استراتيجية بناء الجيش والشرطة في كوردستان
رئيس جامعة ابن رشد في هولندا
رئيس البرلمان الثقافي العراقي في المهجر
مُنذُ زمنٍ بعيدٍ وُلِدَ الفكرُ الاستراتيجي في ضوءِ طبيعةِ الصراعاتِ المسلحةِ؛ وجرى اعتمادُهُ وتطويرُهُ بحسبِ تنامي القدرات العسكرية والقوى التي تحكَّمت بها والأهدافِ التي صِيغتْ من أجلِها الخططُ والأعمالُ الحربية. ومن الطبيعي أنْ توجدَ فروقٌ نوعيةٌ جوهريةٌ بين حروبِ القبائلِ والقرى ودولِ المدن وبين حروبِ الإمبراطوريات الكبرى والدول الحديثة. وأنْ تكونَ الفروقُ ملموسةً بيِّنةً بين خططِ فكرٍ عسكريٍّ متواضعٍ وآخر يستندُ إلى فلسفاتٍ شاملةٍ وعميقةٍ تستفيدُ من مجملِ منجزِ العقلِ العلميِّ البشريّ. ولابد هنا من التذكيرِ بأنَّ الفكرَ الاستراتيجيّ قد وُلِد في كنفِ العقلِ الذي أدارَ المعاركَ والحروب. فماذا يمكنُنا أنْ نفيدَ ونستفيد من هذا الإرثِ في بناء المؤسسات الكوردستانية بمجملها والعسكرية منها بالتحديد؟
إنّنا بمجابهةِ مع طبيعة المرحلة التي تفرضُ أهدافها الآنية في إطار مسيرة تتطلع إلى البعيد، الآتي لا محالة. وهذه المرحلة تسجل عدداً من الأمور تتمثل في:
1. طابع الوجود الفديرالي لإقليم كوردستان في إطار الدولة العراقية، وهو النموذج الأوضح في استقلاليته والأقرب للتطلعات من بقية أقسام كوردستان المجزأة على وفق الاتفاقات الدولية وتاريخها المعروف.
2. امتلاك قواتٍ عسكريةٍ وأمنيةٍ ذات خبرات عملية يحكمها فكر سياسي نضالي مرتبط بقيم شعب كوردستان وتطلعاتهِ، بالإشارة تحديداً إلى قوات البيشمركة والآسايش وغيرهما.
3. وجود ظروفٍ عامةٍ تحكمُها صراعاتٌ إقليميةٌ مركبةٌ معقدة، الأمر الذي يتضمنُ مصالح إقليمية محددة وتهديدات الإرهابين المحلي والدولي لاستقرار كوردستان.
4. استمرار وجود ثقافة سياسية لقوى الشوفينية العروبية التي تحملُ فلسفةَ المغامرةِ العدوانية؛ وأبعد من ذلك وجود تشكيلات عسكرية رسمية وغير رسمية بأيدي عناصر تضمرُ الشرَّ والأهداف العدائية أحياناً.
5. دولياً استمرار العمل على وفق الاتفاقات التي سلبت كوردستان وجودها المستقل، بمقابل وجود متغيرات في السياسة الدولية لمصلحة الاعتراف بشعب كوردستان وتطلعاته وآماله وظهور حالات تعاون وتنسيق، في هذا المستوى الأممي الرسمي والشعبي، بين الإقليم وحكومته والمنظمات الدولية.
إنّ هذه الأوضاع تنتظرُ موقفاُ محدداً وخطة استراتيجية تخدم تطلعات كوردستان ويمكنها أن تؤدي المهام بأفضل الأداءات وأنجعها. وعليه ينبغي الالتفات في إطار بناء المؤسستين العسكرية الأمنية إلى الحقائق الآتية:
1. الاستمرار بمسيرة التقدم في بناء الجيش والشرطة والمخابرات بطريقة بنيوية حديثة تتلاءم وخطط التأسيس لمؤسسات دولة مدنية حرة.
2. عقد العلاقات المناسبة لهذه المؤسسة في مستوياتها الفديرالية العراقية والأخرى الخارجية.
3. رسم خطط المشاركات المؤملة في أية فعالية سواء منها الداخلية أم الخارجية في ضوء متطلبات المرحلة آنياً وبما يخدم المستقبل البعيد وطبيعة أسئلته ومطالبه.
ولنبدأ بمعالجة هذه المحاور الثلاثة من آخرها.. متسائلين عن المهام الآنية والاستراتيجية داخليا وخارجيا لقوات البيشمركة والأسايش؟
لابد هنا من التأكيد على حقيقة الفروق العسكرية بين حرب العصابات وحركات التحرير وميليشياتها وبين الحروب التقليدية. ولكن في ذات الوقت ينبغي أنْ نؤكد أنَّ حروب الجيوش الرسمية يمكنها أن تستفيد من تجاريب ما خاضته من حروب الكفاح الشعبي المسلح بوصفها قوات فدائيين كما بنموذج البيشمركة ونضالاتها الغنية.
وإجابة عن تساؤلنا، نؤكد أنّ المهام المباشرة اليوم تنحصر داخليا في أمرين: حماية الحدود وضمنا في إطار الوجود الفديرالي وحماية الأمن العام وتأمين الجهد الوقائي قبل العلاجي. وتأتي المهمة الأولى المناطة بقوات البيشمركة، بتكليف دستوري عراقي وكوردستاني، يلزم الدفاع عنه وتثبيته وترسيخه في الممارسة المرحلية ضمانا وإعدادا للوضع المستقبلي البعيد. كما تلزم الإشارة إلى نوعين من المهام العسكرية أولها تلك التي تخص حرس الحدود الدولية مع كل من إيران وتركيا وسوريا والأخرى ضبط الأوضاع في المناطق الملتهبة مما مازالت تسمى مناطق المادة 140...
وتقتضي أوضاع الحدود الدولية، التنسيق بين خطاب سياسي دبلوماسي يتبنى علاقات التعايش السلمي مع الآخر ويعزز من التعاون في حماية تلك الحدود من الاختراقات من قوى الإرهاب الدولي والمحلي ومن احتمال التجاوزات والاعتداءات المشخصة على الأرض باتفاقات دولية مرسَّمة بخرائط واتفاقات معروفة. ويمكن هنا استثمار الوفود الدبلوماسية الفديرالية الموحدة عراقيا لنقل الصور الرسمية عن الوضع الميداني لأي تحركات عسكرية للمنظمات الدولية مع رسائل مباشرة مستقلة بقدر تعلق الأمر بحالتي السلام والحرب في المنطقة. وسيكون هذا التوجهُ الدبلوماسي السياسي عمقاً منتظراً لقوات البيشمركة وحاجاتها التسليحية والتدريبية وما يرافقها من شؤون التعاون العسكري والاتفاقات المؤملة.
وإذا كان ضرورياً وجود مجلس الأمن القومي الكوردستاني، فمن الواجب أيضا تطويره وتعميد صلاحياته العليا وإرفاق جهوده بدراسات علمية وبمتخصصين ومأسسة عمله وتوسيعه مع توفير أرضية التفعيل بوساطة التنسيقين فديراليا وطنياً و دوليا خارجيا. ومن خلاله سيكون من الواجب المطالبة بحصة مستقلة لأنشطة التدريب والإعداد من جهة وللتسليح المتناسب مع المهام المكلف بها.
هذه الأمور استراتيجيا تتطلب وجود عقيدة عسكرية، ولربما كان هذا أفضل عبر منح مرونة في الاختيار الاستراتيجي لتلك العقيدة بما يمكِّن الجيش الكوردستاني (البيشمركة) من التعاطي مع مفردات التسليح المتنوع ومع إمكانات التعاون العسكري المتاح في أية مرحلة وتجنب الهزات التي قد يصادفها العراق الفديرالي من جهة وأية مواقف مخصوصة بكوردستان من هذا الطرف أو ذاك، بل سيكون لهذه المرونة فرصتها في كسب إجماع أممي دولي لصالح القضية الكوردية في المستوى السياسي.
ومن المهم تطوير أشكال الدورات التدريبية وموضوعاتها في ضوء ما يمكن أن تلعبه كوردستان محليا وعراقيا وإقليمياً. وهي مهام من الممكن توفير أرضية عقد الاتفاقات المناسبة من أجلها.
إنّ جملة المهام المحلية ربما كان منها تعزيز أمن الوطن والمواطن كونه الركن الحيوي الرئيس. ومن الطبيعي أن تكون عقيدة التفاعل بين المؤسسة الحكومية وأبناء شعب كوردستان أساسا حتميا للنجاح مستثمرين في ذلك تاريخ العلاقة بين قوى الكفاح السياسي والقوى الشعبية. على أنّه لا يمكن الجمود على أساليب كلاسية في ضوء التحولات النوعية لأساليب العمل دوليا، الأمر الذي يفرض تطويرا منتظرا بوساطة وفود الدراسة والتدريب بقصد التنمية والتطوير.
ومن المهم بهذا الهدف أن يجري التقدم نحو بناء المؤسسات المعنية المتخصصة، مأسسة، نوعية محدثة جديدة تستطيع تحقيق التغييرات البنيوية التي ترقى بالعمل وفضائه الأنجع. وإلا فإنّ استقلالية كوردستان هي التي سيتهدد وجودها وتتأخر فرص تعززها بسبب أية احتمالات للتعرض للأمن إذا ما جرى إهمال هذا المحور. ومعروف أنّ أمن أي دولة أو إقليم هو أرضية الاستقرار المطلوب للتنمية الشاملة.
ومن أجل وجود بنيوي استراتيجياً، للبيشمركة جيشا وطنيا لكوردستان المستقبل ينبغي تحقيق الآتي من الأمور:
01. إيجاد موازنة مالية ومشروعات اقتصادية تتناسب وتفعيل الجهود بوضعها المدني في لحظات السلم. وهو أمر يقويّ فرص تمويل الجهد العسكري والأهم يقوي صلاته ويدمجه بالوجود المؤسسي للدولة. وهذا التأسيس ينطلق من أهمية الاقتصاد لأي جهد وبأي مجال كان.
02. خلق تحالف الشعب الجيش عبر خطاب سياسي يمتاح من تاريخ المؤسسة العسكرية (البيشمركة) وتضحياتها وعلاقتها التاريخية بشعب كوردستان؛ والعمل على إيجاد الفعاليات المشتركة تعزيزاً لهذا الاتجاه.
03. جمع القوى والإمكانات المتاحة، بتوحيد أبرز تلك القوى وجوداً ميدانياً وإدماجها بنيوياً والتحول من بنية حروب شعبية إلى بنية التدريب العسكري الرسمي لجيش الوطن.
04. التركيز على هدف رئيس واحد وعدم تشتيته: ويكون هنا الهدف الرئيس البعيد متجسداً بالاعتراف بوجود كوردستان شعبا وحضارة بهوية مستقلة على أن يخضع أسلوب التوجه إلى هذا الهدف الرئيس مع الإمكانات المتاحة فعلياً.
05. أنْ توظِّف الخطط الاستراتيجية عوامل الدعم وغيرها من مصادر الآخر وقدرات تموينه بخاصة في استثمار العلاقات الخارجية. وفي هذا الأمر سيكون عسكريا واجب التدرب على أسلحة الآخر ضروريا للتعاطي مع أية احتمالات مستقبلية.
06. ينبغي تعزيز الاستعدادات المعنوية والنفسية وتنميتها وتطويرها باستمرار بأساليب تستجيب للظرف المخصوص. وإعداد القوى العسكرية من جيش وشرطة لأية احتمالات ومفاجآت؛ وربما تطلب هذا إيجاد قنوات لخطاب تعبوي رسمي وشعبي بمستوياته الإعلامية والسياسية وغيرهما.
07. يتطلب التخطيط الاستراتيجي عسكريا أمنيا العمل على تثبيت خطط مستقلة تنهض بمهمة تقويض إمكانات الطرف المعادي بخاصة هنا قوى الإرهاب والقوى المخابراتية واختراقاتها والأصوات الإعلامية السلبية في موقفها من كوردستان. حيث يكون هذا بالإجابة عما يُثار بطريقة موضوعية تبني متاريس وتحصينات مناسبة ضد أفعال تخريبية للقوى المعادية.
08. توفير فرص المطاولة والغطاء المناسب والاحتياط الاستراتيجي لمجابهة حال امتداد زمن العمل لتحقيق الهدف مع قبول حالات التدرج في الوصول إلى أهداف مرحلية يمكن جمع تراكمها إيجابا بغاية تلبية الهدف الاستراتيجي في توفير مؤسسة عسكرية أمنية مستقلة قوية وقادرة على أداء أدوارها. مع التفكير بأنها ليست قوة للحرب وجها لوجه مع جيوش أخرى ولكن لمهام أخرى تتضمن معاضدة الفعل السياسي المستند لدعم وحماية دوليتين [دولية] بوجه أي اختراق محتمل.
09. عدم دخول مجابهة لا يتوافر فيها قدر كاف من المرونة وفرص المناورة وربما اضطرار في لحظة ما للانسحاب في موضع بقصد التقدم في مواضع أخرى، الأمر الذي يتطلب أيضا أخذ الحيطة والحذر من الجمود في الأداء..
10. إن من أبرز ما يلفت نظر المخطط الاستراتيجي انتباهه الدائم واحتراسه من الاختراقات وعمليات الالتفاف والطعن من الخلف كما هو حال الخلايا النائمة لقوى الإرهاب التي تهدد الأمن وكذلك الممارسات المستغلة من الأطراف الأخرى بوجودهم ربما الاستثنائي في الأرض الكوردستانية. وفي هذه النقطة سيكون موضوع الجهد الاستخباري حتمي وجد ضروري استثنائيا لمعالجة الأمر على أن يُستفاد من تعاون شعبي مخطط ومرسوم الفعالية.
11. تجنب ممارسة الخطاب الأمني المنفصم عن الشعب أو المتعامل فوقيا أو بأداء عنفي الخطاب.. وبديلا عن ذلك إيجاد فرص بناء العلاقة الإيجابية بين الأجهزة العسكرية والأمنية والشعب.
12. تجنب المشاركة في أحلاف متعارضة دوليا من دون ترك فرص التعاون باشكاله مع أطراف متعددة متنوعة بما يخدم استراتيجيا تقوية هذه المؤسسة بعيدا عن أية ورطة لاختلافات إقليمية أو عالمية.
13. تبادل الاستفادة من الوجود البنيوي في إطار الجيش العراقي والمؤسسة الأمنية العراقية بالقدر الذي تتيحه العلاقة الرسمية بأسس (كونفديرالية) وليس بأية أسس أخرى. نظراً للحالة الاستثنائية للإرث الموجود في طبيعة العلاقة بين الطرفين تاريخياً؛ ما يتطلب حرصا من الطرفين واستراتيجية تتفق ومنطق الاستقلالية المخصوصة للأجهزة الكوردستانية مع تمكينهما من أداءات تتعاضد حيثما كان ذلك ممكنا ومتاحا وفاعلا بنيويا أدائيا بعيدا عن طابع التبعية والفوقية في العلاقة، لحين توافر الأسس الدستورية والقانونية العملية لتطمين اتجاه أطراف العلاقة بأسس عادلة منصفة ومتفق عليها بالخيار الحر المستقل.
إنّ قضية الاهتمام باستراتيجية عسكرية مستقلة كوردستانيا باتت أكثر من ضرورة نظرا لما تتعرض له المنطقة من هزات خطيرة ونظرا لما تتطلع إليه المنطقة من مساهمة تستطيعها قوى البيشمركة لتطبيع الأوضاع وحمايتها عند الضرورة، على سبيل المثال في مناطق المادة 140 وفي مناطق ملتهبة عراقيا وفي غرب كوردستان.
ولابد هنا من اعتماد قضية تمويل البيشمركة بوصفها قضية جوهرية والاعتناء بتطوير بنيتها فديراليا ومنع أية حالات تحكم سلبية تضر أو تعرقل تقدم مهمة مأسسة الجيش والشرطة الكوردستانية. ومن الطبيعي أن توضع استراتيجيات تبقى بحاجة للتدرج حتى كوردستانيا داخليا في الانتقال المؤسسي التخصصي مهنيا لأن محيط كوردستان والظرف العام لا يسمح بحرق المراحل ويمكن الاتعاظ من تجاريب المراحل الانتقالية لدول الربيع التي أفلتت فيها الأمور بسبب من محاولة الانتقال المفاجئ ومرة واحدة وكأن القضية قضية قرار..
من جهة أخرى يبقى التطوير المهني والتسلح والمشاركة في إدارة الملف النظير في العراق الفديرالي أسا جوهريا لتحقيق الهدف الاستراتيجي المنشود بأسلم الطرق. مع الدفع الدائم لجعل المنطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل والبحث في توقيع ممثلي الشعوب التي تعرضت للانتهاكات الإجرامية على اتفاقات مخصوصة بقصد إدخال الاعتراف الأممي القانوني بحق وضع الخطط الدفاعية الاستراتيجية المناسبة.