السياسة الدفاعية في العراق الفديرالي
بنية الجيش العراقي الجديد: شروطها، مهنيتها واستقلاليتها
باحث أكاديمي في العلوم السياسية
منذ العام 2003، شهد العراق الفديرالي جملة من الأحداث الكبيرة والقرارات التي حاولت رسم بنيته الجديدة من جهة وتوجهه على وفق خيار الشعب العراقي الذي تبنى الفديرالية في إطار نظام ديموقراطي. لكن طبيعة قرارات السلطة الانتقالية وإدارتها ومن ثمّ السلطة الاتحادية ببغداد لم تأتِ دائما على وفق هذا الخيار وما يخدم التقدم به. فكان حل المؤسسات عشوائيا ومن دون بدائل جاهزة لتسلم المهام، شكَّل خللا وثغرة غير هيّنة. مثلما كان التراخي في بناء المؤسسات البديلة وما اكتنفها من فساد وعدم وضوح رؤية وافتقاد الاستراتيجية الصحيحة سببا آخر في تعقيد المشهد.
وبقدر تعلق الأمر بالسياسة الدفاعية للعراق الفديرالي فإن جملة أخطاء مازالت تتكرر في الأداء. وهي تحاكي ببعض تفاصيلها ما كانت تحاوله السلطات من إخضاع المؤسسة العسكرية للخطاب الحزبي الضيق وتجييرها لتكريس سياسات بعينها بعيدا عن مهامه تلك المؤسسة المستقلة في المحافظة على السيادة والسلطة الدستورية بمفهومها الأشمل. وربما نجحت بعض القوى التي مرت على حكم البلاد منذ عشرينات القرن المنصرم في فرض القيادات العسكرية التي تأتمر بما تريد ولكن الأمر لم يكن طوال تلك المراحل بعيدا عن تأثير القوى الوطنية ودورها المنادي بمأسسة الدولة ووضعها بإطارها الدستوري ومهامها المحددة فيه ومنها القوات المسلحة.
وهكذا ندرك معنى زج الجيش في مرات عديدة بمعارك السلطة ومن يتحكم بها ضد الإرادة الشعبية كما تمّ وضعه في معارك خاسرة مع مكونات الشعب وثوراتها التحررية مثلما حصل في الاعتداءات والجرائم المرتكبة بحق شعب كوردستان عبر عقود خلت! وربما طفا اليوم بعض ممارسات تشبه الأمسين القريب والبعيد!!
وما كان هذا ليتم لولا التدخل الحزبي لقوى السلطة الغاشمة في استبدال القيادات العسكرية وفي بنية الجيش وتركيبته وفي العقيدتين السياسية والعسكرية المشوهة؛ بالتقاطع مع القيادات النزيهة والمسلكية وتلك التي تمتلك الخبرتين العلمية المهنية والعسكرية الحرفية. أما ما يتكرر اليوم فهو أولا في تلك السياسة الدفاعية التي تقوم على عسكرة المجتمع من جهة بخلاف الاتجاه المدني المؤمل لعراق يراد له أن يتجه ديموقراطيا فديراليا وعلى العودة لتضخم كمي لأعداد القطعات ومنتسبيها من جهة أخرى. فضلا عن إخضاع إدارة الجيش لسلطة حزبية ضيقة ولقيادة فردية لا تؤمن بالعمل المؤسسي المهني وهي تزج بالجيش في الصراعات السياسية بطريقة ربما تورطه في مزالق خطيرة وقد تحوله لقوة غاشمة مجددا أو تزيد من تشرذمه وهزال وجوده ليتحول لعصا أو ميليشيا لقوة حزبية أو لسلطة متحكّم بها خارج المسار الدستوري.
إن هزيمة النظام السابق لم تمنع قوة بعينها اليوم من تكرار وهْم فرض أيديولوجيا سياسية بعينها على القوات المسلحة وحزبنة الجيش بل إدخال التقسيمات الطائفية التي دعت القائد العام للاعتراف بوجود حالات من التمرد والانقسام ومن عصيان الأوامر العسكرية. وبدل وضع الأصبع على الداء من أجل المعالجة يجري ترحيل الأسباب ووضعها على كاهل الآخر، بينما تسطع الوقائع بالأسباب التي وقفت وراء الخطل في السياسة الدفاعية وبناء الجيش متمثلة بالآتي:
1. إدخال عناصر لا تؤمن بالمهنية العسكرية ولا تصلح لها لأسباب ليس هنا موضع التفصيل بها.
2. إدخال الخطاب الطائفي سواء في بنية التعيينات أم في فلسفة توجيه القطعات وخططها وسياساتها...
3. إجراء ترقيات عسكرية لا تستند إلى التدرج المهني والخبرات الحقيقية ولا تلتزم بالشروط المخصوصة لتلك الترقيات.. ويمكن لأي متابع أن يرى العجب العجاب في مثل هذه الحال. فقبيل سنوات معدودة طالعتنا شخصيات عسكرية برتبة ملازم من دون امتلاكها لكفاءات تلك الرتبة ولكن الأنكى ما نجدها عليه اليوم بطفرة واحدة تحمل رتبة لواء أو غيرها من الرتب العليا فضلا عن منح عناصر أخرى رتبا منذ أول دخولها للجيش...!!!
4. إدخال عناصر ميليشياوية في الجيش بحجة وبغيرها.. ومعروفة الفروق بين طبيعة الجيوش وتركيبتها وتدريباتها وبين طبيعة الميليشيات وتركيبتها وأهدافها أيضا... فكيف يمكننا التعويل على مهنية الجيش بوجود تلك العناصر الميليشياوية؟
5. الاتجاه لفرض قيادات حزبية محددة على القطعات المختلفة عبر إدخال العناصر السابق ذكرها ومنحها الرتب العسكرية التي تتناسب ووضعها في المسؤولية التي يريدها هذا الزعيم أو تلك القيادة...
6. إهمال الاستخبارات العسكرية وفسح المجال لاختراقات أجنبية عادة ما تطالعنا الخطابات الحكومية بتبريراتها العرجاء في إبعاد فرد أو آخر بعد افتضاح أمره لأبناء قواتنا من الذين انتسبوا عن إيمان بقضية الوطن والشعب...
7. إجراء التدريبات على وفق الأجندات الأجنبية وعروضها. فكل تبرع من أية دولة ومن أية جهة يُستجاب له بلا مقدمات ولا شروط إلا دواعي استغلال فرصة لتلقي تدريبات من دون التفكير في خلفية تلك العروض واحتمالاتها... طبعا في وقت لا توجد استراتيجية للتدريبات ولمناهجها المختارة بما يلائم العقيدة العسكرية المنتخبة.
8. التعامل مع دول تقليديا ما زالت تمتلك أجندات تتعارض والمصالح الوطنية العراقية وهي لا تخفي أهدافها تلك وإنْ تسترت أحيانا بذريعة النظام السابق وبقاياه...
9. طبيعة التسليح العراقي الراهن وحجمه ونوعيته وهنا ليس الحديث عن محددات ما بعد الحرب ولكن عن ظواهر فساد خطيرة طالعتنا بها جهات عراقية عديدة وتحدثت عن (خردة) غير صالحة للاستعمال يجري تصريفها على حسابنا وبأموال طائلة؛ فضلا عن كبريات الفضائح التي جرى ويجري طمطمتها ولو حصل جزء منها في دولة تحترم شعبها لأطاحت بالحكومة برمتها ولأدخلت أبطالها خلف القضبان.. مثلا صفقات السلاح مع روسيا وغيرها.
10. ترك متابعة ما جرى للسلاح العراقي من طائرات جثمت في بلدان مجاورة ومن عتاد ثقيل تحديدا لم تعلن الجهات الرسمية عن خططها في التعاطي مع القضية فيما هي تثير الأمر لمآرب مبيتة في إطار العراق الفديرالي... !؟
11. إهمال التعاطي مع مشكلة حصر السلاح بالجيش العراقي فقط. وترك الأمور بلا حلول جذرية حاسمة، أو سبهللة بيد من هب ودب ممن يطلق على نفسه مسمى جيش وميليشيا وما شابه.. ومثالنا جيش المهدي والميليشيات الحزبية التي نشأت وتدربت وتجهزت وما زالت تتسلم مرتباتها من دول إقليمية معروفة والأمر لا يقف عند المرتبات تخترقها عناصر من جيش القدس الإيراني مباشرة... دع عنك عديد القوات أو العصابات اللاعبة هنا في التقتيل والتخريب مع قرار صدر مؤخرا بشرعنة تسليح المواطنين وبعض قوى عشائر بعينها!!...
12. للظرف العراقي الخاص يُكلَّف الجيش اليوم بمهام فعلية لا تدخل حرفيا أو مهنيا بين واجباته المباشرة كما في أعمال وواجبات خاصة بالشرطة الوطنية وهو هنا لا يقوم بمهام مساندة بل بواجبات ميدانية كاملة تتطلب تدريبات مختلفة عن تلك التي يؤديها وتؤديها الجيوش التقليدية... وفي ضوء هذه الحقيقة يقع الجيش اليوم في مطبات غير محمودة العواقب إذا ما واصلت السياسة العامة زجه بهذه الطريقة التي لا تنتبه لطبيعة المهام ولا إلى متطلباتها وشروطها ونتائجها البعيدة...
13. يجري تحميل بعض القطعات واجبات أكثر من طاقتها وطبيعة تدريباتها وتُستخدم أسلحة في ميادين غير ميادينها ما يوقع ضحايا أبرياء من المواطنين ومن الجيش وقد حصلت أن طالعتنا الأنباء بمثل هذه الحقائق وجرى طمسها ووقف الحديث عنها للملمة من يقف وراءها وتحديدا القيادة العامة للقوات المسلحة بشخص القائد العام والقيادات الميدانية التي منحت الرتب بلا استحقاق عسكري..
14. جرى ويجري الإصرار على استخدام الجيش في فرض أجندات جهة حزبية وزعامة تتحكم بالحكومة الاتحادية ببغداد وتضعه بمجابهة مع قطاع آخر منه ممثلا بالبيشمركة فمن جهة تعرض البلاد لانقسام خطير ومن جهة أخرى تمعن في استبعاد قوات البيشمركة من الموازنة الاتحادية ومن التفاعلات المؤملة لوحدة القطعات في إطار سياسة اتحادية سليمة يتفق بشأنها الجميع من المعنيين بالقضية..
إن جملة هذه الأوضاع الخاصة بمسيرة بناء الجيش العراقي وتحديد السياسة الدفاعية الملائمة للعراق الجديد، تفرض علينا وتحديدا على الهيأة التشريعية أن تُلزم الحكومة الاتحادية بالآتي:
1. تحديد دور القائد العام بالقرارالذي يجب أن يلتزم برأي قائدي الجيش المباشرين وهما رئيس الأركان ووزير الدفاع ومنع التدخلات المباشرة من القيادات السياسية من مثل تلك التدخلات التي تتجاوز الصلاحيات وتخترق الأوضاع بما يعطل المسارات الصحية الصحيحة للقوات المسلحة..
2. منع الانتماء الحزبي للعسكري طوال مدة خدمته ومنع أية تدخلات حزبية وقطع الطريق على فكرة التركيبات الطائفية والمحاصصات في القوات المسلحة وتثبيت مبدأ الوطنية وحماية الأمر دستوريا...
3. منع إدخال الميليشيات كافة في السلك العسكري وبلا استثناءات لأي سبب على المدى الاستراتيجي ومعالجة الأمور في المرحلة الراهنة بشأن أية ظروف مخصوصة في أقاليم البلاد. بما يستجيب للتطورات الدستورية ولكفاءة عمل الجيش العراقي... ويمكن أن يُتاح لدخول أعضاء تلك الميليشيات للجيش بصفة فردية مع توافر الكفاءة وبنفس الشروط التي يخضع لها جميع العراقيين من دون تمييز وهي شروط العسكرية ومتطلباتها وفروضها.. مع منع تحويل الجيش لمؤسسة استيعاب العاطلين الأميين وخلق بطالة مقنعة مع هزال منتجها المهني.
4. مكافحة الفساد وأشكاله سواء في التعيينات أو الترقيات أو العقود الخاصة بالتدريب والتسليح وغيرهما.. وتشكيل لجان تحقيق برلمانية ووطنية عليا لمتابعة ما افتضح من الصفقات الكارثية الأخيرة، وإلزامها بأسقف زمنية للعمل؛ على أن يتحمل القائد العام مسؤولية الاعتبارية تجاه مثل هذه الصفقات الفاسدة الكارثية.
5. الارتقاء النوعي بكفاءة الجيش العراقي واعتماد العناصر الوطنية المدربة بهذا الشأن أو استقطاب الخبرات الموجودة ولو في الشؤون المتاحة بعيدا عن إعادة العناصر المعنية إلى أية قيادة في الجيش.. وسيكون من أول عناصر قوته وحدته بتغطية موازنة قوات البيشمركة بوصفها جزءا رئيسا وفاعلا فيه وتدريبها على الأسلحة الثقيلة والمتوسطة أسوة بقطعات الجيش العراقي كافة. ومثل هذا الاتجاه سيؤكد مسيرة الثقة بين مكونات البلاد وسيمنح قوة للعراق الفديرالي وآلية إدارته الجديدة.
6. الانتباه لجهة التدريب والتسليح ولشروط التعاقدات في المديات القريبة والبعيدة مع الأخذ بالعقيدة العسكرية المتبعة في الجيش العراقي طوال مراحل وجوده، بما يقدم المصلحة الوطنية ويعليها.. ولا يمثل التنوع في جهات التدريب أمرا شكليا ولكنه ينبغي أن يؤخذ في منهج العقيدة العسكرية وطابعها وما يتطلبه، وليس بخيارات كيفية عشوائية.
7. تشكيل لجنة و\أو تفعيلها بشأن أسلحة الجيش العراقي وأين تسربت في دول الجوار وغيرها، ومتابعة الأمور لتطمين حقوق العراق ولحين حل آخر ما يتعلق بهذا الشأن..
8. مراجعة قائمة التعيينات السابقة منذ بداية تشكيل الجيش الجديد ومراجعة الرتب العسكرية على وفق السيرة الخاصة بكل رتبة وإعادة دراسة الموقف واقتراح ما تراه القيادات التقليدية المعروفة بمسلكيتها وحرفيتها أو مهنيتها العسكرية الأمينة..
9. ألا تكون الخطط الدفاعية مقصورة على شخص القائد العام وأن تتم دراسة خيار العقيدة العسكرية ومناهج العمل وخطط الجيش وتوجيهه في نطاق القيادة العامة بتفعيل أدوار الجميع بخاصة منها التركيبة الفديرالية التي تأخذ بعين الاعتبار الوضع المخصوص لكوردستان.
10. منع تشكيل وحدات تتعارض وما أقره الدستور بشأن الوجود الفديرالي وتحتمل إثارة الانقسام مثلما حصل بتشكيل قوات دجلة . ومنع تحريك القوات بطريقة عبثية أو فردية التحكم بما يخلق القلاقل الداخلية.
إن إدارة الاستراتيجيات الخاصة بالسياسة الدفاعية تتطلب جهة مؤسسية قادرة ومتمكنة وجاهزة لمنطق العمل المعقد الذي وصلت إليه الجيوش في عصرنا. وإذا كان صحيحا أن العراق الجديد يقف بعيدا عن السياسات العدوانية تجاه جيرانه والسلم الإقليمي والدولي فإنه من الصحيح ومن حقه أن يُنشئ جيشا محترفا قادرا على حماية سيادته وممارسة مهامه المخصوصة.
وبخلاف مثل هذا النهج الوطني المنتظر وفي حال استمرار التذرع بأننا ما زلنا في مرحلة تاسيسية وبأننا ينبغي أن نمرر هذا الأمر استرضاء لهذا الطرف وذاك تطمينا لموافقة ذاك الآخر، فإن القضية تضع البلاد على كف عفريت واستقبال عواصف بل إعاصير لا تترك خلفها سوى قفر من الخراب والمتاهات.. فوجود جيش وطني حقيقي هو الحامي الأمين للسيادة ولحق الشعب في الحياة الحرة الكريمة بلا عبودية أو تبعية كما يحصل اليوم من اضطرار لقبول مرير بهزال جيش وعدم جاهزيته بعد أن كان الجيش السادس في العالم لما قبل سنوات!
إنَّ هذه المعالجة المتواضعة التي تهمس بودية في أذن ساسة العراق الجدد ببغداد، ستتحول إلى صرخة مدوية لا تقبل غدا حال الصمت والطمس؛ فشعبنا ما عاد يقبل أن يتسيد عليه فرد ومن يتحدث عن مجيئه بالانتخاب عليه أن يتذكر أن الانتخابات ليست بيعة أبدية كما كان يمرر الطاغية وأن الدورات الانتحابية آتية وفيها سيؤكد الشعب خياره في العملية السياسية التي حسم أمره لصالحها ولكنه هذه المرة سينهض بمهمة جديدة تتجسد في تطهيرها ومعالجة الخيارات بما تمليه مشاهداته ومعايشته التي ذاق فيها الأمرين والجيش ليس أي فئة من الشعب فهو عامل الحسم والمبضع الذي تكمن مهمته في بتر كل فاسد يشخصه الشعب وسيكون من بين ما يحدد خيارات وممارسات الشعب وقواه الوطنية الديموقراطية.. فحذار من التهاون مجددا .. ولابد من العودة إلى توكيد إقرار استقلالية مؤسسة الجيش وحرفيته وبشروط وجوده وطنيا، مثلما أهمية البرهنة عمليا على مهنية وحرفية كثير من المؤسسات وحماية استقلاليتها. وضبط ألا يكون مجددا وسيلة تهديد لأي مكون أو طيف مؤتلف في العراق الفديرالي التعددي الجديد. ..