تحلّ هذه الأيام بعض من أبرز أعياد الطيف العراقي الأصيل من مسيحيين ومندائيين وغيرهم.. وهي الأطياف التي احتفلت بدءاً بالتغيير الراديكالي عام 2003 متطلعة لعراق جديد يحترم وجودها بوصفها من مكونات الشعب الأصيلة بل تلك التي كانت لآلاف سنين خلت الأغلبية التي شادت حضارة وادي الرافدين وتراث الإنسانية التنويري البهي..
ولطالما احتفلت شعوب العراق القديم بأعيادها، طوال مسيرة بناء الحضارة وتقدمها بخطى ارتقت بالبشرية ببناء مجتمع المدينة المتمدن المتحضر.. وركزت على بناء الإنسان بنشر ثقافة الفرح والمسرة وإشراقة الأمل ضد ما جابه العراقيون القدامى من كوارث بيئية طبيعية ومن غزوات.. واستمرت الاحتفالات حتى العراق الوسيط تاريخيا بحضارة هجرات جزرية جديدة…
ولكن، مع سطوة دويلات العسكرة المغلفة بالتدين الطائفي بجناحيه، فُرِضت مقاتل ومواجع بكل فجائعياتها وأحزانها، وتوبعت الفواجع مع ولادة الدولة العراقية المعاصرة، وافتتحت المسيرة بجريمة غبادة جماعية طاولت المسيحيين في ثلاثينات القرن الماضي وترحيل اليهود في أربعينات القرن وخمسيناته وجريمة الفرهود ثم يعيدون الكَرَّة اليوم بجرائم إبادة جماعية تشمل التصفيات الجسدية ومحق الهوية للمسيحيين، الأيزديين، المندائيين وغيرهم…
وبمطلع الجمهورية السادسة ما بعد 2003 كنتُ شخصياً أركز على نشر قيم التسامح والتعايش وتشاطر المناسبات والنشارك في الأتراح والأفراح؛ وبدأتُ حملةً واسعة من النشر في معالجات تتناول تلك المكونات بعيداً عن مصطلح أقليات التهميشي الجائر وعميقاً في احترام وجودهم الإنساني وهويتهم وكل ما يُعلي من الشأن ويستجيب للحقوق والحريات.. وإنه لاعتزاز وشرف أن أكون من بين أوائل من أطلق نداءات إحياء مناسبات هذه المجموعات القومية والدينية والمذهبية والاحتفاء أو الاحتفال المشترك وطنياً بها.
ومع مواصلة نشر ذيّاك السلوك الإنساني السامي القائم على التسامح والإخاء والمساواة، جابهنا مزيد كوارث وفواجع ألحت في جهود التطهير العرقي الديني المذهبي للعراق باستراتيجية إخلائه من أهله والإبقاء على طيف مذهبي ماسور بمحرقة الطائفية المضلِّلة ليس لسواد عيون أتباع ذاك المذهب ولكن لمآرب باتت اليوم مفضوحة سياسياً حيث اشكال التبعية والاحتلال لا تستحي من إعلان الغاية…
إن ملايين المسيحيين باتوا في مهاجر قصية يساهمون في بناء مجتمعات أخرى استضافتهم باحترام إنساني ومساواة وملايين أخرى من مختلف الانتماءات من أتباع الديانات والمذاهب فيما تتابع يد الجريمة، تنفيذ خطاها الظلامية النكراء…
فلا مجال فعلي لممارسة الطقوس وعيش سلوكيات تحكمها ثقافة خطاب وهوية مخصوصة من دون قيود باهضة الثمن وهو ما يمثل جريمة تصفوية لخطاب الحريات وحق التمسك بالهوية الدينية المذهبية بإطار من التعايش الوطني الإنساني! وأبعد وأقسى حملات التطهير العرقي الديني حيث التهجير القسري بين المدن والقرى بمحطات العزل والفصل الديني المذهبي وحملات أبعد خطى بتهجير قسري خارج البلاد نهائيا أو التعرض للتفصية الدموية الأبشع جماعيا باستخدام أنكى جرائم الذبح الوحشي والتقتيل الجماعي والدفن أحياءً والاستعباد والإذلال…
بهذه الفضاءات يحيا العراقيون الأصائل بكل هوياتهم الدينية والمذهبية مسلسلا ماساويا كارثياً بلا انقطاع ويراد لنا هذه المرة إرسال التهاني الفرائحية ما يعني مساهمة في التضليل والتعمية على ما يجري من نكبات وطنية وإنساسنية حيث غصابة المجتمع العراقي برمته بكارثة التطهير والتصفية الهمجية لطابع التنوع والتعددية وإنهاء بناه الإنسانية التي عاشها لأكثر من عشرة آلاف عام …
إنني هذه المرة أضع صياغة أخرى لمبادلة هذه الجموع الأصيلة التحايا بالتأكيد عبر المناسبات على جانب التطلع إلى آمال نتمسك بها عبر مسارات تتصدى للجريمة وتفضح معالمها ووقائعها الفجائعية، وبما يمتنع على التجيير والمشاركة بجريمة التصفية…
أيتها الصديقات، ايها الأصدقاء
لنكن على أعلى حالات التنبه على المجريات الإجرامية ولنتحد في مهمة الدفاع عن تنوعنا وتعدديتنا بمعنى عن إنسانيتنا الحرة في الاختيار وفي حقوق العيش الإنساني على وفق تلك الخيارات المستقلة الحرة والمدافعة عن حقوقها الإنسانية السامية المكفولة في القانون الإنساني الدولي وفي لوائح حقوق الإنسان واتفاقاته وعهوده ومواثيقه المعمدة بتضحيات البشرية…
إنني لأثق بأن تضامننا ينطلق من التأسيس لوعي يتلاءم في خطاه وما تتطلبه كل مرحلة من ممارسة وجهد وخطى تتناسب وفرص استعادة أنسنة وجودنا ووقف ما يرتكبه المجرمون من شواذ التاريخ الإنساني…
وكنموذج على سبيل المثال لا الحصر أسأل: هل يصح تقديم التهاني لمسيحي أو مندائي أو أيزيدي في قلب وجوده في عزاء بناته وأبنائه!؟ علينا أن نضبط خيارات التوقيت والأسلوب، أن نضبط كل ممارسة ومتطلبات المرحلة.. أرجوكم تذكروا كل ما جرى ويجري من جرائم.
أقرّ أنَّ تغييرا ديموغرافيا بالمستويات الوطنية لدول المنطقة قد يتعالى نهيقه النشاز، طبعا مع إدراكنا من يقف وراءه سواء من قوى عنفية ظلامية محلية وما تمثله من قوى مافيوية دولية ونظام استغلال مرضي خطير، وأذكر شخصيا هنا بأمثلة للتعتيم والتجيير يوم نرى زعيماً ظلامياً لقوة تستبيح الآخر وهو يتظاهر بزيارة أو تهنئة وتمثيلية الزيف والادعاء الكاذب في تلك الفعلة؛ أعود لأقول: مع إقرارنا ذاك بالمجريات وطابعها الكارثي المؤلم إلا أننا إنسانيا سنصل معاً وسوياً مستقراً وسلاماً؛ نريد أن يتحقق بأقل ما يُفرض علينا من قرابين وتضحيات عبر أروع إدراك قيمي للمسيرة وخطاها الاستراتيجية ومفردات الصراع فيها…
فهلا كنا هنا في هذا الفضاء الوطني والإنساني الذي يوجب دقة الخيار في تقويم خطانا وصواب ممارساتنا؟
وتحايا من قبل ومن بعد، إلى كل أحبتي أصدقائي من أتباع الديانات والمذاهب واحترام وإجلال لوجودهم وخيارات هوياتهم وصحيح ما أسسوا له حضارياً عبر التاريخ وصائب ما يؤدون من جهود بنيوية سامية نبيلة وما يحملون من رائع القيم اليوم…