من أجل مراكز

للدراسات الديموقراطية والماركسية في العراق

الدكتور تيسير عبدالجبار الآلوسي

أكاديمي ومحلّل سياسي \ ناشط في حقوق الإنسان

2004\ 03 \ 29

E-MAIL: TAYSEER1954@naseej.com

المتأمل في المشهد العراقي الجديد, يرى مقدار الحركية والتغير العاصف بخاصة على صعيد التعبير عن رؤى الجمهور وكذلك عن النخب السياسية والاجتماعية المتخصصة. وفي ظروف خاصة يمر بها العراق من قلق الأوضاع العامة وعدم استقرارها وفي ظل ظروف الصراعات المحتدمة يطفو على السطح كمّ من التلون والطيف المتنوع من الحركات الفكرية والسياسية.

وحقيقة ما يجري من فوضى واصطراعات وحالة التشظي الكبير وولادة عشرات الأحزاب والمنظمات وعدد ضخم من الصحف والمجلات يعني فيما يعنيه وجود مرحلة انتقالية حادة مأزومة ومحمّلة بكم هائل من التساؤلات, ما يفرض وجود مراكز للدراسات وقراءة حركة الواقع وتوضيح معالم الطريق لعامة الناس.. بل حتى للمتعلمين والمثقفين فالجميع بحاجة للدراسات التوضيحية والاحصاءات والمتابعات اللازمة لفهم معطيات الوضع الجديد...

ومراكز الدراسات والاستقصاءات والاحصاءات المنتظرة, لها أكثر من سبب لضرورتها بل لحتمية التعامل بوساطتها وإلا فـَقـَدَ المجتمع توازن حركته وصواب مساره وفـَقـَدَ من الجهود الشئ الكثير قبل أنْ يستقر على مسار موضوعي صحيح. فطبيعة المستجدات تفرض تقديم الاحصاءات بين يدي الدارسين لتعينهم على وضع الاستنتاجات الصحيحة الصائبة ... كما تفترض الحصول على رؤى المتخصصين ومعالجاتهم بما يعرض جملة من التصورات المتنوعة وحتى المختلفة المتقاطعة لتترك الخيار للجمهور كي يختار ما يراه مناسبا ومقبولا لحلول توافق ما يريد وما يتطلع إليه...

أما ما نجده شائعا اليوم فهو أرضية من الدجل والقراءات التي تتمظهر بكونها دراسات ومعالجات علمية أو موضوعية ولكنها في جوهرها ليست أكثر من خطاب أسطوري يتخفى تحت أقنعة وبراقع مختلفة ولكنها في أغلب الأحوال تضليلية لا تستند إلى أية قيم علمية بل إلى معطيات المسلَّمات البدهية المفترضة مسبقا.. من هنا كان للخطاب الديني [المسيَّس] اليوم صوته المعلَّى قسرا, حيث لا يبدو منه للمتلقي إلا ما يدعم سلطة كهنوتية غيبية تخدم الأغراض الاستغلالية بعيدا عن المناقشة فيما ينفع الناس ويساعدهم في حيواتهم المتعبة المنهكة المستنزفة...

ولعل فوضى الوقائع والأحداث تجري في إطار من تشظِ ِ مرضي واضح, وهو ما يدفع بالواقع إلى مزيد من العتمة وعدم الوضوح؛ حتى تستعصي الأمور وتستشكل ليس على الجمهور فحسب بل على قوى التنوير والتقدم في المجتمع العراقي الجديد. إذ كيف يصل إلى المتلقي صوت إذا كانت الأصوات تحسب بالعشرات والمئات ومنها ما هو تشويشي تضليلي ما يجعل تداخله مع الأصوات الإيجابية اتلافيا معرقلا للتواصل بنائيا...

في ظل هذه الأوضاع وفي ظل متغيرات معروفة بخاصة منها إمكانات متاحة للعمل العلني وفي ظروف ليس فيها من المنع والمصادرة بالطريقة التقليدية للحكم الدكتاتوري, طريقة الموت والقتل والاختفاء لأصحاب الفكر والرأي, في ظل مثل هكذا ظروف ليس من مناص إلا أنْ تتوحد الجهود لتأسيس مركز للدراسات الديموقراطية يجمع في ظلاله كل المراكز التي حملت هذا الاسم جوهريا وعن إيمان صادق بالعمل الديموقراطي وفلسفة الديموقراطية أو على الأقل أنْ يتم َّ دعم تلك المراكز التنويرية وتقريب الجهود تنسيقيا فيما بينها...

لكن الأكثر تقدما بخاصة فيما يخص قوى اليسار العراقي هو حاجتها الماسة والعميقة لمركز للدراسات الماركسية في ظروف الهجمة على كل ما من شأنه التعبير عن منهجية التفكير العلمي الموضوعي وكل ما من شأنه التعبير عن قيم التنوير والانفتاح والتحرر الاجتماعي والتطلع إلى غد أفضل. إذ تنهض قوى ظلامية معروفة بمهاجمة أي تفكير صائب علمي يقوم على منطق التحليل الموضوعي القويم..

وذاك الهجوم لا يقف بحدوده عند العراق ولا يقف بحدوده عند الشيوعيين أو الماركسيين بل يستهدف هؤلاء في البدء ولا يكتفي ولا ينتهي بهم بل لينتهي بآخر معاقل الفكر العلمي من غير الماركسيين أو من عامة اليسار وقوى التقدم.. ومن الطبيعي أنْ تجد جميع القوى التنويرية وقوى التقدم واليسار اليوم في مركز للدراسات الماركسية في العراق مهمة ذات حساسية جدية وذات تأثير خطير الشأن في الحياة الثقافية وفي فلسفة وفكر نيرين يحتاجهما واقعنا المباشر أكثر من أية لحظة تاريخية سابقة مرَّ بها العراق من قبل...

أما إذا انتقلنا من محددات ضرورة مركز الدراسات الماركسية إلى مَن يقوم بهذه المهمة؟ فإنَّنا يمكن أنْ نحيل الأمر إلى ضرورة عقد ملتقيات متعاقبة واجتماعات عدة بين المفكرين الماركسيين في العراق وبين طلائع تيار اليسار في الفكر والفلسفة بما يؤدي إلى وضع آليات إنشاء المركز...

وقد لا يكون من الصحيح التعويل على حزب سياسي بعينه لهذه القضية, وإنْ كان من الصحيح طلب الدعم والعون بمقدار مناسب لا يربط المركز بقرارات الحزب المعين.. ولا يكون من الصحيح اعتماد الجهد الفردي من جهة ولا المبادرة الفردية المقصورة القاصرة بل ينبغي التوسع بالاعتماد على الجهد الجماعي التعاضدي وعلى التفاعل بين المفكرين المعنيين بالأمر...

ويمكن لصحيفة أو دار للثقافة مع مجموعة من الصحف والدور المتخصصة بنشر الثقافة والكتب والبحوث أنْ تدعو لمؤتمر عراقي بالخصوص مستعينة بمراكز الدراسات الماركسية واليسارية على الساحتين الإقليمية والعالمية. ومن الصحيح الإشارة هنا لحجم صحيفتين عراقيتين مهمتين كطريق الشعب بتاريخها اليساري العريق وبكل ما تحمله من خبرات وطاقات والجريدة الأخرى هي صحيفة المدى العراقية بما لديها من أرضية متينة ومؤسسة ثقافية يسارية أصيلة...

ومن الطبيعي أنْ تكون صحف ومراكز ومؤسسات ودور نشر أخرى موجودة لتأخذ دورها الجدي الفاعل في مثل هذه المهمة الكبيرة. لكن المنتهى من المقترح هو ولادة صحية صحيحة وصادقة لمؤسسة بحثية تلتمع عبرها طاقات البحث العلمي "اليساري الماركسي" المتخصص أو الأكاديمي.

وليتأكد مثل هذا الفعل التنويري الكبير فلابد من أنْ يولد بطريقة نوعية مميزة وألا يكون التسرع والتسابق المخصوص ديدن بعض الأطراف في ذياك العمل الذي ينبغي أنْ يحرص الجميع على تحقيقه بحجم الفعل المنتظر منه .. لأنَّ ولادة متسرعة أو بها من الثغرات الشئ ولو القليل يمكن أنْ تجعل الولادة متعسرة أو تجعل المشروع ميتا قبل ولادته...

وكثيرة هي المشاريع المنتشرة هنا وهناك بلا أرضية قوية بما فيه الكفاية, ما يعني بعثرة الجهود من جهة وإضعافها وتشتيتها من جهة أخرى بما لا يأتي منها التأثير المنتظر.. وعلى أية حال فهذا المشروع المركزي الكبير يجب أنْ يولد لمصلحة متغيرات وطنية عميقة وجدية ولمصلحة مكافحة سطوة الظلمة والفكر التضليلي البائس..

فيما سيكون من حق كل طرف بل من واجبه أنْ يؤسس مركزا خاصا به للتخطيط والمدارسة والبحث, كما أي إعلام يحترم قيمه ودوره وكما أي صحف تنتظر التقدم والحصول على المكانة الأولى بين صحف الغد حيث تكون جريدة كل الناس وليس جريدة الحزب وجمهوره أو المؤسسة وأصحابها فقط لا غير...

وقد يكون للدوريات الثقافية دورها الأهم على صُعُد الدراسة والملفات البحثية المتنوعة... على أية حال هذه رؤى أولية لمن يمكنه القيام بهذه المهمة والنهوض بتأسيس المركز المقصود. وآلية العمل كما أشرنا للدعوة إلى عقد مؤتمر مخصوص للإعلان عن المركز البحثي المرتجى...

فهل ننتظر الملتقى ومن يبادر إليه أم نبدأ بالمبادرة الفردية لننتظر النمو والتدرج شيئا فشيئا؟ أجد المسألة أنْ تبدأ نوعيا وبحجم أكبر وأهم أفضل من التسرع على الرغم من كون الحال صار ملحا في طلب مراكز الدراسات الجادة العلمية.. على أنَّ مراكز البحوث والدراسات الجامعية في ظل الظروف الجديدة في العراق يمكنها هي الأخرى أنْ تنفتح على مختلف تيارات الفكر والفلسفة لتساهم بنصيبها المنتظر من أجل مساحة تنوير أوسع لمصلحة مجتمع السلام والديموقراطية وحقوق الإنسان بعيدا عن أشكال المصادرة التي عشناها طويلا ونتوجس من مجابهة خطيرة جديدة معها في ظل ظواهر التكفير ومصادرة اليسار بحجج وذرائع واهية ليس فيها من حقيقة إلا معاداة الإنسان وحقوقه...

ها نحن نتطلع ونتداول الرأي وعسانا نصل بغير تأخير للمتلهفين لدراستنا الجدية التي ليس لها من معيار إلا الحقيقة كما هي حيث الإنسان وحقوقه والإنسانية ومصالحها...