العراق (الفديرالي) بين فلسفتين دستوريتين متناقضتين
لقد كُتِب الدستور العراقي بتغليب خطاب سياسي على الخطاب القانوني فيه.. ومازال الساسة يصرون على حلب ما يعج به الدستور من التناقضات والثغرات ويكرس سلطتهم ونهجهم، ولن يتغير شيء حتى تأتي إرادة الشعب بالبديل.
العراق (الفديرالي) بين فلسفتين دستوريتين متناقضتين
أولا: العراق بين دستور مخترق بالخطاب السياسي الحزبوي وسلطة الأقوى في تجيير المناسب لساسة المصادفة
مع كل احتدام للأزمات يزداد التشوّش فتتفاقم حالات خلط الأوراق ومن ثمَّ ضياع فرص التقاط الجوهري من الأمور، الأمر الذي يمنح قوى الاستغلال المفسدة فرصاً أبعد لممارسة جرائمها بحق الشعب بكل مكوناته وأطيافه.
والمشكلة لا تقف في تشويشها بحدود ما يجري اصطناعه واختلاقه من أزمات وأشكال لخلط الأوراق، بل أبعد من ذلك في عدم التفات قوى تتسم بالتحليل الموضوعي إلى ما ينجم عن التركيز عليه في تحليل واقعة من حالات تجيير لمصلحة الاستغلال وقواه!
وهكذا قرأنا مؤخراً، في ضوء تداعيات الاستفتاء الكوردستاني، ظاهرة التصعيد في الاستعداء والاستقطاب واعتلاء الخطاب الشوفيني منصة إشعال حرائق خطاب الكراهية من جهة والوقوع بمطب الانقسام الأزموي بالتمترس وراء خندقي التشدد القومي وسط العرب والكورد، جناحي العراق الفديرالي.
إنّ المشكلة الأسوأ بمسار الأوضاع، تكمن في إصرار بعض المحللين على التوقف عند الجزئيات بالاستناد إلى قناعات ترى أن الصراع يتجسد في فضح هذا السياسي أو ذاك بحسب درجة الاختلاف معه ومستوى ما وصل إليه… وأحياناً، بالاستناد إلى مبدأي الوطنية وتصور بعينه لمسار تلبية حقوق الإنسان لهذا المكون أو ذاك…
إنّ حلم الوحدة الإنسانية (بالبعد الوطني) وتمظهرات أشكال النظم السياسية التي تجسد الحلم والاختيار، سواء ببلدان مركزية السلطة أم اتحادية بشكليها الفديرالي أو الكونفيدرالي؛ تظل جزءاً مما تتبناه القوى المختلفة بحسب قناعاتها الأيديولوجية السياسية.. تلك القناعات المستحقة على وفق قوانين دستورية أو خيارات باتفاقات وعهود ومواثيق سياسية. ولكن بالنتيجة، لن تخلو تلك الخيارات من عقبات أو حالات اصطراع لتوجيه الأمور لمصلحة طرف أو آخر ممن يتحكم بالسلطة فعلياً…
وعراقياً هناك امتداد تاريخي بجذور قديمة حيث زمن نشوء حضارات، شكَّلت مهد التراث الإنساني وانبنت بدولة المدينة ثم بدول امبراطورية مترامية الجغرافيا، ولكنها بجميع الأحوال عبرت عن تفاعل شعوب المنطقة بإطار جغرافي وحدود رسمتها مرةً كفة المنتصر عسكرياً صانعةً النُظُم المعبرة عنها ورسمتها مرات أخرى كفةُ الشعوب صانعةً وسائل إنتاج خيرات العيش وسمات أنسنة الوجود، عبر ما تحصل من حقوق وحريات بحدود المتاح في كل مرحلة وطابع تشكيلاتها الاقتصا اجتماعية. وهنا كان ومازال وادي الرافدين وجوداً جغرافيا طبيعيا تحيا وتتعايش في إطاره تنوعات بشرية قومية ودينية الخلفية بمنطق التعددية والتنوع..
ومنذ قيام الدولة العراقية الحديثة كانت (حدود الجغرافيا السياسية) بإطار مفهوم السيادة الوطنية، عرضة لمتغيرات بحسب اتفاقات ومعاهدات يعود بعضها إلى زمن الدول الإمبراطورية التي تحكمت بالمنطقة وبعضه الآخر إلى مرحلة سايكس بيكو وما تلاها من حالات احتراب وتضاغط وتوازن القوى والمصالح بين العراق ودول الجوار..
إنّ كثيراً من القوى السياسية في بلدان المنطقة لم تعد تتحدث عن الوجود العربي وعن أهداف الثورة العربية الكبرى ومن ثمّ تمّ رفع الحديث عن وحدتهم القومية أو حتى عن البعد المخصوص للأمن القومي العربي حيث الاستراتيجيات المحيطة بهم لا تغفل عن هذه الإشكالية بل تمعن في التمزيق بدواعي جمل حق يراد بها باطل، هو باطل سياسات إقليمية ودولية لها مآربها المخصوصة، وانشغال آخر فرض نفسه هو مبدا الوطنية على حساب القومي وبمرجعيات فكرية مختلفة.
وهكذا حلت الأولويات الوطنية بقدسية مطلقة ما دفعها هذه المرة للتعرض على المجموعات القومية والدينية المتعايشة، بنعرات شوفينية مرة وأخرى يسارية طفولية تتوهم الدفاع عن (مصالح الكادحين) وفقراء الشعوب ولكنها بواقع الحال، تقع بخطايا التجيير السلبي المرضي ربما غير المقصود، فتوقع تلك الشعوب بمصايد القوى القمعية التي يُفترض التصدي لها….
وأؤكد أنه عراقياً، كان التركيز على تحليل (الاستفتاء) الكوردستاني من منظور قاض يقرأ ذاك الإجراء في ضوء معيار (الدستور) العراقي حرفيا، أقول ربما كان مما أشعل فتيل أزمات متناسلة على حساب الشعبين العربي والكوردي عراقياً.
وأعود بهذه المناسبة للتوقف هنا والتذكير بأن العراق لم يحظ بـ((دستور دائم)) ينبع من صياغات تعبر عن تطلعات شعبه ويحفظ حقوق مكوناته بسلاسة وسلامة؛ ولطالما اكتنف الدستور عثرات وعورات تتعارض والتجاريب الدستورية لعالمنا المعاصر..
وبالخصوص كان (دستور) 2005 قد كُتِب بخطاب سياسي لا الخطاب القانوني وجاءت كتابته من قبل قوى وأطراف سياسية محلية ودولية لم يكن من بينها متخصصو القانون الدستوري المعبرين عن الوجود (الوطني) للعراق الجديد وخيار شعبه ومكوناته الطبقية والطيفية القومية.
وهذا ليس مخفيا، فلقد جرى الإقرار بحقيقة الخرق في الدستور سواء الخروق السياسية التي تضمنها أم بصياغة فقرة تؤكد إلزامية التعديل بعد مضي أشهر محددة من تاريخ إقراره، وهو ما لم يتم؛ ما يفرض موقفاً قانونياً بشأن استمرار العمل به…
إن دستوراً مخترقاً بخطاب سياسي حزبوي ملغوم بالمتناقضات بين الإسلاموي (الطائفي الظلامي) والقومجي الأثني، دستوراً لا يقر إرادة الشعب في خياراته الاستراتيجية، لن يكون سوى اتفاقية (سياسية) مرحلية سرعان ما ستضع الشعب بمجابهة أزمات جدية خطيرة؛ من قبيل ما جرى طوال أكثر من 14 سنة عجاف من التحايل على الفقرات المتناقضة المتعارضة وإصدار أحكام قضائية بحسب التوازن السياسي الغالب في كل قضية تم عرضها للتحكيم…
لقد أدركت القوى الشعبية بشكل أسرع حتى من النخبة السياسية هذه الحقيقة وأدرجت في تظاهراتها السياسية والمطلبية توصياتها التي كانت ببعض الأحيان سببا للوقوف بوجه فرص الاستغلال والتجاذبات بين القوى المتحكمة بالسلسطة بمنطق المحاصصة.
أما القوى السياسية ونخبة التنوير تحديداً فلقد ظلت بأطر الخطاب الدبلوماسي والبحث عن الإمكانات على وفق المتاح في ظلال النظام (الطائفي الكليبتوقراطي) مفترضة أنها تمتلك (حصة) من سلطة القرار بقدر تبريرها لدبلوماسية التحالفات وملوحة بتمسكها بقضايا الفقراء بقدر تعلق الأمر بالبحث عن وجود وسط الشعب وحراكه الاحتجاجي..
إننا وسط أزمة بشأن القوانين الدستورية والدستور وثيقة أو عقداً اجتماعيا منقوصا لم يتم تعديل ما اُفتُرِض تعديله بعد أشهر وقد مضت اضعاف المدة بالسنوات مثلما نحن بمجابهة ما تم تكريسه في ضوء الخروقات بكتابة الدستور بخطاب سياسي مرر للطائفيين ما أرادوه على حساب الشعب وخياره الاستراتيجي بدولة علمانية ديموقراطية اتحادية..
ألم يتغافل الطائفيون عن مجلس الاتحاد وسن قانونه الدستوري، فأبقوا على الهيأة التشريعية منقوصة جوهريا بما استغل التركيبة الوطنية أبشع استغلال!؟
إن قضية المحاججة الدستورية في الوضع البنيوي للدولة يتطلبمراجعة كون الدستور لم يعد العقد الاجتماعي الذي اقره الشعب منذ أول تجاوز لعتبة مرحلة تعديله بعد اشهر وكون المواد الدستورية المتفق عليها وتشكل ضرورة بنيوية رئيسة لم يجر تلبيتها وبالأخص ما يتعلق ببنية مؤسسات الدولة الرئيسة والفصل بين سلطاتها وسلامة (علمانية) الآليات و (ديموقراطيتـ)ـها و(اتحاديتـ)ـها، الأمر الذي لم يجر الالتزام به قطعا بخلفية تكريس نظام نقيض للخيار الشعبي وعقده الاجتماعي.
إنني أرى أن سبب الأزمة تكمن في سطوة ثلاثي الجريمة بحق الشعب (طائفية، فساد وإرهاب) والإرهاب لا يقتصر على مجرم أخرق يفجر نفسه ولا على تيار ميليشياوي أو جناح منه بل يشمل جناحي الطائفية وميليشياتهما فكلاهما تكفيرية المنطلق وكلاهما إجرامية الممارسة والسطو عنفياً على السلطة وعلى حيوات أبناء الشعب..
وعليه فليس صحيحا الوقوف مع قوة تتحدث اليوم بامس (المركز) ولم تعد تستحي من التخلي مصطلح الحكومة (الاتحادية) بل تصرخ ملء شدقيها أنها تمثل المركز والمركزية وأنها صاحبة الصوت الحق وأن على (شعب كوردستان) أن يركع وهو ما يتجسد لا في الصراع مع السلطة بكوردستان وفي اقتسام الغنائم بل في التوجه بخطاب مكشوف يتحدث عما حصل عليه الكوردستانيون مما يسمونه أكثر من حقوقهم!
ولعلي أتطلع لمن يغني القراءة الدستورية ومستهدفاتها قانونيا سياسيا باستقلال كل خطاب وبمفاعلتهما بالإجاب لا بالسلب، فلست معصوما بتحليلاتي وإنما أقترح الرؤى والمعالجات.
ولعلي أيضا وكذلك بعد حسم الحوار الموضوعي الأنجع بشأن الدستور والقوانين الدستورية، أتطلع إلى من يجيب بإنصاف وحكمة ويرد على عبارة مرضية تتحدث بتشدق مرضي عما حصل عليه الكوردستانيون من حقوق على حساب مجموع العراقيين…!!!
عني إن لم أعالج بحلقة أخرى الموضوع السياسي الخاص بكوردستان وبالتهجم على شعبها بقصد أو من دونه، فإنني اؤكد هنا بأن شعب كوردستان لم ينهب حق أحد أو يعتدي عليه وكونه بنى وجوده على اسس من نظام علماني تقدم تنموياً بشكل نسبي أفضل من التنمية التي جرت في بقية أنحاء العراق الفديرالي لا يعني قطعا أنه جاء على حساب المحافظات العراقية..
فمن نهب الجنوب والوسط وخربه وأودى بحيوات أبنائه وأفقرهم ولم يكتفِ بوقف التنمية بل تراجع بالأوضاع بمجملها هو النظام الطائفي الكليبتوقراطي المفسد وهذا النظام وقواه تريد ترحيل الخراب والبؤس لتوقعه على شعب كوردستان وبأفضل الأحوال لتضع أوزاره على أكتاف السلطة بكوردستان فتتخلص من محاكمة جرائم الإفساد والتخريب والتدمير والنهب..
فلا يقعنّ أحد بهذا المطب ولا يورطنّ أحد الشعب بتحليلات تنتصر لجناح مرضي مفسد على حساب آخر فعناصر الخراب معروفة مفضوحة ولا تخلطوا الأوراق ولا تشوِّشوا على البسطاء ولا توقعوهم بمطبات خنادق الطائفية والقومجية…
فهلا تذكرنا، الحقيقة كما هي وتوجهنا لخطابات السلام ونداءاتها لمصلحة الشعب وتطلعات حراكه من أجل التغيير تلبية لبناء دولة علمانية ديموقراطية اتحادية تحقق العدالة الاجتماعية بعد إقصاء قوى الاستغلال والسبب في مآسي الشعب بكل أطيافه ومكوناته؟؟؟
********
الحلقة التالية
ثانياُ: نموذج كوردستان بين مسيرة بنائها ودوافع ما تتعرض له من اتهامات
سأحاول متابعة معالجة الموضوع إذا ما حصل شيء؟