التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب بين المهام المدنية والعسكرية
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
بعد حراك تضامني جماهيري كبير وحملة من الاتصالات الأممية التي نفَّذتها منظمات وشخصيات عراقية حقوقية ووطنية تحيا في المهجر، توسعت دائرة الاهتمام السياسي والحقوقي الأممي بالأمور التي نجمت عن غزو قوى الإرهاب لعدد من المحافظات العراقية التي انسحبت منها القوات الاتحادية وتركتها في حال انهيار مؤسسي شامل، تاركة إياها عرضة للاحتلال الأبشع من تلك العصابات الدموية ولجرائم داعش تلك التي جمعت بين جرائم إبادة وجرائم ضد الإنسانية وأخرى اتسمت بالتطهير العرقي وما تلفعت به ادعاءات دينية مضللة..!!
إنَّ ميليشيا داعش الإرهابية لم تكن تستطيع تنفيذ كل هذا الاجتياح لولا الانسحاب غير المبرر من القوات العراقية (الاتحادية) الأمر الذي يتطلب تحقيقاً بمجاله وتوقيته؛ ولولا أرضية التمييز التي مارستها قوى الطائفية بجناحيها السياسيين والعسكريين. فلقد سطت على النظام العام قوى حزبية مشوَّهَة التركيب كونها تستند إلى وجود ميليشياوي ولم تألف يوماً العمل السياسي بأجواء قانونية عادية.. كما أنها احتلت كرسي السلطة بوصفه (غنيمة) وبَنَت الجيش الوطني بتجميع قوى مهلهلة أو ميليشياوية تختلف جوهريا ببنيتها وبتدريباتها وآليات اشتغالها عن طابع الجيوش الوطنية. وبالمنتهى كان الأداء السياسي يقوم على مبدأ الثأر والانتقام وثقافتهما المرضية الخطيرة!!!
وبسبب من الطابع الطائفي فقد خُلِقت أرضية للانقسامات المجتمعية وبات أبناء البلاد يُقادون إلى الاصطدام بفعل التشويه المريب للخطاب السياسي الإعلامي ولمسيرةٍ أشاعت الأمية والجهل وآليات التخلف الظلامية تلك التي استغلوها بغاية مرضية وحيدة هي الاحتفاظ بالكرسي لأطول مدة ممكنة على حساب مجموع أبناء الشعب بكل مكوناته وعلى حساب مطالب التنمية والبناء...
وعليه فإنّنا اليوم بحاجة لتغييرات جوهرية بخطط استراتيجية وبأخرى تكتيكية مناسبة. لكننا، أقصد القوى الوطنية الديموقراطية، لسنا بموقع يقود الحراك العام في البلاد ما يتطلب منا التعامل مع الواقع بحسب الممكن المتاح. وتحديداً في ضوء اتساع التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب الأمر الذي ربما تحصره القوى الدولية المشارِكة فيه بجانبه العسكري بشكل رئيس؛ وأكثر من ذلك فإنها تقرأ الأمور على وفق منطقها وخططها بحيث تترك تمدداً زمنياً خطيراً عندما تتحدث عن جهود تفرشها على مدى سنوات لا أسابيع ولا أشهرا!
واقعنا وظروفنا لهما حسابات أخرى. إذ كيف يمكن افتراض سنوات عديدة ممتدة لمجرد خوض معركة مع قوى ميليشياوية محدودة!؟ نحن من ينبغي أن يقرأ الأمور ويعدّ وسائله لحسم المعركة بمدى يتناسب من جهة وقدرات دولة كبيرة كالعراق وقيادة وطنية هي من ينبغي أن يحدد كيف يتعامل مع الميليشيات خارج نطاق الدولة بكل أشكالها ومواضع وجودها وانتشارها...
ونحن هنا لانتحدث في فراغ أو انطلاقا منه وتأسيساً عليه بل نتحدث عن وجود جيش جرار لم ينسَ الخبرات والمهارات والخطط العسكرية سوى أننا بحاجة لإرادة سياسية ولقرار وطني بمعالجة موضوع بنائه بطريقة (صحية) صحيحة تخدم البلاد. ومن الطبيعي أن نتذكر هنا حاجتنا لوقف ترهات التجاريب التي يتبناها قادة ميليشيات لم يمارسوا يوماً درساً عسكرياً واحداً وهم حتى في المجال السياسي ليسوا أكثر من مراهقي حركات وليدة أمراض الطائفية وخطابها الثأري من جهة وبعيدين عن أن يكونوا رجال دولة بحق من جهة أخرى..
إننا بحاجة لبناء جيش وطني يستند لتراث تشكيل هذا الجيش مع عزل عناصر زمن الطغيان والشوفينية والجريمة بالتأكيد والإبقاء على عناصر المهارة والوطنية في بنيته الجديدة. وهو ما يعني قطعاً منع عبث الإبقاء على السلاح خارج خيمة الدولة وسلطتها المؤسسية ورفض وجود ميليشيات من أيّ شكل ومن أي جناح طائفي سواء زعمت شيعيّتها أم ادعت سنيّتها..
مثل هذا الاتجاه يتطلب ضبط مطالب الجيش العراقي ومحدداتها وتدارسها في قيادة عامة تتسم بالكفاءة والحرفية وتجد الدعم الدولي المناسب مع الانتباه لمشاركة كاملة تامة من جناحي الوطن، من العرب والكورد وهذا ليس في القيادة حسب بل بالبنية التحتية للجيش حيث البيشمركة قسم رئيس من الجيش الوطني..
هنا ستتحدد مطالب الدعم واستثمار التحالف الدولي لا في إطار منطقه وخططه الجوية المحدودة حسب بل بإطار قراءة فروض ميدان المعارك والأسقف والمحددات اللازمة الواجبة... هذا في الشأن العسكري حيث بات واضحاً أنّ عشرات الدول الكبرى والأوروبية والإقليمية أعلنت رسميا مشاركتها بدعم المعركة ضد الإرهاب الداعشي...
لكنْ، هل المعركة مع داعش لوحدها؟ وهل المعركة مع جيش يمكن سحقه في ميادين القتال؟ أم المعركة لها ميادين أخرى غير سوح الدبابات والمدفعية والمقاتلين؟
بدءاً لابد من العودة لمنطلق الأمور الجارية عراقياً حيث الانقسام الذي فُرِض من جناحي الطائفية وميليشياتهما على البلاد والعباد. وعلينا أن نتذكر أنّ ممارسات العناصر الطائفية في إطار ما يسمى (القوات الحكومية الرسمية) هي التي أودت لتضخم الأمور وانهيار المؤسسة الحكومية الشامل بمناطق تحتلها داعش اليوم. وعليه فإنّ توجه ميليشيات لتحرير الأرض سيمنح فرصاً للعابثين من الجناح الطائفي المدعي دفاعه عن تلك المناطق كيما يضللوا ولو قسما من أبناء تلك المناطق ويجيرونهم لصالحهم بل يُجيِّشُونهم معهم ما سيخلق احتراباً طائفياً لا يمكن صد حرائقه إنْ اندلعت لا في العراق ولا في المنطقة برمتها...!
عليه يجب الالتفات بانتباهة قوية لهذا الأمر بحيث يتجه لتحرير تلك المناطق جيش محترف صاحب خطة ومبادئ يرافقه خطاب وطني متكامل. أما الإبقاء على التصورات الساذجة التي تنظر للمجتمع العراقي في انقسام بين سنة وشيعة أو التمسك بشخصيات وقوى ذات خطاب مقصود منه هذا الانقسام الطائفي بالإصرار على تقديم قادة الطائفية سياسياً إعلامياً فسيكون وبالاً على الوضع برمّته وسيجلب كوارث أكثر من تلك التي نحياها.. وستتدفق أفواجٌ أخرى من مكونات الشعب مهاجِرةً بملايين جديدة نحو بلدان المنطقة وأوروبا وهو ما سيضم في طياته مخاطر جمة على تلك الملايين وعلى البلدان التي سيصلون إليها بسبب وجود عناصر مرضية تتسلل مع تلك الجموع!
إذن هناك مطالب مدنية إلى جانب الحملة العسكرية؛ تظل ذات أولوية كبرى. وتتمثل تلك المطالب في دعم القوى الوطنية العراقية الديموقراطية والليبرالية وليس الطائفية. وتتمثل هذه القوى بروابط الثقافة ومنظماتها وجهود العمل الصحفي والإعلامي وتوفير فرص ظهور قادة المجتمع المهمّشين ليأخذوا أدوارهم البنيوية الآن. فأغلب الفضائيات المحلية هي أدوات إعلانية لجوقة الطائفيين وعناصرهم الفارغة أو المعبأة بخطاب مرضي، هو ما انتهينا إليه بسببهم.. وأغلب الفضائيات الكبرى والعالمية تتملق من يحتل كرسي السلطة على حساب العقول الأكاديمية العلمية والسياسية الوطنية الناضجة...
ومطلوب من التحالف الدولي أنْ يلتفت إلى تلك الشخصيات الوطنية من العقل العلمي للمجتمع ومن المنظمات السياسية الوطنية (الديموقراطية والليبرالية) ويقدمها في خطاب سياسي إعلامي واضح النهج بما يتعامل مع وجود شعب عمقه الحضاري حوالي الـ10 آلاف عام بل يمثل هنا موئل تراث الإنسانية.. وقدم منجزاتٍ كانت سبباً في التنوير وفي التقدم الإنساني في مراحل ممتدة كبيرة...
إنّ الحديث عن حلول ترقيعية من قبيل إجلاس ممثلي الميليشيات والأحزاب الطائفية معاً ومن قبيل فرض سجالات بينهما بمنطق يفترض توفير الفضاء السلمي هو مجرد لغوٍ لا يقبله عقل ومنطق. فالبديل والحل الأنجع هو التمهيد لإزالة كل أشكال الميليشيات ومنع تمرير ميليشيا أو أخرى تحت أيّ مسمى ومنع شرعنة وجود الميليشيات الطائفية بجناحيها بإدخالها شكليا في الجيش أو عدّها ضمنا قوى رسمية...
كما أنّ التوجه لتشكيلات (شعبوية) يتضليل مسميات (شعبي) و(وطني) هي منزلقات لمناطق لن تقسم البلاد بين غيتوات وكانتونات حسب بل ستخلق معهم متاريس الحرب التي إنْ اشتعلت لن تنطفئ دهراً! ومن هنا فإنّ عقلاء المجتمع الدولي وحكماء البلاد لابد أنْ ينتبهوا جيداً إلى أنَّ المعركة مع داعش ستحتاج مطالب بنيوية من قبيل فتح سبل الإعلام الكبرى للخطاب الوطني الديموقراطي ولشخصياتٍ ومنظمات معروفة بهذا التوجه والهوية..
وسيحتاج إلى جملة إجراءات ميدانية تستكمل قوانين دستورية في البلاد وتتجه لاستكمال البنية المؤسسية التشريعية بمجلس الاتحاد المعبر الأبرز عن تمثيل مكونات المجتمع؛ خارج صدقات الكوتا الهزيلة والتي تمثل شتيمة وإساءة للشراكة الحقيقية بين بنى العراق الفديرالي. وسنحتاج عاجلا لإعادة استقلالية المؤسسة القضائية والبنك المركزي وغيرهما من مؤسسات جرى إِتْباعُها لشخصٍ بعينه. كما سيتطلب دخولا مباشراً لمكافحة الفساد المستشري بأعلى المستويات بالبلاد.
إنّ المعركة التي نخوضها ضد الإرهاب بدعم التحالف الدولي لن تنجح من دون حزمة الإجراءات الوطنية التي تمنح الثقافة ودورها الروحي والسياسي أولويتها وهذا ما سيتطلب اليوم قبل الغد تفعيل وزارة الثقافة الاتحادية بهيكلية جديدة وقراراً حاسماً بتشكيل المجلس الوطني للثقافة والآداب والفنون وطبعا استعادة هيأة الإعلام استقلاليتها وتنشيط دورها وطنيا لا عبثيا طائفيا ولا بوقا لفرد أو طرف أو جهة.. فانعكاس الوحدة الوطنية سيراه المواطن في خطاب إعلامي ونهج رسمي لا يقمع طرفا ولا يهمّش مكوناً ولا يقصي أحداً ولا يحابي باطلا أو يستغل تضليلا...
تلكم عناصر محورية رئيسة عامة ستتطلب وقفات مخصوصة لكل منها.. وسيكون علينا اليوم أنْ نستعد لدفع الاتجاه نحو لقاء الجميع في بوتقة عراق فديرالي ديموقراطي جديد يحترم التعددية والتنوع وينبني على شراكة حقيقية واتحاد اختياري لا مجال فيه لتكرار ما جرى في سنوات العقد الماضي العجاف.. فهلا تنبه كل طرف لمهمته المنتظرة؟ وهلا توجهنا للحوار مع المجتمع الإنساني والتحالف الدولي بخطابٍ وطني موحد؟ يضمن الانعتاق لجميع مكونات العراق الجديد؟؟