كنتُ اخطط لنافذة بإطلالات جديدة بعنوان فلسفة التسامح ولكن لظرف بعينه؛ وجدت أن من الأنسب أن أربط بين تلك النافذة وإطلالاتها أو حلقاتها وبين نافذة منطق العقل العلمي ومنهجه بحلقته الجديدة رقم 16
نوافذ وإطلالات تنويرية 16 \ 01
نافذة2: منهج العقل العلمي وفلسفة التسامح
إطلالة 16: مدخل في مفهوم التسامح وقيمه السامية
مقولة: “مثالبنا لا تعالج خلف متاريس الاحتراب بل بولوج ميادينها متكاتفين تجمعنا قيم التسامح طريقاً لمعالجة الأخطاء وإزالة انعكاساتها”.
في أية توطئة تتحدث عن التسامح لغة سنجد أن معاجمنا التزمت شرط دلالة الكلمة بشكل حرفي مباشر وضيق الأفق، حيث احتفظت بذلك بمعنى أحادي يتمثل بالتساهل وفضلا عن ذلك ركز بعضها على الوجه السلبي للتساهل سواء في التساهل في قواعد وأصول وتقاليد أم تساهل في سلوك؛ ومن ثمّ جاء ما لاحظناه ونلاحظه من فهم مغلوط للتسامح في الاعتقاد بكون من يمارس التسامح ضعيفاً منهزماً أو متساهلا مع الضوابط القيمية المجتمعية المعروفة، وهو ما ليس صحيحاً قطعاً.
إنما بالمقابل، يمكننا هنا أن نستقرئ لفظ (سمح) لنجده بوجهه الإيجابي عندما يوظف من أجل الابتعاد عن المنع والقهر وعن أشكال العنف المتطلبة في مثل ذلك. كما أنه سيتجه إلى مبادئ إيجابية سامية، أولها الاعتراف بالآخر وبحقه في الفعل والتجريب وفي إبداء الرأي…
إذن يمكننا التوكيد بهذا المنطلق الفكري البنيوي، على أنّ التسامح يتأسس على الاعتراف بالآخر وعلى احترام وجوده فردياً وجمعياً وهو ما يقتضي العمل بمبدأ المساواة والعدل، في مجال التفاعل إيجابا مع حقوق هذا الآخر وحاجاته…
وإذ نتحدث عن القصد والدلالة وعنهما سلوكياً وقيمياً فكرياً فإن التسامح لا يبقى بحدود اللفظ ومعناه الأكثر ضيقاً وأحادية باتجاه سلبي، ولكنه يصبح مصطلحاً بمحتوى ومفاهيم تجسدها (فلسفة) تتأسس على قبول: الطابع التعددي في وجودنا الإنساني وعلى تنوع في منجزاتنا وفي ثقافاتنا ومن ثم في الانتماءات وفي الهويات الفرعية التي تميّز المجموعات البشرية قوميا أثنيا عرقيا دينيا مذهبيا واجتماعيا وفكريا سياسيا؛ فضلا عن كل تلك الصفات التي تمثل بصمات الإنسان فرداً أو جماعة..
هنا تصير الأمور إلى مطالب في حيواتنا تفترض حظراً تاماً شاملاً لكل أشكال التمييز على أي من تلكم التنوعات الغنية الثرة في وجودنا الإنساني.. بما يتضمن منعاً وكبحاً لكل ما يمثل تجاوزا أو ظلما أو اعتداءً، يقع من طرف على آخر لأي سبب مما ورد هنا…
وإذا ما أردنا البحث في الموقف من التسامح فكرا فلسفيا إنسانيا، فإننا سنجده يقع بدائرة منطق العقل العلمي بالضرورة. إذ أنه يتجاوز العرقلة لهذا المنطق وما يتطلبه ويفترضه من آليات عمل واشتغال، والتسامح يمنح العقل العلمي فضاء اشتغال هادئ، مستقر وهو شرط الاشتغال بحرية بعيداً عن الضغوط وأشكال التوتر والعنف.
وإذا كانت ممارسة قيم التسامح تشكل أساس نشر ثقافة السلام ومحو ثقافة العنف والحرب والعدوان، بإطار تحرير عقل الإنسان من قيود تعرقل اشتغاله الناجع الموضوعي السليم، فإنّ تلك الممارسة السامية، لا تنحصر بكونها سمة أخلاقية سلوكية بل تتسع باتساع أفق اشتغال الإنساني فردياً جمعياً؛ وتصير أبعد من الحالات الفردية الشخصية وقيمها السلوكية البحتة، التزاما سياسيا وقانونيا بات واجبا يفرضه القانون الدولي والمعاهدات والاتفاقات الدولية الملحقة به كما في مضامين إعلان اليوم العالمي للتسامح وما تضمنه من قيم مجسدة بصيغة قانونية…
ومن هذا الفهم يلزمنا أن نؤكد مراراً أنّ التسامح المطلوب في اشتغالاتنا، لا يعني البتة التنازل عن الحقوق؛ أو الخنوع لقوة أو سلطة أو طرف أو آخر يمارس تجاوزاً أو اعتداء على طرف.. فتحرير العقل من ضغوط التوتر والاستعداء بتوكيد التمسك بالتسامح وتجاوز نتائج الهفوات وثغرات ما قد يطفو من أخطاء، يمتد بالتسامح إلى ممارسته حتى مع المتعصب إنما بحدود لا تقبل تهديد الاستقرار والسلم الأهليين..
أما تعدد مظاهر وفروض التسامح وممارساته، فمنها ما يعبّر عن الأنشطة والمعايير أو القيم التي تؤكد حظر أشكال التمييز العنصري، العرقي، القومي والديني. ومنها ما يقدم المعالجات الأنجع لأمراض “التعصب” في التعبير عن التمييز في المجالات المحظورة.المشخصة بالقوانين الإنسانية بعامة.
إنّ أول ظهور مصطلح “التسامح” فكريا مجتمعياً، جاء في إطار محاولات تجاوز الأزمة التي دخلت البشرية فيها بسبب من حروب الطائفية وآلتها الجهنمية الطاحنة في القرون الوسطى، أي في ظروف الرد الإنساني بمنطق العقل العلمي ونهجه على منطق الظلاميات وآليات تمظهرها العنفية الهمجية.
ولكن في يومياتنا الراهنة، بين ممارسة التسامح قوةً لمنطقه العقلي وبين عدّه تساهلا وضعفا غير مقبول؛ يثور الجدل بشأن حدود المفهوم والممارسة وسقفها في كل حالة بعينها.. حتى أننا أحيانا نجد أن من يقبل بفلسفة التسامح على مضض وبضغط انتشار رؤى جدلية للعقل العلمي الذي تفتحت أنواره رفضا لوحشية الفكر القروسطي الظلامي وتبشيرا بعصر النهضة وذهنيته، قد يعدّ ما يتسامح معه بتقنين وبأسقف ومحددات فوقية، أمرا شاذا يستحق المعاقبة أو وضع المسافات الحاجزة معه، على الرغم من (تجرعه) فكرة التسامح بحدود ضيقة، وكأنّه يتفضل بعفو مما يعتقد أنه حق يملكه!
إن اشتغال منطق التسامح وتحرير العقل من قيوده في ضوء الرؤية الفكرية والقيمية الأنجع والأنضج، ليس بالضرورة مما يتاح دوما بسلامة وسلاسة. وتلكم من العقبات في أغلب مفردات العقل العلمي وآلياته، الأمر الذي تتطلع البشرية إلى تفكيك ما يعترض من عقبات وعراقيل كي تتحرر فعليا وتوظف بكفاية وسلامة منهجا جديدا ينتمي لتكفير علمي سام نبيل.
وفي ضوء هذه المسلَّمة نرى ضرورة دفع بعض المترددين باتجاه الرؤية التي تمارس مفاهيم التحضر أو التمدن وقبول التعددية والتنوع بأوسع مساحة والانضمام لقوى تستثمر العقل العلمي رفضا للمحدودية والأفق الضيق ولكل تلك الأسقف الخجلى بل الباحثة عن ذرائع للتمييز وإجازة التعصب أو أيّ شكل له تمريرا لتمسكها بما يتعارض وقيم التسامح…
إن التسامح هنا في حقيقته هو الأساس المكين لما تفرضه حقوق الإنسان ومن ثم في الاستجابة لحقيقة وجوده حيث تعددية البصمات الخاصة للهويات الشخصية والجمعية إنسانيا، أي أنه (التسامح) أساس مبدأ التعددية والقبول بها بل تعميدها والعمل على أساس لا الاكتفاء بالاعتراف بالتعددية والتنوع حسب بل احترامها والتعايش مع متطلباتها وفروضها فعليا..
ومن تطبيق الفروض بما يحكم به العقل العلمي ومنهج التفكير العلمي بتنويره وبسلامة أدائه في احترام التعددية وتلبية متطلباتها، يلزم على سبيل المثال: تنفيذ مبادئ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بمجال احترام التنوع، ومثلا إنهاء سلطة الاستبداد والطغيان والتمييز والقمع وإحلال مبادئ احترام حرية الإنسان واشتغال عقله وتلبية ما يفرضه من نهج وأداء؛ مثلما احترام حقوق الغير في ممارسة ثقافاتهم وهوياتهم وما تتوافر عليه من مفردات وطبائع.
الإشكالية هنا بين اشتغال العقل علمياً وتفعيل ما يفرضه من نهج، تؤكد بدقة وموضوعية على حقيقة أن التسامح ليس فرضاً قيميا مجردا من البعد النفسي الروحي والتربوي بل هو في صميم ذلك حيث التربية وتطبيع النفس يتاتى بنتائج سامية بهية تتحد ومنطق العقل وتجريداته لتطلق قيما فكريا تتحرر بالعقل من جهة وتسمح له بإبداء الرؤية الأكثر نضجا وصحة وصواباً…
وفي إطلالات أخرى سنرى من التسامح قيما فكرية وسلوكية جوانب تؤكد حاجتنا عراقيا وعربيا شرقأوسطيا هذه الأيام لهذه المعالجة كي نستعيد بوساطتها فرص فرض العقل العلمي وطروحاته لمحو الظلام ومنطقه المرضي وإزالة لغة الجهل والتخلف وما تتستر وراءه من عتمة وظلمة..
زاوية نوافذ وإطلالات تنويرية حلقات 1- 16 الروابط أدناه
زاوية نوافذ وإطلالات تنويرية \ د. تيسير عبدالجبار الآلوسي
موقع الصدى.نت
توطئة: اخترتُ تسمية نوافذ، لأنّ كل معالجة تتجسد بموضوع بعينه يمثل (نافذة) من النوافذ ليمر إلى جمهوره عبر تلك النافذة؛ في حلقات.. تمثل كل حلقة (إطلالة) من الإطلالات التنويرية. ومن هنا جاء اختيار اسم الزاوية كونها (نوافذ) تمر عبرها (إطلالات) تنويرية الدلالة والقصد. بمعنى أنّها تجسد محاولة لـ تلخيص التجاريب الإنسانية بجهد لمحرر الزاوية؛ متطلعاً لتفاعلات تجسد إطلالات المتلقين بتداخلات ورؤى ومعالجات مقابلة، يمكنها تنضيج المشترك بين مقترح النوافذ وإطلالاتها التنويرية وبين توصيات المتخصصين والجمهور وما يروه حاسماً في تقديم المعالجة الأنجع.
مرحبا بكنّ، مرحباً بكم في زاوية ((نوافذ وإطلالات تنويرية))، إنها محاولة لتفتيح النوافذ ومن ثمّ تفتيح البوابات وجعلها مشرعة للحوار الأنجع والأكثر تنضيجاً لمعطيات تجاريبنا
نافذة (1) بعنوان: منطق العقل العلمي ومنهجه.
سلسلة إطلالات تنويرية للنافذة الأولى كل إطلالة هي حلقة من سلسلة حلقات المعالجة التي تصب بتناول منطق التفكير العلمي ومنهجه: