خطابٌ طائفيٌّ لا يمكنُهُ أنْ يقودَ معركةً وطنية!
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
جَاءَ الحَرَاكُ الوطنيُّ والأُمميُّ قُبَيْلَ وغِبّ الحرْب في العراقِ سنةَ 2003؛ لِيُؤكِّدَ على المَهامِ الرئيسةِ لبلادٍ عانَتْ من امتدادِ طغيانِ الدكتاتوريةِ طويلاً، الأمر الذي تطلَّبَ (شروطَ مرحلةٍ انتقاليةٍ) لتطمين التحول النوعي من الدكتاتورية إلى الديموقراطية.. وقد ضاعفت الحاجة للمرحلة الانتقالية وشروطها، تلك الأخطاءُ التي اُرتُكِبت بتشكيلِ سلطةٍ مدنيةٍ بأسس البنية الطائفية وببرامجِها التي أفضت لأمراضٍ معقدة. وبسببٍ من تلك السياسات ومِنَ التّزمُّت في التزام أسقفٍ زمنية على حساب توفير الأسس الصحية المناسبة في إنجاز خطى بناء مؤسسات دولة مدنية لعراق ديموقراطي فديرالي جديد، وقع العراق والعراقيون في مشكلات جمّةِ!
فلقد عانوا من حال الانقسام المفتعل المصطنع، ومن جرائم كلٍّ من ضلْعَي مثلث الجريمةِ، فإلى جانب (الطائفية) جابهنا (الفساد والإرهاب). وكانت نتيجة فلسفة الطائفية أنْ تمَّ بوساطتها فرضُ منطق أنَّ السلطةَ (غنيمةٌ) لا يمكنُ التنازل عنها ومن ثمّ رفض منطق التداولية وهو أحدُ أبرز أركان الممارسة الديموقراطية. كما تمّ تحويل منطق الشراكة والتوافق إلى ممارسة نظام المحاصصة الطائفية المقيت! وفي ضوئِهِ جرى ويجري تعيين عناصر هزيلة بلا معارف ولا خبرات في مناصب ومسؤوليات باتت تدار بوصفها إقطاعات ملكية خاصة، يستغلها أفراد لمآربهم وعمّق الفساد ظاهرة بيع وشراء المناصب حتى وُضِع العراق على قائمة البلاد الأكثر فساداً وفشلاً عالمياً!
وبهذا المنطق السياسي المريض تمت السيطرة على كل المؤسسات المستقلة بعد تعطيل الدور الرقابي لمجلس النواب الذي بقي بديلا للبرلمان أو الهيأة التشريعية منقوصاً مما نصّ عليه الدستور من تركبها من مجلس النواب والاتحاد، وصار القضاء وعديد مؤسسات مهمة كبرى بحكم التابع لسلطة تنفيذية اختزلت الصلاحيات بين يديها!!
وما يجري ضخه اليوم من خطابٍ إعلاميٍّ سياسي لا يخرجُ عن توكيدِ فعل التقسيم الطائفي واختلاق التناحر لشرعنة وجود جناحي الطائفية وتعزيز تمسكهم بالغنيمة! ولكن إذا كان هذا الخطاب قد راكَمَ المشكلات التي باتت من تفاصيل ما يجابهه العراقي في تفاصيل عيشه من تعقيدات كأداء، فإنه اليوم لا يمكن أن يستمر بالمنوال نفسه من دون نتائج كارثية أبعد من مشكلات اليوم العادي للمواطن المبتلى، بعد أن ولجنا مرحلة أخطر غب التاسع من حزيران 2014!؟
وفي ظل تركيبة المؤسسة العسكرية، برهنت الأحداث على خطل الأداء وتحوله إلى هزيمة على حساب الشعب والوطن. فمساحة ثلثي البلاد خرجت من سلطة الحكومة (الاتحادية) بعد الانسحابات المتكررة لكبار القادة العسكريين وترك القطعات لأسلحتها لتكون لقمة سائغة أو هدية مجانية لقوى الإرهاب التي اجتاحات محافظات ومدن العراق الغربية وشمالها بلا مقاومة تُذكر!
إنّ هذه الوقائع هي هزيمة بكل المقاييس والمعايير؛ ما كانت لتحدث لولا تلك البرامج التي لم تعرف كيف تبني جيشاً وطنياً بعقيدة عسكرية مناسبة وبإنضاج فرص البناء والإعداد؛ فوجدنا اختراقات وثغرات وصفقات أسلحة وعقود تعاون مشبوهة وتسرّب وأشكال فساد وبنى وآليات ميليشياوية لم نشهدها في تاريخ جيش آخر.. والكارثة تتضاعف مرة أخرى، عند إصرار القيادة على تسليم مقاليد قيادة الحركات الحربية لقادة ميليشيا مع الزج بشبيبتنا غير المدربة وبتركيبات (جهادية) جاءت سريعاً في ضوء فتاوى ونداءات سياسية أمعنت بتوكيد الخطاب الطائفي بحديثها عن معركة بين حُماة مراقد تتسم بصبغة مذهبية بعينها ضد غزاة وحواضن هم جلّ أتباع مذهب آخر...!
هذا الخطاب ببعديه السياسي والعسكري، سوَّق ويسوّقُ للانقسام الطائفي الأمر الذي لا يمكنهُ أنْ يحملَ الهمّ الوطني بأيِّ شكل للتعارض الجوهري بين الطائفي والوطني. فسياسيا أبقى الخطاب على حال الإقصاء والإلغاء للآخر؛ حيث المشهد يتشكل من حاكم هو أحد جناحي الطائفية يمارس آلية استبداد باسم (الأغلبية) وجوهر الحقيقة أنه لا يمكنه بجوهره هذا وببرامجه هذه أنْ يعبر عن الأغلبية ولا أن يمثلهم حيث لا يمكن قبول طرحه في: أنّ الأقلية هي حاضن إرهابي بكلية وجودها، في عملية إلغاء تصفوية لهذا الآخر!
وعلينا التذكير بأنَّ بناء الجيش والجهات الأمنية على أسس استبعدت بوضوح أبناء مجموعة عراقية لمجرد كونهم من أتباع مذهب ديني بعينه حتى باتوا لا يشكلون أكثر من 3%؛ يُضاف إلى ذلك أنّ تركيب الجيش جاء ببنية ميليشياوية فضلا عن تفشي ممارسة الطقوس (الدينية) الخاصة بأتباع مذهب وبخطاب طائفة بعينها فحمل شعارات طائفية مرضية بدلا من الشعارات الوطنية، إذن، علينا التذكير بأن ذلك كله أطاح بمبدأ وطنية الجيش بوصفه مؤسسة يُفترض أن تكون لحماية السيادة الوطنية والدفاع عن الشعب ضد أشكال العدوان الخارجي والداخلي..على أننا نؤكد حرص البديل الوطني على التمسك بوجود هذه المؤسسة ودعمها على الرغم من الثغرات في محاولته إعادة البناء على أسس وطنية سليمة.
إنّ العراق وطن التنوع والتعددية في بنية مجتمعه وهذه الأطياف والمكونات القومية والدينية تبقى في حال تداخل واختلاط بنسبة الثلثين من وجودها الوطني، الأمر الذي لا يمكن الفصل بينها. وأغلبية الشعب العراقي تعي تاريخها كونه تاريخ حضاري (مدني) مجيد وكونه وجود معاصر يقوم على الروح الوطني وعلى الحرص على الوحدة الوطنية والتعايش بإطار السلم الأهلي ومؤسسات دولة مدنية ديموقراطية فديرالية.
وأيّ فرض لما يخالف هذا التوجه سيزيد معاناة المواطنين كونه يطالهم بالطعن والإيذاء وارتكاب جريمة التقسيم للعائلة المتكونة من انحدارين قوميين أو دينيين أو مذهبيين ويضعهم خلف متاريس الاحتراب.. فيما يبقى أيّ خطاب إعلامي مجرد تضليل وجعجعة بلا طحن؛ لأنّ الحقيقة تجسد العمق الطائفي على الرغم من التظاهر بالدفاع عن الوجود الوطني.
إنّ خطابَ الطائفية لا يمكنُهُ أنْ يقودَ معركة وطنية كبرى ضد الإرهاب وذلك لجملة أسباب موضوعية. فالتعبئة السياسية بخطاب طائفي توقع شرخاً خطيرا بين أبناء المجتمع وتخلق بعبعا يتسلط على أذهان المتمترسين بأسس التخندق الطائفي المصطنع.. وقد بلغ هذا حده الأقصى وتجاوزه بخاصة بعد التمرين المرير الذي خيض في الحرب الطائفية بسنتيها وشدتيهما 2006-2007.. أما عسكريا فإنّ حصر الجيش بشعارات لا علاقة لها بالوجود الوطني العراقي في دولة مدنية يجعله بصورة سلبية عند كل الأطراف ويسمح باختلاق الصراع بأسس طائفية..
إنّ محاربة قوى الإرهاب التي تحتل مساحات واسعة لا يمكن بوجود سياسة طائفية تعتمد الإقصاء والتهميش وترفع شعارات تخوين أبناء المنطقة المحتلة من العراقيين باتهامهم أنهم حواضن إرهابية فيما يقعون فعليا أسرى الجريمة الإرهابية الأبشع.. ولا يمكن بإعلاء صوت التمترس الطائفي.. وهكذا فإننا تعبويا لوجستيا وبالأداء الميداني سنطيل المعركة الوطنية ونمهد لضحايا أكثر من فلذات أبناء الوطن بهذا الإصرار على الشحن الطائفي وعلى قيادة المعركة بصيغ برهنت على أنها السبب الأساس في مشكلات الوطن والشعب...
هذا الواقع المأساوي يقيم المتاريس بين مكونات الشعب ويقسمها على خنادق ويخوض بنا جميعا بكل الخنادق التي قسمونا عليها قسراً وكرهاً معركة ترفع لفظيا الهدف الوطني ولكنها تفرض حربا أهلية طائفية المرجعية. وبديلنا ليس غير الحل الوطني الديموقراطي فبوحدتنا وتشكيل مؤسسات دولتنا على أسس وطنية وبتوفير الاستقلالية لتلك المؤسسات ووقف الشحن الطائفي والفصل العنصري وتوظيف برنامج بنيوي سليم يتألف من إجراءات وطنية موحدة عاجلة تستفيد من دعم الأصدقاء وأخرى استراتيجية تؤسس للتغيير الأشمل باعتماد إجراءات وطنية بعيدة.
كما أن المصداقية بهذا الحل تكمن في وجود نوعي لقوى التحالف المدني الديموقراطي ولقوى العقل العلمي الوطني العراقي وأدوارهم الجدية الفاعلة بتوجيه البرامج الوطنية للبناء ومسيرة التنمية تلك البرامج البديلة حلا موضوعيا يُعنى بالإنسان وبانتمائه الوطني بجوهر إنساني يحترم الحقوق والحريات ويستجيب لإرادة العيش في ظلال رايات وطنية هي الوحيدة الكفيلة بتحقيق السلم الأهلي والانتصار بمعركة وطنية بحق.