انبثقت الحركة الحقوقية العراقية في ظروف مختلفة بسمات كل مرحلة مرّ بها الوطن.. فقد تشكلت النواتات الأولى بمنظمات وجمعيات مهنية تتحدث عن حقوق الفئات والقطاعات المهنية بحسب طابع عشرينات القرن المنصرم وما تلاها.. وبرزت أشكال عمل حقوقي فئوي متخصص بين الفينة والأخرى فضلا عن تشكيلات رسمية في هيكل الدولة بقدر تعلق الأمر بخضوع آليات العمل القضائي، وإن بحدود ضيقة، لمطالب حقوقية كوجود المحامي ودوره المهني النوعي وهو ليس بالضرورة ما نريد الحديث عنه هنا ولكنه إشارة لإشكالية بعينها…
فالحكومات المتعاقبة كانت تتركب في ضوء تمثيل طبقات استغلالية تحكمت بالمشهد العام كما تمثيل الاقطاع وما يشبه البرجوازية والنظام الرأسمالي المشوه عندنا حتى ولوج الحكومات الاستبدادية وطابع السلطة الذي اغتال أي مجال للعمل العام ومنه العمل الحقوقي.
إنّ ولادة منظمات حقوقية مستقلة عن العمل السياسي أو رديفة له وموازية لجهوده كما فعلت قوى اليسار الديموقراطي بتشكيلها تلك المنظمات والجمعيات تفعيلا للعمل التخصصي وتحملا لمسؤولية الدفاع عن حقوق المرأة (رابطة المرأة العراقية) وغيرها مما وُلِد بعد عقود سواء بشكل سريّ في داخل الوطن أم في المهجر حيث منافي الاضطرار…
إن الفكرة الرئيسة من وجود نشطاء ومنظمات حقوقية تتجسد في عدم كفاية العمل السياسي والمجتمعي العام بل لابد من وجود عمل تخصصي يعنى بالدفاع عن حقوق الإنسان في ظروف النظام الاستبدادي من جهة وما أعقبه من نظام مافيوي كرّس الطابع الكلبتوقراطي الطائفي بكل ما تضمن من ظواهر مافيوية للمفسدين وميليشاوية للبلطجية والإرهابيين.
وهكذا توجه نشطاء كثر إلى تنظيم جهودهم، وكان من الطبيعي أن تظهر جمعيات ومنظمات صغيرة بتعدد المنافي وتباعدها وبحجم الجاليات الموجودة وبوجود النشطاء أنفسهم وبوجود وعي تشكيل تلك التنظيمات.. وفضلا عن ذلك كانت الحركات الحزبية تتسابق لتشكيل تنظيمات تخصصية بمحاولة للظهور وللتغلغل في وسط الجاليات كغاية فعلية لمثل تلك التشكيلات..
ما استطاع الوقوف على قدميه هو تشكيل مدعوم من قوى سياسية وإذا كانت الحركة الحقوقية قد استطاعت أن تتخذ قرار الاستقلالية عن الحكومات نتيجة الانفصام التام بين قضية الدفاع عن الحقوق وبين استغلال الإنسان وسلبه حقوقه فإنها لم تستطع التخلص من تدخلات وربما سطوة وهيمنة من جهات حزبية على الحراك الحقوقي كثرما شلّ تلك الجمعيات ووضعها قيد التجميد فعليا…
فأي نشاط حقوقي يتطلب إمكانات بشرية ومادية الأمر الذي بقي محكوما بالشخصيات السياسية الحزبية وبما يخص تنظيمات تتبع لها من بوابة علاقة عضوية بالانتساب. وصار على بعض الجمعيات إضافة إلى عوامل أخرى الخضوع لعامل التبعية وقرار الحزب المعني ورفاقه في توجيه الأنشطة من قبيل عقد المؤتمرات المؤجلة على مدى سنوات وربما عقود..
ونفس الحركة السياسية وتيارها بات فيه أكثر من تشكيل بحسب الطابع الشللي المهيمن بخاصة مع ظواهر الخلافات الشخصية واحتمائها بالشللية في تبني توجه أو منظمة أو جمعية… وبالنتيجة بدلا من التوحيد تصير الجمعيات في بلد واحد متشظية بين عدد منها!
إن التعدد والتشظي الأول فرضته التبعية الحزبية لتيارات مختلفة متناقضة ولمتاجرة بعض الأطراف بالحراك الحقوقي كما تغعل تيارات الطائفية السياسية التي تتحدث عن الحقوق شكليا فيما ترفض بجوهر فلسفتها ومبادئها أية حقوق إنسان مما تم تثبيته في المعاهدات والاتفاقات الدولية وفي القانون الإنساني الدولي وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان…
والتشظي الآخر لعوامل جغرافية سواء منها تباعد دول المهجر والحجم الجغرافي الكبير للدولة المترامية الأطراف ولإشكالية الحجم السكاني بمحافظة مثلما بغداد العاصمة وحال الانقساسمات على كانتونات وتطلعات أقلمة انفصالية بين محافظات الجنوب والوسط التي يؤكد المنطق وحدتها بخلاف ما تُقاد إليه من المتحكمين من زعماء الحرب الطائفية..
إن وجود كارزما لبعض النشطاء ووجود من يلتف حولهم واعتماد المنظمة على حيوية قيادتها وتأسيسها سبب من اسباب التشظي. ويعزز بقاء التشكيل بهذه الطريقة لا الضرورة ولكنه الحذر من الآخر والانقسام الذي أشرنا إليه قبيل هنيهة..
على الرغم من ذلك جرت محاولات توحيد على خلفية وحدة الفلسفة التنويرية من قبيل الاقتراب من مصالح الناس وحاجاتهم والتعبير عنها والعمل والتضحية من أجل تلبية الحاجات والمطالب .. إلا أن تلك المحاولات ظلت تصطدم بعثرات بعضها على هامشيته وشكليته تمترس بوجه التوحيد ولو (التنسيقي) فقط.
وفشلت محاولات التنسيق وبقيت المنظمات الحقوقية مجرد مجموعات صغيرة منفصمة لا تؤدي دورها الحقيقي بسبب الضوائق والضغوط المختلفة مما لا يمكن لغير توحيد الجهود لحله والتوصل لخطوة نوعية تفعّل النشاط الحقوقي.
إن حرص بعض الشخصيات على أن تبقى في المقدمة حتى لو كان انطلاقا من الحرص على ضبط المسار ومنع تسليمه لقوى ليست حقوقية وظواهر الشللية والتمزق والتناحر هي قضية مستفحلة ولا يمكننا الترحيب بإيجابية التعدد والتنوع في تنظيمات الحركة الحقوقية..
ربما كان هذا التعدد في مطلع القرن الماضي و\أو في منتصفه ونهايته مقبول موضوعيا بسبب مرحلة نشوء الحركة الحقوقية وبسبب من أهمية التنوع في الأداء وفي الاقتراب من الفئات العريضة مجتمعيا لكن ذلك في الظروف الجديدة وبمرحلتنا القائمة لا يعبر عن هذا الاستدعاء الإيجابي بقدر ما يعبر عن تفاصيل نقيضة أشرنا إليها للتو.
على قادة الحركة الحقوقية من النشطاء ألا ينسحبوا من العمل ومن مهام تنتظرهم وإن قل التأثير لهذا السبب أو ذاك ولكن من المهم المحافظة على ثقل منتظر بوجودهم في توجيه الحارك نحو مزيد تمسك بمبادئه الحقة فعليا. وعلى قادة المنظمات الحقوقية أن يتخلوا عن روح التملك وهو ما يشمل (بعضهم) وأن يتخلوا عن التصدي لمهمة الرئيس أو السكرتير الأبدي لمجرد الدور المميز الذي لعبوه في تأسيس هذه المنظمة أو تلك.
إن تخليهم عن الصدارة لا يعني تخليهم عن التفعيل بحيوية ونشاط وعن صلتهم المباشرة بأنشطة الجمعيات بل يعني حراكا سليما في بنى قيادات تلك المنظمات وفي الدفع باتجاه وقف التمترس خلف فرد أو شلة أو جماعة وتيارها… ومن ثم فسيكون ذلك فرصة لإطلاق مبادرات التنسيق وربما التوحيد بما يخدم إعادة هيكلة تنظيمية ناضجة تجسد نقلة نوعية في العمل المؤسسي الحقوقي.
وهكذا ستظهر عملية برمجة موضوعية تقرأ الواقع وتستجيب لمتطلباته وحاجات المرحلة والناس فيها. وستظهر أنشطة منسقة بفعالية وتأثير في قدرات الضغط الأنجع لصالح الحقوق بخلاف ظروف التشتت والتمزق أو التشظي الذي نجد فيه أن منتسبي هذه المنظمة لا يوقعون حملات تبادر بها منظمات أخرى حتى لو كانوا من نفس التيار وإن شاركوا فيها فسيكتفوا بتوقيعها فرديا ويغضضوا النظر عن فرص الدعم الأهم..
قدرات النشر وإعلام التجمعات الصغيرة المتشظية لا ترقى إلى قدرات منظمة حقوقية أو حركة حقوقية موحدة تستطيع جمع الكلمة حول قضية أو أخرى..
وظاهرة التمزق لا تسمح بتقديم دراسات نوعية ممنهجة ومستندة إلى مصادر رصد واقعية مهمة ووافية .. كما أن الظاهرة تحد من فرص تبني الإحصاءات الأدق ورصد المتغيرات والانتهاكات بجدية وشمولية مناسبة..
إن أخطر إشكال أن ظاهة تشكيل تنظيمات حقوقية مازالت تجري استجابة لرغبات ومبادرات محلية ضيقة تستند إلى الجهد الفردي لشخصية أو لمجموعة أفراد بينما مطلوب الارتقاء بالوعي باتجاه منفيستو حقيقي يجمع المنظمات بإطار حركة حقوقية لها نظريتها السياسية واستقلاليتها التنظيمية وثقافتها المنتمية لقضايا حقوق الإنسان لا لتطلعات حركات وقوى وشخصيات في كسب قطاع بالطريقة تصويتية انتخابية ضيقة الأفق!
إن ندائي اليوم للحركة الحقوقية العراقية أن تدعو لمؤتمر يتجاوز حال الاقتران بشخصيات وبعدد بعينه من المنظمات وينفتح على إعلان شامل في ضوء بيان للحركة يقرأ الوضع الحقوقي ببصيرة الحقوقي المتمرس لا الدخيل وفي البلاد وحركتها الحقوقية شخصيات وقامات لها عمقها وتأثيرها ومنظمات لها تاريخها لكن الأمر يتطلب التخلص من ذاك التركيز أو بكلمة أدق الانغلاق على الذات بحدود شخصيات وعلاقاتها الصداقية بكل ما تحمله من طابع مشخصن ومن احتدامات وأثقال..
بودي الإشارة إلى أن توجها لعقد مؤتمر لعدد من منظمات حقوق الإنسان ولا أشير إليه لا من قريب ولا من بعيد بقدر ما أشير إلى أن بلادا عمقها الحضاري يمثل مهد التراث الإنساني وفي هصرنا بات عمره حوالي القرن يتطلب أن تتفكر وتتدبر وتعمل من أجل جهد نوعي أبعد وأشمل..
ربما سيكون أي لقاء بين منظمات حقوقية بداية للتحول النوعي بمرحلة لاحقة.. على أننا نبقى بحاجة لنزع فتيل المواقف الخاصة أو الشخصية، وأن نبحث عن قيم موضوعية قبل محاصرة قراراتنا بالمحدود الذاتي وأن نتطلع إلى انفتاح على عمل حقوقي نوعي بمستوى الحدث..
ففي العراق استلاب حقوقي بحجم لا يوجد إلا في أتعس أو آخر عشرة بلدان في عالمنا فالفقر جاوز مداه عشرات البلدان غير ذات ثروة والبطالة والاتجار بالبشر وتجارة الجنس بالنساء والأطفال أصبحت بحجم اجتر إلينا سوق النخاسسة من مجاهل ومغاور التاريخ فضلا عن ملايين النازحين والمهجرين والانهيار الشامل في الصحة والتعليم والخدمات كع بلطجة جهارا نهارا وتقتيل واغتيال بل جرائم غبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية من اغتصاب وامنهاك بكل الاتجاهات…
أفهل تتمك مجموعات وشلل يمسي بعضها نفسه منظمات حقوقية أن تتصدى للظواهر التي مررنا بها للتو!؟
أيها الناشطون في حركة حقوق الإنسان العراقية، كونوا بقدر المسؤولية والوعي والحرص على التحول النوعي بجهودكم المخصلة منها تحديدا والمستقلة والنزيهة الخالية من المآرب والغايات..
عندها نكون بحق باستجابة جدية مسؤولة لما يُنتظر منا جميعا… وتحية لكل الناشطات والناشطين المضحيات والمضحين من أجل حركة حقوقية أرقى من الانحسار والتحدد والتراجع بل أدخل في التقدم نحو جمعٍ، ثقتي أنه بحجم نوعي كبير…