أشكال التمييز القومي والديني ونتائجها في العراق: في ضوء المجريات الراهنة وتداعياتها بات مهما التحدث ببيانات سياسية عاجلة ولكن أيضا من المهم لتفادي الإفرازات غير المقبولة يجب عدم نسيان التذكير بالمبادئ التي فرضتها مسيرة التنوير الأممي ووضعتها في صياغة بقوانينها واتفاقاتها وعهودها الأممية. هذه معالجة عسى تساهم في تسليط بقعة ضوء تتناسب وما يجري من متسارع التداعيات سواء عراقيا أم ببلدان أخرى مثل كاتالونيا إسبانيا واسكتلندا وكالفورنيا وغيرها.. إنها مجرد قراءة تفرضها الضرورة ولكن بما تمليه مصالح الشعوب وحقها الثابت في تقرير المصير بعيداً عن أشكال استلابها ومصادرتها وعميقا حيث تلبية تطلعاتها بأسس إنسانية غير منقوصة
تعصف بوجود الدولة العراقية الحديثة بين عقد وآخر، أزمات عميقة الغور.. فمنذ تشكيلها مطلع القرن الماضي كانت عناصر الهوية الوطنية لدولة وليدة معاصرة، تتأسَّس وتتعمق بخطابين متناقضين: أحدهما يتجه لأنسنة الهوية الوطنية وأخذ العبر التاريخية من جذور حضارة وادي الرافدين، بأكثر صفحاتها إيجابية حيث احترام التنوع والتعددية، وتعميد أشكال التعايش السلمي، على أساس من الإخاء الإنساني الأنجع.. فيما الخطاب الآخر فرضته السلطة السياسية وأرضيتها الاجتماعية بمضامين قمعية وأخرى شوفينية استعلائية، أكدت بها طابع النظام السياسي وتوجهاته ومصالحه…
وبين طابع التشكيلة الاقطاعية وما قبل الرأسمالية المشوهة وما ينتجه ذلك من ثقافة وسلطتها السياسية وارتباطاتها بالاستعمار الذي خرج شكلياً في مرحلة تأسيس الدولة؛ جابهنا أول جرائم إبادة جماعية على وفق التعريف القانوني لتلك الجريمة، وجميع تلك الجرائم، جاءت على أرضية صراع مفتعل بخلفية قومية وأخرى دينية!
وإذا ما مررنا سريعا على تاريخ ما اُرْتُكِب من جرائم باختلافها، فإننا ندخل ظروفاً معقدة بعد التغيير الراديكالي في العام 2003. إذ تطلع جمهور الشعب وتحديداً منه، المجموعات القومية، تطلعوا لبناء نظام ديموقراطي تعددي، يستجيب لمطامحهم التاريخية التي تأخرت طويلاً.. إلا أنّ ذياك التطلع انتكس تدريجاً عبر تكريس نظام طائفي كليبتوقراطي أوقع البلاد والعباد في كوارث وأزمات ووضعها في دوامات بلا قرار…
وهكذا، فإننا يمكن أن نرصد حقيقة أنّ المجموعات القومية والدينية في العراق قد خضعت لضغوطات شوفينية من مختلف النظم السابقة، لكنها ، في ظل النظام الطائفي (الجديد)، باتت تجابه أسوأ مراحل وجودها فيما تعرضت له من جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة.
إنّ النظام الطائفي القائم يواصل اجترار أسوأ أشكال التمييز القومي والديني في العراق، ما أحدث تصدعات في الخطاب الوطني وأسواره وبات يتطلب إعادة صياغة بطريقة يمكنها أن تعالج الأزمات المستفحلة وإلا فإنّ البلاد باتجاه كارثي آخر.
هنا لا تتوقف هذه المعالجة الموجزة عندما جرى مؤخراً من تسليم حوالي ثلث مساحة البلاد لقوى إرهابية و\أو ميليشيات لتكريس الانقسام المتعارض لجناحي الطائفية بقصد شرعنة وجود تلك السلطة التي تجتر اسوأ نظم دويلات الطوائف وحروبها التي رفضتها البشرية منذ فجر عصر النهضة.
لقد تعرض الأيزيديون لجريمة إبادة جماعية ومثلهم المسيحيون، ولم يكن هذا في منطقة الإرهاب التي تمّ تسليمها في طبق من ذهب لشراذم الجريمة، بل حتى في مناطق تخضع لسلطة أحزاب الطائفية حيث ارتكبت ميليشياتها جرائم إبادة بحق المندائيين مثلا وتمّ تطهير المدن الجنوبية والوسطى من المسيحيين وطورد أتباع الديانات بمشاركة في جرائم (ضد الإنسانية) فضلا عن شيوع ثقافة شوفينية مرضية مجتمعياً بأرضية الثقافة الطائفية وما اثارته من فلسفة ثأرية انتقامية من جهة ومن تمييز عرقي إثني ديني…
وبمراجعة (أشكال) التمييز التي مورست أو اُرْتُكِبت في العراق يمكننا التحدث عن تسلسل مجريات وارتكابات توازي ما أتاحته الأمم المتحدة في قرارها الخاص بالمكونات الصغيرة، ولكن بالنقيض مما سجلته من حقوق، حيث الانتهاكات الأخطر بحق أتباع الديانات أو أولئك الذين ينتمون إلى مجموعات قومية غير العرب!
إن الخطاب الطائفي السائد عراقياً اليوم، يتعرض لسكان البلاد على أساس الثأر منهم بخلفية وقائع تاريخية جرت قبل 1400 سنة! وهي فلسفة تميز بين أتباع الديانة الواحدة فما بالك مع أتباع الديانات الأخرى!؟ لقد بتنا نشاهد إكراهاً من قبيل تغيير ديموغرافي في مدينة 100% سكانها مسيحيون لتصير اليوم النسبة أقل من نصف السكان (40%)؛ برطلة نموذجاً!
لقد أكدت الأمم المتحدة من بين ما أكدته في اتفاقاتها وعهودها الدولية الحقوقية على واجب الحؤول دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو اللغة أو الدين، كما ورد في اتفاقية منع جريمة إبادة الأجناس والمعاقبة عليها، والاتفاقية الدولية للقضاء على جميع أشكال التمييز العنصري، والعهود الدولية الأخرى بشأن الحقوق المدنية والسياسية، والحقوق الاقتصادية الاجتماعية والثقافية، وإعلانها المتعلق بالقضاء على جميع أشكال التعصب والتمييز القائمين على أساس الدين أو المعتقد، وفي ضوء استلهام أحكام المادة 27 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المتعلقة بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات إثنية أو دينية أو لغوية، فرضت واجبات تعني بمضامينها: (ضرورة) تلبية مبدأ حماية حقوق الأشخاص المنتمين إلى مجموعات قومية، إثنية و\أو دينية ولغوية بما يجسد (مساهمة رئيسة) في تحقيق الاستقرار السياسي والاجتماعي للدول التي يعيشون فيها، وتنمية المجتمع بأسره في إطار ديمقراطي يستند إلى حكم القانون، الأمر الذي يحقق التآخي بين الشعوب والأمم…
وطبعا كل ذلك، يتم بالاستناد إلى العمل الحيوي بالغ الأهمية الذي تنهض به المنظمات الحكومية الدولية والمنظمات غير الحكومية في مهمة (حماية المكونات القومية والدينية الصغيرة بحجمها العددي، المتساوية بقيم وجودها الإنساني) ومن ثمّ تأدية مهمة (حماية حقوق الأشخاص المنتمين إلى مجموعات قومية أو إثنية و\أو دينية ولغوية…
ولكن في إطار السلطة الطائفية التي تشكلت في عراق ما بعد 2003 جرت الأمور بطريقة تصفوية وباعتداءات ممنهجة بخلفية الفتاوى (السياسية) التي غلفت نفسها بالقدسية الدينية، من قبيل إباحة أن ترتكب عناصر ميليشياوية اغتصاب نساء واستيلادهن من أتباع مذاهب وأديان غير تلك التي تدعي أحزاب الطائفية الحاكمة الانتماء لها أو الدفاع عنها!
وعلى وفق إعلانات الأمم المتحدة واتفاقاتها وعهودها الأممية نرصد عراقياً:
- عدم نهوض النظام الطائفي، بمهمة: “حماية وجود الأقليات وهويتها القومية أو الإثنية، وهويتها الثقافية والدينية واللغوية”، وتفريطها بما يهيئ الظروف الكفيلة بدعم فلسفة احترام الآخر وهوية التنوع والتعددية!
- عدم اعتماد التدابير التشريعية الكافية لتحقيق تلك الغايات التي حددتها الأمم المتحدة. كما غذّت خطاباً ومارست كل ما هدد وجود خطاب التنوع وأمن أتباع الديانات والمجموعات القومية المتعددة. على سبيل المثال ماطلت في تشكيل نصف الهيأة التشريعية المعنية بوجود التنوع وحمايته بافشارة إلى مجلس الاتحاد وإلى قوانين تخص التركيبة المتنوعة للمجتمع واختزلت كثيرا من الأمور بنظام الكوتا بما يكمل نظام المحاصصة وما يجسده من سلطة طائفية وشكل النظام الكليبتوقراطي المرضي…
- وفي وقت أكدت القوانين الدولية على ما للأشخاص المنتمين إلى مجموعات قومية، إثنية و\أو دينية ولغوية من حقوق ثقافية خاصة بهم، ومن حقوق في الإعلان عن ديانتهم وممارسة طقوسهم الاعتقادية بأمن وحرية، فإن سلطة الطائفية ارتكبت كثيراً من الجرائم بهذا الشأن. وتعرضت ثقافة الآخر للهجمات والتضييقات وحوصرت اللغات وأشيع الاستهجان والسخرية والتحقير وكثير من أشكال التمييز بشأنها.
- ونظراً للانهيار الأمني وعدم توافر فضاء الحماية لم يكن ممكناً ولا متاحاً حق المنتمين إلى تلك المجموعات القومية والدينية في المشاركة بالحياة الثقافية والدينية والاجتماعية والاقتصادية مشاركة فعلية. ومن مهازل البنى الشكلية الإيهامية أو التضليلية على سبيل المثال لا الحصر وجود مديريات للثقافة باسم الكورد والتركمان وهي ليست سوى هياكل مفرغة من مضامينها ولا تمتلك أية موازنات أو ما يمكنها من العمل الفعلي…
- وانحسر رسمياً حكومياً حق ممثلي تلك المكونات في المشاركة الفعالة على الصعيد الوطني، وتم إلغاء كثير من الحقائب الوزارية وما تم ترسيمه (فعليا) سواء في الكوتا أم في نسب (التحاصص) أودى إلى تهميش خطير في الدور وفي اتخاذ القرار الذي انفردت به جهة طائفية محددة.. مثلما حصر رئيس (مجلس) الوزراء عدد من الوزارات السيادية الرئيسة بين يديه [بالإشارة إلى المالكي] ومثلما جرى تقليص الوزراء بالحكومة الأخيرة على حساب المكونات وعلى حساب الاتجاه المنادي بالحلول المدنية وعصلانة الدولة وانتمائها إلى الحداثة؛ هذا مع انحسار الوجود الفعلي ميدانيا بالمستويات الوطنية لكل أتباع الديانات والانحدارات القومية..
- لقد تعرض وجود تشكيلات المجتمع المدني، ومنه ما يخص الروابط والجمعيات الخاصة بأتباع الديانات إلى حصارٍ مؤسٍ، يمكننا على سبيل المثال أن نشير إلى إغلاق كنائس وخواء المعابد (المندى والكنيس وغيرهما) بذرائع مختلفة…
- وما عاد الأشخاص المنتمون إلى تلك المكونات بقادرين على إقامة اتصالات حرة وسلمية مع أفراد جماعتهم ومع أتباع المكونات الأخرى، لا وطنياً في داخل البلاد ولا عبر الحدود مع نظرائهم في البلدان الأخرى.. ونحن نرصد منع أتباع الديانات من إقامة معابدهم أو إدامتها وصيانتها وما يطفو ليس سوى استعراضات قهرية تخفي حجم الكارثة في إفراغ البلاد من الأطياف المتنوعة التي ساهمت في بناء تاريخ عريق إلى درجة فرض المشاركة في طقوس دينية من تصنيع السلطة الطائفية أو بأقل تقدير تخص أطرافا دينية مذهبية أخرى..!!!
- وفي وقت يجيز قرار الأمم المتحدة للأشخاص من أتباع تلك المجموعات القومية والدينية، ممارسة مختلف الأنشطة بصفة فردية و\أو بالاشتراك مع سائر أفراد جماعتهم، من دون أي تمييز، لا نجد الواقع يعكس هذا بل على النقيض من ذلك يتعرضون باستمرار لمزيد من العسف والتنكيل والأذى بلا ردع للجريمة ومركبيها…
- في وقت تُترك بقع ضوء ملتهبة لممارسات تخص (ساسة) من مكونات قومية ودينية فإن الحقيقة التي تشمل الأغلبية الشعبية وبنى المجتمع المدني تتعرض للانتهاك الصارخ؛ وما يجري ليس إلا حركة تضليلية أشاعت ثقافة أن أبناء المجموعات الأخرى حصلوا على (أكثر من استحقاقهم!) وهي عبارة باتت تثير خطاب الكراهية والتمييز بطريقة فظة تجسدت مؤخراً بشقاق خطير تجاه مبدا حق تقرير المصير وطريقة ممارسته والحق بتلبيته.
لقد أكدت المادتان الرابعة والخامسة من قرار الأمم المتحدة في 1992 على واجبات الدول في ضمان أن يتسنى لأتباع الديانات وأبناء القوميات، “ممارسة جميع حقوق الإنسان والحريات الأساسية الخاصة بهم ممارسة تامة وفعالة، من دون أي تمييز وفي مساواة تامة أمام القانون.” وعلى “تهيئة الظروف المؤاتية لتمكين الأشخاص المنتمين إلى أقليات من التعبير عن خصائصهم ومن تطوير ثقافتهم ولغتهم ودينهم وتقاليدهم وعاداتهم،…” وحق التعلم بلغاتهم الأم مع اتخاذ تدابير في حقل التعليم من أجل تشجيع المعرفة بتاريخ كل المكونات الموجودة. وتحقيق كل ما يكفل مشاركة أبناء تلك المكونات في الشأن العام ومنه في مجالات التقدم الاقتصادي والتنمية في بلدهم بما لا ينتقص من تلك المشاركة أي شكل للتمييز وبما يجري بفضاء خطط واستراتيجيات برامج وطنية شاملة تستجيب لحقوق أبناء تلك المجموعات..
على الرغم من ذلك وبالتعارض معه، أذكّر هنا، أن حكومات ما بعد 2003 مارست لغة التهديد والوعيد والحصارات من قبيل الحصار الاقتصادي الذي مسّ بأصحاب الدخول الواطئة يوم لم يجر تسليمهم مرتباتهم، مصادر عيشهم ويوم تم تشكيل فرق عسكرية موجهة بالخصوص لمهاجمة إقليم كوردستان مثلا قوات دجلة.. واليوم نراها في أشكال التصريحات لزعماء ميليشيات طائفية خارج أطر القانون وفلسفة البنى الوطنية…
وفي الصعيد الرسمي، بدلا من أن يطلق المسؤولون خطابا يرفض التهديدات الخارجية التي تستغل الظرف فتطلق لنفسها ما يبرر تدخلاتها، يشارك أؤلئك المسؤولون زعماء أجانب، ذوي مطامع إقليمية بالعراق، نهجهم العدواني المخترق للسيادة والمتعارض مع ما يفرضه القانون الدولي من واجبات في الظرف الراهن! وطبعا فضلا عما ينجم عن هذا السلوك السياسي فإنه بالأساس يتعارض وكل مواد القوانين والعهود التي تفرض احترام أتباع الديانات والمنتمين لمجموعات قومية متنوعة…
وبالتعارض مع المادة السادسة للقرار الأممي المخصوص، الذي ينص على ضرورة التعاون بين الدول “في المسائل المتعلقة بالأشخاص المنتمين إلى أقليات. وذلك، في جملة أمور، بتبادل المعلومات والخبرات، من أجل تعزيز التفاهم والثقة المتبادلين” نجد أن مطاردة الكورد في إقليمهم الجغرافي وجرائم تصفوية وجرائم ضد الإنسانية اُرتُكِبت بحق المندائيين لم تقم الجهات الرسمية بواجبها بشأنها بل على العكس مررت الأمور بسلبية خطيرة. فمثلا كل جرائم انتهاك السيادة واختراق الحدود وقصف القرى الكوردستانية مرت بلا تعليق ومثلها جرائم تصفية اُرتُكِبت بحق أتباع المندائية…!
وبوقت ترى الأمم المتحدة والقوانين الدولية أن التدابير التي تتخذها الدول لضمان التمتع الفعلي بالحقوق المبينة في إعلاناتها وقراراتها، من حيث الافتراض المبدئي، أمرا لا يتعارض مع مبدأ المساواة الوارد في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان فإن الخطاب السائد يتحدث عن أن بعض من يسمونهم (الأقليات) قد حصلوا على (أكثر من حقوقهم)!!!
ومن هنا فإن من حق تلك المجموعات القومية والدينية أن تطلب تنفيذ المادة التاسعة من قرار الأمم المتحدة القاضي بأن: “تساهم الوكالات المتخصصة وسائر مؤسسات منظومة الأمم المتحدة، كل في مجال اختصاصه، في الإعمال الكامل للحقوق والمبادئ المبينة في هذا الإعلان”.
إن كارثة كهذه تتطلب وعيا جديدا مختلفا وتفرض سرعة التفاعل بما يتلافى التداعيات الجارية سواء بالانقسامات ام بالصراعات المفتعلة..
كما ينبغي التوقف لوهلة كي نتجنب خطاب الكراهية وتلك الأمور التي تلتهب بسبب التركيز على مفردات قانونية دستورية وأخرى تمثل جمل حق توقع بباطل المآزق التي جرت قوى الطائفية الجميع إليها..
فهلا تنبهنا! وأدركنا أن الأهمية اليوم تتطلب التركيز على البعد الإنساني لهويتنا الوطنية وبتقديم فرص التفاعل بين مكوناتنا وإعلاء مهمة الحماية والرعاية التي تتعرض لكل تلك الجرائم!؟
القضية بأيدي التنويريين وأولويات اشتغالاتهم التي تحتاج لوقفة تدبّر وتفكّر وإعادة صياغة خطابهم السياسي المجتمعي اليوم…