نوافذ وإطلالات تنويرية ح3 طابع التنظيم في منطق العقل العلمي وتناقضه مع عشوائية الاشتغال
هذه هي الحلقة الثالثة من حلقات زاوية (نوافذ وإطلالات تنويرية) في صحيفة الصدى نت.. أعالج فيها فتح نوافذ مع القارئات والقراء كي ندير حواراً يمنحنا فرص تنوير المشهد وإزاحة كلكل الظلام .. فشكراً لكل إطلالة من إطلالات المتابِعات والمتابعين وتحاورهم وطرحهم الأسئلة والاعتراضات والبدائل فبها حيث بها فقط، تكتمل حلقات التنوير وتُنار الأضواء
وإلى لقاء كل أحد في الصدى نت و نوافذ وإطلالات تنويرية تيسير عبدالجبار الآلوسي
طابع التنظيم في منطق العقل العلمي وتناقضه مع عشوائية الاشتغال
قلتُ: إنَّ (أنتروبيا) أيّ شأنٍ أقصد (فوضى عشوائيته) تزداد بغياب البرمجة وتتناسب طردياً مع تعطيل (التفكير المنظم). وأشرْتُ إلى ما يسِمُ التفكير العلمي للإنسان بوجوده الفردي والجمعي بالإشارة إلى تمظهره في (شعبٍ) بعينه؟ وكان من تلك السمات التي أشرتُ إليها ما سبق لي معالجته ممثلاً في سمة التراكم والعلاقة بين الأمس واليوم والغد؛ ثم التنظيم الذي سنحاول هنا قراءته في ضوء التجاريب المتاحة والمعاشة اليوم في العراق ودول المنطقة..
وبقصد التعرّف إلى مفهوم التنظيم اصطلاحاً معرفياً فلسفياً، فلننظر إلى اشتغال العقل الإنساني باستمرار وبلا توقف سواء فرديا حيث الاشتغال البيولوجي ومنجزه أم جمعياً حيث التفكر والتدبر في مسيرة الجماعات والشعوب واشتغالاتها وهو ما يتمّ في كثير من الأحيان، بعفوية أو تلقائية في ضوء تداعيات ذهنية (استجابات) لمثيرات محيط الإنسان الفرد وبنسبة أقل يعمل بمنطق علمي موجَّه منظَّم إرادياً.
وفردياً فإنَّ سمة التداعيات الحرة الطليقة لأفكارنا، كما في أحلام اليقضة أو كثير من لحظات الحوار الداخلي تظل عفوية غير مرتبة أو غير منظمة، مثلما يجري في التفكير العلمي مرتَّباً موجهاً منظماً. فنجد هنا، أنّ أهم سمات التفكير العلمي هو (توجيه) أفكارنا بـ(ترتيب) محدَّد وبتخطيطٍ مقصود.. وما يمكنُ أنْ يوسِّعَ استخدامنا هذه الآلية بحاجة لتغيير كثير من العادات الشائعة سواء فرديا مع أنفسنا أولاً أم جمعياً مع الآخرين.. وأذكِّر هنا، أننا نطلق العنان (لخيالنا) في عمليات التفكير لدينا ونتنقل من مفردة لأخرى بانسيابية غير موجَّهة وبتداعيات حرة طليقة (عفوية، عشوائية) وربما أحيانا (اعتباطية) فـ تجر بعضُها بعضاً بلا إرادة أو سيطرة واعية منّا.. كما أُذكـِّر هنا بالتنقلات (الحوارية) من معالجة مفردة إلى أخرى ومن موضوع إلى آخر بطريقة التداعيات (والتفاطين) والاستناد العشوائي غير المقصود؛ في اختيار مفردةٍ، لنبني عليها انتقالة أو أخرى، أثارتها تلك المفردة ودفعت بفكرة ما لتلمع في الذهن في تلك اللحظة التي تجري بها الحوارات في جلساتنا الخاصة والعامة أيضاً ببعض الأحايين.. وهذا ما نريد معالجته من خلال الإشارة إلى العفوية والعشوائية والاعتباطية ومن ثمّ إلى نتيجة عدم التركيز على الموضوع أو الفكرة وعدم تناولها بمقدماتها الصحيحة ولا معالجة أسئلتها ومن بعد إلى عدم الوصول إلى خواتيمها المنتظرة..
هذا ما يسود أغلب أشكال اشتغال العقل في وجودنا الفردي والجمعي وهو نموذج قلنا: إنّهُ يزداد عند الشخصيات السلبية القدرية أو التي تحيا أقرب إلى الأمية بوجهيها الأبجدي والثقافي وفي بلدان التخلف أو الدول النامية وتلك المجتمعات التي تتحكم بها قوانين تسيير تنتمي لمنطق الخرافة وثقافتها أو خطابها وآلياته.
أعود لتثبيت مقولتي: “إنَّ (أنتروبيا) أيّ شأنٍ، أقصد (فوضى عشوائيته)، تزداد بغياب البرمجة والتنظيم وتتناسب طردياً مع تعطيل (التفكير المنظم)”.
إنَّ (أنتروبيا) أيّ شأنٍ أقصد (فوضى عشوائيته) تزداد بغياب البرمجة وتتناسب طردياً مع تعطيل (التفكير المنظم). |
بينما يحتفظ التفكير العلمي والعلم نفسه بمبدأ (التنظيم)، أساساً لمنطقه في التعاطي مع اشتغال العقل وتوجيه الذات بطريقة منظمة. وكذلك في محاولة إعادة تنظيم عالمه المحيط (الخارجي).. فكلا العالمين الداخلي للإنسان والخارجي المحيط به يمتلكان حالا من أنتروبيا أو عشوائية وتعقيد التفاصيل وتشابكها وتمددها في مفردات كثيرة، لكنّ تلك العشوائية تمَّحي مع نضج سمات التفكير العلمي عند الإنسان بوجوده الفردي والجمعي.
كلا العالمين الداخلي والخارجي للإنسان يمتلكان نسباً من أنتروبيا تفاصيل وجوده وتمددها، لكنّ تلك العشوائية تمَّحي مع نضج سمات التفكير العلمي عند الإنسان. |
ومن أوليات التنظيم التي ينبغي أن يحققها التفكير العلمي، هي أن نختار من جملة هذه المفردات شديدة التعقيد عشوائية الوجود وأنْ ننظمَها بما يتلاءم وحاجاتنا ومقاصدنا.
على أن (التنظيم) قد يكون علميا وقد لا يكون من جهة (الإطار) و (مجال الاستخدام).. فمن التنظيم ما يدخل في النصوص الإبداعية الجمالية الفلسفية كما في تنظيم الأسطورة وتفسيرها الظواهر الطبيعية بمعاني وغايات تتواءم وإرادات شبيهة بالإرادة البشرية وحركتها.. وفي الفلسفة وفي الفكر الديني سنجد قراءات تنظِّم الكون أو تراه بنظام يوحي إلى غائية أو إلى وجود الخالق بخلاف حجم العشوائية الذي ترصده العلوم في أنتروبيا الوجود بهذا الكون..
المبدأ هنا يفصل بين التنظيم علميا والتنظيم في الخطابات البشرية الأخرى. وما يميز التنظيم علميا هو منهجه. فرفيق التفكير العلمي والعلم ذاته ورديفهما، ليست النتائج ولا المعلوماتية التي نكسبها بل الاتسام بـ((المنهجية)) مع الانتباه على أن تعددية المناهج لا تتعارض وثبات هذه السمة بين سمات التفكير العلمي، فتلك إشكالية ثانية غير ما نشير إليه بمنهجية التنظيم سمةً لمنطق العقل العلمي والتفكير العلمي وتنويريته..
وفي المنهج هنا يتخذ من التفكير العلمي للإنسان أدواته ممثلة في (ملاحظة) الظاهرة فـ التجربة المجراة على تلك الظاهرة من زوايا متعددة وجزئيات كثيرة والتركيب بجمع القوانين والقواعد الجزئية المتوصل إليها من التجربة ووضعها في إطار النظرية التي يجري توظيفها في حالات القراءات الجديدة التالية عبر الاستنباط والاستنتاج..
وتلكم أمور إجرائية لجهدنا في تنظيم الظواهر والعلاقات وتفاصيل أمورنا تنظيما موجها بإرادتنا الواعية وبقدرات إدراكنا الناجمة عن التراكم المعرفي، وطبعا ليس باكتفاءٍ بإجرائية منهجية بل تتسع سمة التنظيم لتشمل فكرة قدرات إيجاد الترابط بين الجزئيات حيث لا تترك الحقائق بصورة منفصلة مفككة بل يُكشف عن العلاقات بينها وصيغ الترابط وقوانينه.. وهكذا لا يُضاف جديد علمي إضافة كمية منفصلة بل يجري الربط بينه وما سبقه بما يشيد الحقيقة الأشمل عبر جسور العلاقة بين حقيقة وأخرى وعبر ربط محدد بينهما.
في ضوء تلك العجالة في قراءة التنظيم نجد محاولات سلطة الطائفية السياسية وقوى الظلام لإفشاء العفوية والعشوائية لدى الأفراد عبر منافذ ومفاتيح من قبيل اللاأدرية و\أو القدرية وترك الأمور تمضي بلا تخطيط وترتيب، هكذا على عواهنها… لا أجندات في الاشتغال اليومي والأسبوعي والشهري والسنوي ولا ضوابط ومحددات، سوى سياقات عامة في الأداء وتشغيل العقل بمنهجين أو أسلوبين أحدهما للتفكير العلمي ونقيض للغيبي.. بالمناسبة هنا حتى لأولئك الذين يؤمنون بشكل أو بآخر بمنهج التفكير العلمي لديهم انتروبيا اشتغال بسبب عدم نضج الأدوات المعرفية التي يحتاجها أسلوب تشغيل منطق العقل العلمي…
وحتى لأولئك لمن يؤمن بمنهج التفكير العلمي لديه أنتروبيا اشتغال بسبب عدم نضج الأدوات المعرفية التي يحتاجها أسلوب تشغيل منطق العقل العلمي |
وفي الوضع المجتمعي التفكير العلمي ومنطقه يؤدي بالضرورة إلى تعزيز الفعل الجمعي التعاضدي والاشتغال المؤسسي والانضباط بقوانين الأمر الذي لا نراه في نظام تحمه الطائفية.. ففي هكذا نظام يميلون لشرذمة الأمور وإضعاف المؤسسات وتقوية عناصر وتشكيلات فوق القانون لإشاعة الفوضى والأعمال والممارسات الاعتباطية العبثية وليس العشوائية فقط…
إن ظواهر تعطيل التفكير والاستناد إلى ما يُصدره مرجع ما يُسقطون عليه القدسية كي يستطيعوا فرض منطق تعطيل التفكير والاعتماد على فتاوى المرجع حتى لو تعارضت بفجاجة مع أبسط العقول وأشكال اشتغالها.. في ظلال هذا التجميد والتعطيل تتفشى عشوائية الاشتغال وأنتروبيا الحركة المجتمعية وتسرح بنا الأوهام بعيداً عن كل ميناء سليم لوجودنا واشتغالنا الصحي الصحيح…
في ظلال تجميد التفكير العلمي وتعطيله تتفشى عشوائية الاشتغال وأنتروبيا الحركة المجتمعية وتسرح بنا الأوهام بعيداً عن كل ميناء سليم لوجودنا واشتغالنا الصحي الصحيح |
التنظيم الوحيد في نظم الظلام هو الفرض القسري لأوامر لا تسمح بالتفكير والمراجعة والمناقشة وخلا ذلك لا يُسمح لطرف بأن يشكل تنظيماً فالتنظيمات تعني عملا مؤسسيا وتعني قوانين وانتظام وأجندات عقلية تستند للتفكير وتستند للعمل الجمعي المنظم وهو ما يشكل خطراً على (نظام) قوى الظلام والسلبية وأمراضه…
والحرب تُشن بمختلف الطرق من منع وحظر وتكفير ومن ثم ما يرتبونه من تحجيم ومحاصرة وتضييق وعند الضرورات التي تخدمهم يلجأ بلطجيتهم إلى القتل والتصفية…
العشوائية وسلبيتها وانقطاع تنظيم التفكير هي ما يُفرض تفشيه ونشره وبائياً يساعد في ذلك إنهاك الناس وإشاعة الاحباط والانكسار واليأس والقدرية وطبعا إشاعة أضغاث أحلام وأوهام والعيش في الأماني أو ما يضارعها في الواقع…
بموضع آخر سأتابع أمثلة على محور التنظيم ومعانيه وعلاقته في حمل منطق التفكير العلمي إلى آفاقه السامية الفاعلة بروح إيجابي ملموس، يستند إلى أسلوب العقل العلمي، منهجه ومنطق تنظيم التفكير فيه وأذكّر هنا بالخطط الاستراتيجية والتكتيكية المفتقدة أو المشوه تنظيمها بقصد وأذكّر بتدمير المؤسسات داخليا عبر وضع شخوص غير مناسبين على رأسها ما يفقدها فرص التنظيم السليم وعير صياغات شوهاء للقوانين الناظمة وعبر التجاوز حتى على المحددات والشروط التي تحكم العمل بإثارة أنتروبيا بلا حدود في أجواء العمل العام والخاص وفيها جميعا أمثلة يمكنكم الآن قراءتها بالتأكيد…
أما التالي في تسلسل حلقاتنا فسيعالج السببية والتعليل في يومياتنا الفردية والجمعية.