في خيمة طريق الشعب بمهرجان اللومانيتيه الأممي، احتضان متنوع الأنشطة الإنسانية الحية للعراقيين
هذه كلمة أو معالجة استوحيتها من متابعة توافرت عبر النقل الإعلامي الحي للفعاليات وهو الجهد الإعلامي المميز في هذا العام حيث جاء نوعيا بما يوحي بضرورة تجديد توظيفه بطريقة ممنهجة في المرة التالية بما يوصل الفعالية إلى مئات آلاف المتلهفين لأنشطة الثقافة التنويرية. وإذا كان ينقص المعالجة المشاهدة العيانية الميدانية فإن بديلها عديد من المعالجات المتحصلة ممن عاش الحدث مباشرة وعبر حوارات معه فتجمعت المؤشرات العجلى التي نضعها تثمينا للجهود وتكريما للجنود المجهولين من رفاق الحزب الشيوعي العراقي وأصدقائهم أولا ومن جميع حملة مشاعل التنوير من المدنيين الديموقراطيين ممن تبنى كل التفاصيل والمهام التي أعطت هذا المنجز التضامني مع شعبنا وقواه الحية ومع ثقافة تنويرية تتطلع لتحقيق التقدم والعدالة الاجتماعية والسلام والحرية واستشراف الديموقراطية في بلادنا بدولة مدنية تكنس ما تراكم من قاذورات مثلث الوباء والجريمة: الطائفية، الفساد والإرهاب
في ضواحي باريس بفرنسا ينعقد سنوياً مهرجان أممي يؤمّهُ ملايين الزوار بوصفه عيداً شعبياً عرفته عاصمة النور والحداثة منذ مطلع القرن الماضي. وهذا العيد اسمه عيد الإنسانية على اسم منظميه بجريدة ((اللومانيتيه))؛ ويحتضن الكرنفال عشرات ممثلي الصحف اليسارية والتقدمية بمختلف أرجاء العالم.. كلّ صحيفة لها خيمتها تعرض قضايا تمثل همّاً وطنياً يتقاسمونه ويتشاركون به إنسانيا من أجل مزيد التضامن الأممي.
اللومانيتيه كرنفالٌ جماهيري يحضرُهُ ما معدله ثلاثة ملايين على مدار ثلاثة أيام بمخيمٍ ضخم يجتمع فيه الفرنسيون ليشاهدوا ممثلي الشعوب وحركاتها اليسارية الديموقراطية وما تعرضه من تجاريب ليس في الصحافة حسب بل في معالجة قضايا من صميم تفاصيل اليوم العادي لتلك الشعوب، وتتضمن فعاليات المهرجان مختلف الشؤون الكبرى كما الندوات الفكرية السياسية التي تناقش أعقد القضايا المعاصرة التي تجابه البشرية والشؤون التفصيلية كما تلك التي تُعنى بالأكلات الشعبية التقليدية لمختلف الانتماءات والشعوب والأمم وبينهما قضايا وشؤون كما الخطابات الجمالية التشكيلية والغناسيقية وفنون الرقص والتعبير المختلفة المتنوعة…
بين تلك الجموع تعتلي منصة طريق الشعب الجريدة العراقية اليسارية، لتضمها خيمة بهية بكل المنجز الثر الغني للعراقيات والعراقيين. لا تكتفي الخيمة ببنات وأبناء الجالية العراقية في فرنسا بمئات الزوار منهم بل تستقبل زوارها من مختلف مدن المهاجر الأوروبية التي تضم الجاليات العراقية.. ولعله حجيج إلى منارة ثقافية مميزة مهمة.. فحضور كرنفال اللومانيتيه من ممر ((طريق الشعب)) هو حضور إلى ملخص عراقي من الهوية والأصالة ومن تجسيد تراث العراقيين القديم والمعاصر.
الفنانات والفنانون التشكيليون يأتون بلوحاتهم وقراءاتهم البصرية للقضية العراقية ولقضايا لم يبخل العراقيون عن تناولها على الرغم من أولوية همومهم وتعقيداتها. الفنانات والفنانون الغناسيقيون يأتون بآلات من جذور سومرية الإبداع لتصدح الحناجر بأغاني الوطن والناس.. وكبار الشخصيات العراقية المناضلة من مفكرين وساسة وقادة حركات وتيارات وعلماء ومتخصصين، جميعهم يأمون الخيمة بأيامها الثلاثة ولياليها الأربعة… يواظبون على حضور كل مفردة برامجية ونشاط والمساهمة فيه وفي حواراته…
هذا العام، أضفى وجود الأستاذ جاسم الحلفي لمسات عديدة حيوية ومهمة، لعل أبرزها غير مساهمته الأولى بمحاضرة ليلة الجمعة، هي اعتماد النقل المباشر عبر قنوات يوتيوب وفديوات الفيس بوك.. فحظي جمهور بعشرات الآلاف بفرصة المتابعة المباشرة وحضور الفعاليات والاطلاع عليها أولا بأول.
إنّ إعلام هذا العام كان علامة مسجلة بتميزها.. فلقد وصلت الأنشطة إلى جمهور كان لا يحظى سوى بتعقيبات مكتوبة بعد عدة أيام توجز ولا تغطي الصورة الحية.. وطبعاً شكَّل هذا تعريفا حيوياً بالمشاركة التي عمرها اليوم 40 عاماً من وجود طريق الشعب منذ العام 1976 يوم شاركت بمساحة لا تتجاوز المتر ونصف المتر، فيما هي اليوم تشارك بمساحة 100 متر مربع وتزدحم بعشرات آلاف الزوار لفعالياتها. ولا مبالغة إذا قلنا أن خيمة (طريق الشعب) واحدة من بين أبرز الخيم الناشطة الفاعلة في هذا المهرجان..
ولعل فنون التشكيل ولوحات مبدعاتنا ومبدعينا بمدارسها ومذاهبها الجمالية ومضامينها الاحترافية العالية هي ورقة مهمة بين أسباب كثافة الزوار ومعها التراثي الأصيل من الغناء والرقص العراقيين بهويات مجتمعه التعددي الثر بتنوعه، بين العربي والكوردي والاشوري والتركماني والصابئي وغيرها من كل تنوعات أغاني الحب والسلام وقضايا الناس وتعبيراتهم العاطفية الإنسانية السامية.
لم تكن محاضرة الأستاذ الحلفي الذي حصل على الدكتوراه بعد أيام من مشاركته بالمهرجان تقليدية بأدائها فأصر الحضور على متابعتها بحوار فكري سياسي عبر عن درجة الوعي وإرادة التمسك بصياغة برامج ملموسة حية لمسيرة الشعب وحراكه المدني وعلى توخي الدقة والموضوعية بما يصل إلى أفئدة الشعب والضمائر الحية لبناته وأبنائه. وها هي تتردد بمفرداتها في يعديد الجلسات ويتناقلها من حضرها بمحبة وحرص.. إنها جزئية من سياق نضالي وطني ديموقراطي مشرق…
ومروراً بفعاليات الأزياء التي كانت خطابا جماليا يرفض العتمة والإظلام الذي يريد الظلاميون وقوى الجهل والتخلف أن يلفوا به المرأة بسواد تفكير تلك الهمجية ورعاع التاريخ.. فجاءت الأزياء مستوحاة من جماليات المحبة وأنوثة العراقية وبهاء وجودها الإنساني الحي والتصاقها بثقافة التنوع وتراثها المجيد من سفر حضارة سومر ومن البابليين والآشوريين والميديين ومن كل متنوع الطيف العراقي.. فشاهدنا كل الرموز القيمية رائعة مشرقة..
وعندما سارت التظاهرة بشعار الانعتاق من العنف الواقع على المرأة العراقية تصدرته رموز التمسك بالهوية العراقية وبثورة تموز التحررية التي منحت المرأة قانوناً مازال يحيا وجوداً مهماً يحمي حقوقها ويصون كرامتها من اعتداءات قوى الطائفية وعفونة ما تستمد من مغاور ومجاهل كهوف انقرضت قيمها ويحاولون استرجاعها بالعنف والابتزاز!
هكذا هي خيمة (طريق الشعب) وحضورها من رائعات ورائعين، ليست مجرد رمزيةٍ عابرة بدلالات واهية، إنها هي المضمون الحي للضمير العراقي إذ حافظ المهجريون على هوية وطنية بروح تنويري مدني لم يتراجع مع الانهيار الشامل الذي جرى في التراجعات الخطيرة الجارية في داخل الوطن.
إنّ وجود المهجريين هنا سنوياً يؤكد حرصاً نبيلا على تبني قيم أنسنة وجودنا وعلى التفتح والتفاعل مع الآخر وعلى احترام طابع تعدديتنا والمساواة بين كل أطياف الشعب بإطار هوية المواطنة والطابع المدني لآليات العمل واشتغال ديموقراطي رحب اجتماعيا سياسياً.
وسنة بعد أخرى ومع بعد الشقة الزمنية بين زمن النفي الاضطراري لملايين العراقيين وبين اللحظة القائمة، تتعمد قيم الهوية الوطنية ومن ثمّ جهود التضامن مع أهلنا في الداخل.. إن فعاليات كثيرة لخيمة طريق الشعب هي وسائل لا تكتفي بالتعريف بالهم العراقي وما يجابه الوطن والشعب بل هي تجتذب مفردات تضامنية ملموسة…
وعائدات الأنشطة هي بالأساس أدبية معنوية واعتبارية تحاول منح الشبيبة من الجيل الجديد فرص التعرف إلى جذورهم ومنحهم منافذ اتصال بقضايا هم ليسوا بعيدين عنها، على الرغم من العيش في المهاجر القصية ومطحنة اليوم العادي وتفاصيل مشاغله…ولربما كان هذا العام علامة جدية واضحة تُحسب للشبيبة التي شاركت قبيل وفي أثناء وبعيد نصب الخيمة بكثير من المهام ذات الأثر ما يتطلب تكريماً اعتبارياً وغشادة مستحقة بتلك المساهمات المهمة لشبيبتنا الرائعة… وذلكم هو ما نتوقعه منهم باستمرار وعلى مدار الأعوام التالية يحملون الراية بأنفسهم باستقلالية تامة وبثقة وطيدة.
الخيمة تبدأ التحضيرات لها منذ الشهر السادس وتستمر حتى مطلع أيلول سبتمبر لتبدأ مرحلة بناء الخيمة نفسها بمساحتها الجديدة وهي مهمة كبيرة لكن رواد بنائها منذ عقود مازالوا يواظبون على هذا الواجب بنجاح. بعض الشبيبة ممن تتاح له فرصة إجازة من العمل يسارع للمشاركة والمساعدة التعاونية التطوعية، مثلما أشرنا لمساهمات جدية بهذا العام لهم.. ومجمل الأعمال تعاون وتطوع. ومن يشتغل بكثير من فعاليات الخيمة هو كذلك، فعالية كفاحية من تراث العمل الذي خرَّج المناضلات والمناضلين.
ماذا يراد من الخيمة؟ في ظروف عدم وجود كوادر محترفة ومتخصصة في باريس تقع المهام على عدد محدود بشأن بناء الخيمة قبيل افتتاحها والسيد عدنان أحمد أحد أبرز تلك الشخصيات التي مازالت تعمل بتفان وتضحية حتى يومنا ورفيقه في المسيرة الريادية السيد خالد الصالحي يظل وإياه مثار انتباه للتضحيات الدائبة والعطاء المستمر.. ومن الطبيعي أن تأتي بعد ذلك الملاحظات والطلبات لتتمنى الأفضل والأعمق مثلا توسيع مساحة الخيمة ومثلا ترتيبها بديكورات بهذا الطابع أو ذاك من قبيل تجسيد الرموز الحضارية للعراق ببوابتها وفي فضائها ومن قبيل التجهيزات الصوتية الأكثر مناسبة وتطورا أو تقدما تقنيا جذبا لزوار جدد للأعمال المهمة الكبيرة… ولكننا لا ننتقد الموجود من روعة منجز بظل ظروف ومحددات قاسية حيث لا دعم ولا غطاء إلا جهود التطوع…
ربما تلقى المنظمون نقداً من بعض أصوات مغرضة أو لا تدرك الخلفية والوقائع ولكن الصائب والمريح أن الأغلبية ممن يتصل يشيد برائع المنجز وهو التكريم الأدبي الأبسط لكن قد تأتي لحظة مشرقة وتجد كوكبة الرواد تكريما مستحقا لثباتها في أحلك الضغوط المادية والصحية وغيرها.
إذن فكرياً سياسياً لخيمة طريق الشعب مساحتها في الحوار وطنياً وكذلك أممياً. وجماليا إبداعيا في فنون التشكيل والغناء والموسيقا والرقص الأزياء وفي الآداب والثقافات ما يمتاح منه المتلقي أزاهير من جذور سومرية وتراث عراقي ثر غني. وفي الحراك المجتمعي تبقى خيمة الطريق خيمة لعائلة التنويريين من قوى اليسار والديموقراطية بل من كل الانتماءات العراقية الحية لمختلف البنى والمكونات القومية والدينية والمذهبية تجمعهم كافة وحدة كلمة إنسانية وهويتها السامية.
تحية متجددة لخيمة طريق الشعب ومن وراءها وإلى كل من قصدها ويقصدها في حجيج ثقافي اجتماعي يجسد الضمير الحي للهوية العراقية وجذورها الحضارية.