الوضع العراقي اليوم أكثر تعقيدا من لحظة التغيير الراديكالية التي وقعت قبل أكثر من عقدين ومنظومة الحكم والبنى الطبقية تعرضت في ضوء الزلزال لهزات ومتغيرات جوهرية تم فيها تبني و\أو استيلاد بنى طبقية مشوهة سواء باتجاه مفاهيم التطييف من الطائفية أم فروض العشائرية القبلية ومنطقها بجانب ظهور كربتوقراط رجال التدين الزائف وفرض سلطتهم بأسس إعلاء (القدسية) التي تغازل البُعد الروحي عند جمهور بعينه ربما واسع بحجمه، ممن جرى استلابه ومصادرته وإجراء غسيل العقل بأضاليل لا علاقة حقيقية لها بدين ومعتقد.. المهم والخلاصة ماذا يثار اليوم بشأن الانخراط بأجواء رسمية تعتمد تشويهات في القوانين ومصائد ومزالق هل يمكن العمل في إطارها بطريقة تعتمد المنطق الإصلاحي أم ينبغي اتخاذ إرادة التغيير سبيلا للعمل وهل يمكن الجمع بين المسارين في العمل السياسي أم سيكون ذلك انزلاقا نحو الإصلاحية ومصافحة قتلة إرادة الشعب في تقرير المصير!!؟ هذه بعض ومضات موجزة تركز على الحزب السياسي ومعطيات عمله وربما تركز على نموذج أو مثال الحزب الشيوعي على وفق طروحات التأسيس وربما محاولات اليوم وهي تبقى مجرد أسئلة للحوار وليس فيها ما يقف بوجه رؤية أو أخرى بقدر ما يسعى لتعميق المناقشة والحوار
أسس ولادة الحزب السياسي واكتساب شرعية العمل وهويته
د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
ينبغي بدءاً التذكير بتاريخ العراق بعد سقوط بغداد وبروز أشكال الاحتلال التي عانى منها؛ من مغول وغيرهم وما خلفّه الاحتلال العثماني في التركيبة الاقتصا اجتماعية بالمستوى المحلي. ثم طابع المتغيرات بخاصة الفكرية التي باتت تخترق الواقع الاجتماعي وتمنحه حراكا تنموياً، رافقه بالضرورة تنامي الحركة السياسية وقدرات المعارضة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى ودخول البلاد باحتلال جديد.
لقد وفّر الاحتلال الإنجليزي مناخاً ولو أنه كان هزيلاً، إلا أنه منح فرصا من الحرية النسبية بخاصة مع تنامي مطالب محلية باستقلالية للبلاد وحكماً ديموقراطيا منشودا. فجاء تنصيب الملك وفي العام التالي تمَّ سنّ قانون الأحزاب السياسية وذلك في تموز 1922 المعمول به حتى تحولات أخرى منتصف ثلاثينات القرن المنصرم. وهذا هو المناخ السياسي الذي يمكن لقراءة عجلى موجزة أن تشير إليه هنا..
من جهة أخرى وجدنا أن المجتمع العراقي المحلي، بدا أكثر انشغالا بالوطني في جوهر خطابه السياسي بظروفٍ فرضتها المتغيرات بين احتلالين وخصائصهما؛ لكن ذاك المتغير، فرضَ أيضاً، هويةً طبقيةَ للحراك الاجتماعي العام.
هنا كان بروز النضال ضد الفقر وما وقف وراءه قد أوجد وضوحاً أكثر لصراع الطبقات واصطدام مصالحها بالمستوى المحلي؛ من دون إغفال دور المستعمر في الصراع بالمستوى الخارجي الدولي أو مرجعيته في الصراع الدائر محلياً..
ولأنّ أي مجتمع طبقي، يتسم باختلاف طبقاته واصطدام مصالحها، فقد كان لابد لنا أن نرصد الاختلاف بين من عبَّرَ ويعبر عن تلك المصالح ويجسدها ويلبي تمكينها في الحياة الجمعية.
ومعروف أنه في النظم الليبرالية أو ذات الخيار الديموقراطي (الليبرالي)؛ يعبر الحزب السياسي عن تلك المصالح ويدير صراع طبقات المجتمع ليكون بصورة سلمية، بمعنى ممارسة العمل السياسي بالدعوة والجدل وعبر محاولة إقناع جمهور الناخبين لاختيار مرشحي أيِّ حزبٍ وما يعرضونه من برامج ترتبط بتلبية مطالب جمهور الحزب المعين.. علما أن هذا التصور هو ما يؤكد أن ولادة الأحزاب بصورة عامة لا تأتي لا بأوامر فوقية مفتعلة الذرائع والمبررات ولا بمزاجية تخدم المصالح والرؤى الفردية بمنطقها ونهجها، وإن وُجِدت تلك الأحزاب فإنها توجد بمراحل (انتقالية)، تخضع لمنطق الأوضاع الطارئة من جهة وتجسد فعليا حال التشوهات في قراءة أسباب ولادة الحزب السياسي وأدوات تعبيره وعمله ربما كان المثال أو النموذج العراقي مؤشراً لما نذهب إليه هنا..
ومجدداً فإنَّ الوضع العراقي بعشرينات القرن الماضي قد بدأ بتشكيل قطاعات اقتصادية جديدة بالارتباط مع تجاه مشروعات التحديث النسبية؛ حيث قطاع الطرق والمواصلات والسكك الحديد والموانئ ومن ثمّ اكتشاف النفط وتعدينه واتساع مشروعات الكهربة والماء وتنامي المدن الذي دفع لنمط جديد من الخدمات البلدية وكل تلك القطاعات رفقة المنظومة الاقتصادية البدائية بجانب الفلاحة ونمطها؛ الأمر الذي خلق فرصاً كبيرة لولادة بذور النقابات المهنية.
وبجانب ذلك كانت بدايات التعليم بنهج أكثر تقدماً من ذاك الكتاتيبي العصمللي وفيه البعثات التي درست خارج البلاد حيث بتنا نشهد من عناصر الثقافة والفكر التنويريين دوراً بارزاً مشهوداً؛ فرديا عبر تلك الشخصيات المتعلمة المثقفة وجمعيا عبر ملتقيات ومنصات أو جمعيات بتلك المراحل المبكرة من عمر الدولة العراقية..
ولا ننسى حجم الإشعاع الذي قادته الحركة الاشتراكية الديموقراطية، عمالية الهوى والهوية.. وأكدته ثورة أكتوبر 1917 مع انعكاسات جدية ملموسة تأتت من الاتصال بولادة أحزاب اليسار، بالتحديد كما حدث بلبنان ومصر وغيرهما.. وكل ذلك منح النخبة العراقية استعداداً إيجابيا نوعياً، في تشكيل الخلايا الأولى لليسار العراقي بجانب القوى الحزبية التي مثلت طبقات مستغِلة بحينه.
ومع كل تلك التحولات إلا أنّ تكسير العلاقات الاجتماعية التقليدية وتنامي الكفاح ضد ظلام ما كانت تعيشه؛ بخلفية انبثاق وعي طيب ملموس، اكتشف العلاقة بين المستغِل وسلطته السياسية و\أو الاجتماعية؛ أؤكد أن هذا كان الأداة الأخطر بيد فقراء الوطن للشروع بالتقدم أكثر نحو تنظيم يتناسب وتطلعاتهم..
لقد كانت تلكم الممهدات الاجتماعية والسياسية والفكرية البذرة الأعلى دوراً في التوجه نحو تأسيس الحزب السياسي اليساري الذي يحمل هموم تلك الطبقات ويجسد كفاحها من أجل العدالة الاجتماعية.. ومن مجمل الشخصيات المتنورة الواعية والخلايا الأولى وبعض نقابات مهنية تشكلت لجنة مكافحة الاستعمار والاستثمار في ربيع 1934 لتعبّر عن أول حزب سياسي يمثل نوعيا حركة عمالية الهوية والأدوات مثلما يطبع البرنامج ومفردات نهجه بتوجهه الكفاحي الجذري.
ما يهمني أن أشير إليه في الوضع العراقي أن التعبير الطبقي للحزب يبقى جوهريا في قراءة برنامجه وفكره ونهجه ما لا يمكن قبول أية تحولات تضعه في التباس أو خلطة تتيحها بقية الطبقات وأحزابها بخلفية النهج الذرائعي المعبر عن المصالح والمعالجات النفعية العابرة..
أؤكد أهمية الالتفات إلى أن التعرف لهوية اأيّ حزب وأسس وجوده تبقى ذات أولوية قصوى لمنع التلاعب بتوجيه الجمهور نحو قفص الخديعة واستلابه ومصا\رة حقه في خياراته الراهنة والمستقبلية.. وهنا ومن دون أن أقف شخصيا مع طرف أو آخر [من باب عدم الشخصنة والتمسك بالموضوعي في هذه القضية] أسجل ضرورة تعرف الجميع إلى تلك الهوية لأنها المقدمة الأولى للديموقراطية وأسس الاختيار الأنجع والأنضج وبخلافه تسود الأضاليل وتستبيح التلاعبات مخادع آمنة مطمئنة لتمعن في تبرير جرائم الاستغلال.. |
فمثلا يلاحظ استحداث مئات الأحزاب بمسميات تقترب من الهزلية في الأداء السياسي مما جرى ويجري في عراق ما بعد 2003 وهنا لا تتوقف هذه القراءة عند الظاهرة ولكنها تؤكد انعكاس التشرذم والتشظي والاختلال البنيوي في فهم الحزب السياسي وهويته وطابع اشتغاله وتعبيره ومن هنا تحديداً، فإن هذه التعددية المنفلتة من عقالها المنطقي تشوش على الجمهور وتختلق قيوداً مضافة لفصله عن البعد الطبقي للحزب بل وكل الأبعاد الأخرى الوطنية منها وغيرها لكنها لا يمكنها أن تخفي الطابع النفعي والعابر لهويتها والمراوغ كثير التقلبات على وفق الأهواء وخدمة من وراء وجوده في غاية استيلاده..
ولإنَّ التركيبة الطبقية للعراق ما بعد 2003 مزقت المجتمع العراقي وشوهته بين تركيبة طائفية وبين استدعاء التركيبة العشائرية فقد طفت مع السلطة التي نصَّبها الاحتلال أو التي سمح بوجودها، أقول طفت تشوهات طبقية وإعادة تركيب نمت فيه بوحشية طبقة كربتوقراط الفساد الديني (الثيوقراطي) التي تشكلت بالأساس ليس من برجوازية وطنية أو غيرها بل ممن يسمونهم حديثي نعمة تضخمت ثرواتهم بالأداء اللصوصي حتى احتل العراق المراتب الأولى بالفساد طوال أكثر من عقدين من الزمن وحتى يومنا.
أجدني أؤكد في ضوء ذلك أنه إذا كانت قراءتي المتواضعة العجلى قد مرت بالولادة التاريخية للحزب الشيوعي العراقي بوصفها ضرورة عبرت عن تلك المرحلة فإن الأسباب قد تكون اختلفت بسماتها العامة لكنها تبقى ذاتها من جهة الجوهر في راهن الزمن..
وعند تحديد تلك السمات سنجد أن أعضاء الحزب السياسي اليوم ربما يجابهون قلقا أو عدم استقرار أرضية فكرية في التوزع بين الأهداف الطبقية الكلاسية وبين الأهداف الطبقية السياسية الجديدة، الأمر الذي يجسد انعكاسا لمستويات الوعي بخلفية شيوع ظواهر تخلف التعليم والمشاغل اليومية التي تُبعد المرء عن الثقافة ومصادرها لكن الثقافة الشعبية تجسد الحس الطبقي بالحرمان ومعاني الفقر وإدراك من يقف وراءه ويتسبب به وهو ما دفع ويدفع لكينونة أعضاء الحزب التي تلخص وعيا متقدما وتمسكا بالأيديولوجي المحدد..
إن هذه الإشارة تؤكد سلامة وجود حزب شيوعي من جهة وبرامجه وآليات اشتغاله من جهة أخرى وهي جميعها مما لا يقر خلطة العطار السحرية التي لا تعني إلا تشوهات في قراءة البنية الطبقية وفي تشخيص المسار الفكري الروحي ومن ثم في تحولات ظهرت أوروبيا عالميا بانشقاقات الحركة الاشتراكية الديموقراطية ومحاولاتها الدمج بين العمالي والبرجوازي أو بين الاشتراكي والرأسمالي وما أشير إليه حال اندفاع بعضهم نحو صياغة تحالفات تذيب شخصية الحزب وتشوش فهمه لاستراتيجية وجوده بذريعة الجمع بين التكتيك والاستراتيجي بالمستوى السياسي ما يعيق أو يعرقل فرص الثبات على أرضية مكينة سليمة للحزب السياسي وممهدات وجوده في أية مرحلة..
إنني باختصار ألخّص أسباب وجود الحزب (الشيوعي) بالسمات الطبقية التي لا تقبل حصر النظر بحدود الجغرافيا السياسية لبلد وظروفه الطبقية وإنما تتحد تلك الأسباب بامتدادات عابرة للحدود من دون إلغاء الهوية الوطنية.. والعامل الطبقي لا يسمح بوضع الحزب في بوتقة مثيرة للالتباس والجدل إنما تفرض التزاما دائما بتمييز الشخصية والحفاظ على الاستقلالية والأداء والاتصال بجمهور الحزب من أصحاب المصلحة الحقيقية في وجوده وفي تعبيره عنهم وعن مصالحهم..
إن هذه القراءة تتجاوز فروض الليبرالية الجديدة المحافظة ورؤاها القائمة على محاولة إلغاء الحزب ودوره في مهمة اكتساب الشرعية وذلك بحظر أي نشاط يكون خارج دائرة ما يسمح به قانون حماية الرأسمالية ونظامها وهنا يكون الحزب بمجابهة وسائل الضغط والابتزاز والتهديد حيث قدرة الجمع بين حماية هويته الطبقية الفكرية من جهة وقدرة ممارسة النشاط المتاح قانونا فالشرعية هنا تجمع بين شرعية الانتماء والتعبير عن الطبقة المسحوقة من فقراء الوطن وشرعية القبول ببعض فروض القوانين السائدة مما يعبر عن البنية الفوقية للنظام لكن حتما من دون الانجرار لتنازلات تشوه الأرضية الطبقية..
ربما أتيحت فرصة أوسع لاستكمال الحوار وطابعه الجدلي بشأن هوية المرحلة وعلاقة الحزب بالممهدات المسببة لوجوده ولطابع هويته أبعد من إيحاءات هذا المختصر
وأجدد التحية والتقدير لمؤتمركم متمنيا بل واثقا من عمق الاشتغال بالملموس الفكري السياسي للحراك الراهن وقدرات التجدد والمتابعة والاستمرار بمسيرة كفاحية تمتاح من الجذور
ولمزيد من محاور المناقشة أعود لأثير في ضوء ما سبق سؤالين رئيسين
هل الحزب هنا جزء من حركة تغيير أم جزء من حركة إصلاحية وكيف يتم تشخيص ذلك في ضوء عدد من المواقف التي تم اتخاذها وممارستها طوال المرحلة الأخيرة؟
هل يمتلك الحزب قدرات العمل في إطار المنظومة الحاكمة القائمة اليوم من دون تمييع أيٍّ من خصائصه؟ هل المنظومة القائمة تشير لوجود دولة
للتفضل بالاطلاع على المعالجة في موقعي الفرعي بالحوار المتمدن أيضا 2024 / 12 / 20 – 13:02 5014350
***************************
اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته
********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************
تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/ تيسير عبدالجبار الآلوسي
سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير