مقتبس من المعالجة: ”تخدمُ حركةُ التطورِ، التكنولوجي تحديداً، المسرحَ ونموَّهُ؛ إذا ما صادفت موقفاً نوعياً سليماً، لكنَّها تكونُ مجرَّد بحثٍ في الإبهارِ المفرَّغ من الدلالةِ والقيمةِ، إذا ما اتخذتْ منحى الاشتغالِ الشكلاني المحدود. فما هي آثارُ المتغيِّرِ التكنولوجي عراقياً؟ وكيف تمَّ التوظيف..؟”.
هل نستخدم التكنولوجيا لإبهار فارغ!؟ أم يمكن توظيفها بمعان ودلالات بهية تجمع جماليات مسرحنا ومضامين تغني الفرجة وتجعلها سبيلا للوعي وثورة الإنسان لخطى تتقدم به وتسمو؟ هذا جانب من محاولات هذه المعالجة تتطلع لأقلامكم تستكمل الموضوع تنضيجا وتفعيلا… وتحايا للجميع |
عبر تاريخ المسرح، كانت العروض تحاول استثمار أفضل أشكال التطور المتزامنة مع منجزها. وإذا ما تمعَّنا في المسرح القديم فسنجد كيف أنجزت الهندسة معالجاتها لإيصال الصوت من الخشبة إلى أبعد نقطة يجلس فيها جمهور المسرح.. لكنَّ الإشكالية لم تقف عند معايير هندسة العمارة في عصرنا الحديث… فلقد اشتغلت التفاصيل الهندسية على ما يمكن استنطاقه من تكنولوجيا زمننا لحشدها في العرض المسرحي…
هنا كانت الأمور تتجه لمنطق جذب الجمهور وإبهاره بما يحتشد في العرض من وسائل تخص الأشكال والأضواء والألوان وكل الآلات التي تستقطب أبصار المتفرجين بتلك الآلية. ولكن من المهم بمكان أن نشدد على ذلك التوظيف الشكلاني قد احتاج لتحييد الممثل البطل والشخصية المعبرة عن مقابلها الإنساني لصالح المجموعات وحركتها بميزانسين يتلاءم واستعراض الأضواء وألوانها…
إنّ منح العامل البصري أهمية مضاعفة على حساب الصوتي ومنه اللغة البشرية وعنصر الحوار في العمل المسرحي، اندفع أكثر نحو استغلال الثيمة البصرية بطريقة وضع حبكة العمل في تلك البصريات المبهرة.. وهنا يبقى عامل الفرجة متركزاً على ذاك البصري حتى تنقلب الأمور لمتابعة ما يشبه أفلام (الأكشن) أو الحركة وكيفية تحييدها الحوار وتجسيده الحبكة..
إن هوس الأحادية في الاشتغال هو ما تقدمه العروض المعتمدة تكنولوجيا الإبهار.. وبهذا يتقصّد منتجو تلك العروض في أقصى ما يمكنهم من إلغاء عناصر العمل لحساب البصري المفرّغ من فرص استكمال العرض بعناصر الدراما المعروفة. والذريعة عادة مزيد اهتمام بالبصري الذي أبهر منتجي العرض قبل محاولتهم إبهار المتفرج بمنطقهم…
ولطالما اقترن الإبهار البصري إياه بالمسرح التجاري ومنطق ثقافة استهلاكية تحتكر الصواب في منطقها على الرغم من أنه منطق يلغي ثيمة وجود الإنسان ويحيله إلى شيء من الأشياء وحلقة من حلقات تسطيح تفكيره بوضعه في حلقات التبادل السلعي في إطار خطاب الثقافة الاستهلاكية..
إنّ هذا يتلاءم ورأس المال ومنظومته القيمية المعبرة عن مساواة متعمدة بين الإنسان والأشياء كيما يجري تسطيح العقل ووضعه بحلقات خط مستقيم لا يتناسب وتعرجات أو لولبية الحركة الإنسانية بغنى تفاصيلها ومحاور اشتغال العقل فيها…
عراقياً، سنجد المسرح اغتنى دوما بمنطق معانيه ودلالات ولادته في بيئة التمدين واحترام إنسانية الإنسان وتركيبية حركته ووسائل عيشه. بمعنى احترام عناصر المنجز المسرحي كافة من دون تغليبٍ، يُلغي أيٍّ من العناصر وهو ما نستقرئه بأغلب الأعمال، حتى عندما نصل منطقة اشتغال المسرحي العراقي د. صلاح القصب وتركيزه على البصري، فهو لا يغامر ولا يقامر بمنطق الدلالة لحساب بصريات مزيفة استهلاكية الخلفية والثقافة..
لقد اشتغل أساطين المسرح العراقي كما الرائد جاسم العبودي وإبراهيم جلال وغيرهما في النصف الثاني من القرن المنصرم مستفيدين من التكنولوجيا كما باستثمار المسرح الدوار والانتهاء من البصريات الجامدة (ستلايف) وفرص الإضاءة المناسبة وطبعا من دون الانشغال بالمبهر المفرّغ من عناصر العمل المسرحي لكن أيضاً، لابد من الإقرار بأن قصور الإمكانات المتاحة بحينها كانت هي السر الذي دفع لمنح الممثل وعناصر المسرح الأخرى نسب اشتغال أكبر مع أنهم طبعا استثمروا المتاح بمنطقهم الإيجابي البناء المتاح من تكنولوجيا المسرح.
فـ بشأن الإضاءة تم التوظيف في تعزيز الايهام المنظري عبر مساقط جذابة كثيرة التنوع في أداءاتها الفعلية.. ووظف المجسّمات بدل المناظر التي أشرنا إليها وبعامة كان ايقاع العمل عند العبودي يتأتى من توحيد مكونات العرض. أما إبراهيم جلال فإنه من حيث التقنية أدخل تقنية رفع المناظر بوسائل مبتكرة على صعيد الخشبة المسرحية العراقية في حينه وأدخل الإنارة الملونة. ومع أنه عمل على تحويل الكلمة إلى الصورة إلا أنه لم يصل إلى حد إلغاء عناصر العرض المتعددة بوجودها وأدوارها. ومثلهما فعل الأستاذ سامي عبدالحميد حين زخرف فضاء العرض بالإضاءة من دون الاعتداء على النص الأصلي من حيث الفكرة واشتغل الأستاذ قاسم محمد بحرية أكبر أثناء فعل الإخراج (باعتماد اشتغاله مؤلفاً لأعماله) مع تركيزه على ضرورة امتلاك الأدوات المعرفية المتطورة الأمر الذي ساعده على خلق تشكيلات بصرية مميزة في عروضه. وعندما نصل الدكتور القصب المهووس بالصور الحلمية سنجده يمنح منجزه رؤية أخرى بمسمى مسرح الصورة على أنّ غايته تكمن في إثارة الدهشة الشعرية بقراءتها بصريا بالصور وبحاجتها للإبهار بهذا المنحى المخصوص..
إن اشتغالات المسرح العراقي قد أنجزت عبر رحلة متغيرات نوعية طويلة تحتاج لوقفات كثيرة لاستنطاق المنجز وهي تمتلك الجدارة باعتماد هويتها المخصوصة التي أفادت من الموروث المحلي ((سمعياً)) و ((بصرياً)).. وهنا بالتحديد، نشير إلى متابعة الاشتغالات في إطار استثمارها التطور التكنولوجي ووضعه بإطار لا يتعارض ومستوى إنتاج المعاني والدلالات..
إن فكرة الإبهار كمنت في جذب الجمهور بمنجز مخصوص الهوية لكنه لم يصل إلى مستوى التسطيح الذي ارتكبه منتجو المسرح التجاري من إلغاء الدلالي الموجود بالحوار والشخصية الدرامية أو في إلغائهم تكامل عناصر العرض المسرحي وبهذا نكون عراقياً قد ابتعدنا عن تقديم الإبهار البصري المجرد المفرّغ عن قصد وتعمد في الفلسفة التي يستند إليها وفي تجنّب آليات إنتاج ذاك المنجز كما نجده في برودواي…
إذن، عند التوقف على مشارف التكنولوجيا، سنجدها بيّنة بفجاجة التسطيح في منجزها على وفق معطيات برودواي ومسرحها التجاري حيث يتم اعتماد حبكة التتابع البصري بلا شخصية محددة تبرز عبر الممثل بل بالأساس في تحريك الكتل والمجاميع بما يتلاءم ليس وحركة نص لغوي إنساني وحواراته بل بما يتلاءم وحركة الأضواء والإنارة بتلويناتها المحتشدة بإبهار بصري للضوء، كونه المركز الأهم ثم إسقاطاته على الكتل واختيارات التفاصيل التي يتم إبرازها..
وهنا سنشهد أن الإنسان يبرز بجسده ومناطق الجسد التي تعرض أمورا بصرية لهذا الإيحاء أو ذاك من تشييء الكتل البشرية وتحريكها البصري الشكلاني أو الذي يعرض التشكيلات سينوغرافيّاً، بميزانسين ملائم.. الأهمية هنا للإبهار لا البصري بمعناه المستثمَر الموظَّف بل الضوئي ولمعان ما يسطع من البروجكترات ومن مصادر الليزر وغيرها…
هذا لم يحصل عراقيا، ومجدداً أعود لتوكيد أن البصري جاء استكمالا لعناصر العرض وأن الإبهار فيه جاء باستثمار الكتل ومنطق حراكها بمعاني ودلالات قيمية معيارية تستند من جهة لاستنطاق التراث وما يحمل من رموز بصرية غنية، أُذكِّر بالمعالم الأثرية ومعانيها والتراثيات ودلالاتها وبكل الموروث وقيمه التي تحترم الإنسان وعقله وأنوار ذياك العقل المعجون بمنجزٍ حضاريٍّ إنساني وبطابع التمدين الذي يؤنسن الأشياء بخلاف من يشيّئ الإنسان..
الأمثلة التي أوردتْها المعالجةُ، هي قليل من غنى وثراء كبير في المنجز المسرحي ولربما انطبق هذا على المنجز المسرحي عربياً إقليمياً؛ بمجمل منطقة الشرقين الأدنى والأوسط…
إنّ هذا التناول يظل بحاجة للتعمق والاتساع ولعل التطلع لتداخلات الزميلات والزملاء سواء تجاه البعد المسرحي ومعاني تناوله أم في الخلفية الفكرية الفلسفية وجمالياتها، لعله يظل بوابة لهذا الاستكمال المرتجى عبر حوار مفتوح بمستويات محاوره الجمالية المضمونية…
فإلى لقاء
التعليقات
جانب من محاولات هذه المعالجة تتطلع لأقلامكم تستكمل الموضوع تنضيجا وتفعيلا
وتحايا للجميع
Khairia Al-Mansour الكاتب د. تيسير الآلوسي من زاويته نوافذ واطلالات تنويرية يكتب … تكنولوجيا المسرح والإبهار..
Tayseer A. Al-Alousi Imad Abbass حسن متعب رائد الهاشمي عبد الحفيظ محبوب Faisal Jassim Aziz Alsaadi د.يوسف رشيد
Ali Khan AtHir HaDdad Muna Shabo Sonja El Haddad
زاوية نوافذ وإطلالات تنويرية 1- 19 الروابط في أدناه
زاوية نوافذ وإطلالات تنويرية \ د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
موقع الصدى.نت
توطئة: اخترتُ تسمية نوافذ، لأنّ كل معالجة تتجسد بموضوع بعينه يمثل (نافذة) من النوافذ ليمر إلى جمهوره عبر تلك النافذة؛ في حلقات.. وتمثل كل حلقة (إطلالة) من الإطلالات التنويرية. ومن هنا جاء اختيار اسم الزاوية كونها (نوافذ) تمر عبرها (إطلالات) تنويرية الدلالة والقصد. بمعنى أنّها تجسد محاولة لـ تلخيص التجاريب الإنسانية بجهد لمحرر الزاوية؛ متطلعاً لتفاعلات تجسد إطلالات المتلقين بتداخلات ورؤى ومعالجات مقابلة، يمكنها تنضيج المشترك بين مقترح النوافذ وإطلالاتها التنويرية وبين توصيات المتخصصين والجمهور وما يروه حاسماً في تقديم المعالجة الأنجع.
مرحبا بكنّ، مرحباً بكم في زاوية ((نوافذ وإطلالات تنويرية))، إنها محاولة لتفتيح النوافذ ومن ثمّ تفتيح البوابات وجعلها مشرعة للحوار الأنجع والأكثر تنضيجاً لمعطيات تجاريبنا الخاصة والعامة، تجاريبنا الجمعية التي نتبادل فيها الخبرات ونستقطب منها وبوساطتها المتاح من القيم السامية لمنجزنا المشترك
نافذة (1) بعنوان: منطق العقل العلمي ومنهجه
نافذة (2) بعنوان: المسرح والحياة
سلسلة إطلالات تنويرية للنافذة الثانية كل إطلالة هي حلقة من سلسلة حلقات المعالجة التي تصب بتناول العمق الفلسفي الفكري لخطاب المسرح وعلاقته بالواقع ومنطق العقل العلمي ومنهجه:
زاوية: نوافذ وإطلالات تنويرية \\ نافذة 02: المسرح والحياة \\ إطلالة 19: تكنولوجيا المسرح والإبهار
نوافذ وإطلالات تنويرية \\ نافذة 02: المسرح والحياة \\ إطلالة 10: ظهور المرأة شخصية وقضية في المسرح
*** ***** ***
إلى إطلالات النوافذ التنويرية السابقة
*** ***** ***
إطلالات النافذة (1) وكانت بعنوان: منطق العقل العلمي ومنهجه
نوافذ وإطلالات تنويرية منهج العقل العلمي \\ نافذة 1ج منهج العقل العلمي وقدرات الفعل \\ إطلالة 30: منهج العقل العلمي وجوهر التجربة التاريخية لحركة التنوير
يمكنكنّ ويمكنكم الاطلاع على حلقات النافذة الأولى في أسفل الحلقة الأخيرة الموجودة في الرابط أعلاه
****************************************************************************
اضغط على الصورة للانتقال إلى الموقع ومعالجاته
*********************************************
تيسير عبدالجبار الآلوسي
https://www.facebook.com/alalousiarchive/
للوصول إلى كتابات تيسير الآلوسي في مواقع التواصل الاجتماعي
https://www.somerian-slates.com/2016/10/19/3752/