نوافذ وإطلالات تنويرية ح4 إدراك أسباب الظواهر مقدِّمة لمعالجتها وتجنب سلبية الوصف
هذه هي الحلقة الرابعة من حلقات زاوية (نوافذ وإطلالات تنويرية) التي استقر نشرها واعتدنا متابعتها والتقاعل معها في صحيفة الصدى نت.. أعالج فيها فتح نوافذ مع القارئات والقراء كي ندير حواراً يمنحنا فرص تنوير المشهد وإزاحة كلكل الظلام .. فشكراً لكل إطلالة من إطلالات المتابِعات والمتابعين وتحاورهم وطرحهم الأسئلة والاعتراضات والبدائل فبها حيث بتلك التفاعلات فقط، تكتمل حلقات التنوير وتشتغل الأضواء في فضاءاتنا
وإلى لقاء كل أحد في الصدى نت و نوافذ وإطلالات تنويرية تيسير عبدالجبار الآلوسي
نوافذ وإطلالات تنويرية الحلقة 4
إدراك أسباب الظواهر مقدِّمة لمعالجتها وتجنب سلبية الوصف
ليست تداعيات التفكير بجملتها، تفكيراً علمياً إلا عندما تتسم باستهداف إدراك الظاهرة والبحث في أسباب وجودها |
يتخذ أصحاب المنهج الجدلي الموضوعي أدوات الفعل والإنجاز من التفكير العلمي للإنسان بدءاً من (ملاحظة) الظاهرة واختبارها من زوايا متعددة وتحليلها إلى جزئيات كثيرة وإعادة التركيب بجمع القوانين والقواعد الجزئية المتوصل إليها بالاختبار والتجربة ووضعها في سياق نظري مناسب، يجري اعتماده وتوظيفه لاحقاً في حالات جديدة تالية عبر الاستقراء والاستنباط والاستنتاج.. وتلكم أمور إجرائية ترافق أيّ جهد لنا في سياق تنظيم الظواهر والعلاقات تنظيما موجها بإرادتنا الواعية وبقدرات إدراكنا الناجمة عن التراكم المعرفي، وأود هنا التذكير بأنّ سمة التنظيم لا تقف عند حدود ما أشرنا إليه في معالجة سابقة وبهذي التوطئة بل تشمل البحث في الأسباب والنتائج بدقة موضوعية تمكننا من صنع جسور الترابط بين مفردات عيشنا وظواهرها. فالحقائق لا توجد بصورة منفصلة مفككة أو ممزقة الأوصال بل لابد من البحث عن حلقات مترابطة سببياً في ظواهر عيشنا ومن ثمّ في طابع العلاقات بينها وصيغ الترابط وقوانينه..
ومن أجل أن نقرأ السمة الجديدة التي تحكم التفكير العلمي وتضع قوانينه بسلامة ونضج ننتقل كما أشرنا في موضع سابق إلى مناقشة السببية أداة لمنطق العقل العلمي ومنهجه في التعامل مع الظواهر كافة ومنها ظواهر وجودنا الإنساني وحركتها.
السببية \ التعليل: لا أتناول هذه الإشكالية رد فعل على أمر أو آخر، ولكنني ملزم باستكمال شروط التفكير العلمي ومنطقه؛ طبعاً ليس بإطار نظري بحت كما لاحظنا فيما سبق؛ ولكن بتطبيقات مما يجري اليوم حولنا.
وليست تداعيات التفكير بجملتها، تفكيراً علمياً إلا عندما تتسم باستهداف إدراك الظاهرة والبحث في أسباب وجودها.. وهدف البحث في الأسباب يكمن في إشباع الميل النظري للإنسان في التعرف إلى علة كل شيء وإن كان هذا الميل قد وُجِد بدرجات متفاوتة لدى الأفراد والجماعات البشرية. أما الهدف الآخر للبحث في الأسباب فيكمن في أنّ معرفتنا سبب الظاهرة يمنحنا فرصا أوفر للتحكم بالنتائج وتحسينها وللربط بين الظواهر وإيجاد الأنجع والأكثر صوابا منها وإنهاء ما يتعارض منها ووجود الإنسان فرداً او جماعةً. فمعرفة سبب المرض يعطينا فرصة أفضل لمعالجته، وإنهاء وجوده…
إنّ شروع الإنسان بسؤال لماذا هو الذي يُدخله مرحلة مراكمة معرفية بوساطة التفكير العلمي، وباللجوء إلى التشخيص العملي إن لم يسأل العراقي لماذا رصيد ميزانياته الفلكية منهوب؟ ولماذا يستمر تكرار صعود نفس الوجوه التي اُرتُكِبت بظل سلطتها وسطوتها كل تلك الجرائم بحقه؟ إن لم يسأل عن السبب فستتكرر الكوارث عليه وستتكرر الظواهر المرضية طاعوناً او سرطاناً يستفحل في جسد الوطن والناس حتى يودي بهم غلى مهالك لم القضاء على وجودهم شعبا قادراً على ممارسة وجوده وتقرير مصيره بمنطق عقل علمي على وفق سمات هذا المنطق وطابع التفكير الذي يمارسه أهو طابع التفكير العلمي أم طابع الخرافة وشلل العقل..!؟
قرأت بمواضع عديدة أنَّ فلاسفة اليونان أوردوا أنواعا أربعة أنماط من الأسباب في محاولة منهم لتحديد فكرة تمسكنا بالبحث عن السبب كواحد من أسس التفكير العلمي وقراءة الظواهر. فكانت تلك الأنماط ممثلة في: السبب المادي والسبب الصوري والسبب الغائي والسبب الفاعل.. هكذا وعلى وفق اليونانيين يمكن أن تقول: إنَّ السبب في صنع الكرسي أو السرير هو الحاجة التي دفعت إليه والعامل في صنعه وجود الحديد أو الخشب أو مواد صناعته، بينما لا يمكننا أن نقول إن سبب صنع الكرسي أو السرير هو وجود الحديد أو الخشب الذي صُنع منه فذلكم ليس موضوعيا منطقيا صائبا كما نرى اليوم، بعد أن قطعنا زمنا طويلا على رؤى الإنسان ايام اليونانيين فالمادة ليست سببا لوجود السرير بل هو أداة وربما عاملا والصورة أيضاً ليست كذلك وهي تبقى مجرد فكرة في الذهن لا يمكنها إنتاج المحسوس مباشرة.. والغاية لا نجد دورها إلا بعد أن نوجد الشيء فهي الأخرى ليست سببا في وجوده.. على أنه من المفيد القول كما أوردنا بعجالة: إنّ السبب الغائي دفع التفكير البشري إلى التعطل أحيانا، عن البحث في الحقائق الطبيعية حيث طبع الإنسان كل حقيقة طبيعية بغاية بشرية سواء باتجاه تحقيق رغبة البشر أم بمعاكستها؛ كأن يتخيل بعضهم أن المطر ينزل طاعة وتنفيذا لرغبة (ما) أو ينقطع رفضا وربما معاقبة، ونحن نعرف أن نزول المطر ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بغاية تحقيق رغبة بشرية من جهة الحدوث… وما يبقى لدينا مما يساعدنا على فهم السبب في وجود أو ظاهرة ما، هو السبب الفاعل أيّ أن صانع الشيء هو سبب وجوده… وعليه فظاهرة الفقر أو البطالة أو الاتجار بالبشر واستغلالهم أو تسليط العنف عليهم مما يجري اليوم في العراق لا يأتي من فراغ وبلا سبب فاعل بل تقف وراءه قوى بعينها يجب تشخيصها ومن ثمّ التخلص منها ومن سطوتها المرضية كي تنتهي تلك الظواهر.
إن السببية تظل موجِّها مهما لتفكيرنا (العلمي) وقد اعتمدها جهدنا طوال القرون الأخيرة على الرغم من (رأي فلسفي) يرى أن العلاقة بين السبب والنتيجة ليس ضروريا حتميا إلا في ذهن الإنسان وأن الربط بينهما يجري فقط في ضوء الخبرة البشرية الناجمة عن تعاقب (وتكرار) بين حدوث السبب ونتيجته ولا صحة للضرورة أو الحتمية في الرابط بينهما (وهو ما يقوله: هيوم).. غير أن العلم لا يقف عند هذا الرأي الفلسفي ولا يوافق الاعتقادات (بمنطق الخرافة) في قراءتها الحقائق بل يشتغل العلم بمنطقه في فحص الظواهر.
ومن هنا تقدم العقل العلمي \ ومنطق التفكير العلمي باتجاه فحص تعدد أسباب بعض الظواهر المعقدة التركيب فوظَّف الإحصاء في إيجاد معامل الارتباط بين جملة أسباب الظاهرة لتبيان السبب الرئيس المؤدي لتلك النتيجة \ الظاهرة.
وتوسع (العلم) في استخدام السببية مع تقدمه في البحث عن المباشر وغير المباشر في الارتباط بين السبب والنتيجة، وهذا ما يؤكد مجددا التقدم العلمي القائم لا على إلغاء ما سبق بل التعمق فيه والتوسع المعرفي.
إنّ السائد منذ 14 سنة عجافاً بسرطانها وطاعونها، يتمثل فيما أسست له قوى الإسلام السياسي الطائفية من تجهيل وتخريب في التعليم العام والمتخصص أرضية لمنح (الخرافة) وسطاً مناسباً للتفشي وتعطيل العقل (كليا وليس العقل العلمي) عن الاشتغال والتفكير، وحرفه عن سلامة الأداء… وهكذا فنحن نعرف لماذا جرى تخريب التعليم وإشاعة ظواهر مرضية فيه من قبيل زيادة نسب التسرب من المدارس وتوجيه الدراسات الجامعية لأمور من قبيل دراسة عفواً (بول البعير) وحب فلان أو علان وطول جلباب المرأة أو الرجل وشكله وغيرها من قشمريات ما أنزل الله بها من سلطان، وإذا عرف السبب بطل العجب…
إن التعرف إلى سبب انتشار الجريمة ومنها جرائم السرقة والفسادين الإداري والمالي والاختطاف والابتزاز والاغتصاب والفتل والاغتيال وربطنا ذلك بوجود الميليشيات ومن ثمّ سبب تعدد تلك الميليشيات والتشكيلات العنفية المسلحة ، إن تعرفنا إلى سبب ذلك يساعدنا بوضوح على الامتناع عن الالتحاق بتلك الميليشيات بأي خطاب وتبرير وذريعة أتتنا.. لأننا بكشف السبب الفاعل نحسم إجابتنا بنتيجة واحدة حاسمة هي رفض التعامل مع ذاك السبب أقصد الميليشيات بكل أشكالها…
وإذا تمعنا في الخراب الشامل والدمار الكلي في البلاد وانتهاك حقوق الناس وحرياتهم، فإننا سنقرّ أن ذلك لم يرتكبه مواطن بسيط فالميزانيات والأرقام الفلكية من الأموال لم ينهبها زيد او عمرو من المواطنين المغلوبين على أمرهم والجريمة بكل تفاصيلها إنما ارتكبتها رؤوس كبيرة من الحيتان والقطط السمان وليس من الفقراء المعدومين، فكيف نغض الطرف بعد ذلك عن المجرم (الكبير) ممثلا بزعامات سطت على الكراسي وتناهبته واقتسمته غنيمة بلا فتات للفقير يقتات به وعائلته! كيف يمكن لمنطق العقل العلمي ان يوقف تفكيرا منهجيا علميا عن إدانة أجنحة الجريمة بلا استثناءات وحينها اي حين لا تقع بفخاخ تبادل أجنحة الجريمة الاتهامات فنقف مع أحدها سنتحرر بمعرفة السبب من الوقوع اسرى هذا الجناح او ذاك ممن استغل وجوده على رأس الدولة للنهب وطبعا للتخويف وبلطجة الناس كي يظهر كل جناح هو الحامي الحارس الذي يلقي للغلابة الفقراء ببقايا عطاياه مما سرق من حقوق الناس وثروات البلاد…
أيها المواطن المغيب عن كل شيء، ايها المواطن الذي يحاولون تعطيل قدرته على التفكير بمنهج العقل العلمي ومنطقه، ابحث عن السبب في كل ظاهرة فيما يحيط بك وحين تجيب عن السؤال أنت مطالب أن تلبي حقوق نفسك وأهلك في رفض السبب (الفاعل) الذي وقف وراء كل مشكلاتك وما اصابك ويصيبك يوميا من معضلات وعقبات وأمراض…
يوم تطلق لعقلك فرصة الاشتغال بأسس ممنهجة بسلامة وبمنطق التكفير العلمي، تستطيع اتخاذ القرار المناسب لحريتك ولاستعادة حقوقك كافة.
ومن أسس التفكير العلمي ومنهج العقل علمياً موضوعيا جدليا أن تبحث عن السبب في الظواهر التي تحيط بك وأن تتأكد من سلامة التشخيص على وفق منهج التكفير العلمي لا كما يحاولون ضخه لك بخطاب الخرافة ودجل الفكر الظلامي الذي يُعطل لك تفكيرك ويحرمك من نعمة تشيل عقلك حيث ينيبون عنك شخصا يفكر بدلا منك ويأمرك بما توجه به مآربه وغاياته…
لا وجود لشخوص (مقدسين معصومين) في يومنا والقدسية التي يسقطونها بجلابيب التدين الكاذب هي وهم يكبلون عقلك عن التفكر والتدبر فيما يجعلون منك عبداً لشهوات ذاك الذي يسقطون عليه القدسية المزعومة الزائفة…
هذا الزعيم المدّعى هو ذاته الذي قادك والبلاد إلى هذه الهاوية وهذا الدرك الأسفل من الأوضاع فلا تتردد للحظة في غعمال فكرك ورفض اللهاث وراء شخص كان شريكا في الجرائم التي عاشتها البلاد وانتكست الناس لتقع بفخاخ الاستعباد…
فهلا قرأنا هذه السمة بتطبيقات تنطلق من سؤال: لماذا؟ لماذا في كل خطوة وظاهرة وفعل؟ لماذا نحن في حضيض الأوضاع تطاردنا المقاتل حتى في بيوتنا وفي مستشفياتنا البائسة وحين يحققون عن المجرم يحفظون التحقيقات ويقيدونها ضد مجهول، ضد أشباح وليست تلك الشياح سواهم هم المجرمون ينهبوننا ويغتصبون حقوقنا ويقتلوننا ويمشون بجنائز أبنائنا وجنائزنا!!!
تلك هي إشكالية البحث في السبب وفي علة الأشياء.. الإشكالية التي تمنحنا إجابة جدية فاعلة ولا تقف بنا عند حدود وصف الظاهرة فكلنا يحيا وسط مجتمع تمّ إفقاره وتم استلابه ومصادرته ولكن ذلك لا يكفي لفهم ما نعيشه ونحيا وسطه، بل لابد من البحث في السبب الفاعل كما ورد معنا هنا. وبهذا التوجه وبحثنا عن السبب، نخطو خطوة أخرى لاستكمال أدوات التفكير العلمي وندفع باتجاه تشغيل عقولنا بمنطق ومنهج علمي لا بمنطق الخرافة وتغييب العقل..
وفي التالي من معالجاتنا في خطاب العقل العلمي سنتابع مع محور آخر وسمة أخرى من سمات التفكير العلمي وبعض تطبيقاتها بواقعنا. ما يعنيني بهذه الومضة في المعالجة والتحليل أن أصل إلى كل مواطنة ومواطن وأطلب منه التفكر بسبب منطقي لتعطيل عقله ولإبعاده عن منهج العلم في مناقشة الأمور.. ومن ثم حين يجد السبب يقطع صلته بمن عطل تفكيره العلمي وهو ابن عصر العلم لينتمي إلى نفسه إلى ذاته الفردي والجمعي ويكون صاحب العقل العلمي وتفكيره المحسوب منهجيا موضوعيا، وبخلافه لن يجد نفسه ومحيطه سوى الخراب والمآسي تتوالى بحقه من دون فكاك! فهل يقبل لنفسه الاستمرار في العيش بهذا الخراب، فيما بحثه عن السبب كفيل بالتشخيص وبتحرير عقله ومن ثم تحريره من قيود الاستعباد ونير التجهيل والابتزاز؟؟
لكم الإجابة واتطلع للتفاعلات ولاتخشوا من التفكير فهو ما يؤنسن وجودنا ويمنحنا الحرية الحقة لنستعيد كامل مطالبنا وحاجاتنا، التي لن يعيدها وهم و\أو خرافة ومن يقف وراءهما…