مقالات للدكتور هابيل كاظم حبيب بعنوان: وماذا بعد الانتصار والتحرير بالعراق….؟
العزيزات الفاضلات والأعزاء الأفاضل قارئات وقراء موقع ألواح سومرية معاصرة، تحية طيبة، ننشر لكم سلسلة مقالات الدكتور هابيل كاظم حبيب بمجموع الحلقات بين 1-8 لأهمية الدراسات والتحليلات التي تضمنتها، وبالتأكيد للرصانة ولمنطق العقل العلمي وللعمق الذي تتميز به دراسات الدكتور حبيب وهو الشخصية القيادية في حركة اليسار الديموقراطي والمفكر الذي أثرى مسيرة الدراسات بفضل التجاريب المميزة المهمة التي يمتلكها؛ آملين هنا أن تجد عنايتكم ونرحب بالتأكيد بتفاعلاتكم كافة بشأنها.. تمنياتي بقراءة نثق بعناها وبعنى تداخلاتكم بشأنها
الحلقة الأولى
طبيعة الجرائم المرتكبة بمحافظة نينوى
تواجه المواطِنات والمواطنون العراقيون بالداخل والخارج أسئلة كثيرة تشغلهم كثيراً وتتعبهم وهم يتحرَّون عن إجابات لها عبر حواراتهم الذاتية غير المتوقفة، أو عبر نقاشاتهم مع الآخرين، وكذلك عبر قراءاتهم للمقالات والدراسات التي تنشر في الصحف والمجلات المحلية والإقليمية والدولية. ورغم الآراء الكثيرة التي يطلعون عليها ويحاورونها، لا يكفون عن التفتيش عن إجابات لأسئلة كثيرة أخرى، إذ أن ما حصل ويحصل بالعراق، يتجاوز المعقول في علوم السياسة والاقتصاد والاجتماع، وفي العلاقات الدولية. ومن بين تلك الأسئلة نذكر:
- ما هي طبيعة الجرائم التي ارتكبت من قبل داعش وأعوانه بالعراق وكيف تسنى له ممارسة كل تلك الجرائم في سنوات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
- كيف استطاع داعش غزو العراق والهيمنة على عدد من محافظاته والغدر بأجزاء من شعب العراق منذ بدايات العقد الثاني من هذا القرن؟
- كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟
- هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء من يماثلها من القوى الإرهابية بالعراق؟
- ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة
في هذه المقالة المكونة من عدة حلقات يحاول الكاتب المشاركة في الإجابة عن الأسئلة المطروحة، علماً بأن ليست هناك وصفات وإجابات جاهزة، بل هو اجتهاد يتبناه الكاتب.
- ما هي طبيعة الجرائم التي ارتكبت، وما تزال ترتكب، من قبل داعش وأعوانه بالعراق، وكيف تسنى له ممارسة كل تلك الجرائم؟
لم يعد خافيا على أحد سعة وعمق وشمولية وتنوع الجرائم التي ارتكبت، وما تزال ترتكب، من قبل تنظيم داعش ومن سانده، أو ما يزال يسانده، بالداخل ومن خارج العراق، ضد الشعب العراقي عموماً، وضد اتباع الديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية في المحافظات التي ابتليت به، وهي الأنبار، صلاح الدين، نينوى وأجزاء من كركوك وديالي، إضافة إلى التفجيرات المتلاحقة والمستمرة التي تحصل بمدن مثل بغداد وبابل وكركوك وديالى وغيرها. إنها جرائم تعيد إلى الأذهان جرائم هتلر والنازية بألمانيا الفاشية، وجرائم فرانكو الفاشي ونظامه العسكري بإسبانيا، وجرائم سالازار الفاشي بالبرتغال، وجرائم صدام حسين وحزبه ونظامه الفاشي ضد الشعب العراقي عموما، ولكن وبشكل خاص جرائم الإبادة الجماعية ضد الكرد والكرد الفيلية وعرب الأهوار والوسط والجنوب، بل وزاد عليها بتطبيق ما سمي ببنود الشريعة الإسلامية في التعامل مع غير المسلم أو “المسلم المرتد!”، أي غير الملتزم بعقيدته المنبثقة عن الوهابية وعن أبن تيمية قبل ذاك، ثم الغلواء فيهما. لقد غزا الداعشيون الموصل ومن ثم توسعوا بنينوى ومارسوا القتل والسبي والاغتصاب والتشريد ضد المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان الشيعة، وضد السكان السنة الذين رفضوا التعامل معه أو الخضوع لإرادته، وهم الغالبية بعد أن أدركوا حقيقته، كما مارسوا بشكل خاص السبي والاغتصاب وبيع النساء الإيزيديات في سوق النخاسة باعتمادهم على التراث الإسلامي في حروب الغزو ضد الأقوام والمناطق وأتباع الديانات الأخرى، التي أُطلق عليها إسلامياً بـ”الفتوحات الإسلامية!” على امتداد تاريخ الإسلام السياسي والحكام الذين تبنوا الإسلام ديناً لهم و”لدولهم التي لا يمكن أن تكون ذات دين” بأي حال، باعتبارها شخصيات معنوية أو اعتبارية لا غير! وهي لم تكن سوى عمليات توسع ديني على حساب الديانات الأخرى وأتباعها، واستعمار مناطق أخرى لصالح الحكام الجدد وأتباعهم من المسلمين. والتاريخ الإسلامي الطويل مليءٌ بما يماثل ما يمارسه الإرهابيون الجدد بالعراق وسوريا واليمن وليبيا، وكذلك العمليات الإرهابية التي ينفذونها بالدول الغربية، باعتبارها ديار حرب يرتكبون الجرائم البشعة لتحويلها إلى ديار السلام أو الإسلام!!
لقد اعترفت الأمم المتحدة أخيراً، والكثير من دول العالم، ومنها الولايات المتحدة، بإن الجرائم التي ارتكبت وترتكب بالعراق من قبل تنظيم داعش ومن يسانده تعتبر جرائم إبادة جماعية وضد الإنسانية، جرائم لا تتقادم أبداً، وينبغي تقديم مرتكبي هذه الجرائم إلى العدالة لينالوا الجزاء العادل. إنهم وحوش كاسرة وعدوانية بأسماء بشرية ووجوه كالحة. إنهم من حيث المبدأ خارج الزمن، فهم الماضي المريض في حاضر بلادنا العليل، الذي لا يمكن ولا يجوز أن يدوم، إنهم استثناء في حركة التاريخ وقوانين التطور الاجتماعي، وأفعالهم تجسد ارتداداً فعلياً وجزئياً على حركة التاريخ وقوانين التطور الاجتماعي والحضارة البشربة. إنهم القوى الخاسرة في المحصلة النهائية، رغم ما تسببوا به، وما زالوا يتسببون به، من موت جماعي ودمار وخراب شاملين، ومحاولة وقحة لتهشيم الذاكرة الحضارية للإنسان العراقي والبشرية، إنها بشاعة في السلوك غير الآدمي وتخلف مرير وارتداد هائل عما تحقق للمجتمع العراقي من منجزات مدنية نسبية إيجابية خلال الفترة 1921-1962، وقبل وقوع الانقلاب الفاشي في العام 1963. كما إنه ارتداد أعمق وأشمل عما تحقق للبشرية جمعاء من منجزات حضارية رائعة وهائلة خلال الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية حتى الوقت الحاضر.
العوامل التي ساعدت داعش على غزو العراق
لم يكن في مقدور هذا التنظيم المتوحش أن يغزو العراق، وأن يمارس كل هذه الجرائم، وأن يواصل وجوده بالعراق منذ العام 2013 حتى الوقت الحاضر، لولا وجود عوامل أساسية فاعلة ومساعدة حتى الآن، والتي يمكن الإشارة إليها والبحث فيها على وفق منهج البحث والمفردات المطروحة للمعالجة، وأبرز تلك العوامل:
1) الواقع السياسي والاجتماعي العراقي بالارتباط مع تركة النظام الدكتاتوري السابق، وتركة سياسات وسلوك قوى الاحتلال الأمريكي بالعراق، وطبيعة النظام السياسي والاجتماعي الطائفي الذي فرضه الحلفاء على البلاد، والصراعات الدائرة بين قواه الإسلامية السياسية غير الشرعية والمتعارضة في وجودها وطبيعة نشاطها مع بنود الدستور العراقي لعام 2005.
2) دور قوى ودول الإقليم الشرق أوسطي في التدخل الفظ بالشأن العراقي الداخلي وامتداداتهم السياسية والاجتماعية بالداخل العراقي، ونقلهم صراعاتهم الإقليمية إليه، وبين فئاته الاجتماعية واتجاهاته الفكرية والسياسية قومياته.
3) الدور الملموس للواقع الدولي الراهن الذي يشير إلى عودة الحرب الباردة بين الدول الكبرى عمليا وتجلياتها في الواقع العراقي والشرق أوسطي بشكل خاص. وتتجلى أيضاً في سباق التسلح الجديد على الصعيد الدولي والأوروبي والشرق الأوسطي. إنها العوامل التي نسعى للبحث فيها في حلقات هذا المقال.
الحلقة الثانية
كيف استطاع داعش غزو العراق؟
- كيف استطاع تنظيم داعش الإرهابي غزو العراق والهيمنة على عدد من محافظاته ومدنها الكبيرة، والغدر بأجزاء كبيرة من شعب العراق؟
حين أَسقَطَ التحالف الدولي، خارج إطار الشرعية الدولية، النظام الدكتاتوري البعثي، الفاشي سياسياً، وحين تولت الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبارها سلطة الاحتلال العسكري والمدني بقرار جائر من مجلس الأمن الدولي، إدارة البلاد، فسحت في المجال بتصميم مسبق الصنع على حصول الكوارث التالية:
- فوضى عارمة شملت كل أنحاء البلاد، عدا إقليم كردستان، وخاصة في العاصمة بغداد، فانتشرت عصابات النهب والسلب والقتل والسطو لا على دور المسؤولين السابقين بالدولة العراقية فحسب، بل وعلى مرافق الدولة ومؤسساتها ووزاراتها وبنوكها ومؤسساتها التأمينية، عدا وزارة النفط، لارتباطها بالمصالح الأمريكية البترولية بالعراق مباشرة والتي كانت الحرب أهم أهدافها، ومتاحفها وأثارها الحضارية القديمة والفريدة. لقد فسحت الإدارة الأمريكية بتصميم مسبق للبداوة والتخلف والقيم البالية أن تعود إلى العراق وبزخم شديد. وقد أطلقت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة في حكومة جورج دبليو بوش، كونداليزا رايس، على تلك الحالة بالفوضى الخلاقة، لأنها كانت السبيل لتحقيق أشرس وأهم أهداف دولة الاحتلال الأولى!
- دخول عناصر وجماعات مسلحة وجواسيس لدول مجاورة إلى العراق، وخاصة من إيران والسعودية، وكذلك تلك الجماعات التي وجدت الدعم والتأييد من تركيا ودول الخليج وسوريا، ونسجت خيوط التعاون والعمل المشترك مع الأحزاب الإسلامية السياسية السنية والقومية المتطرفة.
- كما تسنى للتنظيمات الإرهابية الدولية، مثل القاعدة وتنظيمات أخرى مماثلة، أن تجد موقعاً مهماً لها بالعراق وأرضية صالحة لعملها الإرهابي، بدعوى محاربة قوى الاحتلال الأمريكي – البريطاني – الدولي. لقد تُركت حدود العراق مفتوحة بالكامل أمام الإرهابين من مختلف الجماعات المسلحة، بموقف واضح ومسبق الصنع من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، سواء أكان ذلك إزاء الحدود مع تركيا والسعودية ودول الخليج، أم إزاء الحدود مع إيران وسوريا وحزب الله بلبنان وغيرها.
- وكان قرار الإدارة الأمريكية بحل الجيش العراقي وبقية صنوف القوات المسلحة قد وفر الفرصة المناسبة لكل القوى الداخلية والخارجية والمليشيات المسلحة أن تكسب لصفوفها الكثير من ضباط وأفراد القوات المسلحة العراقية أولاً، وأن تسيطر على ترسانات الأسلحة للقوات المسلحة العراقية ثانياً. ولم يكن هذا القرار عفوياً ومن عنديات بول بريمر، بل كان القرار مدروساً من جانب الإدارة الأمريكية ومراكز صنع واتخاذ القرار بالولايات المتحدة، ومقرراً حتى قبل غزو العراق وإسقاط الدكتاتورية، ومن ثم فرض الاحتلال على البلاد رسمياً وبقرار مجحف من جانب مجلس الأمن الدولي، وهو جزء من استراتيجية الولايات المتحدة إزاء العراق والمنطقة.
- بروز ميليشيات طائفية مسلحة تابعة لأحزاب إسلامية سياسية شيعية كانت حليفة لقوى التحالف الدولي، وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية، إذ استطاعت هذه الميليشيات، مع حل القوات المسلحة العراقية، نهب أسلحة الدولة العراقية وعتادها الكثير وتهريبه إلى الدول المجاورة أو الاحتفاظ به واستخدامه أو المتاجرة الداخلية به. وقد تم تشكيل وتسليح ودعم هذه المليشيات من قبل قيادة الدولة الإيرانية وحرسها الثوري وبعض القوى الشيعية في دول الخليج، إضافة على حزب الله بلبنان.
- لكن القرار الأخطر الذي أصدرته ونفذته الإدارة الأمريكية تجلى في فرض النظام السياسي الطائفي والمحاصصة الطائفية على الشعب العراقي لدق أسفين الصراع بين الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية منها والسنية، ثم نقل هذا الصراع إلى القاعدة الشعبية والشارع العراقي، وكذلك أشراك الكرد في هذه المحاصصة ليكون العراق شيعياً- سنياً- كردياً، متصارعاً وغير مستقر، وبهذا اسقطت الشعب والبلاد في الهويات الفرعية القاتلة، وابعدته كلية عن هوية المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة. أي جعل الهويات الفرعية هي الفاعلة، وهي المُفتِتة فعلياً للوحدة الوطنية ولمبدأ وروح المواطنة بشكل خاص.
- ولم تكتف قوى الاحتلال بذلك بل عمدت إلى تسهيل عمليات النهب والسلب ونشر الفساد المالي والإداري داخل الدولة وسلطاتها الثلاث وفي المجتمع، والذي تحول تدريجاً إلى نظام سائد بالبلاد ولم يعد ظواهر متفرقة هنا وهناك. كما ساعدت بشكل مدروس على نهب المتاحف العراقية وما فيها من تراث حضاري أصيل وفريد لبلاد ما بين النهرين!
الحلقة الثالثة
أوضاع المجتمع بعد سقوط الدكتاتورية البعثية
لقد كان المجتمع العراقي مؤهلاً لقبول كل تلك المظاهر السلبية وعدم مقاومته لها، بل كان على استعداد للانجرار معها وتشديدها والغوص معها في عمق المستنقع الجديد. إنها نتيجة منطقية لمجمل الأوضاع التي مرَّ بها المجتمع خلال أكثر من خمسة عقود، والتي تجلت في سيادة الدكتاتوريات القومية والبعثية الشوفينية والعنصرية وممارسة أقصى أنواع الإرهاب الحكومي وخوض الحروب الداخلية والخارجية، وفرض الحصار الاقتصادي الدولي الطويل الأمد وما اقترن به من مجاعات فعلية وفقر مدقع وفاقة فكرية وجهل مريع وغوص المجتمع في متاهات الدين المسطح المشوه لعقول الناس واستمرار ذلك لعقود عديدة، بحيث انهارت الكثير من القيم والمعايير الإنسانية النبيلة التي كان المجتمع يتمسك بها ويمارسها قبل ذاك.
من هنا يمكن تأشير خمس قضايا جوهرية هيمنت على المجتمع طوال السنوات التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الصدامية وميزت الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والبيئية والعلاقات الدولية، وأعني بها:
- نظام سياسي طائفي وأثني سائد بقيادة الأحزاب الإسلامية السياسية الشيعية وبمشاركة الأحزاب الإسلامية السنية والتحالف الكردستاني، يعتمد المحاصصة في توزيع السلطات الثلاث عملياً، وفي ذات الوقت تخوض قواه الحاكمة الصراع الدموي على الموقع الأساس في السلطة والمال والنفوذ والتأثير الاجتماعي.
- سيادة ظاهرة الفساد بحيث أصبحت السمة المركزية التي تميز الدولة والمجتمع وعموم الوضع بالعراق بعد ظاهرة الطائفية السياسية ومحاصصاتها المخلة.
- سيادة الإرهاب الدموي الذي تخوضه المنظمات الإسلامية السياسية السنية منها والشيعية ضد بعضها، وتسببها في موت عشرات الآلاف من الناس الأبرياء سنوياً، وانتقال الصراع والنزاع إلى القاعدة الجماهيرية.
- عدم استقلالية النظام السياسي العراقي وخضوع القوى الحاكمة فيه لإرادات خارجية، سواء أكانت إيران بشكل خاص، أم للسعودية وتركيا ودول الخليج، وبهذا جعلت العراق ساحة فعلية للصراع الإقليمي والدولي وعواقبه الوخيمة على الدولة والمجتمع ومستقبل الشعب والبلاد.
- وجود احتلال لجزء من أرضه وشعبه من جهة، ووجود عمليات إرهابية واسعة ومستمرة ضد أبناء وبنات الشعب من جهة أخرى، وحرب طاحنة لتحرير أرض وشعب العراق من المحتلين الأوباش من جهة ثالثة.
إن هذه الظواهر هي وليدة منطقية للاحتلال الأمريكي للعراق ودوره في إقامة النظام السياسي بالعراق، كما إن الإرهاب والفساد هما وجهان لعملة واحدة، أحدهما يشترط الآخر ويستكمله ويغذيه ويحافظ على ديمومته ويستمد قوته من طبيعة النظام السياسي وسياساته المناهضة لمصالح الشعب العراقي.
هذا الواقع العراقي أنتج وضعاً سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وبيئياً وثقافياً وتعليميا رثاً، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من مضامين، وعلاقات اجتماعية وإنسانية رثة، كما أنتج بدوره فئة اجتماعية رثة تقف على رأس النظام وتقوده وتنشر الرثاثة والعفونة في سائر نواحي الحياة العراقية وتعمل على ديمومة هذه الرثاثة واستفحالها. وهي التي تسببت وما تزال تتسبب في كل ما يعانيه الشعب العراقي منذ سقوط الدكتاتورية البعثية وإقامة الاستبداد السياسي الطائفي الأثني بالبلاد حتى الآن.
لقد جرى توزيع السلطات على النحو التالي: السلطات الثلاث تكون القيادة بيد الشيعة ثم يأتي الكرد والسنة. وأعطي للتحالف الكردستاني رئاسة الجمهورية، ولتحالف الأحزاب السنية رئاسة مجلس النواب، ولتحالف الأحزاب الشيعية رئاسة السلطة التنفيذية. كما وضع الدستور العراقي كل السلطات التنفيذية بيد رئيس الوزراء، وحرم رئيس الجمهورية من أي سلطة فعلية، سوى التوقيع على ما يقرره مجلس الوزراء ومجلس النواب عملياً. وهذا التوزيع للسلطات والمسؤوليات لا ينسجم بل يتناقض مع مضمون الدستور العراقي وبنوده ومع أسس المجتمع المدني الديمقراطي.
وهكذا تمكن رئيس الوزراء من التحالف الشيعي أن ينفذ سياسية طائفية ضد القوى السنية والكردية، وتجلت في تعزيز مواقع الأحزاب والقوى الشيعية في وزارة الخارجية والداخلية والأمن الداخلي والتعليم، إضافة إلى الهيمنة على الهيئات المستقلة رغم كونها غير مرتبطة برئيس الوزراء بل بمجلس النواب وتهميش دور الجماعات الأخرى في مجلس الوزراء. وإذ بدأت هذه السياسة الطائفية المتشددة في فترة حكم إبراهيم الجعفري، فإنها تفاقمت وتكرست في فترة حكم نوري المالكي الأولى (2006-2009)، ثم اشتدت بما لا يقاس في الدورة الثانية من حكمه 2010 حتى إزاحته عن السلطة في صيف العام 2014. وفي هذه الفترة تجلت بالعراق المأساة والمهزلة في آن واحد، بفعل السياسات الطائفية المتطرفة التي مارسها نوري المالكي وقاد البلاد إلى الحضيض الذي هو فيه الآن. فما هي السياسات التي مارسها نوري المالكي والتي جعلت من العراق مستنقعاً طائفياً نتناً، وارضية أكثر خصوبة للصراعات والنزاعات الطائفية والقومية، وفسحت في المجال لغزو العراق في الفلوجة قبل غزو متوحشو داعش للموصل؟
الحلقة الرابعة
النهج الاستبدادي والطائفي لرئيس الحكومة العراقية السابق نوري المالكي
إذا كان العراق قد عرف بشخص صدام حسين شخصية قومية شوفينيةً متطرفةً، ودكتاتوراً رعديداً شرساً وعدواً للحياة الديمقراطية والمجتمع المدني وحقوق الإنسان وحقوق القوميات والعدالة الاجتماعية والسلام، فأن العراق قد عرف بشخص نوري المالكي شخصية إسلاميةً طائفيةً شيعيةً متطرفةً ومهووسةً بالعداء لأتباع المذهب السني والكرد في آن، ومستبداً شرساً وعدواً فعلياً للمجتمع المدني الديمقراطي والعلمانية والعدالة الاجتماعية والسلم الاجتماعي ولهوية المواطنة الحرة والمتساوية والمشتركة. إنه طائفي متطرف بامتياز لا يمكن التفكير بإصلاحه، فالإيديولوجية الدينية المتلبسة فيه والطائفية الشيعية السياسية المُحملة بالعداء المتطرف لأتباع المذهب السني التي يدين بها، وكأنهم هم الذين قتلوا الحسين وصحبه وسبوا النساء في العام 50 للهجرة. لا يمكن انتزاعها من عقليته المشوهة. فهو الذي خطب بكربلاء وقال: الذين قتلوا الحسين لم ينتهوا بعد، ها هم اليوم موجودين، والحسين باللون الآخر لا يزال موجوداً وهو الذي يستهدف من هؤلاء الطغاة.. المعركة ضد الحسين لم تنته…، بل المعركة لا زالت مستمرة بين أنصار الحسين ويزيد…”. وكان هذا نداء استثنائي هستيري خطير يحمل معه دعوة الكراهية والحقد، دعوة إلى المزيد من الصراع والنزاع وسيل من الدماء بين الأوساط الشيعية والسنية.
إن مجرى الأحداث بالعراق خلال فترة حكم نوري المالكي تؤكد، إَضافة إلى تجاوزاته الفظة على الدستور العراقي، وانفراده بالسلطة وفي اتخاذ القرارات، وهيمنته على الهيئات المستقلة المرتبطة دستوريا بمجلس النواب، والتوسع المفرط بهدر المال العام والفساد والإفساد، وتفاقم الإرهاب والقتل الجماعي، والانفلات الأمني واتساع ظاهرة الاختطاف والاغتيالات، وممارسة التمييز ضد أتباع الديانات والمذاهب الأخرى، وإشاعة الكراهية والأحقاد في صفوف المجتمع والتشبث بالسلطة بغض النظر عن العواقب المدمرة للعراق، والخضوع التام لقرارات ومواقف السلطة والسياسة الإيرانية، وبخاصة للمرشد الأعلى للثورة الإسلامية بإيران، فأنه مارس بإصرار وتصميم مسبق سياسات مدمرة في أربعة أحداث كبرى، أدت إلى ما عليه عراق اليوم، والتي ألخصها فيما يلي: “
الحدث الأول: الموقف من الحركة الاحتجاجية المدنية
نهضت بالعراق في أوائل العام 2011، وبالاقتران مع ما أطلق عليه بالربيع العربي، حركة مظاهرات مدنية سلمية كثيرة تطالب بمكافحة الإرهاب والتصدي للقوى الإرهابية ومكافحة الفساد المالي ونهب النفط الخام المتفاقم، وتأمين الخدمات العامة والأساسية كالكهرباء والماء والصحة والتعليم، ومكافحة البطالة والفقر المتفاقم، رغم ضخامة الموارد المالية للنفط الخام المصدر سنوياً، والمطالبة بتوجيه استثمارات مالية صوب التنمية الإنتاجية لتقليص استيرادات العراق وتوفير فرص عمل للعاطلين. وكان السخط على سياسة الحكومة متنامياً، فخشى المستبد بأمره، على موقعه في السلطة، فقرر ضرب المظاهرات بكل السبل غير المشروعة، بما في ذلك تشويه سمعة المتظاهرين واتهامهم بالبعثية وخدمة الدول المجاورة، ويقصد بذلك السعودية ودول الخليج، وقطَّع أوصال بغداد بالقوات العراقية والحواجز الكونكريتية لمنع وصول المتظاهرين إلى ساحة التحرير، ثم بدأ بالاعتقالات والتعذيب والتهديد بالقتل، ووقع القتل فعلاً بمتظاهرين في أنحاء من العراق وبغداد، إضافة إلى اغتيالات واعتقال نشطاء وصحفيين مشاركين في الحركة المدنية. وقاد كل ذلك إلى ضرب الحركة المدنية وإيقافها مؤقتاً لتجنب المزيد من القتل والاغتيال والاعتقال والتعذيب. وكان في ذلك تجاوزاً فظاً على واحد من أهم حقوق المواطنات والمواطنين، حق الاحتجاج والتظاهر والاعتصام والإضراب والتجمع لإعلان موقف الجماهير من سياسات الحكومة وطرح مطالب الشعب في الشارع. وقد جسد هذا الموقف الرؤية الاستبدادية لرئيس السلطة التنفيذية من المطالب، ولكنه وتحت الضغط العام أوعد بمعالجة المشكلات خلال مئة يوم، ولكنه لم يفِ بوعوده ولم ينفذ أياً منها، وزاد عليها في غيه وفي مواجهة مطالب الشعب بالنار والحديد. ولا بد هنا من الإشارة إلى إن المشكلة لا تكمن في رئيس الوزراء السابق، رغم دوره القيادي في هذا الصدد، فحسب، بل وبالأساس في وجود الأحزاب الإسلامية السياسية في السلطة، وفي قيادة تحالف الأحزاب الإسلامية السياسية وبيتها الشيعي لسلطة الدولة بالعراق، والتي أجازت لمثل هذه السياسات وسكتت عنها، بل وأيدت رئيس الوزراء المستبد بأمره، في ما عدا موقف مقتدى الصدر وجماعته.
الحدث الثاني: الموقف من مظاهرات واعتصامات الفلوجة
احتجت جماهير واسعة من أبناء محافظات الأنبار وصلاح الدين ونينوى ضد سياسات التهميش والإقصاء الفعلية والاعتقال الكيفي التي تعاني منها، وأحياناً بالمساومة مع بعض قادة الأحزاب الإسلامية السياسية السنية أو القومية الشوفينية. وكانت الجماهير تطالب بصواب بمجموعة من المطالب العادلة والمشروعة، بما في ذلك المطالبة بإطلاق سراح عشرات الآلاف من المعتقلين الأبرياء من أبناء هذه المحافظات ومن بغداد، الذين اعتقلوا بتهم زائفة لتقارير من المخبرين السريين، وبقاء المعتقلين دون تحقيق أو محاكمة لسنوات عديدة، إضافة إلى تعريضهم للتعذيب الوحشي. كما تبلورت المطالب بعدم تهميشهم سياسياً وإشراكهم الفعلي في السلطة وفي اتخاذ القرارات المصيرية، وفي تحسين أوضاع محافظاتهم، ومكافحة البطالة والفساد والاعتقال الكيفي، وتوفير الخدمات الأساسية. وحين لم تستجب الحكومة إلى مطالب الجماهر قرروا التظاهر والاعتصام في الفلوجة، التي أصبحت مركزاً لمقاومة سياسات الحكومة الاتحادية.
وتحت ضغط بعض القوى السياسية والرأي العام العربي والعالمي، أجبر المالكي على تشكيل وفد للتفاوض مع المعتصمين، واتفقوا ابتداءً على تحقيق عدد من المطالب. إلا إن المالكي رفض الاستجابة إلى تلك المطالب أيضاً، أعطى الأوامر بفك الاعتصام بالقوة العسكرية ومهما كان الثمن. وقد قاد هذا الموقف الاستبدادي غير المسؤول والأرعن إلى قتل العشرات من المواطنين المحتجين المعتصمين وإنهاء الاعتصام بالقوة والعنف العسكري. فسح هذا الموقف العدائي ضد المعتصمين إلى تنامي الغضب والإحباط في صفوف سكان محافظة الأنبار وصلاح الدين، وإلى الاقتناع بعدم جدوى المطالبة السلمية في الحصول على أي مطلب من حكومة نوري المالكي، مما سهل تغلغل الدواعش بين الجماهير المحتجة وتصعيد الحركة المطلبية باتجاه العنف، وساعد ذلك على هيمنة الدواعش فعلياً ومنذ العام 2013 على الحركة الشعبية في الفلوجة بشكل خاص وقادتها، وفقدت بذلك الحكومة الاتحادية أي تأثير على المنطقة الغربية. فبدأت باتخاذ إجراءات ارتجالية واعتباطية ضد بعض قادة الأحزاب الإسلامية السنية، الذي لا يختلف عن المالكي في طائفيته، ولكنها قادت، وفي تلك الظروف، إلى تأجيج الوضع المتوتر أصلاً وصب المزيد من الزيت على النار المشتعلة. وفي هذا أيضاً لا يتحمل نوري المالكي وحده مسؤولية ما وقع في الفلوجة والأنبار وصلاح الدين فحسب، رغم دوره القيادي والريادي في كل ذلك، بل يتحمله حزب الدعوة الإسلامية ومعه التحالف الشيعي القائد للسلطة السياسية. وعلينا هنا الإشارة على أن جماعة التيار الصدري كانت ضد سياسة نوري المالكي ووجهته في التصعيد ومحاولة حل المشكلة بقوة السلاح والعنجهية. كما أن قوى التيار الديمقراطي قد تصدت لهذه السياسة وفضحتها ورفضت ممارسة القوة في حل المعضلات الداخلية، ولكن لم تكن هناك أذناً صاغية من جانب رئيس الحكومة وحزب الدعوة.
الحدث الثالث: غزو الموصل واحتلال نينوى
تعرضت الموصل لحالة من الغزو الشيعي لها الذي تجلى في قوام القوات المسلحة المعسكرة هناك والضباط والقادة العسكريين فيها، وممارسة سلوكية غير إنسانية ومناهضة لأتباع المذهب السني ولكرامتهم، وانتشار ظاهرة الفساد في المحافظة وفي صفوف المسؤولين المدنيين والعسكريين من جهة، ووجود إدارة طائفية سنية تقود المحافظة باتجاه مناوئ للحكومة الاتحادية وسياساتها الطائفية المقيتة من جهة أخرى. وكانت جماهير الموصل، التي كانت تعاني من هذه الأوضاع، تذل وتطعن يومياً من جانب الحكومة الاتحادية. وكانت هناك خلايا نشطة وكثيرة لداعش بالموصل تنتظر اللحظة المناسبة. وفعلاً توجهت قوة قليلة من الدواعش من الحدود السورية باتجاه الهيمنة على بعض المناطق الحدودية العراقية بالموصل. وحين لم تجد المقاومة الفعلية، توغلت في عمق الموصل واحتلت المدينة وسيطرت على معسكرات القوات المسلحة العراقية وما فيها من أسلحة وعتاد ومعدات وأموال وبمساعدة الجماعات التابعة لها والمعششة بالموصل.
إن الكثير من الدلائل المتوفرة تشير إلى إن الأوامر قد صدرت من جانب رئيس الوزراء العراقي والقائد العام للقوات المسلحة العراقية لهم بالانسحاب أمام غزو داعش، بعد أن كان هؤلاء القادة العسكريون المسؤولون قد اتصلوا به وأعطوه لوحة عن بداية الغزو الداعشي. وقد أدى قرار الانسحاب إلى وقوع كوارث وجرائم إبادة جماعية بحق السكان المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان وجمهرة من السنة والشيعة أيضاً، إضافة إلى حصول مجزرة معسكر سپايكر.
الحدث الرابع: موقف نوري المالكي من المسألة الكردية
من المعروف عن قوى الإسلام السياسي والقوى القومية الشوفينية إنها ترفض الاعتراف بالحقوق القومية للقوميات الأخرى بالدول ذات الأكثرية الإسلامية أو الدول العربية، بذريعة أن الإسلام أمة واحدة ولا يعتمد على القوميات من جهة، وأن العرب هم الذين يشكلون القومية الكبرى وما على القوميات الأخرى إلا الانصهار بها أو القبول بعدم اعتراف العرب لهم بحق تقرير المصير. وفي الحالة العراقية اضطر حزب البعث على الاعتراف بالحكم الذاتي في العام 1970 تحت ظروف استثنائية، ثم سرعان ما انقلب على الحكم الذاتي بإقليم كردستان العراق وتأمر ضد الحكومة والحزب الديمقراطي الكردستاني الحاكم، وخاض الحروب ضد الشعب الكردي لإخضاعه لهيمنة البعث، ولكنه عجز عن ذلك.
وفي حالة الإسلام السياسي الشيعي بالعراق، فقد اعترفت أغلب الأحزاب الإسلامية الشيعية بإقامة الحكم الفيدرالي بكردستان أثناء فترة المعارضة، إذ كانت الفيدرالية قائمة فعلاً في فترة حكم البعث بالعراق، ووافقوا في ظل وجود قوى الاحتلال أن يكرس ذلك في الدستور العراقي. ولكنهم رفضوا جميعاً الاعتراف بحق تقرير المصير وتثبيت ذلك في الدستور. وهو موقف شوفيني صارخ. ومع وصول قيادة حزب الدعوة إلى قيادة السلطة الاتحادية حتى انقلب نوري المالكي على العلاقة مع الإقليم وعلى الفيدرالية من حيث الجوهر ومارس ذلك بطرق وأساليب ملتوية، مما أدى إلى تدهور سريع في العلاقة بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم. لقد برزت مشكلات عديدة منها عدم تنفيذ بنود المادة 142 الخاصة بإجراء الإحصاء وتنظيم الاستفتاء في محافظة كركوك حول علاقتها بالإقليم والدولة الاتحادية، وكذلك حل المشكلات الأخرى الخاصة بـ”المناطق المتنازع عليها”، وتفاقم الخلاف بشأن النفط الخام وإنتاجه وتصديره في إقليم كردستان، والذي برز فيه تجاوز على نص الدستور العراقي من جانب الإقليم، وكذلك بروز الخلاف حول رواتب البيشمركة باعتبارهم جزءاً من القوات المسلحة العراقية …الخ. كما إن الدستور العراقي حمل مواداً هي حمالة أوجه من جهة، كما لم يضع المشرع القوانين الضرورية التي تنظم العلاقة والصلاحيات بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم، مما قاد إلى تفاقم الخلافات وتدهور العلاقات بين الطرفين بسبب رغبة كل طرف في الحصول على أقصى الصلاحيات في إدارة الإقليم وممارستها فعلاً، بينما تسعى الحكومة الاتحادية إلى توسيع صلاحياتها للرقابة على الإقليم وموارده النفطية. ولم تكن الأخطاء من طرف واحد، بل من الطرفين، ولكن المسؤولية الأساسية برزت في الطرف العراقي الاتحادي أولاً، مع واقع أن الإقليم حاول ممارسة الاستقلال الفعلي عن العراق، وكأنه ليس جزءاً من الدولة العراقية، على وفق ما تضمنه الدستور العراقي الحالي. والمشكلة الأكثر خطورة هي رفض الحكومة الاتحادية حق الكرد في تقرير مصيرهم، سواء أكان ضمن الدولة العراقية أم الاستقلال عنها. وهي المشكلة المركزية في هذه العلاقة المتوترة.
في مثل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والمليئة بالصراعات الطائفية على السلطة في ما بين القوى الإسلامية السياسية، إضافة إلى الصراع المحتدم بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان، وبدعم إقليمي واسع النطاق، تسنى لتنظيم داعش اختراق الحدود العراقية من بوابة الموصل بسهولة والسيطرة على المدينة، وعلى المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد والمعدات بكميات هائلة، وعلى الأموال والتصرف بها ضد شعب العراق.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى أن محافظ نينوى أثيل عبد العزيز النجيفي، وهو شقيق أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي السابق، كان معروفاً بكونه من البعثيين ومن الذين تعاون على نطاق واسع مع الخلايا الداعشية التي كانت تعمل علناً بالموصل وتفرض على أصحاب المحلات والأغنياء بنينوى، وخاصة بالموصل، دفع الإتاوات مقابل عدم قتلهم أو تهجريهم أو تفجير محلاتهم. وتؤكد الكثير من المصادر إلى واقع وجود مثل هذه العلاقة بين محافظ نينوى ومجلس محافظة نينوى وجمهرة من المسؤولين بالموصل مع الجماعات الإرهابية السنية وقوى البعث المتنفذة.
ووجود مثل هذه الخلايا المتنفذة في الإدارة والمجتمع والاقتصاد بنينوى ساعد على تسهيل مهمة عصابات داعش الإجرامية في اقتحام الموصل، وبما لديها من معلومات للسيطرة على المناطق الحساسة وعلى الأموال المتوفرة في البنوك والقاصات الحكومية. وبالتالي، فلا بد من تشكيل لجنة تحقيق حيادية تأخذ على عاتقها دراسة كل التهم الموجهة لهذه القوى والعناصر بالموصل ومحاسبتها على التهم الموجهة لها، وبشكل خاص لمحافظ نينوى، لينالوا الجزاء العادل إن كانوا مجرمين حقاً.
الحلقة الخامسة
الأسباب الكامنة وراء سياسة نوري المالكي إزاء الموصل
السؤال الذي يستوجب الإجابة عنه هو: لماذا اتخذ رئيس الوزراء العراقي هذا الموقف؟
تشير تجارب شعوب العالم التي عانت من ظلم وجبروت المستبدين، كما تؤكد الكثير من الدراسات الخاصة بالنظم الدكتاتورية وشخصيات الدكتاتوريين، وكذلك الروايات الجادة التي تطرح نماذج لمثل هؤلاء المستبدين، ومنها رواية الكاتب غابرييل غارسيا ماركيز الموسومة بـ “خريف البطريرك، أو رواية الروائي العراقي زهير الجزائري الموسومة “المستبد”، (عن معهد الدراسات الاستراتيجية، بيروت, 2006)، إلى إن هؤلاء المستبدين جميع يتميزون بسمات مشتركة أبرزها:
** عدم الثقة بالشعب وعدم الاعتراف بحقوقه وشخصيته وإرادته الحرة.
** الشك في الجميع وفي أقرب الناس إليه، وهو مستعد لتصفية من يزداد الشك به في كل لحظة.
** الرغبة في الاستحواذ على كل السلطات الثلاث وعلى المال العام، وعلى الإعلام، وكذلك على المجتمع، وتهميش الجميع دون استثناء.
** احتقار الدستور والقوانين والأعراف والتقاليد، واعتبار أقواله وما يريد تحقيقه من أهداف هي القوانين النافذة المفعول.
** الكراهية الشديدة لكل المثقفين، عموماً والعضويين منهم على وجه الخصوص، من علماء وأدباء وفنانين وإعلاميين، ولكل صاحب رأي أو رأي آخر.
** لا قيمة للإنسان وحياته ومصالحه في حسابات المستبد بأمره، فحياته ومصالحه وإرادته والأهداف التي يسعى إليها لها الأولوية المطلقة.
** لا يعترف بالهيئات الدولية ومؤسسات حقوق الإنسان ويعتبرها أجهزة معادية له ولطموحاته.
** إيلاء اهتمام خاص بالعناصر الانتهازية ووعاظ السلاطين والمدّاحين الذين يمجدون استبداده وحماقاته، ويعمقون فعلياً من سلوكه الاستبدادي وتجبّرهِ وكراهيتهِ للآخرين.
ويلاحظ هنا بأن المستبد بأمره يشعر بكونه أما من طينة غير طينة البشر، أو نصف إلهٍ، أو وكيل الله على الأرض، وله الحق في أن يفعل ما يشاء بغير حساب وأن يتحكم بإرادة ومصالح البشر!
هكذا كان صدام حسين، ومعمر القذافي وحافظ الأسد وعمر البشير ومن لف لفهم، وهكذا هو نوري المالكي، الذي لم تسمح له ظروف العراق والمنطقة والعالم أن يقوم بنفس الدور الذي مارسه صدام حسين بالعراق، إلا إنه يملك ذات الخصائص والسمات التي لدى صدام حسين. وهكذا نتابع بقلق كبير كيف بدأ رجب طيب أردوغان يتحول من مدعي التحرر والديمقراطية، إلى مستبد شمولي بعد وقوع الانقلاب الفاشل في 15/7/2016 بتركيا.
لقد كان نوري المالكي يرى في كل حركة شعبية مطلبية فعلاً مناهضاً له ولحكمه ورغبة في التخلص منه، وبالتالي كان يواجه هذه الحركات بالغضب والعنف، فيبدأ بتشويه سمعتها والإساءة إليها، ومن ثم الانقضاض عليها بأجهزته القمعية لتدميرها. هكذا كان الموقف من الحركة المطلبية الشعبية، ومن اعتصامات الفلوجة، ومن موقف الكرد، ومن مطالب جماهير الموصل. وكان عليه توجيه الضربات لكل هذه الحركات بأي شكل كان ومهما كانت العواقب ليحافظ على وجوده على رأس السلطة.
في مثل هذه الظروف المعقدة والمتشابكة والمليئة بالصراعات الطائفية على السلطة بين القوى الإسلامية السياسية، إضافة إلى الصراع المحتدم بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان حول العديد من المسائل المهمة والجوهرية التي لم تعالج على وفق بنود الدستور، كما لم توضع القوانين القادرة على معالجة ما ورد أو لم يرد في الدستور بشأنها أو بشأن العلاقة بين الطرفين، وبدعم إقليمي واسع النطاق، تسنى لداعش اختراق الحدود بسهولة والسيطرة على الموصل وعلى المعسكرات ومخازن الأسلحة والعتاد والمعدات بكميات هائلة، وعلى الأموال والتصرف بها ضد شعب العراق.
ومن الواجب هنا أن نشير إلى أن محافظ نينوى أثيل عبد العزيز النجيفي، وهو شقيق أسامة النجيفي رئيس مجلس النواب العراقي السابق، كان معروفاً بكونه من البعثيين ومن الذين تعاون على ناطق واسع مع الخلايا الداعشية التي كانت تعمل علناً بالموصل وتفرض على أصحاب المحلات والأغنياء بنينوى، وخاصة بالموصل، دفع الإتاوات مقابل عدم قتلهم أو تهجريهم ومصادرة محلاتهم. وتؤكد الكثير من المصادر إلى واقع هذه العلاقة بين محافظ نينوى ومجلس محافظة نينوى والمسؤولين في الموصل من الجماعات النية والبعثية المتنفذة.
ووجود مثل هذه الخلايا المتنفذة في الإدارة والمجتمع والاقتصاد ساعد على تسهيل مهمة عصابات داعش الإجرامية في اقتحام الموصل وبما لديها من معلومات للسيطرة على المناطق الحساسة وعلى الأموال المتوفرة في البنوك والقاصات الحكومية.
الحلقة السادسة
كيف تتحقق النجاحات للقوات المسلحة العراقية ضد داعش، وما هو ثمنها، وبماذا تقترن؟
خاضت وما تزال تخوض القوات المسلحة العراقية، التي أعيد تنظيمها جزئياً بعد إزاحة نوري المالكي عن السلطة التنفيذية، رغم إن نفوذه ما يزال قوياً وواسعاً على التحالف الشيعي وعلى السلطات الثلاث ورئيس الحكومة وبأساليب وأدوات وسبل كثيرة بما في ذلك استناده إلى دعم “الولي الفقيه” على خامنئي بإيران، معارك قاسية جداً وتقدم أغلى التضحيات لتحرير تلك المناطق التي احتلها تنظيم داعش الإرهابي وفرض نفوذه عليها وسام سكانها سوء العذاب والقتل والتشريد والسبي والاغتصاب والحرمان وفرض تبديل الديانة أو المذهب أو القتل. وشارك في هذا القتال الساخن ضد داعش في مناطق نينوى وكركوك قوات الپیشمرگه الكردستانية، التي قدمت بدورها الكثير من الضحايا وساهمت بتحرير مساحات واسعة من الأراضي والمدن والقرى السكنية، إضافة إلى مشاركة المتطوعين في هذا القتال الذي دعا له السيد على السيستاني بما سمي بـ”جهاد الكفاية”، ودخلت مع المتطوعين المليشيات الطائفية المسلحة الكثيرة بالعراق وخاصة جماعة بدر وعصائب الحق وحزب الله وغيرها تحت ما سمي بـ””الحشد الشعبي”” الذي لحمته وسداه المليشيات الطائفية الشيعية المسلحة. كما شارك في هذا القتال المشرف عشائر الأنبار وصلاح الدين وغيرها.
لقد تحققت انتصارات كبيرة في محافظات صلاح الدين والأنبار ومناطق من كركوك ونينوى، حيث طرد منها الأشرار أتباع تنظيم داعش الإرهابي وحررت مناطق واسعة، ولم يبق في تلك المناطق، عدا الموصل وضواحيها، إلا جيوب إرهابية يفترض القضاء عليها أو عناصر مخفية وغير معروفة يمكن أن تسبب ضحايا جديدة في تلك المناطق. وإذا كان الشعب العراق كله، وبكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية الوطنية، سعيد بهذه الانتصارات، إلا أن ضلالاً كثيفة أحاطت بها بسبب ما تعرض له سكان المناطق المحررة من ثلاث مشكلات معقدة، وأعني بها:
- النزوح المعقد للأهالي تلك المناطق التي حررت قبل وبعد التحرير والصعوبات الكبيرة التي واجهتهم في إيجاد مناطق للسكن والعيش أو توفير الخدمات.
- المناطق التي تركها أو هرب منها الإرهابيون كانت مفخخة وتعرض الكثير من السكان إلى المصاعب وربما الموت في الطريق إلى النزوح أو أثناء تنظيف تلك الدور من الألغام المزروعة فيها وعلى الطرق.
- تعرض الكثير من رجال العائلات النازحة إلى الاعتقال والتعذيب والتغييب على أيدي “الحشد الشعبي”، والذي لم تتحدث عنه العالات النازحة فحسب، بل والكثير من التنظيمات الدولية المطلعة على ما يجري من اضطهاد في تلك المناطق المحررة ضد الرجال بدعوى التعاون مع داعش أو بسبب الحقد الطائفي لدى أتباع الكثير من عناصر المليشيات الطائفية المسلحة المشاركة في “الحشد الشعبي”. وقد اجبر رئيس الحكومة العراقية، حيدر العبادي، على الاعتراف بذلك وتشكيل لجنة تحقيقية لهذا الغرض ولم تظهر النتائج حتى الآن.
ولهذا السبب اشتدت المطالبات بمنع قوات “الحشد الشعبي” من المشاركة في عملية تحرير المناطق لما في ذلك من عواقب وخيمة على العلاقة مع سكان هذه المناطق. إلا إن “الحشد الشعبي” يصر على المشاركة وأجبر العبادي، المسؤول الشكلي عن “الحشد الشعبي”، على الموافقة على ذلك، علماً بأن القائد الفعلي للحشد الشعبي هما ثلاثة أشخاص على التوالي قاسم سليماني الإيراني وجمال محمد جعفر (أبو مهدي المهندس) ونوري المالكي.
وتشير التقارير الواردة من التنظيمات الحقوقية الدولية ومن منظمة العفو الدولية إلى إن الاعتقال والقتل والتغييب والسجن يشمل الآلاف من أبناء هذه المناطق المحررة خلال هذا العام على نحو خاص.
لا شك في أن مشاركة الولايات المتحدة في عملية تحرير المناطق المحررة في صلاح الدين والأنبار وما يجري اليوم في الموصل، كان وما يزال كبيراً ومهماً، سواء أكانت المشاركة عبر الطيران الحربي والقصف الجوي، أم عبر القوات الأمريكية المحدودة على الأرض، أم عبر الخبراء والمستشارين العسكريين في مناطق القتال أم عبر التدريب للقوات العسكرية العراقية.
المخاطر التي تواجه العراق بعد الانتصار والتحرير
إن معركة تحرير الموصل جارية الآن على قدم وساق، والأمل بتحريرها كبير جداً، ولكن المشكلة ما تزال تكمن في الموقف من مشاركة “”الحشد الشعبي”” وما يمكن أن يمارسه من أساليب غير مشروعة ومناهضة لحقوق الإنسان ضد رجال الموصل عند تحرير المدينة.
كما إن المشكلة ستبرز بأجلى صورها بعد تحرير كامل الأراضي المحتلة، باتجاهات ثلاثة:
- حول الموقف من الموقع في السلطة السياسية، إذ يسعى قادة “الحشد الشعبي” إلى المطالبة بحصة الأسد في السلطة ومؤسساتها، بالارتباط مع دورهم في تحرير المناطقة المحتلة، وعلى ضوء قاعدة المحاصصة الطائفية. ويمكن أن يقود هذا الموقف إلى صراع جديد بين الأحزاب الإسلامية السياسية وميليشياتها الشيعية المسلحة والتي تصدر أوامر لها من إيران على نحو خاص، لأن مرجعيتهم الدينية ليست بالعراق وليست بالحوزة الدينية بالنجف، وليست بشخص السيد علي السيستاني، بل بالسيد علي خامنئي والحوز الدينية بمدينة قم بإيران.
- حول العلاقة المتوترة أصلاً بين “الحشد الشعبي” وقوات الپیشمرگه الكردستانية وعموم إقليم كردستان. وهذه المشكلة تحمل معها الكثير من التعقيدات والتداعيات المحتملة التي لم تعالج بين الحكومة الاتحادية وحكومة الإقليم حتى الآن، والتي يمكن أن تهدد بنزاعات دموية أو حتى حرب أهلية أيضاً.
- احتمال نشوب صراع ونزاع دموي بين قوات “”الحشد الشعبي”” وقوات العشائر بالموصل، بسبب خشية الأخيرة من أفعال غير سليمة ومرفوضة يمارسها “الحشد الشعبي” ضد رجال الموصل، كما حصل في الفلوجة مثلاً. وفي هذا يمثل خطورة كبيرة لعودة قوى داعش أو بروز تنظيمات مسلحة جديدة بالموصل.
إن قوات “الحشد الشعبي” أصبحت منظمة عسكرية كبيرة، وبلغ تعدادها حالياً ما يقرب من 250 ألف مشارك، على وفق تصريح قيادي في ائتلاف “الوطنية” الذي يترأسه الدكتور أياد علاوي، (موقع وطن يغرد خارج السرب”، “ما لا تعرفه عن ميليشيات “الحشد الشعبي” في العراق.. التشكيل والتمويل والممارسات الطائفية”، 14 مارس 2015). كما إن أغلب أعضاء “الحشد الشعبي” هم من المنتسبين للمليشيات الطائفية المسلحة. وأن “”الحشد الشعبي”” يعتبر منظمة عسكرية تابعة رسمياً للقائد العام للقوات المسلحة العراقية، مكونة من تنظيميات ميليشياوية يقدر عددها باربعين منظمة، وهي مسلحة بأحدث الأسلحة العراقية وما يصلها من إيران، وتمتلك رصيداً مالياً كبيراً, وتصلها المساعدات المالية من إيران، إضافة إلى أن الحكومة العراقية تدفع لكل منتسب للحشد 500 دولار شهرياً، وهناك الكثير من الفضائيين أيضاً في هذا العدد الكبير, وتشير المعلومات المتوفرة إلى أن قادة “الحشد الشعبي” هم الذين يتسلمون بصورة غير شرعية رواتب هؤلاء الفضائيين! ولا شك في أن هادي العامري وقيس الخزعلي يلعبان دوراً مهماً وكبيراً في “الحشد الشعبي”.
وإلى جانب هذا الحشد توجد ميليشيا “جيش المهدي” وسميت أخيراً بـ “سرايا السلام”، التي تعتبر الجناح العسكري لجماعة “الأحرار” الممثلة في المجلس النيابي العراقي والخاضعة لقرارات مقتدى الصدر، والتي تتخذ في هذه الفترة سياسة مناهضة لسياسة المالكي ودوره في التأثير على سياسة الحكومة والعبادي وحزب الدعوة عموماً. وينظم مقتدى الصدر بين فترة وأخرى مظاهرات واعتصامات ضاغطة على سياسة حكومة العبادي تطالبه بإنهاء المحاصصة الطائفية وتشكيل حكومة تكنوقراط وتصفية الفساد ومحاسبة الفاسدين …الخ.
إن مخاطر استمرار وجود قوات “الحشد الشعبي” كبير جداً، إذ إنها تعتبر دولة داخل دولة وجيش داخل القوات المسلحة العراقية يأتمر بأوامر قادة المليشيات، وليس بأوامر الحكومة العراقية والقائد العام للقوات المسلحة العراقية، وهي منظمة عسكرية طائفية متطرفة في عدائها لأتباع المذهب السني باعتبارهم أتباع النظام البعثي السابق وصدام حسين، وهي تهمة لا تصمد أمام وقائع وأحداث الفترة التي كان حزب البعث في الحكم وتحت قيادة أحمد حسن البكر ومن ثم صدام حسين.
الحلقة السابعة
- هل يمكن توقع عودة داعش أو نشوء منظمات إرهابية مماثلة بالعراق؟
بعد أن تفاقم دور تنظيم القاعدة الإرهابية في مواجهة القوات العراقية والقوات الأمريكية بالعراق، وسعيها للهيمنة على منطقة غرب العراق، تمكنت القيادة العسكرية الأمريكية بالعراق توقيع الاتفاق مع العشائر العراقية بتشكيل قوات الصحوات من أبناء العشائر العراقية لتواجه قوات تنظيم القاعدة الإرهابي وتصفية وجودها بالعراق. وقد التزمت الولايات المتحدة دفع رواتب لمنتسبي الصحوات. وقد بلغ تعدادها عام 2012 وقبل البدء بحلها عملياً وتحويلها لمسؤولية العراق 103 ألف مقاتل، في حين بلغ عددها في نهاية العام 2012 بحدود 34 ألف مقاتل، وتحول دفع رواتبهم من الخزينة العراقية.
استطاعت هذه الصحوات وبدعم وتدريب القوات العراقية توجيه ضربات قاسية لقوات القاعدة الإرهابية وإيقاف الكثير من عملياتها الانتحارية والإرهابية ضد القوات الأمريكية والقوات العراقية والمجتمع العراقي. وكان هذا نجاحاً كبيراً للعراق وللمجتمع.
إلا إن رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي وحزب الدعوة الذي يترأسه وكذلك التحالف الشيعي وجدوا في قوات الصحوة منافساً طائفياً سنياً لهم ولمواقعهم في السلطة العراقية. وحين تم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الإدارة الأمريكية وبدء انسحاب القوات الأمريكية من العراق، تحولت مسؤولية قوات الصحوة إلى الحكومة العراقية وكذلك دفع رواتبهم. فبدأ نوري المالكي بعدم دفع رواتب الكثير من أفراد الصحوات الذين أجبروا على ترك مواقعهم والالتحاق بجماعة داعش التي بدأت تنشط بالعراق في هذه الفترة وتهدد أفراد الصحوات بالقتل وقتلت فعلاً مجموعة غير قليلة منهم. ولهذا السبب تقلص عددهم إلى 34 ألف مقاتل في نهاية العام 2012 وبداية 2013، إلى أن تبخرت قوات الصحوة نهائياً، وهو ما كان يسعى إليه نوري المالكي وحزبه وتحالفه.
إن هذا الموقف الطائفي المخل باستقرار العراق أدى إلى تقوية مواقع تنظيم داعش، وهو الوليد الشرعي للقاعدة، وتعزيز دوره وزيادة تعداده وتعاظم خطره وعدوانيته، خاصة بعد أن رفض المالكي تنفيذ مجموعة من المطالب العادلة لأبناء الأنبار وصلاح الدين وديالى والموصل.
هذه التجربة الغنية في مواجهة قوات الإرهاب الدموية المتطرفة، والتي نشاهد مثلها اليوم في تشكيل قوات أبناء العشائر، التي تكافح مع القوات العراقية والمتطوعين في مواجهة داعش في الأنبار وصلاح الدين، كما ستقاتل بالموصل، يمكن أن تنتكس حين تبدأ الحكومة العراقية و”الحشد الشعبي” بالإخلال بأسس التحالف الوطني وتهميش دور سكان المناطق الغربية ونينوى، أو الإساءة لهم، أو مواصلة اعتقال وتعذيب وقتل المزيد من أبناء هذه المحافظات، بذريعة تعاونهم مع داعش. كما يمكن بعد تحقيق الانتصار والتحرير أن تعود بقايا هذه المنظمات الإرهابية إلى العمل في صفوف المتذمرين والناقمين على سياسات التمييز والتهميش والإقصاء ضدهم. ومن المشكوك فيه جداً أن يتمكن النظام السياسي الطائفي القائم أن يمارس سياسة جديدة ضد التمييز والتهميش والإقصاء، لأن هذه الأحزاب الإسلامية السياسية قائمة على أساس طائفي من حيث المبدأ والواقع العملي، وعلى أساس الانتقام مما لحق بالشيعة من مظلومية في فترة حكم البعث، وكأن أتباع المذهب السني هم المسؤولون عن تلك المظالم التي لم تلحق بالشيعة فحسب، بل وبكل الشعب العراقي.
- ما هي السبل لتجنب ذلك ووضع العراق على الجادة السليمة؟ وما هي تلك الجادة السليمة؟
لقد ارتكبت الإدارة الأمريكية بفرض احتلالها على العراق أولاً، وإقامة قاعدة المحاصصة الطائفية والأثني في بنية النظام السياسي الطائفي والأثني بالعراق ثانياً، إذ إنه أسست بذلك لكل الصراعات والنزاعات الدموية اللاحقة والجارية حتى الآن. كما أن الدكتاتور الأهوج نوري المالكي خلف تركة ثقيلة جداً في الصراع الطائفي ونشر الكراهية والأحقاد وتكريس وتوسيع الفساد، وممارسة أنواع التمييز التي أضيفت إلى تركة نظام صدام حسين الاستبدادي الشوفيني. وأكثر الإضافات الجديدة إساءة للدولة والمجتمع تتجلى في وقوع احتلال نينوى ومحافظات غرب وشمال العراق والنزوح والهجرة الواسعتين لبنات وأبناء تلك المحافظات من مسيحيين وإيزيديين وشبك وتركمان ومسلمين عرب وغيرهم، وبشكل خاص ما تعرضن له نساء الإيزيديات من سبي واغتصاب وبيع بالمزاد العلني وفي سوق النخاسة “الإسلامي” السيء الصيت.
إلا إن من تسلم الحكم من بعده، ورغم الوعود التي قطعها على نفسه أمام الشعب، فأنه لم يخط ولو خطوة واحدة حقيقية على طريق الخلاص من النظام والنهج والسياسات الطائفية المقيتة. لقد أخل حيدر العبادي بكل الوعود والعهود والقسم الذي قطعه على نفسه، فهو من قادة النحبة الإسلامية السياسية الطائفية ذاتها التي تسلمت السلطة في أعقاب الاحتلال وتشكيل مجلس الحكم المؤقت، وهو المشارك الفعلي في كل ما واجه ويواجه العراق من مشكلات ومأسي وكوارث خلال السنوات الـ 13 المنصرمة. وبالتالي، فأن مطالب الشعب كانت وستبقى كما كانت عليه في فترة حكم المالكي المعتم، وخاصة في دورته الثانية 2010-2014. فالشرط الأول والرئيس لمنع عودة قوى الإرهاب بمختلف صنوفها إلى العراق يكمن عضوياً بعملية التغيير في طبيعة النظام الطائفي المحاصصي صوب نظام مدني ديمقراطي يعترف بهوية المواطنة العراقية الموحدة والمتساوية، وليس بالهويات الفرعية المتنافسة والمتصارعة والقاتلة. إن الضمانة الوحيدة للخلاص من الصراع الديني والمذهبي يكمن في إقامة دولة مدنية ديمقراطية علمانية ومجتمع مدني ديمقراطي حديث بالعراق، يستند إلى مؤسسات دستورية نزيهة، ودستور ديمقراطي علماني يرفض التمييز بين أتباع القوميات والديانات والمذاهب والاتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية، ويعاقب على ممارسة العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والطائفي والتهميش لأي إنسان أو جماعة بالعراق، ويعترف ويمارس حقوق الإنسان وحقوق القوميات وحقوق المرأة كاملة غير منقوصة. إنها القضية الجوهرية والأساسية الأكثر تعقيداً والأكثر تشابكاً داخلياً وإقليمياً ودولياً، والأكثر أهمية للمجتمع العراقي ومستقبل تطور وتقدم أجياله الجديدة ووضع ثرواته في خدمة التنمية الاقتصادية والبشرية، وإعادة إعمار البلاد وتخليصها من كل الرثاثات التي لحقت بها وبالمجتمع والدولة العراقية نتيجة هيمنة القوى السياسية ذات الفكر والممارسة السياسية الرثتين.
كيف الوصول إلى ذلك؟
ندرك جميعاً بأن السياسة علم وفن، وهي لا تخضع للإرادات الذاتية، بل ترتبط بالواقع الموضوعي وخصوصياته وموازين القوى الاجتماعية والسياسية وإمكانيات المجتمع على التغيير المنشود. والسياسة كما هو معروف فن الممكنات والتي لا بد من تشخيصها ليتسنى للمجتمع والعاملين على التغيير استيعابها وقيادة العملية السياسية صوب التغيير.
تؤكد معطيات الواقع الراهن بأن ميزان القوى الاجتماعي والسياسي ما يزال يميل لصالح القوى الحاكمة، ولكنه في حراك مستمر ويسير صوب التغير الملموس، رغم سير العملية ببطء، لصالح القوى والاتجاه المناهض للطائفية السياسية والفساد والعنف ومصادرة سلطات الدولة والهيمنة على المجتمع وإرادته والاستمرار في افقار الفئات الكادحة والمتضررة من وجود هذا النظام السياسي الطائفي والعمل ضد مصالح الشعب.
وعملية التغيير في ميزان القوى لا تنشأ عفوياً ودون عمل الإنسان ذاته وعلى وفق مصالحه المغيبة والمصادرة. فعملية التغيير تفعل على وفق عاملين داخليين اساسيين هما:
العامل الأول: السياسات المناهضة لمصالح الشعب ووحدته والأخطاء الفادحة التي تمارسها وترتكبها النخب الحاكمة بالبلاد، وهي كثيرة جداً، سوف تسرع عملياً من نهاية وجود هذه النخب البائسة فكرياً وسياسياً في الحكم.
العامل الثاني: يرتبط بقدرة القوى المعارضة على تقديم البديل الناضج والواعي والمقنع لما ينبغي عليه القيام به أولاً، ومن ثم مدى قدرتها على الاستفادة من أخطاء وسياسات النظام المناهضة لمصالح الشعب في تعبئة أوسع الجماهير المتضررة من الوضع القائم والراغبة في التغيير ثانياً.
ولا شك في أن أي تغيير حقيقي في ميزان القوى لصالح القوى الديمقراطية واللبرالية العراقية، يمكن أن يضعف إلى حدود بعيدة التدخل الإقليمي في شؤون العراق الداخلية.
إن مهمة تعبئة الجماهير الواسعة تستوجب رؤية انفتاحية على المجتمع كله وعلى كل القوى القادرة على تقديم العون والمشاركة في توعية وتعبئة الجماهير الشعبية لتحقيق التحولات المنشودة، وعلى أفكار هذه القوى ونشاطاتها والتحري عن سبل التعاون والتنسيق معها، سواء أكان هذا التعاون قصير الأمد ولأهداف محددة أو متوسط وبعيد المدى على وفق برامج تلك القوى وأهدافها ومصالحها الملموسة.
وبشكل ملموس نشير إلى أن ما يجري اليوم بالعراق يحتل أهمية استثنائية في عملية ووجهة التغيير اللاحقة، خاصة في مدى استيعاب القوى الفاعلة في الحراك الشعبي المدني والديني لتجارب السنوات المنصرمة، وخاصة منذ أحداث العام 2011 ودور السلطة التنفيذية من حركة الجماهير وضربها بقسوة وضد الدستور، وكذلك التحركات اللاحقة في أعوام 2013 و2015 حتى الوقت الحاضر، في نضالها الراهن من أجل التغيير والإصلاح الجذري.
شهد المجتمع العراقي بين 14/2/-6/5/2011 بروز حركة احتجاجية تضامنية رفع رايتها اليساريون والمدنيون الديمقراطيون واللبراليون العلمانيون وطرحت المهمات الشعبية الأكثر إلحاحاً وضرورة للمجتمع والتي تبلورت في النقاط التالية:
- خروج القوات الأمريكية من العراق وإنهاء الاتفاقية الأمنية.
- محاربة الفساد الذي عم البلاد ومكافحة المفسدين والتصدي لنهب النفط الخام العراقي.
- التصدي لقوى الإرهاب الدموي المنتشر في البلاد وإيقاف نزيف الدم المستمر.
- التصدي لمشكلة البطالة المتفاقمة وإيجاد فرص عمل للعاطلين وتحسين مستوى حياة ومعيشة الكادحين وذوي الدخل المحدود والفقراء المتزايد عددهم بالبلاد.
- توجيه موارد البلاد صوب التنمية الوطنية الاقتصادية والاجتماعية وإيقاف التفريط بأموال الشعب.
- رفض النظام الطائفي والمحاصصة الطائفية.
- أطلاق سراح المعتقلين بتهم زائفة، والكف عن الاعتقال غير القانوني وإيقاف التعذيب أثناء التحقيق وفي السجون العراقية.
لم تتحقق هذه المهمات الجوهرية خلال الفترة المنصرمة بل زاد الأمر سوءاً مما استدعى نهوض جديد للحركة المدنية الشعبية تحقق في آب/أغسطس من العام 2015، وهي امتداد طبيعي لحركة 2011. وقد أثرت هذه الحركة الجارية باتجاهات عدة نشير إلى أبرزها فيما يلي:
- تحريك المزيد من الجماهير الشعبية وخاصة الفئات الكادحة المرتبطة بالسيد مقتدى الصدر والتي اقترن عملها قبل ذاك بالصراع ضد قوى الاحتلال وبعض القوى الشيعية المشاركة في البيت الشيعي، وخاصة بجناحها العسكري المدعو بجيش المهدي، والذي يسمى اليوم بسرايا السلام. حيث بدأ هذا التيار الديني الشيعي يتحرك باتجاه مطالب المنتسبين إليه والداعمين له والمرتبطين بدور العائلة الديني (تقليد والده ومن ثم تقليده من حيث الفتاوى الدينية لأتباعه). وبدأت مطالبة مقتدى الصدر، وتحت ضغط أتباعه إلى محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين والإرهاب وضد المحاصصة الطائفية والحكم الطائفي. وكان هذا الموقف يسجل تحولاً ملموساً في صفوف التيار الصدري (الأحرار) التابع له والممثل في مجلس النواب، إضافة إلى بعض التوجه صوب ضرب بعض الفاسدين من أتباع التيار البارزين في التيار الصدري. ولا شك في أن عمق وسعة وأهمية هذا التحول ستبرز في الفترة الجارية وفي النضال من أجل الدولة المدنية وضد المحاصصة الطائفية والفساد…الخ.
- تحريك للحوزة الدينية الشيعية المتمثلة بالسيد علي السيستاني الذي وجد الحوزة في وضع غير مناسب جماهيرياً بسبب تأييده المستمر للأحزاب الإسلامية السياسية المتحالفة في الائتلاف الوطني أو البيت الشيعي، والتي انتشر في صفوفها ليس الفساد والرثاثة فحسب، بل والصراع على السلطة والمال والنفوذ إلى أقصى الحدود وتركت الجماهير تعاني الأمرين، إضافة إلى ما تسببت به من احتلال لمناطق العراق الغربية ونينوى. وبالتالي طالبت الحوزة الدينية الساستانية بتنحية المالكي بشكل غير مباشر فحسب، بل وبمحاربة الفساد والمفسدين وبالدفع صوب الدولة المدنية ولأول مرة في تاريخ السيد علي السيستاني.
- اتساع قاعدة النشطاء من المدنيين في الحراك المدني الشعبي والناس المتضررين الذين شعروا بعمق الأزمة التي يعيش تحت وطأتها العراق، والعواقب الوخيمة التي جرها النظام السياسي الطائفي على المجتمع العراقي.
- وقد أدركت النخب الإسلامية الحاكمة بأنها لم تعد قادرة على الحكم على وفق السياسات والوسائل أو الأدوات والأساليب السابقة، مما فرض عليها الحديث عن الإصلاح الجزئي، والمقصود الشكلي، لكي تستطيع البقاء في الحكم. ولم يكن تنكيس الرؤوس إلا لتجنب العاصفة، وقد تجلي بالموافقة على تغيير نوري المالكي بحيدر العبادي، وهي الطريقة المثلى لها لتجنب التغيير الجذري الذي بدأت الحركة المدنية الشعبية والجماهير الغاضبة، والمتزايد عدد المشاركين في الاحتجاجات، تفرضه على القوى الحاكمة.
الحلقة الثامنة
قوى التيارين المدني والديني ودورهما في الحراك الشعبي
تشير معطيات الشارع العراقي إلى وجود تيارين فاعلين يساهمان في تحريك المزيد من المثقفين والأوساط الشعبية لصالح عملية التغيير والإصلاح الديمقراطي والتخلص من نظام المحاصصة الطائفية والتمييز والفساد والإرهاب، وهما:
- الفكر المدني التنويري الذي تتبناه القوى اليسارية والمدنية واللبرالية الديمقراطية العلمانية. وهو التيار الفكري الفاعل والمتطور تدريجاً والأكثر جذرية، إلا إنه ما يزال لا يمتلك النفوذ والتأثير الواسعين والمنشودين على الشارع العراقي، وعلى قاعدة واسعة من الجماهير الكادحة وفئة المثقفين، رغم وجود التيار الديمقراطي وفعله البارز والمستمر ببغداد وفي جميع محافظات الوسط والجنوب.
- الفكر الديني المنفتح نسبياً والمؤثر على نسبة مهمة جداً من كادحي محافظات الوسط والجنوب وبغداد الشيعية والمؤيَد، بهذا القدر أو ذاك، من قوى إيجابية في الأوساط الشعبية السنية، وليس بين المسؤولين السياسيين من أتباع المذهب السني، بسبب رفض التيار الصدري للمحاصصة الطائفية وتأكيده على المواطنة ورفض التمييز ضد السنة. وهذا التيار قد تطور بشكل ملموس منذ العام 2014 حتى الوقت الحاضر.
إن بين هذين التيارين نقاط التقاء سياسية، ونقاط اختلاف فكرية وسياسية في آن واحد. فهما يلتقيان في المرحلة الراهنة في النضال ضد المحاصصة الطائفية، وضد الفساد والهيمنة على السلطات الثلاث، والدفاع عن مصالح الكادحين المنتسبين إلى هذا التيار والمؤيدين له، ومن أجل توفير الخدمات الأساسية، وضد البطالة وتفاقم الفقر وتعاظم نهب خيرات البلاد والمطالبة بإحالة المسؤولين عن احتلال الموصل والفساد المستشري إلى المحاكمة. ولكنهما يختلفان من حيث الفكر ووجهة تطور العراق، والنظام السياسي الذي يراد إقامته. وهو خلاف كبير وجذري دون أدنى شك.
ولكن المرحلة النضالية الراهنة تستوجب اللقاء مع كل المعارضين للطائفية السياسية والمحاصصة، وكل الداعين إلى محاربة الفساد والمطالبين بمعالجة البطالة والفقر، ومنهم قوى التيار الصدري، في النضال الشعبي في الشارع العراقي، واستناداً إلى تلك الأهداف المباشرة. وهذا الموقف المسؤول يتطلب رؤية موضوعية واضحة وملزمة لقوى التيار الديمقراطي والحراك الشعبي المدني بالنسبة لنقاط الاتفاق والاختلاف، لكي لا تذوب الفوارق إلى الحد الذي يمكن أن تفقد القوى الديمقراطية اللبرالية معه استقلالية نضال القوى المدنية في سبيل مجتمع مدني ديمقراطي حديث وعلماني. إن نضال قوى الحراك المدني الشعبي في الشارع العراقي يسمح بلقاء قوى وقواعد التيار الديني الصدري، ويسهم في الدخول بحوارات ونقاشات فكرية وسياسية تسهم في بلورة الكثير من المسائل المهمة لتلك القوى الكادحة والمضطهدة والمهمشة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً والمتضررة بيئياً. والتي يمكن أن تسهم في تطوير قوى التيار الصدري وتدفع بها صوب تبني الدولة المدنية الديمقراطية، وهوية المواطنة المتساوية والموحدة، وفصل الدين عن الدولة، والفصل بين السلطات الثلاث، واستقلال القضاء، بسبب التجارب المريرة التي تعيشها دول منطقة الشرق الأوسط. ومن يتابع نقاشات الشارع العراقي وقوى التيار الديمقراطي يدرك بوجود تحفظات معينة على العمل المشترك في الشارع العراقي مع قوى التيار الصدري، وبخاصة بين جمهرة من الشباب، إذ أن تجارب التحالفات السياسية السابقة وعلى امتداد الفترة التي أعبقت انتصار ثورة تموز 1958، لم تبشر بالخير العميم وغالباً ما انقلب الحلف على الحلفاء. ولهذا فلا بد من أخذ تحفظات الشبيبة بنظر الاعتبار أولاً، والتعلم من تجارب الماضي غير البعيد ثانياً، وعدم الانجرار، مع من يتم التيار الديمقراطي التعاون معه في الشارع، إلى ما يقوم به ذلك الطرف على وفق ما يسعى إليه، والذي يمكن أن يقود على عواقب وخيمة في غير صالح التيار الديمقراطي أو المجتمع أو الحركة المعارضة للنظام السياسي الطائفي ومحاصصاته المذلة. وبهذا الصدد قدم الزميل الدكتور فارس كمال نظمي دراسة غنية وجديدة حول التيار الصدري والحراك الشعبي وآفاق الوضع بالعراق نشرت على صفحات الحوار المتمدن تحت عنوان “لتقارب المدني – الصدري في ساحات الاحتجاج: رؤية نفسية في ديناميات اليساروية الاجتماعية”، في باب الثورات والانتفاضات الجماهيرية، الحوار المتمدن-العدد: 5227 – 18/7 / 2016 “، من المهم الاطلاع عليها ومناقشتها بعلمية وموضوعية لأهمية مثل هذه الدراسات في المرحلة الراهنة، بغض النظر عن مدى اتفاق أو اختلاف القراء معه. فنحن بالعراق بحاجة ماسة على مبادرات في طرح الرؤية المدققة لعملية التغيير وآليات وسبل هذا التغيير الديمقراطي والسلمي المنشود.
أن عملية تغيير النظام السياسي الطائفي القائم عملية نضالية معقدة ومتشابكة وليس بالضرورة قصيرة الأمد، إنها عملية سيرورة وصيرورة نضالية تعتمد على قدرة القوى المناضلة على رفع مستوى وعي الجماهير ودورهم في عملية التغيير التي تعني ممارسة عملية إصلاح جذرية للدولة والمجتمع من جهة، وتستوجب تعبئة أوسع الجماهير للنضال من أجل التغيير من جهة ثانية، إذ أن الدولة والمجتمع قد سقطا منذ عقود في حمى الاستبداد والقهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي والفاقة الفكرية والسياسية والبؤس الاقتصادي والاجتماعي والفساد الناهب لخيرات وموارد البلاد، وعانا وما زالا يعانيان من العنصرية والشوفينية والتمييز الديني والمذهبي والطائفية السياسية المقيتة. كما يعاني المجتمع من فساد الدولة بسلطاتها الثلاث وفساد المجتمع ومؤسساته وأغلب أحزابه السياسية. ومثل هذا الوضع لا يمكن أن يخلوا من العنف والاضطهاد والإرهاب الفكري والسياسي والنفسي.
إن التغيير المنشود يستوجب مشاركة جميع القوى المعارضة، إذ لا يمكن لقوة بمفردها وبجماهيرها تحقيق التغيير. ولهذا لا بد أن تلتقي كل القوى المناضلة لتحقيق التعاون في ما بينها استناداً إلى وضع برنامج يمثل الحد الأدنى الممكن الاتفاق عليه، ويتضمن في الوقت نفسه الحد الذي تقرره ظروف العراق وقدرات النضال الشعبي، وليس في ما نتخيله ونرغب به ولا يتجانس أو يتناغم مع الواقع المعاش فعلياً. إن البرنامج المنشود يمكن أن يشمل الجوانب السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والبيئية والنفسية وعلاقات العراق الخارجية، الإقليمية منها والدولية. كما إن البرنامج يفترض أن يتضمن حلولاً واقعية لمشكلة النازحين والمهاجرين الذين زاد عددهم اليوم عن أربعة ملايين إنسان عراقي بالداخل، دع عنك المهاجرين إلى خارج العراق والذين بلغ عددهم الآن أكثر من أربعة ملايين أيضا، وهو في زيادة شهرية مستمرة. إن وضع برنامج مشترك لا يعني بأي حال فقدان التيار الديمقراطي أو الحراك المدني الشعبي لبرنامجه الخاص في التغيير وتطوير العراق وتقدمه. وهذا الموقف يشمل التيار الصدر أيضاً أو أي قوة أخرى تبدي الاستعداد للتعاون والعمل والنضال المرحلي المشترك.
إن هذه العملية تستوجب وعياً لدى المجتمع، بحيث يكون مستعداً على تحمل تبعات التغيير السلمي والديمقراطي للبلاد، التي تقترن اعتيادياً بتعقيدات غير قليلة تحصل أثناء وقوع مثل هذه التحولات الضرورية في المجتمع. ومثل هذا البرنامج يفترض أن تضعه لجنة واسعة وواعية لواقع العراق وإمكانيات وضرورات التغيير والإصلاح الجذري الشامل للدولة والمجتمع. ويفترض أن يتضمن البرنامج تنظيم عودة النازحين والمهجرين قسراً إلى مناطق سكناهم، وتعويضهم ومساعدتهم ليعيدوا بناء مساكنهم وحياتهم الاعتيادية وعودة السلم والاستقرار لهم.
كما يتطلب البرنامج وضع الأسس القانونية الضرورية لإقامة علاقة سليمة بين الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان العراق وحل كل المشكلات العالقة، سواء بالنسبة للمناطق المتنازع عليها، أم قضية النفط والتنمية أم رواتب الپيشمرگة…الخ، بعد أن أصبحت العلاقة متدهورة وبلغت حالياً الحضيض.
ويبدو لي بأن هناك مهمة مؤجلة منذ سنوات، وأعني بها إعادة كتابة الدستور العراقي لعام 2005 بما يصحح القضايا غير الديمقراطية والطائفية والمخالفة للأسس الديمقراطية في حياة المجتمع، وبشكل خاص موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العلمانية، إضافة إلى تخليصه من المواد التي تعتبر حمالة أوجه …الخ، وهي كثيرة. إن المجتمع العراقي قادر على التغيير، وهو يعي باستمرار وأكثر فأكثر الحضيض الذي حط به العراق بسبب فكر وسياسات وممارسات القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية وبعض القوى القومية الشوفينية والضيقة الفق في آن واحد، والتي كانت وما تزال ضد إرادة ومصالح الغالبية العظمى من الشعب العراقي بكل قومياته وأتباع دياناته ومذاهبه واتجاهات الفكرية والسياسية الوطنية والديمقراطية.
كاظم حبيب في 20 – 31/7/2016