الشرعية بين الانقلاب في تركيا وألاعيب النظام ومحاولات إحياء قانون التمكين الفاشي
حول الانقلاب التركي الذي تم إجهاضه بخلفية باتت اليوم تسفر عن أدائها المتعارض مع ما ادعته وتدعيه من دفاع عن الشرعية
هذه معالجة موجزة تحاول تسليط الضوء على الانقلاب في تركيا كونه حراكا ربما يكون أدخل في الدفاع عن الشرعية التي تخدم الشعب بمحاولة إبعاد التغول الفاشي لحركة الإخوان على الطريقة التي اتبعها هتلر.. ونشير في هذا إلى عدد من الارتباطات وتبادلها التأثير بأمل توافر فرصة للتحليل بوقت لاحق بشكل أشمل وأوسع
توطئة
لمن يريد أن يربط الدروس ويستفيد منها عليه ألا ينسى أخطر تلك الدروس التي مازالت ماثلة في الذهن الإنساني تلك التي تشير إلى صعود الفاشية وهتلر لقمة هرم السلطة وإيقاعها تلك الخسائر الفادحة بل الكوارث والنكبات بالبشرية.. فلم يكن وصول هتلر إلى قمة السلطة الألمانية ناجماً عن تحولات مفاجئة، سواء ببنية شخصيته أم بالشروط الموضوعية المحيطة التي شكلت البيئة الحاضنة. ولكن هتلر مر بمراحل من قبيل سجنه بعد محاولة انقلاب 1923 ثم منطق فكره الذي لم يقم على ثراء عميق بقدر ما مر عبر تجاريب جنديته ومنطقها وعبر تجاريب شخصية من قبيل تأثره لانتحار ابنة شقيقته التي كان على علاقة بها… أما موضوعيا فقد كانت نقطة التحول المؤثرة فيه، هي فترة الأزمة المالية الكونية وما انعكس من كساد في جمهورية فايمار (ألمانيا) 1930 وتداعيات اللعبة (الديموقراطية) وكيفية استغلال الثغرات فيها.
لقد كانت إبرز الثغرات، هي فكرة احترام أو قدسية النظام الديمقراطي أياً كانت ظروفه، الأمر الذي كان عاملا سلبيا دفع بكثير من الأحيان إلى عجز البلاد عن الموافقة على أية إجراءات كانوا يرونها شكلياً ضد الديمقراطية. وفي ضوء هذا التفكير السطحي، استطاع هتلر وحزبه الفاشي أن يتسلل إلى أعلى هرم الدولة لينقلب لاحقا على من تحالف معه وأوصله إلى القوة الكافية لفرض رؤاه الفاشية النازية.
إنّ الاعتقاد بقدسية البرلمان والأحزاب التي تتحكم به، قد يخلق ثغرة منح الحكومة سلطة استثنائية على حساب الديموقراطية الحقة، تلك التي يحتفظ الشعب فيها بسلطته وبسمو صوته دستوريا.. بينما حالات التشوه هي ما يمرر عبث العناصر المغامرة وإدارتها السلطة بطريقة المراهقة السياسية؛ على الطريقة الفاشية..
لقد فاز هتلر وحزبه بنسبة 18.3% من الأصوات في وقت كان هتلر شاهد الدفاع في محكمة لايبزيغ لاثنين من صغار الضباط الذين تم اتهامهم بالانتساب إلى عضوية الحزب النازي؛ الأمر الذي يقابل اليوم الانتساب إلى جهات حزبية تمتلك أجنحة ميليشياوية في النموذج العراقي.. لحظتها مرر هتلر مقاصده عبر توكيده أن الحزب النازي يحترم سيادة القانون!؟
ويومها بدأ يلعب لعبته السياسية بديلا عن المغامرة العسكرية التي كان شارك بها بوقت سابق، مستغلا الظرف المتأزم وحاجات الشعب في ظل الأزمة الاقتصادية إلى جانب اكتسابه جنسية البلاد عبر حكومة ولاية Brunswick التي أهّلتْهُ للمنافسة على منصب المستشارية بعد أن رُفِض تعيينه بهذا المنصب السامي وهو نائب العريف المغامر. لكن النازيين حصلوا على نسبة 33.1 ٪ من الأصوات 1933 بدعم مادي من رجال الأعمال مع تسلم لمهام الشرطة والداخلية، وإنشاء حرس هتلر الشخصي؛ أو قوة الأمن التابعة لوحدات النخبة النازية..
هنا يجدر بنا قراءة المسار تاريخيا بما نهض به هتلر من إجراءات أحبط بموجبها كل محاولات الآخر للفوز بمقاعد البرلمان. وتم حظر الحزب الشيوعي إثر قضية حريق الرايخشتاغ. وطبعا ليفوز هذه المرة بنسبة 43.9٪ الأمر الذي ساعده على فرض شروط تحالفاته وتعزيز تركيبة قواته في أجواء تصالح تضليلية ووعود بشأن حرية الكنيسة واتفاقات مع الجهات البابوية، مررت قانون التمكين ومزيدا من سلطة الاستبداد حيث الاتحاد بين السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتركيز السلطة بيد الأولى أو من يتحكم بها..
أذكِّر هنا بسلطة الطائفية وزعاماتها وارتباطاتها؛ كما أذكّر بالميليشيات وقدسيتها مقابل دور كتيبة العاصفة (الألمانية) وحصر الصلاحيات مع استبعاد الشركاء بألاعيب لفرض السلطة الفاشية (المنتخبة) حسب التصوير الساذج للديموقراطية… هنا بات هتلر الفوهرر مطلق الصلاحيات بلا منازع وبوجود حال من الهياج الشعبوي المريض سياسياً أودى إلى ما أودى إليه الوضع من تداعيات ليس لألمانيا حسب بل للعالم بكليته وأجمعه…
النموذج التركي وسلطته وطابع التهديد فيها
النموذج التركي مكشوف بمواقفه وفلسفته الإخوانية التي مثلت دائما أرضية خصبة لنمو قوى الإرهاب ودعمها لوجستيا مثلما جرى ويجري مع دعم تشكيلات ميليشياوية إرهابية من الدواعش والنصرة وفتح الإسلام وغيرها.. ولعل مرور متطوعي الدواعش عبر تركيا وعبور صادراتهم النفطية وتجارتهم في الاثار وغيرها؛ فضلا عن السلاح والعتاد الذي لا يمكن أن يصلهم من بوابة السماء تمطره عليهم، كل ذلك علامة تهديد أمن المنطقة والعالم…
ويمكن التذكير بحال الابتزاز الذي مورس مع أوروبا عبر دفع مئات آلاف بل ملايين اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي وابتزازه ماليا كيما يوقف الظاهرة.. وهو أيضا لم يدفع تلك الملايين بلا تستر على تمرير خلايا نائمة بينهم من عناصر إرهابية خطيرة… أوليس ذلك بتهديد للأمن في أوروبا والعالم!؟
النموذج التركي الإخواني ممثلا بالعدالة والتنمية بات يسفر عن وجهه في تعامله مع القوميات غير التركية وما ارتكب بحق الكورد وغيرهم من جرائم ومن سياسة قمعية لم توفر جريمة إلا وارتكبتها بقصد فرض الخنوع والركوع! وهو النموذج ذاته الذي يتابع تدخلاته في المنطقة بدءا بالعراق حيث قواته تسرح وتمرح بلا من يحاسب ويتصدى..
وليس بعيدا موضوع دعم الحركة الإخوانية بمصر حتى حولوا من رابعة من وكر ألاعيبهم إلى رمز التباكي تغذية لفكر الجريمة الإخواني الذي خرب ودمر في بلدان المنطقة بلا حدود… إنه يُظهر سلمية تضليلية ولكنه أس العنف والإرهاب إلى حد استغلال فرصة السنة المريضة بمصر لتصنيع فرق الموت والبلطجة التي باتوا يوظفونها اليوم بالاعتداء على الأمن والسلم الأهليين وفي هز الاستقرار وبيع المواقف لمصلحة طرف أو آخر بحسب مقتضيات ألاعيبهم الإرهابية..
إن الحركة الأخوانية التركية تريد أن تمرر عبر لعبتها التضليلية فكرة مركبة هناك لاستعادة سلطة إمبراطورية ماتت منذ أكثر من قرن… وهي تدفع بإمبراطورها رمزاً لمآربها بلا استحياء من الشعب أو من مجموع شعوب العالم الحرة…
إنّ فكرة تركيز السلطة بيد الزعيم على طريقة الفوهرر قطعت كل أشواطها قبيل الانقلاب ومحاولة تعديل المسار التركي من نبلاء القوات المسلحة.. ليأتي فشل الانقلاب ويمنح فرصة ذهبية لمهام التصفية الكارثية للخصوم السياسيين…
إن القوى التي وقفت ضد الانقلاب التصحيحي لم تفطن لتجربة ألمانيا قبل حوالي نصف القرن يوم كان إسناد حزب الوسط وآخرين لهتلر سببا في منحه أهم الخطى لفرض سطوته الفاشية وتدمير العالم الحر وتكبيده عشرات ملايين الضحايا…
إن عودة السيد أردوغان ليست بلا ثمن بل هي مكلفة إلى درجة لا تقف عند حدود التهديد بالإعدامات والمقاصل للخصوم بل هي الأرضية لاستغلال ذات اللهاث الشعبوي الذي استغله هتلر يومها ليتمكن من الوضع بطريقة استبدادية لن تجد فرصة لتفريغ عدوانيتها إلا على حساب الأمن والسلم في المنطقة والعالم…
ليس صحيحا أن الانقلاب كان ضد الدستور والديموقراطية .. مثلما ليس صحيحا قطعا أن يكون عودة السيد أردوغان وحزبه هو دفاع عن الديموقراطية والدستور.. ويفترض بالعالم الحر أن يكون مدركا للتداعيات ولطابع ما اتخذه ويتخذه زعيم الأخوان الترك تجاه العلمانية بوصفها سمة الديموقراطية الحقة وأرضيتها…
وإذا كان هتلر قد سوق لنفسه بمراحله الأولى بتوكيد التزامه بالقانون ودفاعه عنه وبالمرور دستوريا ديموقراطيا نحو السلطة فإن الأفق ذاته يجري اليوم ولكن بخطورة أكبر لأنه سيكون النواة للمقدس الانتحاري من أجل قدسيته الدعية التضليلية.. إن الفاشية الجديدة تنطلق من هنا من إعادة الاستبداد لسدة السلطة في تركيا.. وهذا يأتي على حساب الترك أنفسهم وعلى حساب العالم برمته وأولهم دول الجوار…
علامات وملاحظات
آلاف الضحايا بين قتيل وجريح كانوا مجرد قرابين للإمساك بسلطة وكرسي لمآرب أخطر وأكثر فظاعة وشمولا في الحجم.. ومرورا بآلاف المعتقلين من مئات الجنرالات وآلاف الضباط والجنود من جيش وشرطة ومعهم آلاف القضاة وقادة المجتمع المدني وأولئك الذين يحملون قيم القانون والسلم وكأن كل هؤلاء لا يفقهون ولا يمثلون حراكا شعبيا أدرك مخاطر اللعبة الجارية وأراد الحسم بطريقة وجدها مناسبة أمام انغلاق فرص الحلول (السلمية) الأخرى.. أي أن التوجه للعسكر لم يتم إلا بعد أن أشيع الاحباط والياس من التغيير باتجاه احترام الدستور والديموقراطية وحقوق الإنسان…
فآلاف تلو الأخرى تذهب ضحية سياسة عسكرتارية دموية همجية تجاه الشعوب التي تحيا في تركيا وتجاه العلمانية التركية وتجاه الديموقراطية في تركيا والخطى تتسارع بطريقة خطيرة لم يجد أحرار تركيا سوى التقدم للحسم ولكن ظروفا خارجة عن الحسابات دخلت على الخط لتغتال محاولة الإصلاح وتعديل المسار..
لعلنا اليوم، أمام نذير شؤم لتركيا والمنطقة والعالم حيث لا يرى بعض ممثلي الحرية والديموقراطية في الحركة الأخوانية سوى تعبيرا سياسيا سلميا بينما هم أنفسهم (أقصد حركة الإخوان) الحركة الفاشية النازية بعينها بل بشكل أكثر خطرا على العالم لما يسقطونه على حراكهم من قدسية إلهية مزيفة مدعاة…
إننا بحاجة لمراجعة مواقف أممية وإقليمية بما لا يسمح للأخوان بالتغول أكثر وبالانتقال إلى مرحلة التمدد الإقليمي وتهديد العالم.. فهلا تنبهنا إلى المجريات بطريقة ملائمة تتصدى لمخاطر ولادة نظام استبدادي يحضر للفاشية الجديدة؟
ولهذه القراءة ما يناظرها طبعا بدول المنطقة تنفتح فيها مخاطر بلا ما يلجمها حيث اتساع هوجاء التغول بالاستناد إلى خطاب التهييج والانفعال واستغلال الشعبوية والقيم التي تدعي قدسيتها الدينية المتوهمة وهي بالأساس ليست أكثر من خطاب الخرافة والدجل والتضليل..
المخاطر ذاتها موجودة بالسكوت على وجود الميليشيات المرادفة للأحزاب وقبول تبريرات وجودها بل الإيمان الساذج بقدسية وجودها على ايةي خلفية تبريرية حملها هذا الطرف أو ذاك بينما الواجب يتطلب نداء شاملا لإنهاء وجود الميليشيات بكل أشكالها وإعادة ضبط بنى الدولة المدنية وعلمانيتها وقوانين مؤسساتها ولوائحها…
إن الفاشية (الدينية) قادمة وستكون موئل الحرب الكونية التدميرية الشاملة إذا ما استمر التساهل مع وجود هذه الأنظمة أو استمر التعامل معها بذات التساهل القائم بل الداعم لنهجها المرضي الكارثي المعادي لقيم الديموقراطية والتقدم والتنمية البشرية…
هذه مجرد تداعيات تنتظر وقفات تحليلية أعمق وأشمل لفضح ما يجري بالتفصيل