أين يكمن مصدر الفساد وما تمظهراته وميادينه في الوضع العراقي الراهن؟
مقتبس: ” إنّ العلاقة بالدخل القومي تتحدد إيجاباً أم سلباً، في ضوء مصادره سواء كانت مجرد عوائد ريعية أم غيرها من مصادر تقوم على الجهد الإنتاجي المثمر.. ومن المؤكد فإنّ الريعي يفرض خطاباً سيئاً يجسد ثقافة (السلبية) بما يدفع باتجاهات قيمية سلوكية غير صحية، تترتب عليها آفات اجتماعية خطيرة، تكون مدعاة لتكريس عميق حالات الإفساد ومزيد إفرازاتها من أشكال الفساد لا تنحصر بمكونات السلطة بل تتفشى وسط المجتمع برمته وتلك هي الكارثة الأكثر مأساوية..”
يتبادل الاقتصاد الريعي وبنية النظام السياسي التأثير والتوالد على وفق طابعهما وهويتهما.. فالاقتصاد الريعي بمصادره الخارجية والداخلية يقوم على وجود ثروات من قبيل المعادن الطبيعية كالنفط والغاز وأشكال وجود مادي أخرى مثل الآثار والمقامات (الروحية الدينية) و\أو غيرها مما يوفر السياحة فضلا عن مصادر مضاربات مصرفية وأوراق مالية وعقارية؛ وعراقياً تراجع الاقتصاد عن اية جهود استثمارية (إنتاجية) بعد تعطيل تام للدورة الاقتصادية وإيقاف متعمد مع سبق إصرار لكل من الصناعة والزراعة فانهارت أية نسبة للعمل المنتج وبقي الاقتصاد يدور في فلك إنتاج النفط وإهمال كارثي للغاز الذي مازال يُحرق بنسب جد عالية بدل استثماره..
وبعامة فإنّ الاقتصاد الريعي يمتلك آليات اشتغال تفرض هويته أو ثقافته المتلازمة معه ومن ثمّ المرتبطة أو المتلازمة مع البنية السياسية للنظام في أي من بلدان عالمنا الثالث أو عالم التخلف الاستهلاكي.. ففي ثقافة الاقتصاد الريعي، حيث توفير مصادر الدخل القومي \ الوطني يتم في ضوء أسعار المواد الطبيعية وحيث الثروات تأتي بعوائدها من دون جهد إنتاجي فعلي، وإنما تأتي بصراع مع (الآخر) ومن ثم امتصاص أموال ذاك الآخر، مقابل ما يحصل عليه الآخر (الشعوب والدول) من ثروة طبيعية تأتي في أغلب محطات توفيرها من دون جهود إنتاج بشرية فعلية… إنها كما يتوهمها بعضهم، أموال أو ثروات نزلت بقدرة إلهية كما يسوِّقون للفكرة..
ومع غياب أيّ جهد إنتاجي استثماري، تختفي فرص محاسبة المسؤولين ومساءلتهم، فتُحكِم النخب القيادية سطوتها على كل تفاصيل إدارة العمليات الاقتصادية وتوجيه منظومة الحكم السياسي سواء الحكومي أم تفاصيل المجتمع المدني ومنظماته وتتحكم بقبضة حديدية بخطابه السائد، ومثل هذا متاح الأمثلة والنماذج بالإشارة إلى كل من العراق وليبيا واليمن بمضاعفات الأوضاع الأمنية وعدم الاستقرار الذي يطبع الأوضاع العامة ولكن هذا لا يبعد امثلة أخرى لبلدان مستقرة امنيا بشكل نسبي ولكنها تقع بذات الفلك…
إنَّ طابع الحكم في ظل الاقتصاد الريعي يتحول إلى مافيا الاتجار بكل شيء، بيعاً وشراءً، وضمناً الاتجار بالإنسان بعد تشييئ وجوده، وإلغاء طابع الأنسنة ومنطق خطابها الثقافي.. وهكذا فإننا هنا بمجابهة مباشرة مع حال استيلاد لا نخبة حكم تقبل التبدل الشكلي ولكن طبقة كربتوقراط تمتلك ثباتاً نسبياً، حيث يرتبط بوجودها وثبات توالدها، أعمق أشكال الترويج للفساد وثقافته وآليات اشتغاله، الأمر الذي ينعكس على المجتمع برمته عندما تطفو (السلبية) حيث تتأتى من انعكاس ثقافة نظام ومصادر دخله بلا جهد إنتاجي حقيقي فعلي…
إنّ العلاقة بالدخل القومي تتحدد إيجاباً أم سلباً، في ضوء مصادره سواء كانت مجرد عوائد ريعية أم غيرها من مصادر تقوم على الجهد الإنتاجي المثمر.. ومن المؤكد فإنّ الريعي يفرض خطاباً سيئاً يجسد ثقافة (السلبية) بما يدفع باتجاهات قيمية سلوكية غير صحية، تترتب عليها آفات اجتماعية خطيرة، تكون مدعاة لتكريس عميق حالات الإفساد ومزيد إفرازاتها من أشكال الفساد لا تنحصر بمكونات السلطة بل تتفشى وسط المجتمع برمته وتلك هي الكارثة الأكثر مأساوية..
ولابد لي من التوكيد على حقيقة أن نظام الاقتصاد الريعي قد لا يقف عند وجود الثروات الطبيعية وما ينجم عنها من مردود لا يكلف جهداً يُذكر بخاصة عندما تكون عقود إنتاج الثروة قد تمت بصيغ واتفاقات تنفذها أطراف خارجية؛ ولكن هناك في النظام الريعي (بعض) المصادر يدخل فيها جهد محلي لكن عوائده أضخم من حقيقته أو أكبر بكثير مما يُبذل من أجله، مثالنا الذي مرّ ذكره في أعلاه، السياحة نموذجاً وبعض المضاربات المالية العقارية.ومروري على هذه الحقيقة يأتي لاستكمال رؤية بخصوص صورة أشمل وأوسع عن النظام الريعي بقصد إظهار قدرات هذا النظام على التستر والتخفي والتضليل عبر أدوات غير الأمور الريعية البحتة..
فتأثير الاقتصاد الريعي ونظامه لا يقف عند تخوم ظواهر منفردة منعزلة محدودة للفساد كما الرشى، ولكنه إذ يشيع السلبية ويُفشي آلياتها وينشر ثقافتها يكرس معها حال (جمود) المجتمعات و (ركود) فرص الحراك فيها فيحدث التحول بالفساد من حدود أعمال رشى بمختلف الميادين المؤسسية وما يناظرها إلى منظومة قيمية مؤسسية شاملة تعني بالحتم نظاما يتحكم بالدولة والمجتمع؛ وتشمل ظاهرة الركود و\أو السكونية والخمول والتبلد كل من السلطة والناس؛ فتتعقد فرص الوصول إلى الجمهور الأوسع المخترق بمظاهر الفساد وظواهره بكل مستوياتها ومحاورها...
ففي السلطة وسياستها، تضع النخبة قوانين مفصلة على مقاسها بوقت لا توجد قوة تستطيع ردها فيما تقوم به وما ترتكبه من جريمة تجيير سطوتها على السلطة لشرعنة جرائمها.. ويكون بهذا أبرز ركن، ممثلا في توزيع الثروة غير العادل سبباً في المظالم التي يجري تالياً، استغلالها لابتزاز أوسع الشرائح والفئات ووضعها في خيمة هذا الطرف أو ذاك من أجنحة النخب الحاكمة هذا فضلا عن إصابة قوى بخطل التفكير وخطل معالجة قضاياها كما بخطايا تخص عقد بعض التحالفات..
وعليه لا يجوز لأصحاب العقل العلمي التنويري هنا، وضع أحكام قيمية تسمح ولو بشكل مرحلي بالتمييز بين جناح نخبوي حاكم وآخر، فتمنح جناحاً سمة الاعتدال والإنصاف وتُسقِط توصيفا سلبيا على آخر.. لأن أجنحة النخبة الحاكمة في نظام الاقتصاد الريعي تتساوى في كونها جزءاً بنيوياً من النظام لا ينفك عنه نهائياً؛ وإن اختلفت النسب بين جميع مكونات النخبة فهي تتساوى بمشاركتها معا وسويا تكامليا في شرعنة كلية لوجود النظام وليس بحجم حصصها التي تتبدى على وفق التوازنات التي تفرزها صراعاتها في ضوء أوزانها وما تستغله في إدارة صراع اقتسام الغنيمة مثل استغلال ادعاءات القدسية ومرجعيتها الدينية ومثل استغلال وجود أطراف خارجية داعمة ذات ثقل في تسويق هذا الطرف المحلي أو ذاك الجناح. هذا إلى جانب تحكّمها بفئات عريضة بتلك الادعاءات وآليات اشتغال الخرافة وما تجسده من سطوة على العقل الجمعي المجهَّل..
الكارثة أن الاقتصاد الريعي ورديفه نظامه السياسي يتوالد عبر استبدال جد سهل في الوجوه تلك التي يسهل عليها بيع خدماتها لطبقة الكربتوقراط الوليدة. وهنا يأخذ النظام من وسط الجمهور جنوده و\أو ضحاياه. إذن الكارثة تكمن في قدرة توالده بلا تعقيدات مهمة بوجهه؛ إنه التوالد الحاصل في ضوء لعبة الضحك على الذقون بمسميات (إصلاح) اقتصادي و\أو سياسي واجتماعي وحتى ديني من دون فرص حقيقية لإصلاح أوضاع الجمهور العريض.. ولطالما صدحت إنشودة الإصلاح وقشمرياته على ألسن تلك النخب ومن يدور في فلكها عن إيمان أو ابتزاز أو عن خطأ تقدير فكري قيمي ممن يُفترض أن يكون بخندق البديل النوعي بالضرورة ولكنه يعبر نحو متاريس النظام لخطأ في التقدير ولأشكال اقتحام تعود لمغامرات طفولية يسارية أو يمينية تتفتح وسط منطق المراهقة السياسية…
وبناء على ما تقدم أقول: لا وجود لإصلاح في نظام كلي الاتصاف بالطائفية والفساد ودلينا ببساطة هو ظواهر الفقر والبطالة وأشكال الاستغلال إلى حد وصول مستويات الاتجار بالبشر لأبعد قطاعات الشعب وفئاته حتى تنهش بالفئات الواسعة وتتفاقم جرائمها بلا رادع، كل ذلك الهول على الرغم من ادعاءات العمل ببرامج الإصلاح ومنها تلك التي يشرف عليها البنك الدولي واشتراطاته ومعانيها ودلالاتها كما مثلا بالتضخم وسعر العملة وقدرتها الشرائية في ضوء ما يسمونه تحرير الاقتصاد والحقيقة لا تعدو عن كونها وهْماً يتخفى بإعلانات تتمسح بإصلاحية هي مجرد كلمات رنانة لتسويق قيودٍ ليست أكثر من (نير) أبدي يطوّق رقاب الأجيال التالية وليس الجيل الحالي فقط..
إن تلك الأجنحة (الطائفية المفسدة) هب الحامل لروافع النظام ونهجه، وهي (جميعا) تضع المال العام تحت سطوة تلك القوى الاستغلالية على حساب المجتمع برمته. ولا يهمها ما يرتهن لقوى محلية وإقليمية أو دولية وإلى أي مدى؛ لأنها جهة نهب شامل بمنظومة مافيوية أبعد من المحلية.
وبعد هذا وذاك فإن جزءا يسيرا جدا من الدخل هو ما يذهب للمواطن بطريقة الصدقة ويصل الأمر حد حجب الرواتب وعدم دفعها لأشهر وسنوات ثم سرقة بعض أو جلها عند محاولة تسديدها.. وكذلك اقتطاع أجزاء ونسب من تلك المرتبات الزهيدة من دون وجود طاقة حراك وإيجابية في التصدي..
إننا نشهد عراقياً احتجاجات مطلبية من قبيل تظاهرة تطالب بالمرتبات أو أخرى تطالب بسلفة أو قرض سرعان ما يعود المتظاهرون منها خاوي الجيوب وبوعود وجعجعة بلا طحن.. إن طابع النظام يتجسد بقدرات المراوغة واللعب والقوة والسطوة بين يديه…
وبجميع الأحوال هناك ابتزاز مفضوح يحياه ويعيه المواطن لكن طبعا ما هو خارج الابتزاز وأبعد منه، يقع في ظاهرة العبودية وتوجيه الناس إلى حيث مصائرهم المحتومة: الاتجار بهم جنسيا أقلها خطورة.. لكنها تتعقد بالاتجار بأعضائهم وبهم أيضاً، يوم يدفعونهم لمتاريس الحروب الطائفية تعبيرا عن حروب أجنحة الكربتوقراط لاقتسام الغنيمة..
الميزانية التشغيلية منهوبة نقداً وعداً والميزانية الاستثمارية منهوبة كذلك ولكنها فضلا عن الأموال تمر بنهب أدوات الإنتاج و\أو تخريبها بل تنهب كل شيء حتى الوطن والناس أنفسهم..
أي نظام فساد ذلك الذي يحياه العراقيون، وقد تقدم أعلى مسؤول فيه بصفقة مع الحركة الاحتجاجية أعادتهم لبيوتهم فيما ذهبت وعوده أدراج الرياح يوم حذف الوزراء الذين يمثلون النزاهة والكفاءة وجاء ببدلاء بمسمى تكنوقراط فيما الذي جرى مجرد تبديل وجوه وما زال يكرر الوعود والعهود وليس من يتعظ من أصحاب الأوهام ممن يدور بفلك (الإصلاح) ووما يعنيه من ترقيع للمخادعة والتضليل! فهل تنفع الرقعة الصغيرة لشق كبير!؟ الإجابة حتما في المثل الشعبي العراقي المعروف…
إننا بمجابهة مع الضمير ومع الموقف من أنفسنا ووجودنا .. بمجابهة مع حقوقنا وحرياتنا. فهل نقبل التنازل عنها مقابل وعود ندرك كونها جزءا من نهج نظام ابتلع كل شيء في مختلف بلداننا التي مر ذكرها؟ وندرك أن تكرارها غاية حتمية لكل أجنحة النظام…
أما خيارنا الوحيد فلعله يكمن في تبنٍ حاسم وحازم لوحدة قوى بناء دولة العدالة والمساواة القوى التي تستجيب فعليا للحقوق والحريات بوصفها النقية التي تحمل شعاراً يختزل المهمة متجسداً في:
“التغيير من أجل بناء دولة علمانية ديموقراطية تحقق العدالة الاجتماعية”
ولن يحمل الشعار ويسعى لتحقيقه سوى قواه الديموقراطية العلمانية نقيةً بلا مساومة ولا تضييع للحقوق ولا تفريط بالحريات ولا قبول بدجل قوى دولة الطائفية الكليبتوقراطية ولا بما يكرس سمات اشتغالها الهيراركية التي تكاد تصل مرحلة إعلان دولة ثيوقراطية استبدادية بالمطلق..
فلنواصل النهج الكفاحي المستند لمنطق العقل العلمي وتنويره، وإلا فإن الفساد نظاما يستند إلى الطائفية نهجا وفكرا وفلسفة لا يكبح جماح جرائمه ترقيع إصلاحي أو وعود وخزعبلات عهود ليس صعباً على مطلقيها التنصل منها وتبرير التنصل…
وللموضوع بقية جانب منها يتجسد بتفاعلاتكم