تجاريب إيجابية للتحالفات الديموقراطية ونقلها المشوه لظروف مغايرة

تحالفات ملزمة هي طريق الوقوف بوجه التدهور والتراجع وإشاعة الاحباط والانكسار، وتجاريب مجحت بتحقيق المرجو منها كما حدث للتو مع الانتخابات الفرنسية ولكن كيف نأخذ تلك الدروس ولمن نتوجه بها ومع من نتحاور بشأنها وتحقيقها عراقيا شرق أوسطيا؟ أضع بضع أسطر من تداعيات في ضوء التجربة الفرنسية وما تسبب ها ونتائج مقدماتها بأمل استكمال التوجه هناك من جهة وصواب قراءة التجربة والاستفادة منها في أجواء وظروف أخرى أوروبيا عربيا شرق أوسطيا ولكن بجميع الأحوال بما يتمسك بسلمية الخيارات ورفض ما يجر لعنف فكري سياسي أو مسلح لأنهما بيئة للقوى المضادة لحركة الشعوب 

تجاريب إيجابية للتحالفات الديموقراطية ونقلها المشوه لظروف مغايرة

د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

هذه تداعيات مستعجلة ولكنها ضرورية للدفع باتجاه التفكر والتدبر بمآل مصائر شعوب عندما توضع بين أيدي اتجاه سياسي أو آخر وما يتبناه من نهج ومن برامج عمل قد تنزلق بنا إلى مآلات خطيرة لا رجعة فيها فتقدم ضحاياها من شعوبنا بصورة وجودية شاملة مريعة.. أقول تداعيات كي أذكر أنها رؤية ترى صوابها في الجوهر لكنها تتطلب وقفات أكثر تمعنا ودراسة ويمكن للحوار أن يصل بنا إلى المنجز المؤمل..

أسوق هذا بشأن ما جاءت به نتائج الدورة الثانية للانتخابات الفرنسية التي ربما أعادت بعض الطمأنينة للقوى الشعبية وتوجهاتها (الجمهورية) العَلمانية الديموقراطية بعد أن صُعقت بتقدم اليمين المتطرف بهويته وتوجهه (الفاشي) المعادي بجوهره للديموقراطية والمعادي لقيم المساواة والحرية والإخاء..

فأي قراءة واقعية معمقة تكشف حجم الادعاء بشعارات اليمين المتطرف، كونها مجرد شعبوية يُطلقها للتضليل والتغطية على ما رفضه الشعب عبر الانتخابات وغيرها من الأنشطة الشعبية في دول الديموقراطية.. فالشعب بغالبيته لا يتفق ومنطق العنصرية وأشكال التمييز وعاش دائما وهو يستمر بممارسة قيم الإخاء والمساواة باحثا عن تلبية العدالة والاستجابة لمطالبه المتغيرة على وفق مراحل وظروف يعيشها بمتغيرات العصر وإملاءات مستجداته..

ومن هنا فإن إشكالية صعود اليمين العنصري الفاشي سواء بذريعة ادعاء أن المهاجرين الجدد هم سبب الأزمات وتغيير القيم والهوية أم بشعارات تحقيق الرفاهية، أقول: لم تتحقق تلك الظاهرة وتفاقم نتائجها الانتخابية لصدقية شعاراتها الشعبوية ولا لإيمان نسب المصوتين بها وطبعا ليس لتزييف أو تزوير الانتخابات ولكنها جاءت نتيجة الأزمات العاصفة المركبة من جهة فشل القوى الوسطية في التعامل مع المشكلات وفي البحث عن حلول موضوعية لها..

فلا القوى البرجوازية امتلكت برامج أبعد من تبنّي قوى السوق المتحكمة بنهج يدعم الرأسماليين ولا القوى الاجتماعية الديموقراطية بحاملة لبرامج يمكنها التصدي للأزمات المتراكمة المتفاقمة بخاصة مع معضلات من قبيل كورونا والتغير المناخي ومن مثل الحروب الإقليمية التي تسببت بها قوى محلية تعبر بل تجسد من يقف وراءها من الأقطاب الدولية المعنية..

هنا استغلت قوى اليمين المتطرف الموقف وسوقت لنفسها بما يسد الثغرات التي ظهرت نتيجة للقوى التي حكمت أوروبا في مرحلة من اهتزاز الاستقرار وغياب الحلول الموضوعية اقتصاديا اجتماعيا.. ومن ثم فالأمر ليس مفاجأة وقد رصدته التوقعات بمستويات مختلفة..

لكن ما جرى بالنموذج الفرنسي جاء الرد عبر استفاقة قوى الوسط الجمهورية وهي قوى علمانية الاتجاه لما فعلته طوال المراحل المنصرمة فقبلت بـ((تحالف الصد الجمهوري)) انتخابياً؛ متبادلةً الانسحاب والدعم في الدوائر الانتخابية ما فرض إرادة الشعب وخياره بالضد من أباطيل الشعارات الشعبوية لليمين الذي حاول المرور ففشل..

أؤكد مجددا أن التحالف الانتخابي وجدار الصد دفاعا عن الجمهورية الفرنسية وهويتها الديموقراطية وشعارها: (حرية، مساواة، أخوة) لن يؤتي أؤكله ما لم يستمر برلمانيا، بالصيغ المناسبة للمستجدات.. واليسار الفرنسي، الذي عاد ليفوز بالمرتبة الأولى، يمكنه أن يوفر بيئة مناسبة من جهة تبتعد عن اجترار حركة الاشتراكية [الاجتماعية] الديموقراطية وسقطاتها التي أفضت بالمساهمة في ابتعاد قطاعات شعبية كبيرة عنها وعن حلولها لمجابهة الأزمات؛ ومن جهة أخرى يفتح وسائل البديل في مجابهة اشتغالات اليمين الفاشي التي تحفر تحت أقدام الشعب وممثليه لتحكم اليوم وتواصل التحكم لاحقا مثلما حصل مع النازية يوم تقدمت بلعبة جمعت بين صعود انتخابي شعبوي وتمكين فاشي بمرحلة لاحقة..

إننا في ضوء ذلك نجد أن التجربة مازالت لم تكتمل ولم تصل خواتيمها التي يأملها الشعب وهناك كثير من المشكلات المعضلة المستفحلة قبل أن تنطلق مسيرة فرنسية وأوروبية جديدة ومن هنا فإننا نتطلع لما أشرنا إليه من انتظار الخيارات التالية هل يستعجل اليسار الموقف ويتفكك بين مواقف تعطل فاعليته؟ وهل يخضع الجمهوريون الوسط لأحابيل اليمين الفاشي وللجمهوريين المحافظين الذين تم توريطهم بتحالفات غير محمودة العواقب؟

إن الصائب هو الإصرار على الاستراتيجي بهوية علمانية بفحوى ديموقراطية قادرة على حماية الجمهورية واستراتيجيتها التي خدمت الشعب لعقود وقرون، ومن بعد ذلك لكل حادث حديث..

طبعا لابد من التذكير أن ردود شعوب أوروبا جاءت سريعا في ضوء تداعيات المواقف الحكومية الرسمية من الحرب في أوكرانيا ومن الإغراق في نهج الناتو وأمركة طابعه بمزيد من الأتاوات التي تدفعها شعوب أوروبا بل والمغامرات التي قد تؤدي لإشعال حرب كونية ثالثة لن تبقي ولن تذر.. والرد سريعا نشهده بنتائج حزب العمال البريطاني وبالانتخابات الفرنسية ومتغيراتها.

لكن، ماذا بشأن مَن يتحدث عن تلك التجاريب الأوروبية وتحالفاتها ومن قبل عن تحالفات اليسار ومجموعات دينية بأمريكا الجنوبية!!!؟ إن نموذج العراق على سبيل المثال ودول المنطقة يفرض ظروفا جيوسياسية مختلفة جوهريا ونوعيا وهي ظروف لا تلتقي مع تجاريب دول الديموقراطية الأكثر استقرارا مؤسساتيا ومع ذلك تعرضت لتلك الهزات التي تكاد تأتي بالفاشية مجددا وليس الاكتفاء باليمين المحافظ!

بينما الاختلاف مع دول شرق أوسطية ومع العراق نموذجا، فيكمن في تشوهات هيكلية الدول الوطنية ونُظمها المحلية في المنطقة وأي حديث عن إمكان استيلاد تحالفات مبنية على التوجهات الشعبوية وشعاراتها فأمر لا يستقيم وليس فيه من صواب سوى صواب مقولات الحق لكنها بالجوهر هي تلك التي يراد بها باطل من قوى ترفعها للتستر على الغايات والجوهر الذي تتسم به..

إن شعارات من قبيل معاداة (الشيطان الأكبر) أو (الغرب الاستعماري) وقطع العلاقة بين تلك الدول شرق الأوسطية وأوروبا وأمريكا بتلك التوجهات الانفعالية المتشددة تلعب على حقيقة معاداة الشعوب للنهج الاستعماري القديم وتستغله لاجترار قيم الثأر بدل تلبية ما تفرضه قيم التحرر والانعتاق وتوفير العدالة والاستفادة المتبادلة بين الشعوب ودولها..

إذن تكمن أدوات تلك اللعبة في شعاراتها الشعبوية وفي ارتفاع صوت قوى الرثاثة وسلطتها المستندة لتفكيك الدولة وإضعاف وجودها المؤسسي وإعلاء أصوات قوى ميليشياوية بتركيبتها مافيوية بمناهج استفحال تخريبها وتدميرها المجتمع ومنظوماته القيمية والهياكل التي يتبدى بها..

هنا سيخدم تلك القوى ومسيرتها المشوهة بحال التوجه لاستيلاد تحالفات تخضع تنظيميا لإرادة تلك القوى المرضية أو على أقل تقدير تمر بها نحو استبدال سلطة تخريبية بأخرى شبيهة ستكون بالمحصلة تدميرا وتخريبا لقوى الديموقراطية الحقة..

إن قوى العلمنة والتقدم وحركة التنوير بعمومها يجب أن تتخذ استراتيجية حيوية مناسبة تكسب الإرادة الشعبية بصورة منظمة لتثير الفاعلية وتستطيع محو أو كنس التردد والضبابية والتشوه وخيبات الأمل والإحباط..

بخلافه، فكما ذكرتُ للتو، سنمضي بطريق تقديم القرابين للقوى المعادية للشعوب فتتسع الثغرات الخطيرة لا بصيغة اتساع حجم كرة الثلج ولكنها ستتضخم بطريق الابتلاع الذي يجري في الثقوب السوداء فيزيائيا ليكون بذاك الحجم المهول ما يعني ديمومته لمدى لا نعلمه بالضبط ولكنه لن ينتهي بالمدى المنظور ولا ينتهي من دون مزيد أهوال وفظاعات..

أعيدوا قراءة برامج البديل بمنطقة تحتاج لتمكين قوى التعددية واحترام بل تقديس التنوع بإطار وحدته؛ بمنطق ((العَلمانية وتوجهها الديموقراطي)) بمقابل قوى فرض الدين السياسي ونهجه المافيوي الميليشياوي بكل أدواته الفاشية وتلاعباتها الإجرامية بمصائر الناس..

لا تستعجلوا قراءة التجاريب أو تأخذوها نقلا حرفيا شكلانيا فتقتلوا ما تبقى من قوى إيجابية يمكنها أن تقدم الأمل وتُنهي الإحباط والانكسار والتشوش والتشويه وتقف بوجه التضليل وألاعيبه وسطوة استغلاله..

 

 

المقال بموقعي الفرعي بالحوار المتمدن أيضا

***************************

اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/              تيسير عبدالجبار الآلوسي

سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *