هذا تسجيل للندوة التي رعاها وأدارها الملتقى العربي للفكر والحوار بعنوان: مسرح المقاومة بين الثيمتين الجمالية والمحمولات الاجتماعية السياسية وهي منشورة هنا بالفيديو وتسجيلها الكامل كما نشره الملتقى العربي وبالنص المكتوب المطبوع الذي يحتوي تفاصيل عديدة لم تظهر التزاما بسقف المحاضرة,, وسيجري إضافة بعض ما يخدم النشر وتعزيزه بوقت لاحق
مسرح المقاومة بين الثيمتين الجمالية والمحمولات الاجتماعية السياسية
د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
أستاذ الأدب المسرحي
تجدون بهذا الفيديو التسجيل الكامل لمحاضرة مسرح المقاومة كما نشرها الملتقى العربي للحوار بموقعه
الأصل الذي تمت كتابته ليكون المحاضرة وظهر فيها بكثير من محاوره الرئيسة وفيه نقاط ذات أهمية كبيرة لم ترد بسبب ضرورات الالتزام بالسقف الزمني.. ت. الآلوسي
توطئة
في مناقشتنا لموضوع الالتزام في الأدب والفن فإننا لا نجيز لأنفسنا بأي شكل، أن نقدّمَ المضمون على بنية الشكل والصياغة بخاصة أن جلّ علماء الأدب والنقد قد أشاروا إلى أن المعاني مطروحة في الطريق وأن العبرة في الأدب وفنونه تتجسد في الجمالية كما تتحدث عنها العلوم النقدية الحديثة..
أما في جانب مما يفسر محاولتنا تجنب الموضوع على شكل عرضه فنيا جمالياً فقد يكمن بأننا كثرما نسمع اليوم، عن الرقيب والرقابة وعن مصادرة حرية التعبير، لمجرد أن عملا فنيا دراميا أو أدبيا قد أورد لفظاً أو إشكالية يحظرها ذاك الرقيب بخلفية التابوات أو المحرمات المعروفة أو أن المصادرة تأتي لأن العمل الجمالي الفني قد تناول ظاهرة بنهج لا يتفق والمعترضين من ممثلي (الرقابة) بمرجعياتها كافة [أقصد دينية كانت أم سياسية أم فكرية و\أو اجتماعية] أو لا ينسجم موضوعها ومعالجته مع رؤى المعترضين من وكلاء الرقيب الذي يساوي بين المعالجات (الجمالية) الفنية ومنها المسرحية وبين المعالجات التي تنهض بها جماعات وقوى سياسية أو مجتمعية من شخصيات وأحزاب ومنظمات بتسطيح تلك المعادلة وتفريغها من أي فرصة جدلية مناسبة..
وهنا بهذي المقدمة يسوّق (المعترضُ) لنفسه (مختلف المبررات) كي يحظر أو يمنع أو يكبح ويعرقل .. أتذكر كيف تم منع مسرحيات عراقية مهمة مثل الشريعة والجومة [المكوك] وغيرهما من مسرحيات الراحل الرائد العراقي يوسف العاني وطبعا ربما قرأ أو سمع أو عرف بعضنا أو جلّنا تلك الحالات من الحظر والمصادرة..
اليوم صديقاتي أصدقائي، أنا أتحدث في قضية أعقد من شائكة في مرجعيتها الواقعية بخاصة في ظروف احتدام الصراع حَداً دخل بمستوى ارتكاب جرائم كبرى؛ أقصد جرائم ضد الإنسانية وجرائم عدوان وجرائم حرب دع عنكم جرائم إبادة جماعية جينوسايد بكل مستويات الصراع ونهج الإبادة فيه، ثقافيا هوياتيا أو جسديا دمويا ماديا..
إلا أنني مجددا أذكر أنَّ معالجتي هذه ليست معنية بأولوية مباشرة بالأمور المرجعية على أهميتها وخطورتها وضرورة التوقف عندها كما حدث ومازال مستمرا في تناوله من طرف مجمل محاضرات وندوات الملتقى العربي للفكر والحوار التي قدمت أولوية معالجة ما يجري سياسيا اجتماعيا وبكل مدخلات القضية.. أما هنا فأستسمحكم في الحوارات والمناقشات أن نبقى بحدود المؤمل من التعرف إلى أدب ملتزم وفن يتمسك بالقضية من دون أن يغادر أو يتخلى عن أولوية جمالياته بنيويا ما لا يقرّ الابتعاد باتجاه إلغاء الجمالي الفني المسرحي حصرا.. وربما بالمناسبة هنا توقف بعضنا عند المشتعل ومشعلي حرائقه على وفق مناسبة موضوع وجدليته أو تساؤلاته وزوايا تناولها..
لهذا السبب ستجدون أن أسئلة محاضرتي تكمن بشكل أوسع وأوضح أولوية في المصطلح الدرامي.. ولننظر وسط ربكة ضجيج ما يجري من حروب ومنها حروب التجهيل وإثارة التشويش إلى أسئلة من قبيل: هل الدراما هنا هي المأساة المنتهية بالقتل وبالسوداوية؟ ولماذا يستخدمها (بعض) النقاد والمتحاورين، على أنها الجدية المتجهمة والسوداوية والمأساوية؟
قبل أن أوغل أذكِّر بأهمية التعرف إلى منصة اشتغالنا كي نقرأ في دفاتر مسرح المقاومة.. وعندي أن التراجيديا في الدراما ليست التي تنتهي بأحزان وكوارث دموية كالقتل والاغتيال ولكنها تلك التي تنبني على أساس هدم الوضعية الأساس التي قدمتها لنا في عمل بعينه وتقديم بديلها بانتهائها أو خاتمتها؛ فيما الكوميديا ليست تلك التي يجب أن تنتهي ضاحكة باسمة و\أو تختتم بزواج أبطالها على سبيل المثال.. ولكنها تلك الأعمال الدرامية التي تنبني على مجرد إصلاح الوضعية الأساس أو إعادة ترتيبها وعلاقاتها بصورة لا تهدم جوهرها كما التراجيديا.. وعليه فإننا سنرى أن تقديم موضوع بمرجعية جدية ممكن أن يقدم دراميا مسرحيا سواء تراجيديا أم كوميديا ومن دون أن نقع بإسفاف البكائيات مرة أو الهزليات في أخرى..
إنَّ من النقد البنَّاء تلك السخرية من الواقع المريض التي تنتهي بتعديله وإصلاحه بقدر تعلق الأمر بأخطاء في تفاصيل الحدث وهكذا يكون متاحا أن نتحدث عن المقاومة في تفاصيل اليوم العادي سواء مقاومة فكرية ثقافية واجتماعية المنحى بقدر تعلق الأمر بالسلوك والشخصية أم بثغرات بتلكم المستويات مثلما يمكن أن نتحدث عن الجوهري فيها عند تعلق الأمر بتصحيح الوضعية الأساس وإعادتها إلى سليم البنية وجودياً..
وبكل الأحوال سيكون حوارُنا مع المسرح بمدخلات جمالية لا تمنعه من كسر التابوات أو المحرمات التي يراد فرضها بخلفية مرجعية وكأننا في ندوات أحزاب سياسية أو بمناقشة برامجها..
سأنتقل الآن، إلى موضع يختص بالمصطلح بقدر تعلقه بما يستطيع المسرحي التعامل معه وإبداع ما يعبر عنه جماليا
الدراما فعل مركب من تعارض اتجاهين وصراعهما وتصاعده حتى وصول نقطة الانقلاب والذروة… والمقاومة فعلٌ وإلا فإننا إذا أخذناها (مجرد رد فعل) فلن نحظى بمادة درامية سليمة فأصحاب المقاومة تتحدد بردة فعل سيضعون الاستعمار واحتلاله ونهج التخريب والسلب فيه كونه الفعل بأركانه واكتمال وجوده ما يمنحه سمة الاحتفاظ بالديمومة لأنه المنطق البنائي على وفق ما يتم الإيهام به! بخلاف حقيقته كونه وقفة هدم يستعيد بعدها فعل المقاومة إدامة فعل البناء الحقيقي أو البديل لوهم متأسس على الاختلاق والافتعال
إنَّ كل ما هو فكري وسياسي في أيّ مسرحية يعدّ قصدية موضوعية لها، فليست هناك مسرحية من دون تلك القصدية وموضوعها الذي تمتلكه وهو ما نشير إليه هنا. كما إنَّ فكرة المسرحية تكتسب قيمتها من تطابقها كليا مع طبيعتها الخاصة وفي علاقاتها القائمة أو الموجودة فعلا [[البنية تنفتح على أخرى كانفتاح بنية المسرحية على بنية مرجعيتها أو ما سيقابل دال مدلول مرجع وجسور ارتباطها]]، وهذه لا تعدّ مسألة فكرية بحتة بمعنى أنها تعبير عن دلالة، تعبير عن رمز حيث يتحول فيه الشيء المادي إلى دليل يعكس، في حدود معينة، واقعا معينا من وجهة نظر بعينها. وعلى سبيل المثال، يتحول الخمر والخبز من بضاعة متداولة إلى رمز ديني عند المسيحي مثلا، فالخمر والخبز ليسا دليلا في ذاتهما وإنما في التحول أو في العلاقة التي يدخلان فيها. أيّ أن لكل ما هو فكري قيمة دلالية (سيميائية) تعتمد وجود القيمة الاجتماعية وليس الأفراد مجتمعين من دون هذه القيمة؛ هذا من جهة الموضوع، ومن جهة ثانية يعدّ النتاج المسرحي دلالة بالقياس إلى مادته التي يقدمها؛ فكلّ تحدّث أو قول هو مكوّن، ترتبط به دلالة ومعنى محددان نُطلق عليهما الثيمة (Theme) أو الغرض الذي تكتسب فيه المسرحية قيمتها السيميائية، فإذا اتفقنا على أن الثيمة نسق معقد وحيوي من الأدلة، يخضع لشروط لحظة من التطور بعينها وأنَّ الدلالة هي الوسيلة (Instrument) التقنية لتحقيق هذه القيمة، فإنَّنا سنجابه حالة من التطابق بين المسرحية بوصفها نتاجا والدلالة بوصفها وسيلة أو الوجه الشكلي في مقابل تطابق المعنى أو الأيديولوجيا فكرةَ َ ومعالجةَ َ والثيمة التي تلخص مضمون المسرحية أو بعبارة أخرى وجهها [وجه المسرحية] المضموني.
القضية ومصطلح مقاومة
المقاومةُ، مفهومٌ لفعل إنساني يتصف بمشروعية تكفلها القوانين والعهود الحقوقية الوطنية والدولية، حيثما تأسست بمنطلقاتها على الروح السلمي وهي لهذا أي المقاومة التي نقصدها توكيدا، هي الفعل البنائي بالضد من فعل الهدم والتخريب الذي تمارسه قوة استعمارية أو سلطة غاشمة تستعبد الشعب وتمتص خيراته التي ينتجها والتي يمتلكها من ثروات في وطنه..
وفي ضوء كونها جهداً بنائياً فإنَّها أي المقاومةُ بجوهرها، ينبغي أن تكون الفعل السلمي المتمسك بالأعراف الإنسانية السامية، بكل ما له من ضوابط وقيم سلوكية أو منهجية تعبر عن ثقافتها وأخلاقها أو قيمها الفكرية السياسية. وبهذا التعريف لا نرى أنّ المقاومة السياسية-الاجتماعية بالاصطلاح الأعمق والأشمل لها، كما يحاول بعضهم استعجالا أن يصمها بكونها ((رد الفعل)) و إنْ حَدَّدها بكونها رد فعل مجتمعي واعٍ، فبين أيدينا حقيقة جوهرها ممثلاً في الطابع الإيجابي لا السلبي؛ الذي يبني لا الذي يهدم ويخرب ويثير التلكؤ إنها الفعل الذي يقتضي درء أمراض واقع مرفوض، أو وضع متعارض والمشروعية، وبصورة أدق شمولا إنه الفعل الذي يكبح أي شكل من أشكال الاستبداد و\أو الاستعباد و\أو التعسف والظلم و\أو التمييز بأشكاله ومرجعياته و\أو الاحتلال..
لقد بات بين أيدينا تعريف للمقاومة بمستويين كفاحيين، للتحرر الاجتماعي كما موقف شعوب عصرنا تجاه التركة التي استعمرتها طوال قرون من حكمٍ قروسطي ظلاميٍّ متخلفٍ أشير على سبيل المثال لا الحصر إلى الثورة العربية الكبرى غب الحرب الكونية الأولى ومازالت قضية النهضة الاجتماعية وتبنِّي العدل والمساواة بخاصة إنصاف المرأة كفاحا تحرريا اجتماعيا يعبر عن معالجة أمراض واقعنا بمقاومة لتلك القيود والأغلال التي مازالت بعض مخلّفاتها تتحكم وتشيع بصورة فوضوية رديئة.. ورديف هذا الكفاح ومقاومته الإنسانية الكفاح ضد بقايا الاستعمار وأشكاله الجديدة بمختلف وسائل الكفاح السلمي تأسيسا ومبادرة حتى إذا فرضت دواع أخرى أشكال كفاحية مختلفة، أخذت المقاومة تمظهرات مشروعة على وفق القوانين الأممية المعروفة لكن أيضا من دون الخروج على قواعد اشتباك تحترم إنسانية الإنسان ولا تنتهكها بأية ذريعة كانت..
إن المقاومة بهذا المعنى حق إنساني مكفول في القوانين والمواثيق الدولية وكما يؤكد مفهومها حيثما التزم بهدف استعادة السيادة بجميع مضامينها والتمسك بأنسنة لا تسمح ولا تفضي إلى أي شكل من أشكال الاحتدام والتوترات غير المبررة مما يسوق للعنف من أجل العنف.
بالمقابل لابد من وقفة تجاه مصطلح القضية وهنا نحاول التوقف عند القضية الفلسطينية ومعطياتها عبر مساريها التاريخي الوجودي والمعاصر بالإشارة إلى القرارات الأممية منذ أربعينات القرن المنصرم حتى اليوم..
وهو ما سيحيلنا إلى محدد تعرفنا إلى المقاومة الفلسطينية كونها وجودا اصطلاحيا يشير إلى حركة التحرر الوطني الفلسطيني ونهجها وقيادتها ممثلة بمنظمة التحرير حصرا على وفق الشرعية الفلسطينية والعربية والأممية.. وهي الجهة المعنية بإنهاء الاحتلال الاستيطاني وكل أشكال الانتهاكات وجرائم الاضطهاد والتخريب المرتكبة في فلسطين على أن هذا المصطلح ومفهومه ربما أصابه بعض التشويش ومحاولة استبدال القوى الشعبية التي نهضت وتنهض به بمحاولات إلغاء تاريخ نضالي سواء منه القديم أم الحديث وركوب موجة فرض الإرادات سواء بالعنف أم بالأضاليل واستغلال المعتقد الديني والتسلل عبر ثغرات بعينها..
الأدب الملتزم وفنونه التعبيرية وآليات تجسيد الثورة
نتعرف إلى الأدب الملتزم وفنونه وخصائصه بأنه الإبداع التعبيري الجمالي الذي يمتلئ بدلالات بنيتيه التجريدية والمضمونية أو امتلاك نهجه لخطة عميقة بجانب خطته السطحية وملامح أدائها الفني وهنا سنجد في الخطة العامة للمسرحية ما يتبنى معالجةً أو رؤية أخلاقية اجتماعية سياسية أو أيديولوجية بمسار علماني أم ثيوقراطي، ولابد من التذكير بأن الالتزام غير الإلزام فالأول يمتلك مشروعيته من وجود عنصر الاختيار في تبني رؤية بخلاف الثاني الآتي من مصدر خارجي يصادر تلك الحرية وفي الالتزام لا وجود لسمة الإذعان والخضوع أو الولاء الأعمى حتى لِما يتم تبنيه لأنه من الممكن أن يتم بعد تجريبه يمكن أن يتم اكتشاف ما يوجب تبني ما يغاير ويختلف بعد التحقق من سلامة البديل.. فيما الولاء والإذعان يتعارض والالتزام وما يُفترض فيه من حرية الاختيار والتجريب
بهذا نتحول إلى محور آخر من محاور الفن أو المسرح الملتزم ألا وهو محور معني بالثورة بوصفها مصطلح معبر عن التغيير الجذري وهنا يتمرد المنجز الإبداعي على قواعد تستلب منه حريته فيحطمها ويأتي ببديلها بالإشارة إلى البنى الفنية الجمالية لا المضامين التي كنا مررنا بها..
وسيصل بنا هذا اللون الجمالي في التعبير من أدب الثورة وفنها، إلى استيلاد مسرح المقاومة بالارتباط بمحطات القضية ومفرداتها وهنا أشير إلى ديمومة صلة الإنسان بالحياة ما يفرض تنوعات وتحولات على وفق ما تعبر عنه أو تعالجه
سنجد هنا أن مسرح المقاومة يتلخص بـبدائل جمالية رصدناها في الشعر والسرد وطبعا هنا في الدراما \ المسرح منها بوجه مخصوص. لكن حتما بعيدا عن السطحية الساذجة المفرغة من عمقها الإنساني المركب
ساشير ربما بوقت لاحق إلى أثر السذاجة في المعالجة الجمالية وتحولها إلى صراخ مؤذٍ بخلاف ما تمنحنا إياه حالات معالجة بالعمق في التناول والتمكن من الأداء الجمالي الناجم عن حجم الارتباط بالحياة وبالإنسان وتفاصيل خطاه وجوديا..
تشابك الارتباط بين فلسطين وعمقها العربي وتمظهراته في الأدب والفن
ينبغي بدءاً أن نؤكد أن المسرح العربي الذي بدأ بتنوعات بين الكلاسي وتقليديته والحداثي وكل مشروعات التجديد والتأصيل لم يكن بعيداً عن القضية الفلسطينية التي بقيت ومازالت حية في الضمير والوجدان العربي بعامة وعند كتّاب الإ[داع وجمالياته بتنوعات محاوره..
ومن هنا كان اختيار موضوعة قومية إنسانية كالقضية الفلسطينية بين أبرز الموضوعات القومية التي تطرق إليها المسرح بتعدد منجزاته وما يمكن أن نسميها هويات اشتغالاته وليس بوحدة الهوية على أساس أن هوية عربية للمسرح تظل إشكالية لها مكانها من الجدل.
وفي ضوء تلكم الحقيقة لن نجد حركة مسرحية بالمستوى الوطني لأية دولة عربية أو شرق أوسطية وشمال إفريقية إلا وتناولت القضية الفلسطينية سواء بصيغة استدعت التوصيف بمسرح المقاومة أم بأية صيغة أخرى ما ظهر لنا وجمهور الأدب والفن..
ونحن في المستوى العربي سنستغرق دهرا من المناقشات المثخنة بجراحات النقد وأداءاته لكننا سنركز الليلة بهذي السويعة على بضعة نماذج من دون أن نغفل التوكيد على أن نماذج أخرى قد تكون أكثر استحقاقا وأهمية سوى أن الندوة تريد معالجة اصطلاحية محددة محدودة..
لقد جاءت أكداس من تلك الأعمال المسرحية استجابة لانعكاسات شعورية انفعالية تجاه مجريات الحدث على أرض الواقع بخاصة مع حرب العصابات وإرهابها السكان المسالمين واختلال التوازن في الصراع طوال النصف الأول من القرن العشرين.. وهكذا فما حرَّك إنتاج تلك الأعمال هو الغضب والاستنكار الذي جاءت المسرحيات مشحونة به وبشعارات معبرة عنه..
. وسنجد أن المسرح المصري كان أفضل في قدرته على التجسيد الجمالي بخلفية تجربته وثراء مبدعيه وحجم النهضة التي وصلتها بتلك المرحلة كوكبة الإبداع.. ولعل الإشارة إلى أحمد علي باكثير ستكون أكثر من مهمة بسبب دوره في المعالجة وقدرة التنبؤ لدى الدرامي وهو يعالج موضوعة خطيرة وندرك هنا سبب ظهور “شيلوك الجديد”، حيث تنبأ فيها بقيام إسرائيل، وقد اقتبس باكثير بطل مسرحيته من المرابي شايلوك بطل شكسبير في ”تاجر البندقية ”، منتقداً وعد بلفور كونه يعبر عن إعطاء من لا يملك لمن لا يستحق كما سيؤكد رؤيتنا استطلاعنا قصدية مسرحية “شعب الله المختار 1956” في أسلوب تهكمها من هكذا لقب واستعراض مادتها بطريقة السخرية التي تفضح الجريمة والمجرم وتتنبأ بنهاية اغتصاب وطن والاعتداء على شعبه وللذكر فقط فقد مثل المسرح الشعبي المصري تلك المسرحية بإخراج الفنان الراحل كرم مطاوع سنة 1958….
وسنمر على مسرحية محمود ذياب “باب الفتوح” التي عرضت للقهر الذي أصاب الفلسطيني؛ عبر سجال التراثي التاريخي مع المعاصر ومحاولة بطل العمل [البطل الشعبي\أسامة بن يعقوب] الوصول إلى صلاح الدين كي يُنبِئهُ عن الحال غير أنه سيتم تصفيته مع تحويل بيت الفلسطيني لماخور من دون أن يكون الأمل مفقودا بل بقي مع وثيقة محمود ذياب التي حمَّلها لبطل المسرحية الشعبي..
وسنطلع في البحث بدفاتر المنجز الإبداعي عملا مسرحيا للفنان الكبير يوسف وهبي كتبه عن القضية الفلسطينية ، بعنوان: “الصهيوني” الأمر الذي أراد فيه أن يدين الاحتلال غب إنشاء دولته وكالعادة سنجد ابن الباشوات المتمرد الملتحق بالطيران للنهوض بدوره في الحرب..
لقد كان لزيارات فناني مصر لفلسطين تأثيرات جدية في منحها حيوية المبادرة بوقت تال وفي حينه كانت المقاهي التي تحول بعضها لمسارح كان لها دورها في استقبال فرق مصرية كما بفرقة أمين عطا الله، وسلامة حجازي، ومنيرة المهدية، وفاطمة رشدي، ونجيب الريحاني، وفوزي منيب، وغيرها من الفرق ومن الفنانات والفنانين.
لقد برز المسرح الفلسطيني بوصفه واحدا من منجزات ثقافة الوطن وهويته منذ وقت مبكر لكن وضوح الأداء وتحوله النوعي لم يكن زمن القمع البريطاني ومن ثم الإسرائيلي بل جاء بمرحلة تعمدت فيها الثقافة الوطنية وارتبطت بقوة بهدير الحراك الشعبي بخاصة مع تعاظم حركة التحرر مذ أول انطلاقة لها في فاتح يناير 1965 حيث كانت مبادرة حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) لتشكيل جمعية المسرح الفلسطيني سنة 1966 في المهجر بدمشق وأخذت تلك الفرقة تسمية فرقة “فتح المسرحية” وكان من أبرز أعمالها: مسرحية شعب لن يموت تأليف فتى الثورة (سعيد المزين/أبو هشام) ومسرحية “الطريق” تأليف وإخراج نصر شما. بجانب تقديم مسرحية سعدالله ونوس: “حفلة من أجل 5 حزيران”
بعد ذلك سنجد فرق مسرحية تبنت مفهوم مسرح المقاومة كما بمسرح الحكواتي أو المسرح الوطني الفلسطيني الذي بدأ بالقدس عام 1984 ولاحقا سنابل والورشة الفنية فيما سنجد بمدينة الخليل مسرح الأحلام \ صندوق العجب مثلما سنجد مسرح الميدان في حيفا ومسرح الحرية الذي أسسته أرتا مير خميس في جنين وأداره الفنان محمد بكري…
لقد كانت العواصم العربية قريبة في حوار مسارحها والقضية الفلسطينية سواء كان ذلك بمعطيات مسرح مقاومة أم باشتغال الجدل الفكري السياسي..
ولعل التذكير بسرعة وامضة بأعمال مثل مسرحيات: سعدالدين وهبة كما في”المســامير”، و”سبع سواقي”، ويوسف إدريس في “المخططون”، وألفريد فرج في “النار والزيتون”، وعلي عقلة عرســان في “عراضة الخصوم”، و وليد إخلاصي في “يوم أسقطنا طائر الوهم” وغيرها وغيرها..
يمكننا كذلك التوقف بالإشارة الموجزة إلى أعمال سعدالله ونوس كما في نص “الاغتصاب”، وحكاية عروسين من أسرة فلسطينية يتم اعتقال، اسماعيل العريس لأنه ناشط في خلية فلسطينية بجوارها حكاية ثانية لأسرة إسرائيلية تتكون من إسحق وزوجته راحيل وطفلهما، يعيشان برفقة أم إسحق، أما عمل إسحاق فهو رجل شرطة يشتغل في الأمن القومي والمسرحية تجمع بين إسحاق وإسماعيل بمشاهد التعذيب واغتصاب زوجة الفلسطيني مع الكشف عن أمراض سببها الاحتلال وفلسفته من خيانة، وعصاب، وبرود جنسي ومشاكل نفسية مختلفة..
وإذا ما ولجنا مرحلة ما بعد 5 حزيران يونيو 1967 فإننا سنلتقي ومسرحية سعدالله ونوس الأبرز والأهم ألا وهي “حفلة سمر من أجل ٥ حزيران”، التي قدمت مسرح مقاومة، مسرح ثورة حقيقي، ليس في الرد على ما تمت تسميته سياسيا بالنكسة ولكن أيضا بالدعوة المشرقة بقدرات التغيير بدءا بجماليات الإبداع المسرحي التي حطَّمت القواعد التقليدية للبنية المسرحية ومرورا إلى توظيف السخرية ومرارتها نهجاً إبداعيا في محاولة لاستعادة الرد المؤمل..
ولربما كان التغيير المنادى به قد جاء بشيء من ذاكرة ثورة شبيبة اليسار وطلبته بفرنسا 1968. هنا بودي التذكير بأن رفض التركيز على الحكاية ووحدتها منح ونوس فرصة إشراك الجمهور في سجال العمل الذي قام على وحدة الرؤية والفكر الذي يقع في الخطة العامة أو العميقة التي تنبني عليها المسرحية بخلاف تشظيات المحكي بين ومضات تتوالى على وفق ضرورات تنامي الفكرة بمنطقة التصق بها المسرح بقضايا الشعوب ومنعطفات الفكر السياسي الكبرى وانعكاساتها..
وبعد تبقى دراسة المنجز الأدبي والفني المدخل الحقيقي لفهم الآخر والتعامل معه بالنهج الذي يضع الانتصار بين يدي الصواب والإيجاب ويمكنه أن يستعيد ما خسرته الشعوب في معاركها طوال قرن من الصراع المعاصر.. لكننا حتى يومنا مازلنا نتعثر بربكة من تمكين مؤسسات من التوثيق أولا ومن وضع ذلك بين أيدي الباحثات والباحثين للوصول إلى استنتاجات تقدم خطوات البديل والحل..
قراءة في أعمال مسرحية ومحمولاتها
دعوني أتنقل سريعا بين ثنايا مادتي بتناول جانب من المنجز المسرحي العراقي ومساهمته مع بعض السمات التي برزت في تحولات المسرحية العراقية ونمو قدراتها وربما لأهمية مستوى الشخصية وبنيتها الفكرية وقدرتها على مناقشة ما يجابهها والتوصل لوسائل التصدي له وحل معضلاته ما يدفعنا لاختيار هذا العنصر من بين عناصر البنية الدرامية للكشف عن معالم المتغيرات فالشخصية بوصفها عنصرا دراميا رئيسا في البنية بجانب الصراع والحبكة والحوار هي ما يمكننا النفوذ عبر قراءتها للكشف عن طابع الأعمال المقدمة وكيف ظهرت لنا..
فنحن نصادف نموذجاً جديداً من الشخصيات الدرامية في نهاية الأربعينات؛ كما في مسرحية (فلسطين المجاهدة) 1948[1]. لميرزا حمزة؛ تلك التي نجابه فيها بشخصيات مليئة بالتوتر والمعاناة وهو توتر من طراز جديد، قوة الشد المباشرة فيه ليست الظروف الاجتماعية المحلية وإنّما ظرف سياسي يتمثل في التطورات الخطيرة التي حصلت آنذاك في القضية الفلسطينية حيث انفضت الحرب العربية – الإسرائيلية \ الصهيونية عن ظاهرة اللاجئ الفلسطيني، وهكذا وجدنا شخصية الفلسطيني منها: المناضل، ومنها اللاجئ، أو العميل الخاضع قد لاقت جميعا ومنذ ذلك الحين اهتماما متزايدا في الأعمال الأدبية والفنية العربية.
ومن هنا فإنّ تتبع الشخصية بتلك الأعمال، ربما كان مفيدا كبداية لمتابعة تطور المعالجة الدرامية لها في الأعمال اللاحقة.
الشخصية المحبطة في مسرحية ((فلسطين المجاهدة)).
في (( فلسطين المجاهدة)) لا نعثر على شخصية إنسانية ذات هوية فردية محددة بل هناك، رجل أوروبي، رجل حجازي، رجل عراقي، رجل أردني…إلخ. وجميع تلك الشخصيات هي شخصيات نائبة أو رموز تمثل الأقطار العربية والدول الغربية ومسلمي مشارق الأرض ومغاربها. وهذه المبالغة في استخدام الرمز تمحو العمق الإنساني للشخصية وتحولها إلى نماذج ذهنية مجردة أو مسطحة. والاختلاف الأول بين الرمز هنا والرمزية بوصفها اتجاهاً أدبيا هو أنّ الأخيرة تعتمد تكنيكاً معقدا للتعبير عن غاياتها ويتضمن هذا التنكيك أدوات رمزية أو رموزا مباشرة تدخل في التركيب العام للعمل. والشخصية الرمزية تملك عمقها من العلاقات المتشابكة ومن عمق الأفكار التي تحملها على وفق مسوغات منطقية.
فيما لا نعثر على هذه الصورة ورؤيتها في مسرحيتنا هذه ولا في شخصياتها. ذلك أن الشخصيات هنا ليست رموزاً حسب بل انعكاساً لتصورات الكاتب، يوزع آراءه بينها من دون أيّ تدقيق في ملاءمة أن تحمل هذه الشخصية فكرة أو أخرى؛ فالغربي – وهو يمثل الدول الغربية حسب وصف المؤلف.. يتحدث عن الوحدة العربية وعن تحرير فلسطين بأسلوب الثائر العربي والأخير يتحدث بأسلوب أعدائه وبما يناقض طبيعته.
وجملة القول في هذه الشخصيات أنها تحاول تجسيد هموم قضية كبيرة وطرحها بشكل درامي مباشر، وكل هذا في إطار ما نسميه بالمسرحية الوعظية التي تعطي فسحة واضحة لإلقاء الخطب والمواعظ بوصف ذلك جزءاً من أسلوبها أو طريقة معالجتها البنائية.. ولكي نستطيع تحديد طبيعة هذه المسرحية وبنية شخصياتها، علينا تحديد صنفها أو جنسها (species) الدرامي؛ إذ تندرج تحت يافطة مسرحية الصياغة العقلية ثلاثة قوالب هي: مسرحية المشكلة (Problem’s play)، ومسرحية الرسالة (Thesis) ومسرحية الدعاية (Propaganda’s play)[2]. فأما مسرحية المشكلة فإنـها
“تعرض المشكلة التي تعالجها وتقف موقف العدل والإنصاف من الطرفين، وينزل الستار دون أن تقدم حلا ما.”[3] تقول مارجوري بولتن عن مسرحية المشكلة إنها: “تعالج مشكلة من المشكلات الاجتماعية أو الأخلاقية الخاصة حتى تجعل الناس يفكرون في تلك المشكلة تفكيراً لوذعياً .. (موجهة) بطريق التضمين أسئلةً محددةً، ثم تقدم هذه الأسئلة المحددة إجابة محددة، أو تترك لنا نحن مشقة البحث عن إجابة ما لتلك الأسئلة”[4]. والاختلاف بين السيد كير والسيدة بولتن يكمن في أنّ الأخيرة اضافت احتمالا يتعلق بإجابة المسرحية عن تلك التساؤلات التي تطرحها. أما مسرحية الرسالة فإنّها تبدأ بقضية حاسمة ثابتة أو “وجهة نظر أو قضية يقدمها شخص ما ويحميها ويدافع عنها بالمناقشة”[5].
وتبقى لدينا مسرحية الدعاية (Propaganda) التي “تلخص إحدى المشاكل، وتناقش الحل الذي يراه المؤلف، ثم تجاهد لتحريض الجمهور على القيام بعمل فوري… وفي حين يقنع المؤلف في مسرحية الرسالة بالموافقة الذهنية على اقتراحه، لا يقنع مؤلف مسرحية الدعاية بأقل من التزام الجمهور التزاماً عاطفياً وتعاونه تعاوناً عملياً”[6] ويعدّ هذا الصنف الدرامي – مسرحية الدعاية – الصنف الأكثر صراحة ، حيث “يسقط كل ادعاء بتعقد شخصية الإنسان فالمعادلة الحسابية هنا عارية يراها الجميع: (أ)- تساوي الفضيلة.. و(ب)- تساوي الرذيلة. (افعل ما اقول) تساوي (الصحة والسعادة إلى الأبد)..”[7].
إنَّ الاستنتاج الذي نخرج به من جملة هذه التعريفات هو تطابق مسرحية (فلسطين المجاهدة) مع تعريف مسرحية الدعاية (Propaganda’s play). والقصد هنا هو محاولتنا الكشف عن البنية الدرامية من جهة واسلوب رسم الشخصية وعلاقتها بها من جهة ثانية.. وهو الأمر الذي أشرنا إليه في بدء تحليلنا للمسرحية.
غير أنّ حدوداً فاصلة يمكن أن نرسمها بين السذاجة وتوافر الحدود الدنيا لنجاح العمل وليس هذا الفاصل في مسرحية الدعاية إلا فكرتها بالذات، لأنّ الفكرة هي العماد الرئيس لبنية العمل الدعائي ولأنّ فكرة (فلسطين المجاهدة) تقبل الحماس والانفعال مثلما تقبل منطق العقل والحكمة بسبب من العلاقة الوجدانية مع أطراف الإبداع الدرامي – مؤلفاً وجمهوراً… فقد وقعت المسرحية في مطب الحماس أكثر من العقل والمنطق وتحولت إلى هتافات متناثرة على شخصياتها وبينها تلك التي تحولت لهذا السبب إلى آلات تتحرك لا بأمر الفكرة وفي خدمتها بل بأمر الكاتب وخدمة غايته الحماسية.
فضلا عن ذلك فالشخصيات مثلما أسلفنا رموز (بالمعنى الخارجي للرمزية إلا أنها رموز واهية لأنها هياكل أو بيادق شطرنجية لا تتغلغل فيها حتى فكرتها التي يُفترض أن تعوض هنا عن البعد الإنساني الواقعي للشخصية فتظل يذلك صوراً كارتونية تنطق بلسان الممثل الذي يتقمصها.
وحالة من هذا النوع لا تقدم لنا أحداثاً منطقية لا تمتلك فرصة من الإيهام بواقعيتها.. وإذا افترضنا جدلاً أنها فعلت مع هذه الأحداث ما فعلته مع الشخصيات أيّ أن تحمّلها رموزاً ومعان بعينها، فإنَّ هذه المعاني لم ترتقِ إلى ما أرادت (النية الحسنة) للمسرحية أن تطرحه؛ وعلى هذا فإنّ بدء طرح الشخصية في مسرحية القضية الفلسطينية لم يوفق في كثير من جوانبه بل إنّ الشخصية الفلسطينية نفسها لم تكن عير حالة من الاستجابة لشعور المؤلف، فهي صامدة تتقدم وتنتصر مرةً وضعيفة مهزومة مرةً أخرى، إذ يصرخ الفلسطيني: “النجدة، النجدة… الإنقاذ.. الإنقاذ”[8]. كل ذلك في نطاق إرادة المؤلف وتحريكه المباشر.
وتختلف الشخصية الفلسطينية في مسرحية أخرى وهي هنا: (مأساة أخوين من اللاجئين) فعلى الرغم من اشتراكها في الموضوع والفكرة وحالة الحماس التي تسمح للكاتب أن يتدخل ليلقي خطاباً على لسان شخصية من شخصيات مسرحيته، إلا أن المسرحية الثانية تقيم الشخصيات على أساس بنيتها الإنسانية الواقعية وليس على أساس الرمز (الخارجي). وأقول الخارجي هنا لأننا نصادف رمزاً من نمط آخر هو كون (حسن وحسين: من شخصيات المسرحية) يمثلان فئة اللاجئين وتمثل معاناتهما معاناة هذه الفئة الفلسطينية الكبيرة؛ ولأنّ المؤلف يشير إلى أن مسرحيته تدرس قضية اللاجئين الفلسطينيين ولأنه صدّر المسرحية بعنوان: (مأساة) أخوين من (اللاجئين) – فإننا نحاول التعامل مع الشخصيات التي يرسمها من هذا المنظار.
فاللاجئان الفلسطينيان يصلان في الفصل الرابع فقط وليس هناك من تقديم لهذا الوصول ولشخصيتيهما في الفصول الثلاثة الأولى؛ وإذ يصلان في بداية الفصل الرابع، يربط المؤلف بينهما وبين عائلة علي عطية (الشخصية الأولى في المسرحية) حيث أنهما ابنا أخت فاطمة زوجته، يحدث هذا الربط بعد أن يعرض لظروف انتقالهما من الأرض المحتلة إلى دمشق فبغداد وهو يظل عرضا سرديا على لسان شخصياته العراقية.
إن القصد في هذا العرض السردي، ليس بناء شخصية لاجئ في هذا العمل الدرامي، ولكنه سرد يدخل ضمن حالات السرد الكثيرة التي جاءت على شكل حوار فكري بين عناصر أو شخصيات العمل. ولهذا فنحن لا نكاد نتعرف إليهما، حتى يصعق أحدهما التيار الكهربائي فيرديه قتيلاً ويصدم الآخر بهذه الحادثة المفاجئة.
وإذا كانت هاتان الشخصيتان أضعف من أن تنهضا بمهمة التعبير عن اللاجئين فإنهما أيضا لم يمتلكا قوة التأثير الدرامي حتى وصلا فعلا في الفصل الرابع ومع ذلك فإن تأثيرهما لم يكن أكثر من ردود فعل انفعالية من: (المفوض) المكلف بالتحقيق في موتهما وهي ردود فعل تحمّل: (الجامعة العربية واختلاف الساسة العرب) مسؤولية مأساتهما، بينما حركة بقية الشخصيات تطغى على العمل الدرامي هذا، وتأخذ مساحة واسعة جداً حتى أنها يمكن أن تأخذ عنواناً لعمل درامي مستقل، يتناول العلاقة بين مالك لشركة نقل وعمال عنده. وإنّ السمة العامة في رسم شخصيات المسرحية هو التشتت.
وعلى أية حال فإنّ هذه المسرحية تدخل ضمن صنف مسرحية الرسالة (Thesis) وهو الأمر الذي يفسح المجال أمام الكاتب للتركيز على الفكرة إلى الدرجة التي أفقدته في النهاية العناية بشخصياته وبــ بنائها الدرامي.
الشخصية السياسية في مسرحية “مأساة فلسطين”
وهناك شخصية أخرى يمكن متابعة تطورها، إنها الشخصية السياسية التي تمثلت بالفلسطيني في (فلسطين المجاهدة) و (مأساة أخوين…) هنا تتمثل في مسرحية (مأساة فلسطين) 1952، لحسن الأسدي بشخصية (الضد) أو النقيض للشخصية الفلسطينية حيث نجد الشخصية الصهيونية بتياريها الديني المحافظ والرأسمالي المتشدد؛ ومقابل هذه الشخصيات يبتدع الكاتب شخصية يهودية لا تتفق مع أهداف هذه الشخصيات، ليثور بعد ذلك جدل عنيف بين الطرفين نكتشف من خلاله أبعاد الشخصية الجديد؛ على أن تحوّل الصنف الدرامي من المسرحية الدعائية (Propaganda) إلى المسرحية الفكرية أو مسرحية الرسالة (Thesis) ينقل طبيعة البنية إلى قوانين أخرى؛ فالشخصية هنا (معبأة) بقضية وهي مستعدة لارتكاب الجرائم في سبيل هذه الغاية، وبالفعل فكل من مارسيل ووالدها يمثلان طرفاً في قضية صراع من أجل البقاء لشعب؛ أو السلطة لقوة غاشمة معتدية.. من هنا انسجم حوارهما مع معتقداتهما فكان الأب يمثل التيار الذي يستخدم الدين لأغراض الدعاية الصهيونية بينما كانت مارسيل الشابة اليافعة ممثلة التيار الذي يستخدم الوعود المادية للغرض نفسه… بينما ينسجم جعل الأخت الكبرى بتجربتها الأوسع من مارسيل ممثلة لقوةٍ تعمل بالضد من محاولة جمع شتات جماعات من شعوب مختلفة ووضعهم في خدمة مخططات لا تخدمهم فضلا عن عدم شرعيتها واغتصابها لحقوق (الغير).
من ملاحظة هذا التفصيل الفكري – السياسي يمكن أن يطلع المتابع على كون هذه الشخصيات هي مجرد (أدوات) في (عملية جدل فكري) أكثر منها عملية مثيرة للفعل أو الحدث الدرامي الذي يتراجع إلى الخلف لتتقدم عليه قوة الجدل بالمعنى (السرديNarrative) للعبارة، فشخصيات المسرحية راشيل، مارسيل، ابوهما – وهي الشخصيات المحورية – لا تقوم بالفعل ولكنها تعلق عليه ونحن هنا لا نريد أن نقول إن هذه الشخصيات أدوات مجردة يحركها الكاتب ولا تحرك نفسها هي في إطار بنية العمل، بل نريد أن نكشف أن هذا (الأنا الروائي) ليس حالة من طغيان السمة السردية بقدر ما هو ضرورة تخضع لها جميع عناصر مسرحية الرسالة ومنها الشخصية التي أصبحت ممثلة لما أطلق عليه (الأنا الروائي)، هذا الأنا الذي يتقمص الشخصيات ويجعلها فاعلة من خلال لسانها.
فنحن لا نستطيع في (مأساة فلسطين) أن نفصل بين الخطة الشخصية إذا افترضنا وجودها على أساس العلاقات الحقيقية – على سبيل المثال الأب وابنتاه – وبين الخطة العامة أو الخطة الفكرية التي تحمل أحداثها على ظهر مراكب هي الكلمات، أي تجري على خلفية حوار هذه الشخصيات.
إن هذه اللحمة بين الخطتين هي التي ساعدت على تجاوز ثغرة اتساع السرد ووفرت فرصا لجعل هذه الحالة أقرب للدلالة الدرامية منها إلى الدلالة القصصية، فحافظت على مقلوب الحالة بمعنى أنها تنقل الفعل الذي يجري في إطار الخطة العامة إلى صوت الشخصية الفردية التي يسد نقص بعدها الإنساني الحقيقي عمقُ وجودها الفكري.
وتعزيزاً لهذه الصورة فإن الشخصيات لم تدخل في صراع حقيقي غير صراع الجدل والمناقشة القائمة على القرائن والبراهين العقلية، وكل طرف يحاول (بأسلوبه) أن يبرهن على صحة توجهه ولهذا فإنّ نهاية الشخصيات ليست تغلب طرف على آخر ولكنه (تنبؤ) واستشراف لمستقبل لابد أن يتحقق بخسارة الأشرار لمواقعهم التي أخذوها عنوة وفوز أصحاب الحق بحقهم.
وهذه النتيجة منطقية تنسجم مع الواقع الحقيقي مثلما تنسجم مع البنية الدرامية للعمل. حيث تظل القوة المسيطرة في موضعها من حيث الموقف العام ولكنه على صعيد آخر تتم تعرية كاملة لهذه القوة الغاشمة بوصفها رمزا للصهيونية وبوصفها أفرادا يحملون هذا المبدأ.. ولعل هذا الحل الدرامي المفتوح في اللحظة أو في ( الآن) المحدد يشكل إجابة قاطعة على مدى المستقبل الذي تستشرفه قوة الحق الصاعدة بوصف هذا نتيجة حامية لا مناص منها.
الشخصية الفلسطينية في مسرحية عائدون
إنّ أول ما يصدم المتابع هو هذا العدد الهائل جداً من الشخصيات فكأننا في عمل سينمائي ملحمي، ولا يقف الأمر عند قضية العدد بل في توزيع الأدوار والمهمات لكل شخصية. حيث يكون تساوي هذه الشخصيات كلها أو بعضها سببا في إضعاف مهمة رسم الشخصية بشكل متأن وواف. ومما يعمق تشتيت هذه المهمة ما يستتبع هذا العدد الكبير من تعدد المقدمات المنطقية، وذلك أن لكل شخصية وضعها الأساس المركزي الذي يمثل فكرة وجودها ويطرح تساؤلات تحتاج لإجابتها الخاصة.. فمتى تتوافر الإجابة عن كل هذه التساؤلات ولكل هذه الشخصيات؟ إلا إذا أهملنا بعضا لحساب البعض الآخر أو إلا إذا أهملنا أغلب الشخصيات لأنه ليس من المعقول أن تمتلك مسرحية لا يزيد مداها على ساعة أو أكثر بقليل فرصة تطوير (22) شخصية اساس فضلا عن أعداد كبيرة أخرى تحمل أعباء مختلفة.
إن تأثير هذا العدد واضح في تفتيت حبكة العمل وفك لحمة تماسكه ووحدته.. وهذا معناه أن الوحدة العضوية للبناء الدرامي تأتي في تعارض مع هذه الكيفية غير المسرحية في معالجة موضوع بناء الشخصية. وهو الأمر الذي يُفقد المسرحية ليس إمكان تقديمها على الخشبة حسب بل حتى إمكان عدّها مسرحية للقراءة.
وفضلا عن هذه المسألة نجابه مشكلة أخرى تعاني منها الشخصية الواحدة: تلك هي وجود أكثر من مقدمة منطقية واحدة للشخصية ما يدخلها في حال من التفتت الداخلي الذي يضعف الشخصية وقدرتها على تحريك الفعل الرئيس للمسرحية.
ومثال هذه الحالة هنا هي شخصية باروخ – الذي تتوزع شخصيته بين مهام إدارة ندوة فكرية، والانتماء إلى عصابة، والانتماء إلى مؤسسة عسكرية…، ومارسيل التي تتحمل مهمات متباينة تتوزع بين كونها فتاة لعوبا، مستغلة ذلك في مهمة محددة، وكونها عضوة عصابة إرهابية وكذلك انتمائها إلى المؤسسة العسكرية…، ومثل باروخ الذي أشرنا إليه شخصية روبين، وهذه الأمثلة الثلاثة لا تجدها على حال واحدة من السلوك؛ فهي في أي موقع ترسم بصورة غير صورتها في المواقع الأخرى، ولعل هذا التمزق التكويني يقف عائقا حاداً أمام تطور الشخصية ودخولها في شبكة الحدث الدرامي وحركته.
ويلاحظ أيضاً سطحية البناء الفكري، سواء للشخصية الفلسطينية أم للشخصية – الضد المعادية. فنحن أمام حال من التصوير الآلي الذي لا يستند إلى منطق التحليل الإنساني الواقعي؛ فكأننا بهذا التصوير نحارب بوساطة سكين أو بوساطة شتيمة لا تقدم ولا تؤخر بمجابهة شخص مسلح بالليزر لدفع سطوته. وليس هذا هو واقع حال الصراع الحقيقي. ولعل سذاجة المعالجة والتفكير بعقلية القرون الغابرة في عصر الذرة يعدّ نكبة للمنطق.. وهي نكبة أقصى على الصعيد الفني حين تفقد مسرحيةٌ تعتمد الفكرة والشخصية، هذين العنصرين نفسيهما.. فما الذي يبقى لهذه المسرحية؟
فحتى الأناشيد والشعارات التي تدخل بوصفها عوامل ربط لا يمكن أن تأخذ مداها الحقيقي من دون أن تجد إطارها الملائم. ذلك أن الحلقات الجوهرية في البنية هزيلة، فلا أهمية لحلقات الربط الأخرى ولا لدورها البنائي.. وعلى أيّة حال فإنّ خلاصة ما ننتهي إليه، هي أنّ الأعمال (العراقية بمرحلتها الأولى) تلك التي تناولت الشخصية الفلسطينية ظلت في إطار من الواقعية الساذجة التي تركت أثرها في ضعف رسم هذه الشخصية درامياً ومن ثمّ في اختلال قدرتها على تحريك العمل الدرامي نفسه ذلك العمل الذي يعتمد هذه الشخصية بشكل جوهري.
تطور صورة الشخصية الفلسطينية مسرحية (السر)
لقد توافرت فرصة بناء شخصية درامية ناضجة متعددة المستويات أو غير سطحية ولا كارتونية، كما هو حالها في العديد من الأعمال المسرحية السابقة، بخاصة تلك الشخصيات السطحية التي كانت مجرد رموز وتسميات نمطية ذات دلالات تشير مثلا إلى الشعب الفلسطيني وشعوب مناضلة أخرى، من دون أن تكون هذه المسميات، ذات بعد إنساني واقعي. وحتى نتصور التطور الذي حصل في معالجة الشخصية الوطنية الفلسطينية في الدراما العراقية نختار نموذجا لذلك مسرحية (السر) 1968 لمحي الدين زنكنة.
لاحظنا في الأعمال المسرحية السابقة أنّ الشخصية مكشوفة سلفاً فالفلسطيني ثائر قدره الانتصار لقضيته والتضحية من أجلها، وبالعكس تكون الشخصية الصهيونية شخصية منهارة مطاردة بجريمتها، حتى تنهار وتسقط بفعل هجوم الشخصية الفلسطينية. إلا أنّ هذا التبسيط لم يعد صحيحاً مع تطور المسرحية ووسائلها التعبيرية.
استخدمت مسرحية (السر) في معالجتها الدرامية لبناء شخصياتها، وسيلتين: تمثلت الأولى بالطبيعة (البوليسية) لحبكة المسرحية، ما أضفى على حركة الشخصيات خصوصية هذا الأسلوب الدرامي. أما الوسيلة الأخرى فقد تمثلت في المعالجة (السايكولوجية) للشخصية.
لقد بدا الصراع الداخلي في المسرحية واضحاً جداً، وسبب ظهوره بهذا العمق يرجع إلى أنّ طرفي الصراع لم يكونا شخصيتين عاديتين ولم يكونا رمزين للخير والشر، لشعبٍ مناضل وعدو غاصب. لم نجد في الشخصيات المجسدة للطرفين صفات نموذجية مطلقة، أي في الشر المطلق يقابله الخير المطلق، الجبن مقابل البطولة. حاييم والمستر جيمس في طرف الشر، ومصطفى الهادي وأخوه محمود في طرف الخير. حاييم الضابط الصهيوني الذي يقف في طرف حرج حيث ينصب الفدائيون قنبلة موقوتة فيؤدي انفجارها إلى فشل عملية صهيونية كبيرة، ضد القواعد الفدائية. إن على حاييم أن يكتشف مكان القنبلة قبل فوات الأوان. ولكن هل يستطيع بخبرته أن ينتزع اعترافاً من الأسيرين الفلسطينيين اللذين يحقق معهما؟ هنا يثور أكثر من مستوى للصراع؛ صراع إرادتين: حاييم بخبرته وخلفه المستر جيمس وتعليماته ومصطفى ومحمود بما يحملانه من إيمان وإصرار بقضيتهما.
وإذا كان الصراعُ بين الطرفين، يقع في نطاق الصراع الخارجي وتحكمه ظروفه الموضوعية المتعلقة باعتقاد كل طرف وما يمثله من قوى؛ فإنّ الصراع داخل شخصية حاييم وداخل شخصية مصطفى وكذلك محمود هو اللون الأعمق من حيث ارتباطه بالطبيعة الإنسانية الواقعية. فحاييم يثور بين لحظة وأخرى ويحاول أن يغتال مصطفى ومحمود، إلا أنّ الخبرة والعلوم التي اكتسبها من دراسته في أمريكا، تفرض عليه أن يهدّئ من انفعاله لكي يكتشف (سر) القنبلة أولاً. ولكي ينتزع اعترافا من الشخصيتين: (مصطفى ومحمود) يستطيع بوساطته أن يحقق انتصاره عليهما، في مقابل هذا يقع مصطفى فريسة خدعة حاييم عندما يعده الأخير بأن يطلق سراحه إذا اقنع محمود على الاعتراف بمكان القنبلة، لذا فهو يخاطب أخاه مصطفى: “كن كيفما شئت، ولكن انقذني.. أتوسل إليك، إنهم لا يريدون أكثر من أن يعرفوا موضع القنبلة، أخبرهم يا محمود.. أخبرهم.”(السر: ص133). وعلى هذا المنوال تكون انفعالات مصطفى بين خوفه من الموت وتعلقه بالحياة بعيداً عمّا وضع نفسه فيه وبين محاولة الخلاص سواء بإقناع محمود أم بكشفه هو سر القنبلة. “مصطفى: إننا نواجه الموت الآن، أنا أواجه الموت بكل ما فيه من بشاعة… وأنت هنا لا تفعل من أجلي شيئاً…يجب أن أنقذ نفسي بأي وسبلة.. بأي وسيلة..”(السر: ص143).
إنّ الصراع النفسي داخل شخصية مصطفى قد حُسِم لصالح الهزيمة، وإن كان يتظاهر بأنه لا يرى في مطالب حاييم منهما أكثر من الاعتراف.. سر القنبلة مقابل إطلاق السراح ولكنه يعرف جيداً أن رأي أخيه محمود صحيح.
“مصطفى: …أيقضون عليَّ جزاء إخبارهم؟
محمود: ولماذا يبقون عليك بعدما ينتزعون منك أسرارك؟
مصطفى: وإذا لم أخبرهم؟ أيبقون عليّ؟ أيدعونني أعيش؟
محمود: لا بالتأكيد، فكلانا مقضي عليه، وكل ما في الأمر إنهم قد يطيلون بقاءك دقائق أملا في الحصول على المزيد من المعلومات.. حتى إذا أفرغوك منها، أو يئسوا منك، قضوا عليك..”(السر: ص ص128-129).
ومع ذلك فإنّ انهيار مصطفى بدا واضحاً، إنه يتشبث بفرصة ما لنجاته، مقرراً الاعتراف، وفي هذه اللحظة يدخل حاييم لقطف ثمرة ضغوطه وخداعه عسى أن يحصل على السر، إلا أنّ محمود يكون قد اتخذ قراره سواء في حسم الصراع النفسي الداخلي لصالح الإصرار والصمود أم على صعيد المنطق العقلي لصالح استخدام أسلوب الخداع نفسه الذي يستخدمه حاييم لانتزاع الاعتراف.
يقول محمود لحاييم: “لقد قررت أن أعترف لكم بكل شيء. ولكني أخشى أن يشي بي أخي، يجب التخلص منه أولا، فقد كان يمنعني طوال الوقت..”(السر: ص155). وبهذه الخدعة يقتل حاييم مصطفى ويقتل معه السر لأنّ محمود يناور مرة أخرى لمدة عشر دقائق هي الوقت الكافي لانفجار القنبلة الذي يتم بموعده وتنهار البناية على حاييم بعد أن تتفجر مخازن العتاد وتفشل العملية التي يقودها حاييم.
إنّ الكيفية التي قُدِّمت بها هذه الشخصيات تشير إلى معالجة درامية أفضل من التجاريب والمعالجات السابقة، ويكمن هذا في تحول النموذج الثوري للفلسطيني من (النمط الرمزي المجرد) إلى (الشخصية ذات العمق الإنساني) من السطحية إلى التركيب وتعدد المستويات، وبخاصة حالة المعالجة للحظات، القلق والصراع الداخلي التي تسبق قرار الخيار “بين الموت بشجاعة والموت بجبن”(السر: ص129). وذلك القرار الذي يعني اختيار طريق الاستشهاد وهو خيار إنساني كبير هيَّأ له الكاتب عندما اعتنى بتفاصيل شخصية محمود، حتى اللحظة الحاسمة.
وكذلك في الإعداد الواضح لشخصية حاييم، بخاصة كشفه دوافع الصراع النفسي عبر المونولوجات التي يُفصح فيها حاييم عن تناقضاته النفسية بين خوفه من الموت، ومحاولاته تحقيق النجاح بانتزاع اعتراف من الفدائي؛ بين كرهه للموت في ظروف أُ<بر على خوضها خدمة لأسياده وبين حماسه لتحقيق الواجب وتطبيق خبراته ومعارفه.
إنّ هذا التطور في بناء شخصية الفلسطيني لم تأتِ من التطور الفكري حسب بل من تطور المعالجة الدرامية بوصفها الأداة التي نتلمس من خلالها بنية الشخصية مسرحياً قبل كل شيء. لهذا فنحن لم نصادف لغة الخطابة الحماسية والبطولة الرومانسية فلقد تخلت المسرحية الجديدة عن هذه السمات غير الدرامية، بوصفها لغة مباشرة وسطحية. واستعاضت عنها بلغة جديدة تنسجم مع التصوير الواقعي للشخصية.
ما التأثير في اختيار البنى الدرامية؟
إنّ تقديم موضوع كالقضية الفلسطينية والتحول إلى معطيات مسرح مقاومة ربما كان متاحا بالنموذج المسرحي الكلاسي وقد تعرفنا إلى هذا عبر متابعة أقسام الحدث الدرامي وتقدمه بالتعقيد ثم التطور بين فعل صاعد وآخر هابط أو بفعل مفتوح الاتجاه لكن ذلك يبقى بحالات كثيرة عرضة للتسطيح وتفريغ البنية من دلالتها ما دفع للتفكير ببنى جديدة امتاحت من تجاريب المسرح العالمي كما في متغيرات جاء بها الراحل الفنان جاسم العبودي عبر تقديم رؤى إخراجية استفادت من تقنيات المسرح التسجيلي لـ (بيتر فايس) وبصورة أوضح من المسرح الملحمي والتغريب(البريشتي) كما حدث في مسرحيتي (الطريق) و(حفلة سمر من اجل 5 حزيران) ونحن ندرك كم حصدت الأخيرة أو حفلة سمر من أصداء مهمة سواء عند مبدعي المسرح أم جمهوره وتأثيرها فيه ليس تعبويا حسب بل وبنيويا بحجم ما حفرته من بنى جمالية كانت لها ثيمات في تشكيل الوعي الجمعي بطريقة نوعية مختلفة..
فكان ذلك علامة إيجابية لمنح طاقة الحراك الجديد في استيلاد توجهات مسرحية جديدة فاعلة تم وضعها بخدمة (القضيّة الفلسطينية) ومفهوم مسرح المقاومة جماليا مضمونيا. فلقد جرى إنتاج خطاب مسرحي بعيدا عن الهتاف والشعاراتية المنبرية الوعظية المباشرة، وجاءت تقنية (الإسقاط) بوساطة القناع التاريخي وتضمينه محمولات فكرية سياسية تعبر عن القضية الفلسطينيَّة بصورة أو نهج رمزي بالاستعارة والتعبيرات غير المباشرة بما بات نهجا نراه اليوم بعديد من الأعمال الدرامية وقد ترسخت تلك التجربة ونهجها مع الأيام..
المعنى هنا هو انطلاق حركة كفاحية نضالية ليس بالخطب والشعارات ولكن أيضا بتشكيل الوعي بصورة تتلاءم وجديد العصر ومنطقه وقيمه وأطر الصراع الدائر.. والقصد هو الارتقاء بمستوى الوعي لنهج يستطيع إنجاز المهمة من بوابتيها إنسانيا بأنسنة الفعل الذي نحمل بجمالياته وفكريا نهضويا بدحر مخلفات الماضي في قراءة الصراع ووسائل الحل..
أذكر بمؤلّف ماركس في المسألة اليهودية وبمجمل الحلول التي تعارضت واصطناع الغيتوات من جهة والتمييز العنصري أو تلفيق حلول لا تتناسب ومصالح البشرية هنا سنجد بدائل شعوبنا في التمسك بالسلام ثيمة جوهرية تكبح العنف ومشعلي الحرائق وما يرتكبون وتعيد الاستقرار والأمن والأمان فضاء للجمال وتعبيره..
كيف جرى الربط بموضوعات المنجز الإبداعي؟
لن ننكر تعدد المستويات بين السطحي والعميق، بين السلبي والإيجابي فهناك شعاراتية أوقعت الجميع بفخاخ قاسية ودموية وشكلت وعيا انفعاليا بلا موضوعية وقد شاهدنا هذا في ولادة المسرح الوطني والقومي بمسيرته فلسطينيا عربيا وكما أشرنا كانت بدايات الوعي المجتمعي بنماذج جمالية مالت للدرامي المسرحي ومثلما كان المسرح تعبيرا عن حضارة المدينة وجمالياتها في التحول من السردي الغنائي إلى الدرامي جاءت بعصرنا مع ولوج منطق التمدن بعقلية متفتحة كانت في البدء إرهاصات محدودة مصطرعة فولدت بسيطة وتحددت بالتعبيرات الانفعالية الأولى أو الشعاراتية وأشير هنا إلى ما مر ذكره مع القصخون والحكواتي ومنصات الركح في المقاهي والميادين العامة وموالد الذكر ربما دينية الطابع لتصل لاحقا لمناطق جديدة نوعيا مع تقدم وعي جمهور الفرجة ووجود كواكب الإبداع وامتياحهم من التجاريب العالمية..
هنا بات الربط أبعد عن التناول المباشر وأدخل في استقلالية خطاب الدراما..
ولنتذكر معا سرديات تحت عنوان مسرحيات ولكنها تضج وتتضخم منتفخة بحجم المادة السردية الوصفية وطبيعة التلقي السلبي التلقيني الذي يخاطب ما في الأفئدة والقلوب من غضب بينما جديد مسرحنا يخاطب العقول ويدفعها للتفكر والتدبر والمساهمة بقسطها في الوصول إلى الهدف..
بودي بعد هذا أن أذكر
طقوس المعاناة في المنجز المسرحي
لقد جابه المسرح بعامة ومسرح الثورة والمقاومة عنتا وعنفا من السلطات كونه يهددها وجوديا ومن هنا وقفت سلطات الاستعمار بالضد من وجود المسرح ونشاطه بحالات بعينها كما فعل الانتداب البريطاني بفلسطين بفرضه الرقابة المقيتة وما اختلقته من عراقيل بوجه مسرح فلسطيني سيُذكي الوعي ويحمله على تبني مبادئ المقاومة ونهجها، حتى لو كان ذلك بتوليد تراكمات متدرجة في ميادين اجتماعية و\أو ثقافية، تمنح الإنسان فاعلية التلاحم والتمسك بأرضه..
بودي التذكير بأن المسرح الفلسطيني أنجب أعلاما مسرحية حصد بعضها جوائز عالمية وسمعة كبيرة في الوسط على الرغم من كل معاناة العراقيل وتثبيط العزائم بالإشارة على سبيل المثال لا الحصر إلى: محمد بكري؛ خليل طافش وأشتغاله مثلا مسرحية معين بسيسو الكرسي أذكرها هنا لما حصدته عربيا وعالميا من سمعة في تناولها، سعيد البيطار نشير إلى مسرحيته نساء غزة وصبر أيوب المعروضة بمسرح الشوا بغزة بحضور مصري وسوري، فرنسوا أبو سالم، فالنتينا أبو عقصة، فاتن خوري، وجوليانو مير خميس وطبيعي أن يكون بعض هؤلاء من عرب 1948 مثلما أبناء الضفة والقطاع مشيرا للأخوين طرزي وما قدماه بغزة..
إن التقدم نحو مسرح المقاومة لم يأت وسط فضاء بلا معاناة وأوصاب سواء خارجية تعود للسياسة العامة ودور سلطات الاحتلال أم السلطات السياسية في بلدان المنطقة أو المعاناة الناجمة عن المواقف المتخلفة بتخلف الوعي وشيوع تقاليد ماضوية..
من هنا كان المسرح النابع من التراث والبطولات القومية منطلقا أوليا سيتحول لاحقا مع نمو الوعي العام إلى نمو وتقدم في الوعي الجمالي وندخل مفهوم مسرح المقاومة بعد ظهور المسرحية السياسية وهذا ما حدث فعليا في فلسطين وفي بيئتها العربية
وسيسجل التاريخ المسرحي ما أبدعه الشاعر سميح القاسم بكتابة مسرحية قرقاش، والشاعر معين بسيسو لإبداعه مسرحية ثورة الزنج مثلما سنشاهد نص غسان كنفاني في مسرحية الباب
ما يهم هنا هو التذكير بإغلاق المسارح كإغلاق الجامعات وغيرها من بيوت الثقافة والمنجز العقلي الإبداعي..
معالجات على حافة الاحتجاج والثورة
مراحل تناول القضية الفلسطينية ومعطيات تطور الثورة وأدواتها \ الثقافة اختيارا
لقد كانت ومازالت القضايا القومية واحدة من محاور ثقافة العراقي الذي يحمل مبدئيا بطابعه هوية الالتحام بالآخر والاتحاد به واحترام وجوده انطلاقا من تعددية المجتمع العراقي وامتدادا للعلائق القومية المتجذرة فيه.. وبهذا الشأن كانت النخبة المثقفة وخطابها ومنه الخطاب الإبداعي الجمالي ركنا بارزا في التعبير ومن هنا وجدنا كتابات وأعمال محلية عراقية بتمام الإنجاز بهذا الميدان بجانب توجه لتبني تقديم الكتابات العربية إخراجا وعروضا مثلما وجدنا على سبيل المثال ما مر معنا من اشتغال الراحل جاسم العبودي للمسرحية الأبرز حفلة سمر وعمل الراحل سامي عبدالحميد بإخراجه ثورة الزنج 1975 [[[ابراهيم جلال، ويوسف العاني، وسامي عبد الحميد وفكرة تأسيس فرقة المسرح الحديث ثم تحولها لاحقا للفن الحديث باتحاد فرقتي شوقي وجلال]]] ليقدم محسن العزاوي باب الفتوح 1977 بكل إيحاءاتها واستدعاءاتها التاريخ ثم سنشاهد ونقرأ لجليل القيسي عددا من الأعمال لعل بينها أيضا (جد عنوانا لهذه التمثيلية) وهي بإخراج سامي عبدالحميد كذلك ما تم إعداده من أشعار محمود درويش، وسميح القاسم، ونزار قباني، وأحمد مطر ونهض بالإعداد والإخراج الراحل قاسم محمد ومثله جاءت مسرحية تكلم يا حجر عن الانتفاضة لمحيي الدين زنكنة وإخراج وجدي العاني 1989 كما سنمر على استيحاء الدراما من أشعار المقاومة كذلك بإعداد الراحل عزيز عبد الصاحب وإخراج الدكتور حميد الجمالي بعنوان أين هو الضوء الأخضر تم تقديمها في حصن الأخيضر وحينها انطلق صوت رياض أحمد بمواويل فلسطينية لاحظوا كيف تم ضخ الشد والجذب وخلق التوتر الانفعالي بجمع الشعر والغناء مع الدراما..
وحيث أننا مطلع سبعينات القرن المنصرم 1972 لابد أن نمر على بنية درامية فريدة قدمها يوسف العاني في مسرحية الخرابة وإخراج مشترك لكل من الأستاذ سامي عبدالحميد والأستاذ قاسم محمد سنجد ظهور السلايدات ومقاطع أفلام سينمائية ثم سنطلع على أعمال مهجرية للعراقي جواد الأسدي في (خيوط من فضة ) و(المجنزرة مكبث) والأخيرة أتذكر عرضا لها بمسرح الرشيد
بهذه الأعمال تأكدت رؤية أن الثورة ليست مجرد لعلعة رصاص وجريان الدم ولكنها رؤية العقل العلمي لقضاياه ووسائل بناء الشخصية الثائرة على قيودها والقادرة على إحداث التغيير سلميا بمساهمة فعلية مؤثرة للثقافة وهنا للمسرح والمسرحية كما مر للتو فكيف ستكون أسئلتنا أدخل في الثقافي وخطابه؟ في المسرحي ومنجزه؟ بعد مسيرة عبرت القرن من العمر والمسيرة؟؟؟ هل سيكون بيننا مكرور الاندفاع وإعلاء شعاراتية ظلت سبب لسطوة انفعالية على حساب درس التجربة وخبرتها أم سنمنح قوانين الدراما حقها في المساهمة وبرهانا عليه عبر لقاء بجمهور الفرجة هو جمهور التمدن والعقل والوضوعية؟؟؟
بعد هذا المرور السريع الوامض أدعوكم لاستذكار كيف تم تناول كل ذلك مسرحيا عبر مراجعة في جداول الأعمال المسرحية التي تناولت بيئة مرتبطة بالقضية بصورة مباشرة أو غير مباشرة ناضجة مرة وربما غير ذلك بمرات أخرى.. شاكرا لطف الإصغاء ومقدما ثقتي وطيدة بكل مساهمة متخصصة منها أم ثقافية عامة تقع في بيئة اشتغال ندوة اليوم..
ت | المؤلف | المسرحية | تاريخها |
001 | حنا رسام | فلسطين المجاهدة | 1936 |
002 | ميرزا حمزة شيرعلي | مأساة أخوين من اللاجئين | 1948 |
003 | ابن الشراة | فلسطين المجاهدة | 1948 |
004 | حسن الأسدي | مأساة فلسطين | 1952 |
005 | عزيز الكعبي | مأساة فلسطين | 1960 |
006 | عبدالإله حسن | فلسطين | 1961 |
007 | عبدالله زكي | لبيك يا فلسطين | 1964 |
008 | عبدالرزاق شاهين | فلسطين عربية | 1968 |
009 | يوسف العاني | الخرابة | 1970 |
010 | عزيز عبدالصاحب | أين هو الضوء الأخضر | 1972 |
011 | جليل القيسي | أيها المشاهد جد عنوانا لهذه المسرحية | 1979 |
012 | محيي الدين زنكنة | تكلم يا حجر | 1989 |
013 | خيوط من فضة | جواد الأسدي | |
014 | المجنزرة مكبث | جواد الأسدي | |
015 | |||
016 |
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=826193