً بما تمّ هدمه من الأحياء والأبنية التراثية على عهد الطاغية لتتواصل جريمة محو معالمها التراثية ومنجزات أهلها وما خلّفوه من شواهد بنيوية مهمة وتغيير بناها المادية والروحية...
والحملةُ الجديدة وخطى الخراب جاءت مع همجية الأعمال التي ارتكبتها عناصرُ مراهقةٍ سياسية من قوى مافيوية ميليشياوية تستند في تبريراتها لجرائمها إلى خلفية التكفير والأداء المستند للفكر الظلامي المُجترّ من قرون التخلف والهمجية. يومها شاهد البغداديون جرائم هدم النُصُب والتماثيل والأعمال الإبداعية ذات الدلالات القيمية المضمونية والجمالية التي تعبِّر عن وعي أهل بغداد وخطاباتهم المدنية..
ومثلها وجد البغداديون أنَّ مدينتهم، العاصمة الفديرالية، تهمّش كل ما له صلة بالثقافة والتنوير بخلاف تاريخها الذي عبَّر ويعبّر عن المنجز الحضاري الإنساني منذ قرون؛ وها هي أبنية دور السينما والمسرح مجرد خرائب وأطلال بلا عناية ولا رعاية ولا سماح لها بأن تجدد نفسها وتعيد إنارة صالاتها ببهي المنجز الثقافي التنويري...
أما شوارع العاصمة فليس لها سوى علامتين: الإهمال البنيوي هندسياً خدمياً والامتلاء بحيطان الفصل والتمييز ومحاصرة الضواحي والأحياء مع مئات وآلاف من المفارز الحكومية وغير الحكومية التي تحتلها مثيرة الاختناقات والاحتقانات وكل ما يفرض أشكال المعاناة على سكانها! ولو بقيت الأمور بحدود جدران الفصل لحلّ الأمرَ أهلُ بغداد بإبداعاتهم وابتكاراتهم للحلول التي تجابه ما يعترضهم؛ ولكن الأوضاع محروسة بالسلاح بدءا بالسكاكين وما يشبهها من فنون الأسلحة التي يسمونها بيضاء وليس انتهاءً بالبنادق والغدارات وما يطلقون عليه الأسلحة النارية الخفيفة والمتوسطة بل والثقيلة وكل ذلك مشتعلٌ بالنظام الذي يهيِّئ الفرص للارتكابات الإجرامية!!
ولأجل الحل نشير إلى الخدمات، حيث يمكن للحكومة أنّ تعتمد خططاً استثنائية لا لتقديمها في المنطقة الخضراء حصراً بل لنشرها على ربوع العاصمة بطريقة التدرج بالانتشار والاتساع بدءاً بالنظافة وليس انتهاءً بتوفير المواصلات الأحدث بتنوعاتها. وطبعا مع بنى تحتية وركائز يجري وضع الخطط الآنية والاستراتيجية لتنفيذها وكل ذلك تتوافر العقول له ولكن لا يتوافر النظام لتنفيذ مفرداته.
أما بشأن الأمن والأمان والعيش بحياة مستقرة محمية من تهديد الإرهاب بأشكاله وأنواعه، فقضية بحاجة لحزمٍ وحسمٍ فوريٍّ؛ إذ لا يُعقل استمرار التهاون بهذا الشأن وتبقى الأمور وكأنَّ كلَّ شيء طبيعي!! إنّ أخطر ما يتهدد العاصمة الفديرالية يكمن في التفجيرات العشوائية التي طاولت أهل بغداد جميعاً وتشاركها الجريمة الإرهابية الدموية الميليشياتُ التي تنتشر بلا قيود مع انتشار للسلاح بكل أنواعه بين الأحياء والضواحي!!
إنَّ هذا الانتشار للسلاح ولمافيات الإرهاب وميليشياته، يجري في ظل تهاون خطير للحكومتين الاتحادية والمحلية (ببغداد) مع الظواهر العنفية المتوحشة.. وكأنّ ما يجري ليس قتلاً بات تصفوياً في بشرٍ!! وأنَّ هذه الكوكبة من البشر لم تأتِ لهذي الحياة ليكونوا ((الصيد)) الذي يتمتع به الإرهابيون!
إنّ ما يتطلع إليه أهل بغداد ومعهم العراقيون جميعاً، هو وجه آخر لها. وجهٌ مختلفٌ نوعياً بكل مفرداته بدءاً من الوضع العام للخدمات وتفاصيل البنى التي تمثلها العاصمة الاتحادية وليس انتهاءً بالعيش بحرية وكرامة وبحقوق إنسانية مكفولة مضمونة ضد أشكال الانتهاك وما يُرتكَب بحق أبناء العاصمة الفديرالية...
ولنتذكر أنّ بغداد هي العراق المصغَّر منذ بنائها مروراً بمختلف الحقب والعصور وحتى يومنا. إنّها تحتضنُ الطيف العراقي بأبهى صوره. فالعرب والكورد والمسلمون والمسيحيون والشيعة والسنة ومع هؤلاء بملايين وجودهم كلّ الأطياف والمكونات العراقية من تركمان وكلدان ومندائيين وبهائيين ويهود وغيرهم مازالت شاخصة بيوتهم ومعابدهم وآثار منجزهم...
لكنَّ هذه الأطياف تتعرض اليوم لأخطر هجمة؛ لم تكتفِ بترويعهم وتهجيرهم وفرهدة أملاكهم وتدمير منجزهم وعلامات تمدنهم بل مارست جريمة إبادة فعلية بحقهم! ومن يصمت على ما جرى ويجري يساهم مع الإرهابيين ويسهِّل لهم جرائمهم! ولكن ذاك الصمت ليس من شيمة أهل بغداد وأطياف العراق الفديرالي ومكوناته...
من هنا، أكَّدَ الجميعُ على تكاتفهم وعلى وحدتهم في صنع عراق جديد هو العراق الذي شرعوا أولا بترسيم دستوره بقصد التوجه نحو ترسيم عراق مختلف في وقت يضم الجميع فإنّه في الوقت ذاتهِ يحترم جميع الأطراف المكوِّنة وتنبني العلاقات بينها على أسس جديدة توفر العدل والمساواة بينها...
ولابد للعراقيين و هم يؤكدون على بناء عاصمة فديرالية أنْ يؤكدوا على أنّ الأمر جزءٌ من التوجه نحو عراق جديد غير عراق سايكس بيكو وغيره قبل العام 2003 قطعاً. ومن أجل تلبية الاتجاه الجديد ينبغي لنا الشروع من نواة وجود العراق الفديرالي وربما اختار العراقيون صيغاً جديدة تتفق والمتغيرات وهو ما ينبغي العودة للاستفتاء عليه والحوار المباشر ومنذ الآن بشأنه...
ولابد من التذكير هنا بالمجريات التي تسمح بالتعرض لأكثر من مليون كوردي ببغداد واستلابهم حقوقهم الدستورية بكل تفاصيل وجودهم؛ والمجريات التي تتعمد الصمت والسكوت على حال التهجير القسري وابتزاز المسيحيين لبيع أملاكهم وانتزاع ثرواتهم وتهديم كنائسهم ومصادرة بيوتهم ومحال عملهم كما حصل في الفرهود مع يهود العراق؛ والجرائم المسكوت عنها بحالات الاختطاف والاغتصاب والترويع للآمنين من العاملين بمختلف أنماط كسب العيش؛ وغير كل هذا عمليات الفصل والتطهير الطائفي والديني بالأحياء والضواحي والاغتيالات التي تنال من العقل العلمي العراقي ومصادرة أشكال النشاط الثقافي ومنه المسرحي والسينمائي والتشكيلي والغناسيقي؛ كل ذلك لا يمكن أن يكون صورة لعاصمة فديرالية حتى لو كان الأمر في جزر الواق واق!!!
إنّ السبيل الحقيقي للاستقرار والتغيير يكمن في بناء بغداد جديدة بوجه آخر مختلف عما جرى طوال العقد المنصرم ويتكرر اليوم. بغداد يبنيها أهلها ويجتمع عليها ولها العراقيون عندما تكون لهم جميعاً بلا استثناءات وبلا أي شكل للتمييز والتهميش والمصادرة والتخريب..إذ ينبغي أن يشعر ويحيا فعلياً كل عراقي يأتي أن بغداد هي عاصمته هو أيضاً.
لا يمكن أن تكون بغداد عاصمة عاصمة بهذا الخراب وتلك الهمجية والوحشية التي تحتلها وتبتز أهلها وتستهين بهم وتمزق الأحياء التي يعيشون فيها وتختلق متاريس الصراعات بينها وطبعاً لا يمكن أن تكون بغداد تلك عاصمةً للعراقيين جميعاً وبعضهم لا يستطيع الوصول إليها ولا نقول: لا يمكنه أنْ يجد له فيها موئل عمل أو وجود!
وكثرما وجدنا الحواجز بين عموم العراقيين وإمكان الانتقال إلى بغداد لأداء مهمة و\أو حلّ موضوع.. ولعل آخر تلك المشاهد تجسد بنموذج التعرض لسائقي سيارات الأجرة الآتين من كوردستان ومنعهم من ممارسة مهنتهم وخدماتهم للمواطنين على خلفية تبريرية مرضية معروفة!
لقد انحدرت الأوضاع في البلاد وانتكست وبتنا لا نرفع رؤوسنا لوضع الاعتدال لنرى ما يجابهنا واستسهل كثير منا هذا التدهور وحضيض ما وصلت إليه الأوضاع حتى أن بعضنا هلَّلَ لإعلان بعض الضواحي والأحياء منزوعة السلاح ببغداد، من دون التفكر والتدبر في أنَّ الصحيح هو تأمين بغداد بالكامل من انتشار وباء التسلح ومنع الميليشيات من الظهور فيها ومنعها من ممارسة ما ترتكبه من جرائم.. وهو أمر لا يتم إلا بنقلة نوعية شاملة لا اجتزاء فيه.
إنّ تلك النقلة تتمثل في سيادة طابع النظام العام السياسي والخدمي المدني فالأول يلزم أن يتصدى للانقسامات الطائفية ومظاهرها المجسدة بلغة انفلات الأمور والتسيب وتعطيل القانون بتعطيل دوائر الدولة ومهامها وإحالتها لسلطة قوى الفساد وعناصرها وقوى الطائفية وعناصرها ومن ثمّ فسح المجال لقوى الإرهاب كي تسرح وتمرح وتمارس سلطتها وسطوتها والثاني مررنا به من جهة ما تحتاجه العاصمة من بناء..
فلـْيختَرْ أهلُ بغداد يوماً كل شهر للظهور في أحيائهم وضواحيهم بصيغ جمعية كرنفالية حافلة بالجهد العملي الميداني، أولا للقول: لا لما يجري لنا؛ وليضعوا الخطط العملية للخدمات لتغيير وجه الحي... وليختر العراقيون يوما باسم العاصمة تضامنا مع عاصمة (فديرالية) حقا.. قولوها كلمة واحدة لن نقبل بغير عاصمة لنا جميعا في عراق جديد يحترم وجودنا المتساوي وتكون العاصمة للجميع لا للطرف ولا لعناصر ولا لنظام فيه تذكير بأحادية وطغيان وبعدائية..
ولتتحمل الحكومتان الاتحادية والمحلية مسؤوليتيهما تجاه مهمة القول: كفى للجريمة وللانفلات الأمني وتعلن بغداد مدينة للسلام والأمن والأمان وتُصدر القرارات التي تتلاءم والحل الشامل ومع ثقافة بغداد لكل العراقيين بكل أطيافهم وبكل انتماءاتهم وانحداراتهم..
فهلَّا أخذنا الدرس عاجلا وقبل فوات الأوان.. أيتها السيدات وأيها السادة لنقرأ حقوق الآخر قبل حقوق الأنا وحينها فقط نستطيع أن نحافظ على وجود العراق لا بصيغه العتيقة المتهالكة بل العراق الجديد بالصيغة التي تستجيب لخيارات جميع مكوناته وهنا تولد بغداد الحضارة والمجد من جديد...