المواقف العربية الرسمية والشعبية تجاه القضية الكوردية
تطلعات لتطويرها وتفعيلها أكثر
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
القضية الكوردية تتضمن صورة لأمة تمّ تقسيمها، فيما صارت كوردستان مطلع القرن الماضي مجزَّأة بين أربعة بلدان منها سوريا والعراق اللتان تنتميان إلى مجموعة الدول العربية. وتاريخياً كان التحالف العربي الكوردي استراتيجياً راسخاً، ولم يقتصر ذاك التحالف على البنى الرسمية بمستوى الدولة ومؤسساتها بل امتدَّ عميقاً في المساهمة البنيوية المجتمعية للكورد، حتى وجدنا مئات من المفكرين والكتّاب الكورد يبدعون فيقدمون منجزاً كبيراً مازالت آثاره علامة لذياك التفاعل الإيجابي البنّاء بين الأمتين ولتزاوجهما.
وتعزَّزَ هذا التحالف شعبياً على الرغم من أدوار مرضية لعبتها النظم المحلية في الدولة الوطنية المعاصرة غب ولادتها مطلع القرن المنصرم. حيث دأبت على غرس الفتن وحالات الشقاق وثقافة شوفينية فضلا عن ارتكاب المجازر وجرائم الإبادة وجرائم ضد الإنسانية. ولعلّ عمق التلاحم الأممي بين الشعوب العربية والكوردية هو ما نراه متأتٍ من خلفية نضالهما ضد الاستبداد والطغيان واشتراكهما في مسيرة بناء عالمهما وتقديم منجزهما في إطار الدولة المدنية المعاصرة.
لقد استطاعت النضالات المشتركة للحركتين التحرريتين العربية والكوردية أنْ تحقق جملة مكاسب انتزعتها من السلطات التي مارست نهجها الطغموي المنفصل عن الشعوب والمعادي لتطلعاتها. ومع تنامي الإصلاحات السياسية وبناء المؤسسات الوطنية بمشاركة نسبية للقوى الشعبية صار التمثيل للأطياف المتنوعة أكثر وضوحاً في المستويات الحكومية الرسمية إلا أنه ظل أعرجاً مفرَّغاً لا يمتلك سلطة القرار ولا صلاحيات الفعل وتلبية المطالب والحاجات..
ولقد جرى باستمرار في ظل عمليات الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية التي مورست بحق الكورد، عمليات تشويه لحركة التحرر القومي الكوردية وأبعد من ذلك عمليات إقصاء وإلغاء وتضليل لاختلاق الصراع المفتعل بين العرب والكورد من جهة ومن أجل مزيد من التنكيل والمشاغلة بمعارك ليس لأي من الشعوب مصلحة فيها؛ الأمر الذي أكدته النضالات المشتركة ضدها من طرف قوى الحرية للشعبين والأمتين...
على أنّ واقعاً جديداً أضاف زخمه النوعي على ذاك التلاحم وهو الذي نجم عن ثورات الربيع العربي حيث انعتاق الشعوب من سطوة الفكر السياسي الشوفيني وتطلعه لتعزيز فرص التحرر وتمكين الإنسان من حقوقه في إطار دولة مدنية ديموقراطية. وفي وقت نرصد حال التلكؤ والعقبات التي أصابت مسيرة تلك الثورات بصعود نجم قوى الإسلام السياسي المتطرفة وولوج جناحها المتشدد بعمليات إرهابية واسعة مثلما جرى في سوريا بعسكرة الثورة السلمية وتسلل القوى الإرهابية وانجرار تلك الجرائم باتجاه العراق إلا أننا في الوقت ذاته نؤكد تنامي النضالات المشتركة بخاصة ضد الإرهاب...
فلقد باتت الشعوب العربية أمام مشهد تراجيدي يجري بحق الكورد واُرْتُكِبت الجرائم المأساوية الكارثية بحق أطياف كوردستان حيث يتم ارتكاب الجريمة بحق الكورد كونهم كوردا و\أو كونهم أيزيديين أو مسيحيين ما يشير لجرائم التطهير العرقي والديني. ولعل من أبرز ما اُرتُكب من تلك البشاعات هو ما جرى من ارهابيي داعش في شنكال وفي كوباني. الأمر الذي يستدعي من الشعوب العربية وحركاتها التحررية تفعيل مواقفها التضامنية وتحويلها إلى فعل نوعي جديد يتصدى لزمن التفرقة والتمزيق ولزمن النظرات الشوفينية الاستعلائية التي تسببت في جرائم لها أول وليس لها آخر...
إنّ المنتظر اليوم من القوى الوطنية والحركات التحررية الديموقراطية هو وضع أولوية لما يجري في كوردستان. حيث تحاول قوى الجريمة أن تستغل أراضٍ لبلدان عربية منطلقا لوجستيا لجرائمها. بمعنى أن تكون الأولوية في التصدي الشعبي للجريمة الجارية بحراك جدي يمكنه أن يجذب مواقف الدول والحكومات باتجاه موضوعي صحيح منتظر.
إنّ حالا من التلكؤ والسلبية قد أصاب بعض القوى، وسيبقى معه القصور في إدراك مخاطر ما يجري ووضعه خارج أولويات العمل عاملا تترتب عليه نتائج خطيرة حاليا ومستقبليا. والسلبية تبدأ شعبياً فعلى الرغم مما تمر به الشعوب اليوم من تعقيدات مخصوصة ببلدانها إلا أن ذلك لا ينبغي أن يشوش الرؤية الواضحة ولا ينبغي أن يعترض سبيل التلاحم وإعلان أقوى تضامن وأمتنه اليوم وليس غدا. وعلى أشكال التضامن والعمل المشترك كثيرة متنوعة.. ولعل جهوداً أممية سليمة من مثل جهود التجمع العربي لنصرة القضية الكوردية وجهود شخصيات عربية ديموقراطية متنورة، تمثل نموذجاً حياً ينبغي تطويره والأخذ به في أجندات الحركات التحررية.
على أنه يجب للتجمع العربي ولتلك الشخصيات أن ترتقي بخطابها في اللحظة الحاسمة الراهنة بعقد اتصالات على أعلى مستوى مع القيادات الشعبية وإدارات مؤسسات المجتمع المدني بغاية تغيير الحراك المتلكئ. وولوج الصلات مرحلة التأثير على المواقف الرسمية.
أما بشأن الموقف الرسمي للحكومات والجهات الممثلة للدول العربية، فإنّ المنتظر في مؤتمراتها الدورية والاستثنائية أن تلتفت إلى أنّ عمق الأمن القومي العربي لا يمكنه أن ينفصل عما يجري في كوردستان من جريمة. فبكل المستويات وزوايا النظر لتلك المجريات هناك واجبات لا يمكن التخلي عنها.
فعلى وفق اتفاقات الدفاع العربي المشترك وعلى وفق التحالفات الاستراتيجية العربية الكوردية والأسس الإنسانية القويمة لها وعلى وفق المسؤولية تجاه ما يجري في المنطقة ودولها وعلى وفق التحالفات الإقليمية والدولية لمواجهة الإرهاب وقواه، ينبغي أن تكون المواقف نوعية مختلفة عما يجري من تصريحات خجولة لا تطعم لاجئا أو نازحاً ولا توقف سكين الإرهابي عن رقاب الضحايا!
إنّ بعض البلدان العربية قد جاء منها إرهابيون وبعضها يمارس أفراد من مواطنيها أشكال الدعم المالي واللوجيستي للإرهاب كما تتلكأ دول أخرى عن الفعل المؤثر للتصدي للإرهاب. في وقت تنشط الآلة الإعلامية الإرهابية لتجييش عناصرها ونشر فكرها الظلامي بخاصة في تصوير المواقع الحربية وما فيها من جرائم لا مثيل لها في التاريخ المعاصر.
ومع هذه الصورة غير المُرْضِية نجد تغيراً نسبيا بمشاركة بعض البلدان في الطلعات الجوية للتحالف الدولي؛ وربما كانت هذه بداية وإن كانت متواضعة إلا أنها بحاجة للتطوير والتغيير النوعي. فمهمة إنقاذ شنكال وكوباني من براثن الجريمة الإرهابية الأبشع تتطلب موقفا مؤثراً في الميدان وليس حديثا أو تصريحا عابراً...
وبناء على مجمل المشهد الجاري يمكننا الحديث اليوم عن ضرورات الفعل الآتي:
1. نهوض القوى الديموقراطية العربية بمهام تضامنية أكثر عملية وجدية في الفعل المؤثر المنتظر سواء على المستويات المحلية بكل دولة أم باتجاه إقليمي ودولي أشمل.
2. مطالبة الحكومات العربية بمواقف رسمية فاعلة في إطار دعم الجهود الميدانية ضد الجرائم الإرهابية بعامة وضد جريمتي شنكال وكوباني بدعم الجهود لإنقاذ المنطقتين بوجه عاجل وفوري.
3. المساهمة بمستوى عملي كبير في المساعدات الإنسانية للاجئين والنازحين وتوفير الحاجات العاجلة بخطوط نقل جوية مباشرة بين دول الخليج العربي وأربيل وبين مختلف البلدان العربية ومناطق الصراع التي تنتظر تلك الحاجات عاجلا.
4. اتخاذ موقف موحد في المحافل الدولية إلى جانب القضية الكوردية العادلة بمستويي الحاجات الفورية العاجلة بخاصة بشأن النازحين وما يُرتكب من هجوم غادر على كل من شنكال كوباني والحاجات الاستراتيجية من تعويض وبناء وتنمية لتلك المناطق.
5. الاعتراف المبدئي الثابت بحق تقرير المصير ودعمه على أساس أن التحالف الاستراتيجي بين العرب والكورد يعني دعم الخيارات الحرة للكورد بكل اتجاهاتها.
6. الوقوف بوجه السلبية من كل من إيران وتركيا ومواقفهما التي حجبت حق الكورد في تقرير المصير وساهمت وتساهم في مزيد من النكبات والجرائم تحديدا فيما يجري اليوم من هجوم إرهابي واسع النطاق على كوردستان وشعبها.وهذا سيغير من منطق العلاقات بين شعوب المنطقة باتجاه الأفضل والأسلم والأكثر صواباً.
7. اعتماد القنصليات وتطوير أدائها في كوردستان وتحريك الجهد الإعلامي باتجاه أنشطة مدنية ثقافية مشتركة تزيل زمن التضليل ومفرداته المرضية وتعزز التلاحم العربي الكوردي بمنظور أمني شامل للمنطقة بأسرها.
8. ولربما كان لمؤسسات بحثية أكاديمية واجبها النوعي المختلف من بوابة الدراسات والقراءات التي سترتقي بمهمة إنسانية أخرى من نوع مختلف تتعلق بمعالجة نتائج الكوارث الإجرامية ومثلها مؤسسات ثقافية وإعلامية الأمر الذي يتطلب رسم برامجه منذ الآن.
إنّ جملة الإجراءات هذه ستمنح فرص التآخي ووحدة المسيرة الأممية قوة ومتانة وتمنح قدرات أكبر على التفاعل البنَّاء بين الطرفين وتقطع الطريق على من أراد ويريد تمزيق وحدة شعوب المنطقة ووضعها بوجه بعضها البعض.
كما سترتقي بالجهود إلى مصاف جديد يؤكد التحولات في المشهد الكلي للبلدان العربية بما يعترف بالتعددية والتنوع وبالآخر وحقه في تقرير مصيره على أساس المساواة والإخاء الأممي وليس على أساس شوفينية الأمة الأكبر. وعلى مثقفي الأمة وقادتها أن يتحولوا نحو الانعتاق من تلك الثقافة السلبية المرضية ويلجوا الحداثة والمعاصرة حيث القيم الإنسانية والديموقراطية في وجود الدول الحديثة.
إنّ الحقيقة الساطعة تتمثل جديا بأن ما سجلته هذه القراءة انطلقت بوادرها في حراك جدي مسؤول وهناك مئات ملايين الدولارات النقدية والعينية التي اتجهت للمساعدة وهناك جملة متغيرات في الصُعُد الإعلامية وفي الخطاب السياسي الشعبي والرسمي قد تغيرت وأصلحت من المسار. وهذا يتطلب بالمقابل كوردستانيا استثمار اللحظة التاريخية القائمة لتطوير الأداء والدفع به إلى أقصى ما يمكن تعميقا للتحالف من أجل حسم المعركة عاجلا مع الإرهاب وقواه ومن أجل سيادة علاقات جديدة حرة ديموقراطية تحترم المساواة وتؤكد الانتصار لحرية الشعوب جميعا.
ومن هنا فإنّ المتغيرات المؤملة قريبا ستحصد أفضل الإيجابيات في العلاقات العربية الكوردية بكل صُعًدها وستؤتي ثمارها بمسيرة بناء وإعادة إعمار ما خربته رحلة الألم والإهمال والحساسيات. فلتنتصر إرادة الشعوب وتنعتق وإلى الأبد من قيودها وتُنهي المشكلات المصطنعة بينها.