مازال حتى يومنا بعضهم يصر على اتباع نهج التلقين والتحفيظ الآلي السلبي بكل ما لذلك من آثار خطيرة تحطم بنية الشخصية وتمزقها في عصر هو أحوج ما يكون لتمكين الشخصية الإنسانية من إجابة أسئلة بيئته وعصره.. هذه المعالجة إذ تشير لنهج التلقين فإنها تشير أيضا للتحديث وتوظيف طرائق جديدة تتناسب وعصرنا وتمكين المرء من حل ما يجابهه من تحديات بابتكار يتلاءم وتلبية الحاجة الملموسة.. كيف نقرأ الموضوع ونعالجه؟ هذا ما يحاول هذا المقال الإجابة عنه
معالجة موجزة في مخاطر منطق التلقين وضرورة التوجه الحداثي المؤمل حلا موضوعيا بديلا
د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
منذ عقود ومحاولات تحديث التعليم تجابه في مسيرة تبني مهامها الأنجع مشكلات لطالما عرقلتها وربما حجبتها في بعض البلدان، في ضوء طابع الأنظمة الحاكمة وفلسفتها في إدارة الدولة والحياة، وفي ضوء توجيهاتها المركزية التي قد لا تتفق والنموذج المؤمل للعمل به.
وبمراجعة (نهج) التعليم وطرائقه؛ تلك التي سادت عبر قرون وليس مجرد عقود من مسيرة شعوبنا، سنجد أنّ (التلقين) قد ساد حتى ورثت الدولة الحديثة المعاصرة منظومات كتاتيبية ملّائية تحكمت طويلا بنهج التدريس ومناهجه أو مقرراته ومجمل العملية التعليمية.
وبسياق تلك المنظومات التعليمية التي تجاوزتها الأحداث والمتغيرات المعاصرة؛ بات إعداد المعلم \ المدرس وصياغة المقرر ومحتواه وفلسفة معالجاته كلها محكومة بالقيود الفكرية التي لا تسمح ليس بمناقشة وحوار بل ولا حتى إبداء مسوغ أو مبرر لأية معالجة، ما فرض على التلامذة الجمود عند التلقين وترداد محفوظات، يجري تناقلها بلا أية فرصة للتساؤل أو المراجعة؛ ولنتخيل هنا أيضا كيف تكون الشخصية سلبية وضعيفة هزيلة في إمكانات إيجاد حل لما يجابهها من معضلات بسبب ذاك النهج بكل ما حمله ويحمله من أسباب التخلف عن العصر وقيمه وأساليبه ومناهجه..
بخلاف ذلك جاء العصر الحديث ليقف بوجه تلك المنظومة السلبية التي تحنط الأدمغة والعقول لتحشوها بترهات نصية سطحية هي الأبعد عن مناقشة مستجدات الحياة المعاصرة ومتطلباتها مما يلزم توافرها لبناء الشخصية النقدية التي تستطيع تحمل مسؤولية العمل والمهام التي تجابهها..
إنّ قَصْر مهمة التعليم بين المعلم والتلميذ على تلقينه واختبار مستوى الحفظ الآلي السلبي أوقع مجتمعاتنا ببنية شخصية تنتمي للماضي بكل أمراضه ومحددات أنشطته وأنماطها الأمر الذي لا يمكن للواقع الجديد أن يستوعب تلك الشخصية و\أو يقر بوجودها بتلك السمات والخصال..
وعليه فإن تبني نهج التحديث في (طرائق) التعليم ومد جسور العلاقة بين المعلم والطالب ليست قضية رغبة فردية أو موقف مجموعة بعينها في تبنيها الفكري لنظام أو آخر، لكنها ضرورة بل حتمية تُلزمنا بسياقات عملها كونها الوحيدة القادرة على بناء شخصية متمكنة من مهامها ومن تعايشها مع العصر ومتطلباته.
ونحن هنا بصدد الإشارة الصريحة إلى ((نهجٍ)) يتضمن: كلَّ إجراءٍ أو خطوة مبرمجة بترابط تنظيم المعلومات والمهارات والخبرات التعليمية التربوية؛ بقصد الوصول بذلك إلى منظومة أهداف العملية التعليمية، برؤية فلسفية تنتمي للعصر مما لا يتم إلا بمنهج يرتقي لمستوى الإجابة عن أسئلة عصرنا.
ولعل استعراض بعض تلك الطرائق سيكون فرصة إيجابية للنظر في الطابع الحركي الذي يمكنه بناء الشخصية كما أوردنا للتو.. ومن طرائق التعليم العديدة المتنوعة نذكر أبرزها هنا؛ مثل طريقة حل المشكلات التي تقوم استراتيجياً على تفعيل الطالب في مهمة إيجاد حلول علمية للمشكلات التعليميّة التي يواجهها عن طريق إعمال العقل ومثلها طريقة التعاون بين الطلبة، التي يقوم المعلم فيها بدور الموجّه والمنظّم لتلك الخبرات التعليمية من منطلق أنّه إذا نشط الفرد في حل مشكلة مشتقة من واقع الحياة؛ فإنّه سيتوصّل إلى حلّ إيجابي إبداعي يكسبه المهارة والخبرة في حل مشكلات مماثلة ستواجهه في حياته، الأمر الذي يمكنه من إبداع حلول بخلفية الدربة والتمرن وهو ذاته الأمر الذي يتمكن منه بالتعليم الإلكتروني الذي يوفر كلفة الوقت والجهد والمال ويكسر حواجز العزلة والتردد وسنجد عند التفحص أيضا طريقة التعليم القائم على تعاون المتعلمين وتفاعلاتهم بعضهم مع بعض حيث قيمة العمل الجمعي والشعور بالآخر والتفاعل معه إيجابا وسنتعرف إلى التعلّم باللعب بما يستوعب حالات سايكولوجية تنمّي المتعلمين تربويا كما تدفعهم على سبيل المثال لطريقة التمثيل ولعب الأدوار التي تمنحهم ثقة في أداء التجاريب بجانب إحراء تقسيم المنهاج على وحدات لنتمكن من الغوص في تفاصيلها والربط بين مفرداتها أو أقسامها كما يمكّنهم من صنع مشروعات تثير الدربة في الأداء وصنع أفكار مبتكرة جديدة والعمل على الاكتشاف والتمييز والمقارنة وهذه وغيرها كثير من الطرائق الحديثة هي مما لا يقف عند حدود سلبية في الطريقة الكلاسية التقليدية التي تجمدت عند مهمة التحفيظ والتلقين بكل تبعاتها وإحالاتها لعصر مضى وانتهى بل انقرض..
وإذا كانت طريقة التلقين الملائية، التي نؤكد باستمرار على تبعاتها السلبية الخطيرة، تؤدي لتجميد فرص التفكير النقدي وقدرة المعالجة فإن التحديث الذي يكسر القواعد الجامدة ومحنطاتها يستهدف بناء شخصية المتعلم بمنظومة قيم ومهارات وخبرات تجعله قادراً على مجابهة واقعه حالما يستقل ويتخرج، أما تلك المنظومة فتزود المتعلم بالآتي من مخرجاتها القيمية المهمة:
- أولها تنمية قدرات التفكير العلمي النقدي وتطويرها.
- وثانيها تنمية قدرات العمل الجمعي في فريق متعاون يتكامل في إنجاز المهام.
- أما ثالتها فتنمية قدرات الخلق والإبداع أو الابتكار.
- فالالتفات إلى الفروق الفردية في توزيع الأدوار التكاملية.
- وتنمية إمكانات التحدي ومجابهة المشكلات المستجدة.
- ثم تعزيز التمسك بالهوية الإيجابية التي تدعم القيم السامية للفرد والمجموعة.
ومن أجل الوصول إلى تلك الأهداف والغايات الإنسانية وانتمائها للعصر لابد من بعض العوامل المؤثرة في تحديد الطريقة التعليمية وتحديد شخصية المعلم لرفع المستوى والاقتراب من الأفضلية حيث لا وجود للمثال النموذجي الأفضل بصورة رياضية جامدة مطلقة، أجدد القول هنا: إنه من أجل ذلك سنرصد الآتي من الأمور والملاحظات:
- امتلاك المعلم مهارات التعليم وخبراته تدعم التعامل مع طرائق التدريس وخياراتها الأنسب بذكاء وحكمة.
- وامتلاكه المرونة التي تساعد على اختيار الطريقة الملائمة لكل موضوع تعليمي أو أية خطة دراسية ما يجعل المعلم متمكنا من توظيف البعد التطبيقي العملي و\أو العلمي النظري بحسب الحاجة لتفعيل أدوار الطلبة في الحوار واقتراح البدائل..
- ثم امتلاك قدرة التعرف إلى إمكانات المرحلة التعليمية والفروق الفردية في إطار المجموعة التي يتعامل معها بما يمكّنه أي المعلم من اختيار المناسب للمرحلة وللمجموعة من وسائل التعامل والتعليم..
- أن يمتلك المعلم السمات والخصال الشخصية المؤثرة في المتعلم والأهم أن يعرف كيف يوظفها في التأثير عليه بالاتجاه المؤمل.
- كما ينبغي للمعلم تفحّص حجم توافر وسائط الإيضاح والتعلّم واستيعاب المتاح منها لأن ذلك جد مهم في تحديد طريقة التعليم بخاصة بحال وجود مدى أو سقف زمني محدد أو توصيات رسمية مركزية تحظر التجاوز عليها..
- امتلاك قدرة التعامل مع حجم استيعاب الفصل الدراسي لعدد المتعلمين وتنوع أو اختلاف ميولهم وإمكاناتهم المادية الأمر الذي يفرض بيئة تحدد ظروف اختيار الطريقة التعليمية مثلما قد يختزلها أو يصادر حرية التحديث فيها..
- إنما الكلام على التحديث لا يشير قطعاً إلى فرض طريقة أحادية من دون أخرى بل يمكن للدرس الواحد أن يتضمن تنوعا وافرا منها على وفق المتاح وما تفرضه الاشتراطات الفعلية للأهداف المعتمدة ولتوافر شروط العمل..
والقضية لن تتوقف عند الأمور الحرفية في الأداء المهني بل هي من العمق ما يتطلب إعداد المتطلبات بمحمولات فلسفية فكرية تتفتح على منطق التنوير وحركة العصر مثلما توفر قدرات الربط بين آليات العمل وطرائقه من جهة وبين فلسفة المرحلة والنظام الذي تتم فيه العملية التعليمية.. وإذا أبقينا على محدودية التفكير والخبرات وتماهلنا في تزويد المعنيين بتلكم الرؤى المتكاملة فلن نجد سوى مخرجات بائسة بلا قدرة أو إمكانية على مجابهة تحديات العصر.. والكارثة أن بعض أطراف المنطقة تحيا بظل توظيف من هب ودب على أساس الاستجابة لتقسيم مسؤولي التعليم بصورة حصص حزبية طائفية دع عنكم تمرير منطق الخرافة وفلسفته إن تجاوزنا توصيف ما يسمونه تعليما مجازا وقلنا أنه يحمل فلسفة فهي التخريب العقلي وتمزيق الشخصية بدل بنائها وتنمية قدراتها..
إننا بحاجة مستمرة للتحديث في نهج التعليم وطرائقه وفي إزاحة كلكل بقايا التخلف من تلك التي تتمترس خلف محافظة على منظومة تقليدية تعفنت وباتت بركة آسنة وما عاد من حل بديل سوى ما تشهده دول الخليج العربي على سبيل المثال في تبنيها مشروعات تحديث التعليم بكل مفرداته لولوج العصر واللحاق بالدول المتقدمة في هذا الميدان من دون أن يتم إلغاء الهويات الوطنية وما تتضمنه من إيجابيات قيمية..
فلنتنبه على أهمية أولوية التعليم في النظام العام ثم تحديث طرائقه ونهج العمل فيه وانتماء الأداء ومضامين المقررات للعصر وما يواكب أسئلته وسليم إجاباته..
ولموضوع التعليم بمجمله وقفات فلسفية فكرية أخرى أعمق من سرد أدبيات العمل والأداء ومناهجه وطرائقه وأساليب المعالجة فيه وهو ما نطلق النداء للتصدي بمسؤولية لقراءته وتحليله وأخذ العبر في ميدانه..
لقاء سريع بشأن مقال ومضة طرائق التعليم بين منطقي التلقين والحداثة
***************************
المقال في موقعي الفرعي بالحوار المتمدن
https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=787512
***************************
اضغط على الصورة للانتقال أيضاً إلى موقع ألواح سومرية معاصرة ومعالجاته
********************يمكنكم التسجيل للحصول على ما يُنشر أولا بأول***********************
تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/ تيسير عبدالجبار الآلوسي
سجِّل صداقتك ومتابعتك الصفحة توكيداً لموقف نبيل في تبني أنسنة وجودنا وإعلاء صوت حركةالتنوير والتغيير