الانتخابات البرلمانية العراقية: المجريات والتفاعلات المحتملة
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
تُؤكدُ الأخبارُ المتواردةُ من كواليسِ العدِّ والفرزِ لصناديقِ الاقتراعِ الانتخابيةِ في العراق، أنَّ العمليةَ باتت تفضحُ صراعاتٍ، خفية ومعلنة بين قوى الطائفية السياسيةِ في محاولةٍ منها للعودة بقوةٍ تفيها إمكان التحكّم بالمشهد العراقي العام مجدداً؛ وتدرأ عن نفسِها محاسبتها على ما ارتكبتُهُ طوال العشر العجاف المنصرمة بويلاتها ومواجعها! ولعلّ الشكاوى التي اُعتُمِدت رسمياً وتلك التي لم يعلُ صوتُها ولم يظهرْ، تبيِّنُ جانباً من المجريات التي اكتنفت العملية الانتخابية.
وبدءاً نذكِّرُ هنا، أنَّ قوى البديل المدني وكثيراً من القوى الوطنيةِ كانت طالبَتْ بالدائرةِ الوطنية الواحدة لكنّها جابهَتْ رفضاً وفُرِضت الدوائر المتعددة وتمّ تفصيل قانون الانتخابات بما يوفرُ أكبرَ الفرصِ لقوى الطائفيةِ السياسيةِ لانتهازِها. ثم جرى التغافلُ عن سنّ قانون مجلس الاتحاد بوصفه نصف الهيأة التشريعية مرة أخرى، في إهمالٍ مقصودٍ متعمدٍ لتمثيل الطيف العراقي ومكوناته وتمثيلها في البرلمان المكتمل البنية؛ وطبعاً بمحاولة للاستمرار بعمل تلك الهيأة وسلطتها العليا منقوصاً - على الرغم من دخولنا عدد من الدورات الانتخابية- من تلبية فروض الدستور وإلزامه القوى المعنية باستكمال التشريعات المناسبة لبناء مؤسسات السلطات الثلاث. كما جرى إهمال قانون الأحزاب بقصد التستر على مصادر التمويل وآليات عمل عناصر بخاصة في قياداتها وعلاقاتها، ربما العابرة للحدود الوطنية المتجاوزة على سيادتها وأمنها! كل هذا، ومع ذلك دخلت القوى الوطنية الانتخابات في تحدٍ يستند لإيمانها بوعي الشعب وبقراره الأكيد في التوجه نحو التغيير...
الجديد في المجريات، هو مفردات مرحلتها التالية ممثلة بمرحلة الاقتراع ثم العد والفرز وإظهار النتائج. ولقد رصد المواطن قبل المراقب الرسمي حالات الضغوط والابتزاز والرِّشى لشراء الأصوات الأمر الذي دفع بعضهم لإطلاق وعود بملايين الوحدات السكنية توزع مجاناً عند فوزهم في وقت لم يبنوا وحدة سكنية أو مدرسة أو مصنعاً طوال السنوات العشر لانفرادهم بالحكم. والأنكى أنّ الابتزاز على وفق ما جاء على لسان أحد (القضاة) المرشحين على تلك القائمة وصل حد تهديد المواطن أما التأكد من تصويته لهم! أو سحب (الرّشى) منه!! خلا عن التهديدات التي مورست ببلطجة واضحة سواء من الميليشيات أم من عناصر من أشقياء الانهيار القيمي مدفوعي الأجر من قوى بعينها.. أضف إلى الأمر منع مئات الآلاف من التصويت بسبب الانفلات الأمني أو بإغراق مدنهم، بأيام التصويت تحديدا، لمنعهم من الوصول إلى صناديق الاقتراع أو أية أفعال ليست عصية على الفضح بأعين أهلنا؛ بخاصة تلك التي طاولت منزوعي الجنسية والهوية بسبب التهجير القسري داخل البلاد وخارجها...
أما التالي من الفعل فيأتي اليوم خلف كواليس العد والفرز حيث يجري الحديث عن ((احتمالات)) بعضها تأكد وبعضها تجري محاولة التعتيم عليه وتمريره من مئات آلاف و ((ربما)) ملايين من الأوراق المضافة إلى الصناديق أو المحذوفة منها.. والمجريات تتم في الظلام؛ حيث أسماء الموتى الراحلين وأسماء القوى الأمنية والعسكرية تتكرر مرتين عسكريا ومدنيا، أي في الاقتراعين الخاص والعام، وحيث... وحيث المزيد مما نتطلع لقراءته في الرصد الفعلي الميداني بوساطة القوى المدنية الوطنية المخلصة وعيونها الصافية.
وفي ضوء ذلك فقد ارتفعت أصوات قيادات بعض القوائم المشاركة لكشف ما يجري ومثلها نادت شخصيات دولية على تماس مع القضية ومسؤولة عن الملف العراقي في منظماتها أو مؤسساتها، وجاءت تصريحاتها جدية وقوية ضد محاولات تزوير خيار العراقيين وحرفه عن تطلعاتهم في اختيار القوى الوطنية الديموقراطية لا الطائفية السياسية. ولعل هذه التفاعلات المبكرة تمثل بعض مساندة أممية شعبية ودولية رسمية لمطامح الشعب العراقي في ممارسة انتخابات تعبر عن خياره المكين لقوى بناء الدولة المدنية واستعادة الوحدة الوطنية وسلامة المسير.
ما يُتطلَّع إليه يتمثل في وقوف الناخب العراقي الذي دُعِي للتصويت للتغيير وللبديل المدني الديموقراطي، موقف الدفاع عن صوته وعن خياره وحقه الثابت في ألا يُسرق صوته مثلما سرقوا منه الثروات والحيوات بالأمس. وما يُشاع اليوم من طرف آلة إعلامية مملوكة لقوى المحاصصة والغنائم هو جزء من حملة ضاغطة على الشعب وقواه كي يقبل بالنتيجة التي ربما يرتبونها بطريقة تتفق ومآرب لا تعكس التصويت الحقيقي، كما يقول مسؤول الملف العراقي في البرلمان الأوروبي السيد ستيفنسن.
وعليه فبالانتقال من المجريات إلى الاحتمالات والتفاعلات فإننا ينبغي أن نؤكد بعض الحقائق المهمة من قبيل: إنّ مَن خلق (رمزاً) خلقه قوةً للطائفية ومن ثمّ فإنَّ عودته تتعارض ومطلب التغيير الذي رفعته أغلب القوى استجابة لصوت الأغلبية الحقيقية للشعب. وبمراجعة ملف من يقدّم اليوم إعلاميا فإنه يصب في خانة اسم بعينه ربما جسد عند من يقف وراء تلك الحملة التسويقية صورة الرمز. ولكنه أيّ (الرمز) لم يُخلق من منجز فعلي ولا من فراغ بلا قوة جبرية، إذ تشهد الأوضاع العامة مزيد انهيار وخراب؛ وعليه فإنه صار رمزا لجهة بعينها هي جهة مستفيدة وضعته (منفرداً)على رأس المسؤوليات الأمنية وغير الأمنية في الحكومة المنتهية ولايتها.. ومَن فشل في تلك المهام كان قد أوقع البلاد في مصيدة الدولة الأكثر فشلا؛ فكيف يمكن أن يكون بديلا أو توجهاً نحو أي تغيير أو بناء!؟؟
لا يمكنُ موضوعياً التحالفُ مع قوةٍ أدارت البلاد بشخصية انفردت بقيادة أبرز المناصب وامتلكت أغلب الصلاحيات في حكومتين و وجهت حزبها في الانتخابات لتوكيد الانفراد القيادي لذاك الذي تعده رمزاً، فتلك فلسفة ليس لها سوى معنى واحد لا غير هو معنى التوجه نحو اصطناع خطاب دكتاتوري جديد وهي فلسفة وآلية لفظهما التاريخ عراقياً؛ بعد أنْ عانينا منها المرار والعذابات.
إنّ تلك القوى بعد أنْ هيَّأت بعض أسباب عودتها، باتت جاهزة للانتقال إلى مرحلة جديدة من خطابها التضليلي الذي اعتاده المواطن؛ وهذه المرة ستنتقل نحو التعكز على النتائج (المحتملة) للانتخابات بالقول: إنها تستند إلى تصويت الشعب! ولنتذكر بهذا الشأن تلك القراءات الانتقائية لمواد الدستور في خطاباتها السابقة ولكن كما هو معلوم فإنَّ الاعتماد على الدستور لوحده لا يكفي؛ فالدستور خطوط محورية وميثاق مجتمعي عام، ينتظر تفعيله وتطبيقه بشرعنة القوانين؛ وهو الأمر الذي جرى ترحيله وتأجيله دائما من تلك القوة المنفردة بسلطة الحكومة وخير دليل تأجيلها وترحيلها إقرار قانون مجلس الاتحاد الذي يمثل نصف الهيأة التشريعية، ومماطلتها بشأن المادة 140 وتعطيل تطبيقها، وكذلك تأجيلها إقرار قانون الأحزاب، وغيرها كثير مما عطَّل دائماً تحويل الدستور من وثيقة شاملة فاعلة إلى ذريعة تضليلية لتمرير مآرب أو غايات خاصة. وهكذا فإنّ التعكز على نتيجة انتخابية إذا ما جرى تفصيلها بطريقة بعينها هو في تضليليته كالتعكز على مواد دستورية وتأويلاتها غير الصحيحة من دون مصداقية ارتباط بالدستور!
إنّ المنتظر اليوم، يكمن في الدفاع عن صوت الناخب ومنع تغيير اتجاهه الفعلي الحقيقي وقطع الطريق على أشكال التزوير والعمل على معالجة كل تلك الخروقات التي تم ويتم تأشيرها وكشفها رسميا بجهود العناصر النزيهة التي لا تبيع الضمير والالتزام بمقدسات الشعب.
إنّ خطوات المسيرة السلمية نحو تثبيت نافذة التغيير وتوسيعها وتمكينها من تفعيل الدور تكمن في عدم تكرار عقد الاتفاق مع أيّ طرف نكث بسلسلة من الاتفاقات والعهود وهو يعلن موقفه هذا اليوم صريحا وبعنجهية يذكرنا بها بخطاب الاستعلاء الشوفيني عندما يقول: إنه لم يعد اليوم شيء اسمه حق تقرير المصير! ووجود العراق الفديرالي فرض فوقي استعلائي أبدي! وبدل التوجه لتوكيد التعايش مع خيارات الشعب في كل مرحلة بما يتناسب وطبيعتها ومتطلباتها يجري إطلاق بالونات اختبار وضغط، متناسين أن الشعوب وقواها الحية لا يمكن ابتزازها بالضغط ولا يمكن فرض الشروط والإملاءات عليها...
وعمليا كيما تتجنب قوى الشعب تكرار أخطاء وصلت بشخصية أو قوة لرأس السلطة يلزمنا أن نتأكد من فحص وسائل العمل وضوابط منطلقاته وآلياته واشتراطه بأسقف زمنية للتنفيذ. وقبل ذلك اختيار التحالفات التي تزيح هموم الأمس وآلامه ومن تسبب بها، بسياسة ركوب الرأس والانفراد بالصلاحيات من دون فعل منتج مثمر!
إنّ كثيراً من الإمكانات متاحة لتحالفات جديدة تتأسس على ((اتفاق برنامج عمل)) يفرض أولويات منها استكمال الهيأة التشريعية في سقف زمني مداه الأبعد سنة واحدة، ليلتحق بالهيأة ويعدّل أداءها ويصحح الاتجاه؛ فضلا عن أسقف أخرى لأولويات تخص إجراء الإحصاء وإنجاز المادة 140 وإنهاء عبارة متنازع على أراضٍ إلى تطبيع أوضاع تلك المناطق وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل التغيير الديموغرافي. كما يلزم لبرنامج العمل الاستراتيجي أن يُنجز بوزارات تكنوقراط وأن تمتلك الحكومة نظاما داخليا للعمل يمنع استلاب حق مجلس الوزراء وانفراد شخصية أو جهة بالقرارات والصلاحيات ويتأكد هذا بتشكيل قيادة حكومية محددة ليس بينها طرف يعرقل التغيير ويعتمد التضليل في جهود تمرير صيغ الثيوقراطية والمجيئ بالطائفية السياسية على حساب القوى المدنية.
وحتى تظهر النتائج لوضع القراءة الأكمل والأنجع ينبغي للقوى الوطنية الديموقراطية والكوردستانية أنْ تتنبه إلى مجريات اللعبة وتتمسك بقوة بتفاعلاتها وتوجهاتها لبناء أسس الدولة المدنية وبالحقوق الثابتة للشعب والانتهاء من زمن الميزانيات المرصودة لجيوب ناهبي الثروة الوطنية بلا رقيب ولا حسيب. حيث تستعيد المؤسسات المستقلة استقلاليتها وتستعيد السلطات صلاحياتها ولا تكون بيد استعلائية شوفينية تعادي الشعب أو أحد مكوناته الرئيسة وتحاول استلابهم حقهم التاريخي.
ومن الطبيعي أن نثق بحنكة إدارة العلاقات الخارجية ومنع سطوة التدخلات وتأثيراتها والتصدي لاحتمالاتها، كما نثق بسلامة برامج قوانا الوطنية المخلصة في العراق الفديرالي وفي كوردستان حيث يتطلب التصدي لأي فكرة لتفتيت وحدة الموقف وكبح جماح نزعات حزبية ضيقة ربما تداهن قوى محلية وإقليمية على حساب وحدة الصف الكوردي وسلامة اتجاهه المطالب بحكومة وحدة وطنية لا تقبل استبعاد أحد جناحي الوطن ولا تسمح في الظرف الراهن لقوة أن تنفرد بأية ذريعة. وحتى لقاء تال ورؤية مقترحة جديدة نؤكد أن الشعب وضع صوته حيث ينبغي وأن التغيير آت ببديل يعتمد برامج بناء مدنية لا ظهور فيها للطائفية السياسية.