سنوات ليست بعيدة يوم كانت كوردستان تعيث فيها قوى العقب الحديدية للطاغية فساداً وتخريباً وتدميراً؛ يومها كان شعب كوردستان يخوض معاركه البطولية من أجل التحرر والانعتاق من قوى الدكتاتورية الغاشمة، حتى حقق الانتصار بإرادته الصلبة وبوحدته وبفضل آلاف الشهداء الذين سقوا أرض كوردستان لتعود حرة وليرفرف علمها عالياً.
اليوم وبعد حوالي الربع قرن من انتصار الثورة، تعود قوى الظلام والتخلف لتحاول الاعتداء على حدود كوردستان المتحررة.. فمن جهة شراذم الدواعش الإرهابية وهجماتها الهمجية ووحشية جرائمها.. ومن جهات أخرى تواصل دول الجوار قصف الحدود وقراها ومدنها بحجج وذرائع شتى.. وشيء واحد مشترك بين هجمات الأعداء على أرض الحرية والسلام وضد انتصار ثورة التحرر القومي الكوردية، إنه فتح النار على كل خطوط المواجهة وإشعال الحرائق على طول جبهة الحدود الكوردستانية.
قصف إيراني طاول العديد من القرى والقصبات وهو ليس للمرة الأولى، ودائما الذريعة ادعاء مطاردة من تسميهم المخربين المتمردين مثلما كانت تسمية الطاغية الدكتاتور في العراق يوم كان يسمي الثورة الكوردية الخونة المتمردين وما إلى ذلك من تسميات للتشويه وهي ليست سوى إفرازات الحقد الاسود لقوى الفاشية والظلم ومنطقها الاستعلائي الشوفيني على الشعب الكوردي.. أما التضحيات والخسائر فهي من دماء الأبرياء ومن تلك الأبنية لبيوت الفقراء وأملاكهم البسيطة من ثمار تعبهم وجهود عملهم اليومي! وليس بعيدا عن ذاك ما جرى مرارا ويجري من طرف دول جوار أخرى من اعتداءات سافرة بذات الحجة ونفس الذريعة..
ودائما الخسائر باهضة من حرق الحقول وتدمير البساتين والبيوت وقتل الحيوانات التي تعين الفقراء في تفاصيل يومهم العادي. بضمنها المواشي التي تمثل زادهم وقوتهم اليومي والبغال التي لا مناص منها في الحركة بين الجبال والقصد مجدداً استخدام سياسة الأرض المحروقة لطرد السكان المحليين من قراهم وقصباتهم وبيوتهم والاستيلاء الفعلي على الأرض الكوردستانية لمصلحة هذه الدولة أو تلك واستغلالها في مآربها.
إنّ الحدود الكوردستانية اليوم بكل متر فيها باتت جبهات حربية مفتوحة على كل الاحتمالات.. وفتحت أطراف إقليمية وشراذم الإرهاب بوابات جهنم لمعارك تصاعد دخانها وصار يهدد بانفجار شامل إن لم يجرِ التعامل الأكثر حكمة مع كل جبهة وما تتطلبه من تفاعلات…
وبجميع الأحوال لابد في طريق الانتصار على الجبهات الحدودية من تأمين الجبهة الوطنية داخلياً أولا.. وهذا يتطلب من جهةٍ أولى وحدة القوى السياسية الفاعلة واستذكار تجربة القيادة في زمن الثورة ورحلتها نحو الانتصار، وهو الأمر الذي يدعو إلى الابتعاد عن ضيق الأفق الحزبي وطابع التنافس قصير النظر ذاك الذي تقع فيه بعض القيادات الحزبية من جهة فتحها جبهة ليس توقيتها ولا طابع بدائلها وحلولها في محله.. وعليه لابد هنا من الالتفات إلى أهمية التمعن في الأولوية التي تجابهها كوردستان اليوم لاتخاذ القرار الحاسم باتجاه مراجعة المواقف كليا والتعرف إلى أن المنتظر من جميع الأطراف هو إعلاء مصلحة كوردستان على كل تلك الجسور الممتدة بين بعض الأطراف وقوى إقليمية.. ما يوجب ألا تكون تلك الأطراف أشبه بحصان طروادة عندما تفتعل شق الجبهة الداخلية وإضعافها فتفسح الطريق لمن يتربص شراً بكوردستان من خلف حدودها.. وبالمناسبة فإن تلك الإقليمية لن توفر أحداً من عدائيتها وعدوانها ولكنها تتدرج في محاولات الاختراق والاستعباد.
إن متانة الجبهة الداخلية تبدأ كما هي إشارات التجاريب الضعبة، تبدأ بالوحدة بين القوى السياسية وتشكيلها أرضية صلبة للتصدي لما يجري على الجبهات الحدودية من تحديات. وطابع الوحدة السياسية يقوم على وقف فوري وحاسم لكل الاختلافات والخلافات التي طفت على السطح في المدة الأخيرة والانتقال إلى التفكر بحلول لما تواجهه الجبهة الداخلية من مشكلات جمة..
وطبعا أبرز تلك المشكلات الحاجة المادية المالية والظرف الاقتصادي الدقيق.. بمعنى البحث عن حلول وبدائل تمر من بوابة العمل المشترك الموحد وليس استغلال الظرف لكل طرف كي ينزل بالآخر تهجما وطعنا وتمزيقا بمحاولة لكسب جمهور حزبي أو لربح قضية آنية عابرة…
ينبغي بالخصوص إيجاد إعلان اتفاق مبادئ يحظر الحملات الإعلامية (الحزبية) المنغلقة أو ذات الأفق الضيق ويتمسك بخطى وترتيبات تحمل البدائل للوضع السياسي وتشكيلات مؤسسات الحكومة والبرلمان بطريقة تطمِّن وتهدّئ الأوضاع لتمضي نحو وحدة كوردستانية متينة تستطيع أن تتصدى للتحديات؛ على أن يتضمن ذلك معالجة قضية التعددية القومية الدينية في كوردستان وتعميق ثقافة احترام الآخر في إطار وحدة ثابتة راسخة للمجتمع الكوردستاني لا تقبل محاولات التمزيق وخطاب التشظي الذي يطلقه دعاة الكانتونات وقشمريات المتاجرة بحقوق المجموعات الدينية والقومية.
والمنتظر من القيادة الكوردستانية اليوم، يتمثل في تجنب فتح الجبهات جميعا مرة واحدة ورسم استراتيجيات تتناسب وكل حالة وجبهة.. فعلى الجبهة السياسية مع بغداد ينبغي فتح جسور لحلول مناسبة بخاصة منها محوري الجانب الخاص بالتركيبة المؤسسية الفديرالية والأخرى المتعلقة بقضية الحصص المالية وضرورة إطلاق ما تم حجزه وحجبه من رواتب الموظفين بوصفها حقا ثابتا لا مساومة فيه…
فيما لابد من ربط الجبهة الكوردستانية ضد الدواعش بتنسيق فعلي مباشر مع قوات التحالف الدولي سواء منها الجوية أم الميدانية على الأرض ما يتطلب جهدا مميزا لاستثمار التدريب والدعم اللوجيستي الكبير لمصلحة حسم المعركة وعدم الاكتفاء بإبعاد شراذم الدواعش عن الحدود با إنهاء وجودها بصورة كلية ونهائية لا تسمح بأي احتمال لعودة تهديداتهم.
وبين الجبهة الحربية ووجود خلايا نائمة تابعة للإسلام السياسي لابد من تعزيز المهام الاستخبارية ورصد كل شاردة وواردة لقوى الإسلام السياسي وعدم الاطمئنان لخطاب التقية والتستر والتخفي مما تمارسه تلك القوى بل ينبغي التمعن في عناصر تلك الحركات التي تستغل غطاء الوجود العلني والجوامع وما إلى ذلك في ممارسة أنشطتها والاستعداد لمعركتها التي تختزنها دائما لطعن الشعب والوطن لحظة تسول لها مآربها بالانتقال إلى لغة العنف التي لا تفارق جوهر وجودها وسياستها..
إن الإصرار على استقلالية البيشمركة ووحدة قواتها وسلامة تركيبتها وتعزيز قدراتها واشكال التدريب والتسليح ووحدة قيادتها وضبط أساليب التنسيق العملياتية الميدانية هي من بين أبرز خطى تأمين الانتصار ضد الدواعش وشراذمهم القذرة…
وبالعودة لتفاصيل الموقف على جبهات الحدود الإيرانية التركية السورية، فكما أشرنا إلى ضرورة التعامل مع كل حالة ولكن هنا ينبغي استثمار العلاقات الدولية بطريقة تتناسب وفرص التصدي للهجمات غير المبررة إطلاقا سوى بمآرب وضغوط خطيرة فيما تبيته من مستهدفات.. ولابد هنا من الاعتماد أكثر على القطبين الأمريكي الروسي ودور مميز للاتحاد الأوربي بما يمكن من التعامل مع ما يجري على الحدود من حكومات تلك البلدان وتوغلها بين الفينة والأخرى بما يهدد كوردستان ولكن تسجيل الشكاوى عبر القنوات المتاحة سواء في إطار الدولة العراقية ووزارة خارجيتها ومسؤوليتها في نقل الشكاوى إلى المنظمات الدولية أم لممارسة الصلات المناسبة للبحث في الردود من أجل عدم إضاعة حقوق كوردستان ومواطنيها بالتعويض عن كل الضحايا والخسائر البشرية والمادية..
إن التجاريب منحت شعب كوردستان قدرات التحمل والصبر في الشدائد مثلما منحت قيادة حركة تحرره الخبرات الوافية لخوض معارك الحرية واليوم معارك فرض الاستقرار واستتباب الأمن وإشاعة السلام وهي مهمة محفوفة بالتهديدات ما يتطلب وحدة القيادة من جهة ووحدتها مع الشعب وتلاحم قواه ومكوناته جميعا وبغير ذلك فإن مخاطر بلا منتهى تتهدد المصير…
مع ذاك يبقى الأمل نابضا أن اشتداد الظروف وحلكة الظلام تمثل مؤشرا لقرب الانتصار الجديد في التحول بكوردستان إلى فضاء حياة أكثر تقدما وتفتحا وفتح مسارات التنمية وسيادة السلام والطمأنينة بإنهاء آخر معاقل الإرهاب وفرص وجوده على مقربة من تخوم كوردستان الحرة.