العلاقاتُ التركية العراقية: آفاقٌ جديةٌ للاتجاهِ الإيجابيّ البنّاء
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
في سنواتٍ سابقة وصلَ التعاونُ التركي العراقي اقتصادياً لمستوى تجاوز الـ18 مليار دولار؛ لكنه سرعان ما انحدر إلى مستويات متدنية في ضوء تدهور تلك العلاقات.. الأمر الذي انبنى على قراءاتٍ تقعُ في الخلفية الطائفية فكرياً سياسياً؛ ومن ثمّ فإنَّ حالات الاصطفاف تلك مدَّت وتمدّ تحالفاتٍ إقليمية تتمترسُ بذات الاتجاه والأسس...
ولعلّ من القراءات ما يتعلق بالإشارات التي تتحدث عن الدعم الإقليمي للحركات الإسلاموية على وفق المرجعية (المذهبية) المُدَّعاة حيث تُتهم تركيا بدعم جهة بمقابل دعم إيراني لجهات أخرى.. وهي في جوهرها إشارات تستند لأرضية من الوقائع والممارسات التي تُخفي حقيقة الحراك الطائفي وسياسته وإجراءاته التي تكبّل المجتمعات بقيود الانقسام والاحتراب والوقوع بفخاخ خدمة أجندات ليس بينها ما يعبر عن تطلعاتها...
ومن هنا، فإنّ قراءة المتغيرات في العلاقات الإقليمية لا ينبغي أنْ تقف عند حدود ما تمنحنا إياه التصريحات العلنية التي تعبر عن الأداء البروتوكولي الدبلوماسي أكثر منها عما يختفي وراء الكواليس. وعليه فإنّ وفداً عالي المستوى كالذي زار بغداد وأربيل في الأيام الأخيرة، يمكننا قراءته من زوايا كثيرة مختلفة الأسس والمرجعيات، لكي نكوّن فكرة أو رؤية واضحة دقيقة للعلاقات بين البلدين.
فالإيجابي في ذلك الوفد، جاء من طابع تركيبته، وتركيزه على المهام الإجرائية الأمنية أي ذات الأولوية اليوم. وتمثل الإيجابي أيضا في التصريحات التي تُطلق آمالا جديدة لصفحة جديدة من العلاقات الإيجابية فضلا عن الاتفاقات التي تمت الإشارة إليها بشأن الوقوف بوجه الإرهاب وجماعاته الإجرامية.
غير أنَّنا ندرك أنّ الوقائع الميدانية الفعلية لا التصريحات الدبلوماسية هي ما يضبط مسيرة المتغيرات إنْ وُجِدت. وعليه فالمشكلة التي ينبغي تشخيصها، هي تلك التي تكمن في طابع التحالفات وأشكال الدعم المستندة للمصالح الآنية الضيقة.. وكثرما رصدت الوقائع الميدانية حراكاً للقوى الإرهابية من مرور عناصرها التي تلتحق بها وكذلك مرور الأسلحة والأعتدة عبر الأراضي التركية فهي عناصر لا تنزل بمظلات من الفضاء ومن ثمّ فهذه قضية خطيرة بحاجة لمدارسة وتفاوض وبحث مشترك.
الأمر الآخر الذي يمنحنا رؤية سليمة للمشكلة وحلولها، يتمثل في حقيقة أنّ الجهد الأمني مهما جرى التركيز عليه وعلى مفرداته الإجرائية فإنّه يظل بحاجة للإرادة السياسية وللقرار السياسي الأشمل والأعمق في التحضير لأي أنشطة فاعلة و جدية ميدانياً. وعليه فعلى الرغم من الطابع الأمني لتركيبة الوفد الزائر لبغداد فإنّه يبقى لما هو أكثر من النوايا والتصريحات والقراءات المحدودة بتخصص ميداني محدود...
كما أنّ الإجراءَ الجوهري للحل، يعتمدُ فعلياً على قرارٍ سياديّ في الجانب التركي حين ينهض بواجباته التي تفرضها القوانين والقرارات الأممية الضامنة للقضاء على الظواهر الإرهابية ورديفاتها التي تنشّطها والضامنة لاستقرار المنطقة برمتها. ويمكننا إيجاز جملة من القرارات المنتظرة لتلك الخطى ممثلة بالآتي:
1. تغيير في الخطاب السياسي من دعم الحركات الإسلاموية المسجلة حركات إرهابية إقليمياً دولياً إلى نهج موضوعي مدني جديد يرفض التعاطي مع تلك الحركات.
2. العمل الجدي المسؤول على قطع أشكال الإمدادات البشرية التي تمر عبر أراضيها.
3. العمل الجدي المسؤول على قطع أشكال الإمدادات بالأسلحة والأعتدة للقوى الإرهابية.
4. العمل الجدي المسؤول على قطع مصادر التمويل التي تمر عبر أراضيها بخاصة هنا ما يخص عمليات تهريب النفط
5. وطبعاً لابد، بعد ذلك كله وليس قبله، من التنسيق الاستخباري الأمني بشأن تعقب الإرهابيين ومكافحة وجودهم وإنهائه...
6. تعزيز جسور العلاقات البنيوية إقليمياً بخاصة في الأوجه الاقتصادية سواء من تبادل تجاري أو استثمارات أو غيره من القطاعات المعنية.
وبالعودة إلى موضوع الأولوية في التنسيق المؤمل بين البلدين، علينا أن نتذكر جميعاً، أنّ إنهاء وجود الظاهرة الإرهابية التي استفحلت في المنطقة لن يكون متاحاً وممكناً بقدرات محلية لأيّ من الدول منفردةً، فما بالنا وحال الدولة العراقية الهزيل قد أشّر انهيارها في بعض مناطقها وفتح الباب على الغارب لقوى الإرهاب كي تعبث بمصائر السكان المحليين. وعليه فإنّ التنسيق بين دول المنطقة بات أكثر من ضرورة وحتمية واجبة تتطلب صيغاً أكثر فاعلية من اللقاءات العابرة أو بمناسبات تأتي بظروف خاضعة لضغوط بعينها...
فعلى سبيل المثال سيجد المتابع المتمعن أنّ تغيرات إقليمية قد جرت في الآونة الأخيرة من قبيل المصالحة الخليجية ومحدداتها وتوجهاتها بخاصة في قضية وقف دعم الجماعات التي باتت تمارس آليات عمل إرهابية تحديداً حركة الأخوان المسلمين وما تبيّته من ممارسات، بما يجنِّب أمن مصر القومي حالات القلاقل ومن ثمّ يجنب منطقة الشرق الأوسط برمتها حال زعزعة الاستقرار؛ أضف إلى ذلك اللقاء العراقي السعودي ونتائجه، وإن كانت النسبية المحددة، الآنية والمستقبلية.
ودولياً جاء الموقف الأخير سواء للولايات المتحدة أم للاتحاد الأوروبي ودوله باتجاه عقد تحالف لمعالجة الظاهرة الإرهابية بقدرات دولية موحدة؛ وهو القرار الذي لم يأتِ من فراغ بل من التصدي الحازم للحركة الشعبية الأممية ضد أي تساهل يمرر الحراك الإرهابي أو يسمح بوجوده من أي طرف..
لقد أكدت الحركة الأممية على رفض مصطلحات تكريس الإرهاب وعصاباته وتحويله لمأسسة بصيغةٍ توفرُ له الأرض والقدرة البشرية بما حاولوا تسميته الدولة الإسلامية. فيما الحقيقة التي تم تأكيدها من طرف الشعوب وحركات التحرر وقوى العقل العلمي، هي أنّ ما جرى ويجري هو استباحة مرتزقة الإرهاب المجمَّعين بمناطق انهيار الدولة ليستعبدوا أبناء تلك المناطق ويستغلونهم بوضعهم في أتون محارق حروب الإرهاب وجرائمه. وهكذا تصدى الوعي العميق لشعوب المنطقة والعالم لعبث ولمحاولات تكريس الوجود الإرهابي بصيغة (دولة) مصطنعة. ليأتي القرار الدولي في ضوء ذلك باتجاه يخدم مصالح شعوب المنطقة والعالم ويكافح الإرهاب ويمنع تكريس وجوده وينهيه بوجه عاجل لا آجل يخفي مآرب أخرى.
فهل تأتي المواقف التركية تحت تداعيات تلك الضغوط؟ باعتقادي أنّ الإجابة ستكون كلا. إذ لابد من أن نقرأ حقيقة أخرى مهمة هي تلك المتعلقة بمصالح تركيا في إطار محيطها وانتمائها إليه. ومن ذلك المشروعات الاستثمارية الكبرى الخاصة بها؛ إذ يصل التبادل التجاري اليوم مع العراق إلى 12 مليار حاليا بخاصة تركُّز أكثر من ثلثيها مع كوردستان التي تسعى لأفضل العلاقات مع محيطها بغاية توفير أجواء الاستقرار التي تمثل أرضية البناء والتنمية.
وعليه فإنّ الوفد الذي قصد كلا من بغداد وأربيل لم يعبر عن حال آنية حسب بل عبر عن توجهات ربما خضعت لضغوطات التحولات الإقليمية والدولية، ولكنها أيضا انبنت على أسس تفرضها مصالح شعوب المنطقة ودولها ومنها تركيا. ولربما كان في تركيبة الوفد ما يشي بعلامة ولو بشكل غير مباشر للقرار السياسي المؤمل بالإشارة هنا إلى وجود وزير السياحة وممثل حزب العدالة والتنمية في الوفد رفيع المستوى الزائر، ما يتطلب تفسيره ضمناً باتجاه إيجابي...
إنّ القراءة الجدية تكتمل بفضل النظرة الفاحصة الشاملة للحدث وما يؤثر عليه محلياً دولياً. ولا يمكن للرؤية الموضوعية أن تنكر المتغير وتتوهم جمود ما يقف خلف المتاريس. بينما الواقع يؤكد أنّ التطلعات والآمال يمكن وضعها على أرض الواقع بعد نقلها من على مداولات الطاولة ومن مجرد تصريحات وخطط وتصورات إلى ممارسات عملية.
إنّ الشروع بالتنسيق الأمني المتخصص بلجان مؤسسية فنية وفتح نوافذ العمل المشترك هو أول الطريق إلى منتهاه الأنضج. طبعاً إلى جانب تعزيز مشروعات اقتصادية تطلقها الحاجات المشتركة بفضل الوجود في إقليم جغرافي واحد والانتماء إليه.
ومن المؤكد سيكون لهذا الروح العملي الموضوعي أثره في نزع فتيل التمترس خلف مواضع الصراعات المفتعلة والانتقال وإن تدريجاً إلى تعزيز خطى الثقة المتبادلة وأشكال التعايش السلمي والعمل الموحد من أجل خدمة مصالح الشعوب وتطلعاتها من أجل الاستقرار والسلام وصنع أرضية السلام وأسس البناء والتنمية المنتظرة.
إنّ صفحة جديدة يمكنها أن تبدأ مستثمرة أفضل الأجواء التي تخلقها مناخات المصالح الحيوية المشتركة. ولعل سياسة كوردستان في بناء جسور مكينة للعلاقات هي فرصة أخرى لتمكين بغداد من تطوير فرص حلول مناسبة تحد من خلفية التمييز الطائفي والتدخلات القائمة على أساسه وربما تعالج تلك الأوهام الخاصة بإعادة رسم الحدود في ضوء مطالب تعود لمطلع القرن الماضي..
إن مؤتمرا إقليميا برعاية دولية يكون شاملا لمختلف الأمور العاجلة منها والاستراتيجية البعيدة سيكون ضرورة اليوم لاستكمال التصور الأنجع للحل.. فهلا أدركنا تلك الحقيقة وتحولنا إلى مرحلة البناء على عناصر الإيجاب مهما صغرُت؟ وهلا تجنبنا عوامل الاحباط والتيئيس في معالجة مستقبل علاقات بلداننا وفتحنا بوابة مناسبة على الأفق الاستراتيجي وهو أفق بناء السلام والعمل المشترك بين جميع بلداننا باختلاف أنظمتها؟