دولة المواطنة: هل هي الخلاص لبلدان الشرق الأوسط؟

بوقت سابق من هذا الأسبوع أجرت قناة اليوم ببرنامج طاولة مستديرة لقاء مع ضييوفها تناولت فيه معالجات بشأن دولة المواطنة هل هي الخلاص؟ وما محددات ذلك والطريق إليه وما الذي اعترض السبيل لدولة مدنية (علمانية) تتيح الانتهاء من التشتت والتشرذم المفروض بخلفيية منظومات تتبنى طابعا مافيويا ميليشياويا يحتمي بالمقدس (الديني) في مزاعمه وبوقت أتوجه للضيوف بالتحية والتقدير ولمعد وممقدم البرنامج فإنني إذ شرفت بالمساهمة المتواضعة أضع بضع ملاحظات عجلى وأنشر معها التسجيل الكامل عسى يُستكمل بالتداخلات والتعليقات وربما الأسئلة مع العهد على مواصلة المشوار التنويري

دولة المواطنة: هل هي الخلاص لبلدان الشرق الأوسط؟

د. تيسير عبد الجبار الآلوسي

الصراع الدائر اليوم بين تيارين أحدهما تضخم في السنوات الأخيرة بطرحه الأضاليل وأشكال الخداع والمراوغة واستدراج البسطاء أو استغفالهم بالإشارة للتيار الديني أو إلى الإسلام السياسي. وهذا التيار حاول ويحاول فرض سطوته وبلطجته بوساطة منطق المقدس (المزيف من أباطيله) ليحظى بتحريم المساس به وبوساطة الميليشيات وعنفها الإرهابي ومن ثم فهو يفرض سلطة دولة ثيوقراطية أو دينية بمنطقه السياسي الذي يصوره وكأنه هو الدين واجب الاتباع كما أسلفنا للتو؛ وبالتأكيد مع تكفير الآخرين جميعا..

هنا تظهر كل مناهج الاستعباد والاستغلال الأبشع للإنسان حيث إدامة العمل باقتصاد  ريعي يمرر نظاما كليبتوقراطيا تتفاقم فيه مسارات الفساد المافيوي والأخطر السطوة الميليشياوية بترهيب فاشي الآلية والأداء.

إننا في عدد من بلدان شرقنا الأوسط نجابه نظام دولة دينية متخفٍ يهدم الدولة ومؤسساتها لأن مثل ذاك النظام يقوم على مركزية فرد يسمونه مرة الخليفة وفي أخرى الولي الفقيه ويمنحونهما العصمة المدّعاة ممنوعة المساس ما يطعن بقيم الدولة ووجودها وينتهك كل ما للمواطن من حقوق وحريات وجودية هي الأخرى…

ولنتذكر أن الأمور لم تأتِ بقفزة بل تدرجت عبر تشويه معنى أغلبية وحصر القضية بتقسيمات طائفية المنحى  واستبدال أحزابها بأتباع المذهب أي بفرض رؤية تلك المجموعة المتأسلمة كونها المذهب وأتباعه فتفرض الهوية الفرعية على حساب الهوية الوطنية والإنسانية بخطاب يؤدلج الدولة ويفرض عليها أمرا بوقت الدولة لا دين لها، وإن احترمت أتباع الديانات في حرياتهم بالاعتقاد..

ومع إنشاء الميليشيات وتمرير وجودها بمختلف الذرؤائع المختلقة وفرت فرصة لشرعنتها وفي مرحلة جديدة لفرض إرادتها فوق إرادة الدولة والمعنى الفعلي الواقعي هو إلغاء وجودي للدولة المدنية وعلمانية طابعها بما يُلغي إرادة المواطن ويحوله لتباع بمسميات النهج الطائفي يديره ويوجهه ويفكر عنه من يمنحونه لقب رجل دين بمجرد ارتداء عباءة التدين من جلابيب القرون المنصرمة..

بمقابل كل ذلك فإن دولة المواطنة تقتضي المساواة والحرية وتلبية الحقوق وحفظ الكرامة إذ لا تمييز جندري كما يشار به إلى سلامة المساواة بين الجنسين نساءً رجالاً وسلامة المساواة بين أتباع الديانات والمذاهب باختلاف العقائد والديانات وأحجام الهيكلية الديموغرافية لأتباعها بين مسميات أغلبية وأقلية ومساواة بين انتماءات قومية عرقية لأبناء الشعب وحظر التمييز بهذا المسار..

لكن الدولة التي يحيا فيها مواطنو عدد من بلدان ومجتمعات شرق أوسطية تتحول فيها المرأة على وفق تلك التبريرات المنسوبة زيفا ودجلا للدين إلى عبدة للمتعة لها أثمان بخس زهيدة وهو ما تسعى قوى الإسلام السياسي الطائفية وهي قوى ظلامية بالجوهر لفرضها بأضاليل تعديل قانون كالذي يجري في العراق نموذجا بشأن قانون الأحوال الشخصية ذي الرقم 188 لسنة 1959.. إن التعرض لمبدأ المساواة سواء بتهميش نصف المجتمع والحجر عليه أم بتهميش من يسمونهم أقليات سواء دينية أم قومية هو إلغاء فعلي خطير لقيم الدولة المدنية العلمانية بل هو إلغاء وجودي لها..

وبمتابعة المقارنة سنجد أن الدولة الدينية تتفشى فيها جرائم الفساد بأشكالها ومنها الاتجار بالبشر سواء بإفشاء سوق الرقيق أم بالاتجار الجنسي بمسمياته المختلفة ولا فرق بين مسمى أسواق نخاسة وبيوت المتعة فهي استعباد مقابل تافه الأثمان بينما تحظر الدولة المدنية كل أشكال التمييز الديني المذهبي القومي الاجتماعي الجندري والفكري السياسي…

وفي الدولة المدنية تتوافر حرية الإرادة التي من دونها لا دور فعلي في تبني موقف محدد أو مشاركة في صياغة واختيار العقد الاجتماعي  باشتراطاته التي تحفظ كرامة الإنسان وحقوقه وحرياته وتكفل العدل والمساواة.. بخلاف ما في الجولة الدينية من سطوة العبودية لمن يقدم نفسه وكيلا لله على الأرض وأدواته في فرض سطوته وسلطته بسلاح التصفية الجسدية الميليشياوي..

وبدولة المواطنة هناك وقوف قوي حازم ضد خطاب الكراهية والعنصرية وكل أشكال التمييز والقهر وهناك ما يكفل ويتبنى الحقوق والحريات كليا جوهريا

لكن لمن يقول أن القضية ببساطة تراجع نحو قرون انقضت وانتهت، الأمر ليس كذلك إذ أن أول تشكيل للحضارة ظهرت فيه دولة المدينة و\أو التمدن وعلى سبيل المثال كان سرجون الأكدي قد ألغى جميع المحاكم الدينية واستبدلها بمحاكم مدنية وقوَّض سلطة الكهنة قبل 2334 ق.م أي قبل حوالي من 4350 سنة وهو عقلنة للأداء في مسار الدولة فما السر وراء التراجع نحو منطق سلطة المعابد وعتمتها واحتكامها لعناصر ظلامية مزيفة الهوية لا تنتمي لمعتقد شعب أو أمة ولكنها جماعات ظلامية سادية الأفعال والطابع…!؟

لقد تذبذب المسار التاريخي في مراحل عديدة بين صعود قوى مرضية وركوبها أدوار التسلط وبين تفتح الخطى بمراحل أخرى.. وفي عصر النهضة التنويري شرق أوسطيا على الرغم من بعض حراك إيجابي تقدمي إلا أنه بقي مأسورا بالمعنى الأوسع لقيود من يسمونهم رجال دين من أولئك الذين كانوا يجترون فكرا ظلاميا من زمن الاقطاع ومنظومته حيث كان التحريم الديني ومصادرة الحرية هو جوهر تربوي متوارث بالإكراه فتمددت الذهنية المتخشبة تلك نحو السياسي بل الحياتي بمختلف تفاصيله..

ومع يقين ما تصادره الدولة (الدينية) المزاعم والادعاءات من حقوق وحريات وفرض سلطة الكهنوت ومن يسمونهم رجال دين وهم طبقة كربتوقراط جديدة تلائم النظام الكليبتوقراطي الذي جرى اجتراره وفرضه بقصد إدامة اختلال التوازنات الدولية من جهة وهي ما تقتضي خلخلة التوازن مجتمعيا في بلد ومجتمع بعينه لامتصاص الثروة بجانب تقديم الطاغية \ الدكتاتور بمسميات مختلفة عما سبق مثل مرجع (ديني) وليا فقيها أو خليفة أو أي مسمى آخر بهذه المعاني الزائفة هنا وما تؤديه من فروض قسرية فلا عن فرض منطق الانقسام المذهبي وتشظياته الأكثر تفرعا ثم منح الهوية الفرعية سلطة على حساب الهوية الوطنية في دولة وعلى حساب الهوية الإنسانية بعامة أقول مع يقين تلك المؤشرات الكارثية التي تفرض كرها تشرذم المجتمع وتقسيمه بين كانتونات هزيلة هناك من يقع أسيرا عن حسن نية وسذاجة أو مصلحة آنية أو أخرى فيكون لتلك الشراذم تكوينات من الحثالة التي أفرزتها علاقات إنتاج الاقتصاد الريعي للفساد.. بمعنى خلق الدولة الفاشلة ووضعها بصيغ وجودية تشكل الواقع المأساوي الذي سيفضي إلى مزيد ضحايا بالجملة…

من هنا فالدولة المدنية (العلمانية) حصرا وبوضوح هي الوحيدة القادرة على استعادة نهج يعالج المعضلات البنيوية ويمنح الحقوق ويحافظ على الكرامة وحرية الإرادة ومن ثم فرص المشاركة وتلبية شروط بيئة المساواة والعدل..

إن من يستعبد الناس بذرائعه ومزاعمه وهو ليس سوى إمعة بمحيط دولي مختل التوازن لا يريد حتى أولئك الذين يتحدثون عن نماذج دينية لدولة المدنية مرت تاريخيا بهذه المرحلة أو تلك ولكنها مضطر كما كل التزاماته تجاه أسياده ممن يمتص الثروات ويستغل الإنسان ويتاجر به..

ونحن بحاجة لجذب العقل الجمعي نحو منطق العقل العلمي وتنويره ونحو مسيرة التقدم والتنمية واحترام المواطن إنساناً وليس عبدا تابعا ذليلا لكائن من يكون..

بعد هذه الأسطر ومحاورها الموجزة المتنقلة بعجالة، أضع تسجيلا للقاء في حلقة برنامج موضوعه عن دولة المواطنة هل هي الخلاص؟ ومع بعض رؤى تتنوع أو تختلف في بعض التفاصيل من ضيوف البرنامج ومع عدم اتساع الوقت للتغطية الأشمل إلا أنه يبقى مصدرا مهما لإثارة إشكالية جد خطيرة في مجريات الأوضاع شرق أوسطيا وبمختلف القوميات والأعراق والمعتقدات وأتباعها شاكرا للجميع تعليقاتهم وتداخلاتهم وربما أسئلتهم لاستكمال التغطية والمعالجة.. ولمزيد تعزيز الخطى دفاعا عن المساواة والعدالة الاجتماعية وعن الديموقراطية واحترام التعددية والتنوع والنظام الفديرالي بل والكونفيدرالي بدولنا بما يرتقي بمسيرة التقدم والتنمية وبناء دول تحترم مواطنيها إنسانيا وجوديا لا بفرض قهري بالإكراه لمركزية أو شمولية أو أية خطابات أيا كانت ادعاءاتها ومزاعمها فلنقف بحرية الإرادة معا من أجل الحياة الحرة الكريمة..

رابط تسجيل الحلقة وقد شرفت بأن أكون بين ضيوف البرنامج

https://www.youtube.com/live/YeBAg_nYczI

أية حقوق وحريات تكفلها الدولة المدنية العلمانية وماذا تصادر منها الدولة التي تزعم الهوية الدينية المُدَّعاة؟ هل توجد كرامة للإنسان في ظل دولة دينية تفرض نهجا شموليا كلانيا وعقيدة تتجمد عند فكر طائفي لحزب ظلامي (من أحزاب الإسلام السياسي جميعا)؟ هل يصح مصادرة الأغلبيات الوطنية لصالح ادعاء تمثيل أية أغلبية طائفية ضيقة وجوديا بكل المعطيات والمعاني؟

المقال في موقعي الفرعي بالحوار المتمدن

***************************

اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/              تيسير عبدالجبار الآلوسي

سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *