العراق بين ثراء تنوعه الثقافي ونهج سلطة الأحادية والإقصاء والمصادرة

يجابه العراق موجة من حملات إسدال أستار الحجب والإزاحة والمصادرة بخلفية تبريرية تتحدث عن سلطة الأغلبية وكأنها كل الوجود وكأن رؤية زاعمي تمثيلها هي الرؤية الوحيدة المفروض إلزام الجميع بكل تنوعاتهم بها!!؟ ومثل تلك الرؤى انتهت بعصرنا مع بزوغ شمس الحقوق والحريات وسلامة التعامل على أساس تبادل الاحترام مع الآخر والتزام حماية التنوع الثقافي الروحي للجميع كونه العنصر المكون الأساس لإطلاق التنمية المستدامة بكل ميادينها وليس بميدان الاقتصاد وحده.. إن منح التعدد الثقافي وتنوعه الحق والحرية هو المسار الأنجع للبشرية ولأي اختيار لعراق جديد يتطلع الشعب بكل أطيافه ومكوناته أن يحيا بظلاله فهلا تنبهنا إلى ذلك ووضعناه في استراتيجيتنا؟؟؟؟

في اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية ما الوضع عراقيا وما خياراتنا فيه؟؟

د. تيسير عبدالجبار الآلوسي

منذ حضارات العراق القديم، نما التراث الإنساني ومهده السومري في منابع ثقافية متعددة الموارد والتقى في بوتقة الحوار وقيم التفاعل الإنساني البناء عبر مراحل مسيرة تاريخية للبشرية بقيت تزدان بمنطق الإخاء والتسامح في سجلها الحافل.

أما بيومنا فإنّ العراق مذ ولادة دولته المعاصرة مروراً بولادة الجمهورية العراقية التي عُدّت تاريخ تأسيسه الحديث إذ اغتنى بنهج احترام قيم التنوع والتعددية باحترام الإنسان العراقي وحقوقه في مشارب انتمائه وما حمل من هويات أكدت تمسكها بالروح الوطني والارتقاء بقيم الأنسنة الأسمى.

لكنّ 14 تموز وثورتها الوطنية لم تمضِ بنهجها إذ سرعان ما جابهت متغيرات انقلابية فرضت سطوتها الأحادية وفلسفتها الإقصائية وإجرام المصادرة والإبعاد ما أفشى في بعض الأوساط نهج الشوفينية والاستعلاء تجاه ما تمت تسميته بالأقليات بمقاصد التهميش وفرض منطق متعارض وطابع الأداء الثقافي القائم على حرية التعبير ومن ثمَّ التعددية والتنوع في هذا الوجود ومساقاته..

إنَّ هذه الحقيقة التي يحياها العراق الجديد هي ذاتها التي أسست القيم التي دفعت الأمم المتحدة لاتخاذ توصياتها باعتماد ((اليوم العالمي للتنوع الثقافي من أجل الحوار والتنمية)) وهو اليوم الذي يصادف الـ21 من مايو أيّار من كل عام..

إنّ الأساس الذي تقوم عليه أية مسيرة للبناء والتنمية لابد أن يتضمن جوهرا بنيويا للحوار بين الثقافات طريقا للسلام ولتلك التنمية المستدامة التي تستهدفها البشرية. فلقد قدرت الدراسات أن ما يقارب الـ90% من النزاعات في العالم قامت وتقوم على تدني نهج الحوار بين الثقافات وهذه النسبة هي التي تؤكد إلزام تعزيز الحوار  على أنه أولوية في منطلقات التعايش بين الشعوب والأمم والجماعات المؤمنة بالسلام وتقدم البشرية على أساس من تعاونها وتوحيد جهودها..

وإذا كان التعاون واتخاذ طريق السلام قد فرض الحوار بين الثقافات بتعددها وتنوعها وحتى باختلافها فإن مهام البناء وصنع التقدم الفعال والتنمية المستدامة ى يمكن لها أن تأخذ مكانها ومكانتها وسلامة أدائها إلا عبر تفعيل أدوار الثقافة بوصفها أحد أقوى محركات التنمية. وعلى وفق إحصاءات أممية فإن الثقافة تمتلك ما يناهز الـ50 مليون وظيفة بنسبة 6.2% من إجمالي الوظائف عالميا وتشكل النسوة نصف طاقة العمل الثقافي وتساهم جيوش العمل الثقافي تلك بأكثر من 3% من إجمالي الناتج المحلي لدول عالميا مع الالتفات إلى أن ميدان الثقافة ينصب على كثير من  مهام تشغيل الشبيبة.

والأهم والأبرز في الموضوع أننا بجميع مفاصل العمل لا يمكننا تحقيق العمل النموذجي المثالي في قدرات الإنتاج ما لم نكن بحال من الامتلاء الثقافي المكين ومن التعاون بين طاقات العمل باختلاف مشارب الانتماء والمرجعية الثقافية.. وهذا يشمل جميع محاور التنمية ومفاصلها..

لقد جاء انعقاد ((مؤتمر اليونسكو العالمي للسياسات الثقافية والتنمية المستدامة 2022)) ليمثل منعطفا نوعيا في التعامل مع هذي الإشكالية ومنحها مستوى من الاهتمام من أجل حماية تنوع أشكال التعبير الثقافي الأمر الذي يؤكد حماية حرية التعبير بافضل مناهجها بجانب مستهدفات مهمة أخرى ينبغي للعراق أن يعتمدها في تطبيقاته الفعلية وفي أية استجابة لتطلعات شعبه بكل مشارب ثقافاته وتنوعها كيما تكون هدفا مثلما هي أداة في إزالة الخراب وبناء البديل لعراق جديد يستحقه أبناؤه..

ولعل أبرز الأمور في هذا التوجه يكمن في تحقيق ما اعتمده الإعلان التاريخي للثقافة الذي أكد أن الثقافة ذات طابع جوهري يتسم بالمنفعة العامة العالمية لها،  ما يتطلب واجباً نوعيا في التعامل معها أي مع الثقافة عبر دمجها في الأجندات التنموية بوصفها هدفاً محدداً في حد ذاته. ولأجل ذلك لابد من وضع فقرات ثابتة في المشروعات التنموية تتناول الحقوق الثقافية سواء ما يرتبط بالحقوق الاجتماعية والاقتصادية للفنانين وجموع المبدعات والمبدعين ومنتجي الثقافة أو ما يتعلق بالحريات الإبداعية الجمالية ومنها الفنية الأدبية على وجه الخصوص، هذا بجانب تثبيت قانوني دستوري وممارسة استراتيجية فعلية تحترم حقوق مجتمعات السكان الأصلية ومن تلك الحقوق، حق حماية معارف الأجداد وقيمهم، بحماية التراث الثقافي والطبيعي للجميع بتنوعهم واستقلالية عيشهم وفرص اتخاذ القرارات التي تخص تفاصيل العيش المستقل الحر الكريم. وبالإشارة إلى النموذج العراقي لهذا المنطق سنجد أن تنوعا بوجود قومي وديني ومذهبي وأعراق وأجناس قد ولَّد خطابات ثقافية جد متنوعة وجاء وضعها بمجابهة فيما بينها قد أشعل حرائق الخلاف بدل فضاء التعايش معا بسلام وتعاون وتكافل وهو النهج الذي فرضته سطوة جماعات مافيو ميليشياوية لا تحيا من دون إشعال حرائق الصراع والتنافس السلبي بينما كما نقرأ هنا فإن مجمل مسارات الوجود الثقافي بتنوعه يمكن أن يحيا بصورة أفضل وأن يساهم بقوة في دفع مسارات البناء لو أنه اتخذ طريق التنسيق والتعاون ولو أنه انشغل بملاحقة مستويات التمدن والتقدم العلمي التكنولوجي لخدمة وسائل العيش الإنساني الأنجع أي عبر أفضل تنظيم للقطاع الرقمي السيبراني، بخاصة في توظيف المنصات الرئيسة فيه لصالح إعلاء قيم التنوع الثقافي بما يكفل اللقاء والتعاون، وحماية حقوق الملكية الفكرية لمنتجي الثقافة كافة، مع ضمان حق الجميع بالوصول الحر إلى المحتوى ومنع عرقلته وكثرما نشهد ظواهر الحظر والمنع والمصادرة بما يحجب الحقيقة ويفسح الطريق لنشر بدائلها مما يقوم على زرع الأوهام والأباطيل التي تفرض الخلاف والاحتراب بدل التعاون وتبادل الاحترام لإعلاء قيم التنوع الثقافي ومنحه فرصة التنافس الإيجابي لمزيد خطى بناء وتقدم.

إننا بحاجة ماسة عراقيا للتثقيف بمؤشرات اليونسكو للثقافة 2030 بوصفها إطارًا للمؤشرات الموضوعية التي يمكننا بها قياس التقدم الذي نحققه من التراجع الحاصل فعليا ووضع خطى المعالجة عبر رصد مساهمة الثقافة بتنوعات مرجعياتها في تنفيذ أهداف التنمية المستدامة وفرض نهجها عراقيا مثلما يحجث أمميا بمختلف بلدان العالم..

وبالعودة إلى طابع الصراعات العراقية مثلما العالمية فسنجد أن أغلبيتها تقع وقائعها الكارثية الدامية بسبب أبعاد ثقافية وتبريرات تتقاطع وسلامة النهج القائم على التعاون والشراكة والتكافل ومثل هذا يلزمنا بأن نجد وسائل جسسر الهوة المختلقة بخلفية تشويه جماليات تنوع وجودنا وطابعه الثقافي ما يعني أن نبني جسور الحوار مفتوحة على مصاريعها بمنطق الاحترام المتبادل ومثل هذا بات خطوة ضرورية ملزمة وحتمية لإنهاء أشكال الصراعات المأساوية القائمة ولتحقيق السلام والاستقرار والتنمية المستدامة بأنجع سبلها..

تلكم هيأهمية تحويل التنوع الثقافي إلى قوة محركة للتنمية ليس اقتصاديا حسب بل بكل مستويات الحياة الفكرية المعنوية الروحية والإنسانية الشعورية وقيمها في العواطف والعلاقات السامية بوصفها أركان العيش الحر الكريم.. وبهذا المنطق سنجد أننا نفعِّل أدوار الثقافة وعمقها التراثي وقدرات فعلها المعاصرة في ميادين ركائز الحد من الفقر وتناول قضايا المناخ والبيئة وتلبية شروط ومحددات التنمية المستدامة وهذا حصرا مما يمكن للمناهج التعليمية والسياسية أن تهض بالدفع باتجاهه عبر كل وسائل الاتصال والإعلام من تكنولوجيا معلوماتية اتصالية بما يعزز الحوار بين الثقافات والمسارات الحضارية حتى تستقر على موانئ احترام متبادل وتفاهم وتعاون وتكافل..

وبالمجمل أجدني أؤكد أن عراقا مختلفا عما يختلقون له من تخندقات وتمترسات متحاربة هو العراق الذي يتبنى مهام الاتفاقات الدولية التي تم اعتمادها بش\أن التنوع الثقافي وهو عميق كبير عراقيا مثلما هو عالميا وهنا الإشارة إلى ضرورة تبني القوى التنويرية استراتيجيات مناسبة بشأن ذلك وعلى وفق الأهداف الأربعة لاتفاقية حماية وتعزيز تنوع أشكال التعبير الثقافي التي اعتمدتها يونسكو في 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2005 ألا وهي:

“1. دعم نظم مستدامة لحوكمة الثقافة.

  1. تحقيق تبادل متوازن من السلع والخدمات الثقافية وانتقال الفنانين والعاملين الآخرين في مجال الثقافة.
  2. دمج الثقافة في برامج وسياسات التنمية المستدامة.
  3. تعزيز حقوق الإنسان والحريات الأساسية”

إننا لا نشك بأن العراق ليس وحيدا في تقليص حصة الثقافة من الاهتمام والتبني والدعم ما يتطلب الانتباه عالميا لمخاطر ذلك الإهمال الذي يمنح أمورا غير تنموية موقعا على حساب الاهتمام بالثقافة وبتنوعها وبمعطيات ذلك على وفق المعالجات الأممية لليونسكو وغيرها من الدراسات الكبيرة إذ لابد من توجيه الاهتمام إلى شؤون المساعدة الإنمائية المكرسة للثقافة والترفيه التي بدأت بالانحدار  والانخفاض حد الانهيار، إذ على الرغم من استمرار تدفق السلع والخدمات الثقافية على الصعيد العالمي، لا نجد إلا حراكا ضئيلا للغاية في جهود التصدي للتفاوت والفروق الشاسعة بين البلدان المتقدمة والبلدان النامية. ولعل أوضح تفاوت نشهده في القطاعات الثقافية والإبداعية، وحصرا بما يقع على فئات الشبيبة والنسوة وعلى المجموعات السكانية ممن يسمونهم تهميشا ومصادرة الأقليات دع عنك ما يخلقه هذا من تراجع نسب التنمية بعامة وما يعود من بعده على نسب الفقر والبطالة والمشكلات المستعصية التي يتعقد حلها بخلفية هذا الإهمال المتعمد..

إننا لا نركز على بعض هنات أو ثغرات تحدث عالميا بوصفها تراجعات جزئية هنا أو هناك ولكننا بحاجة للتذكير بالواقع العراقي المأزوم الذي يتطلب إطلاق مبادرات متنوعة قادرة على مجابهة المنحدر المخصوص بقضايا التعايش والسلام وإطلاق حقوق تحمي التنوع الثقافي وةتضعه موضع التعاضد والتعاون والدفع بمستويات الحراك التنموي وإنهاء مشكلات المجموعات المتعددة بخطاباتها باتجاه أدوار الفعل مثلما استهدافها لذاتها كي تحظى بفرص تنموية كافية..

فهل لندائي هذا من يستجيب له بتفاعلات تتناسب وأهمية التنوع الثقافي والارتقاء بالأدوار إنسانيا تنمويا وبكفالة الحقوق والحريات وحمايتها فعليا ميدانيا؟ ثقتي وطيدة بقوى التنوير والعقل العلمي الجمعي عراقيا مثلما بكل العناصر والأطراف الفاعلة القادرة على التأثير في المستويات الرسمية وتوجيه أدواتها بديلا عن كل العقبات والمنغصات المحتملة والموجودة..

فلننظر ونواصل السير بخطانا الثابتة نحو أفضل فرص العمل الوطني بهذا الباب البارز بين أبواب وجودنا

الأيام الدولية ذات الصلة

***

للاطلاع والتصويت على المقال في موقع الحوار المتمدن 

***************************

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

 

اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته

********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************

تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/              تيسير عبدالجبار الآلوسي

سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير

للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي

...

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *