الفقر يظل بالنتيجة والمحصلة محلي التأثير في وجوده المباشر وفي وقائع جراحاته وآلامه.. ولطالما وجدنا مفكرين وفلاسفة وساسة وقادة مجتمعات على مر التاريخ يسعون لمعالجة تلك الظاهرة بوسائل مختلفة.. لعل أنجعها تلك التي تلخصها، مع بعض التعديل فيها، عبارة ((بدلا من تمنح الفقير سمكة علِّمْهُ كيف يصطادها)).. بالإشارة إلى مهمة تمكينه من التغلب نهائيا على فقره بدل التصدق عليه الأمر الذي لا يقدم إلا حلاً مؤقتاً سرعان ما يزول أثره…
وفي عصرنا الحديث؛ لم نجد سوى محاولات متفرقة جغرافيا زمنيا للتصدي لتلك الظاهرة حتى بدأ المجتمع الأممي ومنظماته التفكير في اختيار علامات على طريق المعالجة فكان ((اليوم الدولي للقضاء على الفقر)) في 17 تشرين الأول \ أكتوبر 1987، حيث احتشد في ساحة تروكاديرو بباريس حوالي مائة ألف شخص تكريما لضحايا الفقر المدقع والعنف والجوع.
لقد تم اختيار ذلك المكان الذي تم فيه توقيع الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عام 1948، ليؤكدوا أنّ الفقر يُجسد واحداً من أخطر انتهاكات حقوق الإنسان.. ما يتطلب تكافل الجهود المجتمعية المحلية والأممية سواء من أجل احترام تلك الحقوق أم من أجل الوصول إلى ذياك الاحترام جوهريا عبر معالجة ظاهرة الفقر وإزالة آثارها الكارثية وعدوانها المأساوي على حقوق الإنسان.
إن إدامة الاحتفال السنوي في 17 تشرين الأول \ أكتوبر هو توكيد من المجتمعات كافة على إعلان التمسك بالعهد الذي تمّ إطلاقه في تعاضد الجهود لمحو الفقر وتمكين الجميع من تفعيل أدوارهم بتلك المعالجات، عبر مزيد التضامن مع الفقراء من جهة ومزيد مشروعات التمكين والبحث في الحلول ووسائل تنفيذها.
ورسمياً جاء قرار الأمم المتحدة ذي الرقم 47/196 الصادر بتاريخ 22 كانون الثاني \ يناير 1992، ليعتمد تاريخ اللقاء الأممي بباريس يوماً دولياً لمراجعة مسيرة العمل والجهد من أجل القضاء على الفقر سواء على الصعد الوطنية أم الدولية الأممية.. إذ لابد من النهوض بفعاليات وأنشطة تختص بمهام القضاء على الفقر والعوز واسثمار المناسبة لتعزيز إشاعة ثقافة مكافحة الفقر بفلسفة التمكين لا فلسفة الصدقات السلبية.
إنّ احتفالية الذكرى السنوية في 17 تشرين الأول \ أكتوبر تظل فرصة جدية على تواضعها، بقصد الاعتراف بأوضاع من يعيشون في ظلال الفقر والإقرار بحقهم في توفير أرضية الحلول الحاسمة للظاهرة والنضال ضد آثارها.
ومن أجل تلك المهام لابد من أن يكون الفقراء في مقدمة صفوف النضال ضد الفقر. إذ يبقى وعي الفقير بفقره، أسباباً وعوامل وآثاراً، يشكل الوسيلة الفعلية للانتصار على الفقر ولمحو مصادر وجود تلك الظاهرة الخطيرة.. وبهذا ينبغي أن يجري تفعيل أدوار الفقراء في المهمة لغرض تقريب فرص إنهاء الظاهرة الكارثية بالاستفادة من خبرات ينبغي تزويدهم بها وتفعيل فرص مساهماتهم الفعلية العملية في مهمة القضاء على الفقر.
إن قضية الوعي بالفقر تبقى قضية إشكالية، إذ أن تسطيح الظاهرة سيبقيها بحدود تصورها أو بصيغة أدق توهم أنها مجرد قلة في الدخل أو هزاله وعدم كفايته مالياً مادياً. بينما الفقر يتضمن مفردات من قبيل الحرمان من الرعاية الصحية ومن التعليم ومن مختلف الخدمات الأساس التي تتنامى وتتنوع في مجتمعنا المعاصر.. كما أن الفقر يعني على وفق مفهومه الأدق حال الحرمان من حقوق الإنسان المسجلة في وثائق أممية معروفة أو على أقل تقدير انتهاك تلك الحقوق سواء المادية منها أم الروحية المعنوية الأدبية وهو ما يهمنا التذكير به دوماً..
إن محو الفقر يتضمن النهوض بمهمة تلبية حقوق الإنسان كافة وبالدفاع عنها ولعل أخطر تلك المعضلات الناجمة عن الفقر مما يتطلب الإنهاء، هي ظاهرة الشعور بالمهانة والإقصاء الاجتماعي؛ الأمر الذي يعاني منه الفقراء يومياً وهم يحيون تفاصيل يوم الإنسان العادي بكل ما يحيط بهم من فعاليات لا يمكنهم المشاركة بها وقبل ذلك تحسرون على حرمانهم من كثير من تفاصيل العيش اليومي وخدماته.. وطبعا يتطلب منا هذا، الرد والمعالجة عبر إشراك الفقراء أنفسهم في كل الجهود المحلية والأممية لمكافحة ظاهرة الفقر والفقر المدقع…
ولابد لي من التوكيد في معالجتي المستقاة من كثير من القراءات المتخصصة، أن أؤكد مجدداً على أن موضوع مهام المنظمة الدولية وندائها إلى كل الفاعلين، منظماتٍ وشخصيات، في عام 2016 يتمثل في: ((الخروج من دائرة المهانة والإقصاء إلى أفق المشاركة في القضاء على الفقر بجميع مظاهره))..
إن مشاعر الإذلال والتحقير وكذلك العيش بنظام المهمشين وتحت ظلال ظاهرة الإقصاء والعزل هي المحور الذي ينتظر أن يكون مدخلا لهذا العام في معالجة الظاهرة وفي جذب الفقراء نحو إدراك الحقيقة والارتقاء بوعيهم بما يفعِّل أدوارهم عملياً..
فتحقيق الرفاه المادي في مجالات الغذاء والدواء والسكن والخدمات وغيرها من المفردات الحقوقية لا يتم بتغطية تكاليفها مالياً وتعطيل قدرات أو طاقات العمل المنتج بل عبر وعي جدي لمسؤولية المشاركة في وضع خطط توزيع الثروة وتوجيهها إلى مواضع الاستثمار المنتج الذي تتوالد منه الخيرات وتزداد بما يلبي الحاجات بحسب الحجم السكاني وبحسب التوزيع العادل أو تحقيق العدالة الاجتماعية بمفرداتها كافة، ولا يتم ذلك بظروف التهميش والإقصاء وهي ظروف تصطعنها سياسات الحكم الفاشلة التي تتعمدها لإدامة نظام الفساد..
وإذا كان من أمر مفيد لنواصل معالجتنا فإنه يكمن في التوكيد على أنه من التضليل الاستمرار بمعزوفة ذاك هو سبب فقركم فالتكرار والتكلس على الذكر اللفظي لسبب الفقر لا يعفي بجوهره من ضرورة إدراك عوامل إدامة الفقر وهي الأهم وهي المادة التي يجب إدراكها لأنها نقاط التماس وجبهة الالتحام مع عدو الفقراء بقصد محو الفقر ومكافحته نهائياً..
وكثرما وجدنا نظام المفسدين الطائفي يديم معزوفة كان النظام الدكتاتوري وكان الطاغية المهزوم وهو أمر صحيح في كونه أحد أسباب الكوارث التي يحياها الناس إلا أن الأكثر صوابا وصحة وسلامة ليس اجترار الماضي وإنما هو البحث في عوامل إدامة تلك الكوارث والبحث عن عوامل تحويلها إلى مآسٍ يومية في تفاصيل عيش العراقيين ومفاقمة ظواهر السلب حتى تحولت الأوضاع إلى تكريس نظام متكامل للجريمة ولإنتاج الفقر هو نظام (الطائفية الكليبتوقراطي) واستيلاد طبقة كربتوقراط أي طبقة المفسدين النظيرة لطبقة السراكيل والاقطاع التي تم استيلادها مطلع القرن الماضي في البلاد…
لابد من دراساست وبحوث يمكنها التصدي للظاهرة بشمول محاورها كافة وبما يصل من توعية للفقراء وجموعهم ويثير فيهم روح المشاركة والتحدي ورفض محاولات التهميش والإقصاء وإشاعة التبطل والعطالة بينهم.. حيث سيكون النضال من أجل العمل وإدارة عجلة الإنتاج والعمل المجتمعي العام هو تأسيس للانتصار الحاسم وإلا فإن النوالد السلبي لآثار الفقر سيظل يطحن الجموع ويعزلهم كي يسهل وضعهم تحت مجنزرات الآلة الهمجية للاستغلال..
أكتفي هنا بهذه الأسطر على أمل مواصلة البحث والمعالجة وبتطلع لمساهماتكم وتداخلاتكم
رقم القرار ومضمونه من موقع الأمم المتحدة