في محاولات عدد من المنظمات المدنية والحقوقية صياغة موقف محدد وكتابة أو رسم خطاب بعينه تجاه ما يجري من أحداث، تجابه تلك المنظمات مشكلة في الصياغة. والمشكلة ليست في الصياغة بحد ذاتها ولكنها في أعضاء تلك المنظمات ودرجة وضوح الرؤية من تشوشها تجاه حال التداخل بين قوى الطائفية والمؤسسة الرسمية الحكومية المهيمن عليها. كما أن هذا يرجع إلى أن الحركة السياسية الوطنية الديموقراطية لم ترسم حتى هذه اللحظة خطابا برامجياً استراتيجيا وتكتيكيا للوضع بكليته وشموليته؛ فهي مازالت تستند إلى شعارات لا لثلاثي (الطائفية، الفساد والإرهاب) التي تجسد رد الفعل لا الفعل.. وهي تردد أنها البديل المدني الديموقراطي وهويته الوطنية والإنسانية ولكن من دون وجود محدد برامجي و\أو شعارات مصاغة بدقة وسهلة الحفظ والترداد، وطبعا هذا ما لم تصل إليه الحركة المدنية بسبب حجم الشوشرة والتشويش والتضليل وعدم ظهور قيادة وطنية موحدة والخشية من عقد التحالفات على خلفية تجاريب سابقة وعلى خلفية تداخلات مرضية قائمة وعمق التمترس الانعزالي بين الأنا والآخر من قوى الحركة الوطنية بعد كل الأخطاء المرتكبة فيما بينها.
إنّ ظاهرة الخشية من صياغةٍ قد تورط من يشارك بتبنيها، في شبهة دعم قوى الطائفية سواء بجناحها المهيمن على الحكومة وأدائها وبرامجها أم ذاك الموجود على مقربة من قوى الإرهاب÷ هي ظاهرة تشمل كثيراً من المنظمات وتشمل كثيراً من الشخصيات الناشطة في المجالين المدني والحقوقي.
حتى بتنا أحيانا أمام مظاهر شلل فعلي عملي في إصدار بيان أو كتابة حملة بخاصة تجاه أنشطة الحكومة بميدان استعادة المحافظات والمدن المستباحة من قوى الإرهاب الهمجية الظلامية. إذ أن تلك المهام صارت تتضمن باستمرار مشاركة قوى مسلحة من خارج الدولة ومؤسسساتها الرسمية ما يسمح بخروق خطيرة تمارسها ميليشيات الطائفية بأجنحتها كافة وعلى طرفي خنادق احترابهما.
ولهذا ما أن يصدر بيان لمنظمة مدنية و\أو حقوقية حتى نجده (مضطراً) لصياغة التمهيد المطول بشأن الموقف السياسي قبل أن يدخل في موضوعه الخاص بخطابه المدني والحقوقي؛ هذا كي يضمن إيصال موقفه من دون تشويش يتعرض له من هذا الطرف أو ذاك من أطراف تجسد أجنحة الطائفية وصراعاتها الدموية…
وفي الموقف من معركة الفلوجة، على سبيل المثال، نجد الجهات الحقوقية تخضع لضغوط الخطاب العام السائد الذي أشرنا إليه. ولكي تصدر بيانا حقوقيا ينادي المجتمعين المحلي الإقليمي والدولي كي يساهموا بدعم جهود الإنقاذ الإنسانية بسبب حجم ما ينتج عن مفردات الحرب وآلامها، تضطر تلك المنظمات أن تمهد بكليشة مطولة قبل كتابة سطر يجسد النداء والاستغاثة الإنسانية! بينما لابد من التذكير بأن الحكومة نفسها مضطرة لطلب الإعانات العاجلة في مثل هكذا ظرف ولا حرج.
وأكثر تعقيداً عندما تريد جهة حقوقية كتابة أو صياغة إدانتها لما يُرتكب من انتهاك بحق أبناء المدينة فإنها بحاجة لمقدمة مسهبة عن تمسكها بدعم بنى الدولة ومؤسساتها واشتراط تمسك تلك المؤسسات بمهامها القانونية الدستورية بأسس وطنية إنسانية وبأن تمنع الميليشيات وعناصرها عن ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وترفض الذرائع الثأرية والانتقامية! بمعنى وقف الجريمة ومنع التعكز على حجج أنها تتم من عناصر أو ميليشيات وقحة أو منفلتة أو أي مسمى آخر! فالمهمة يجب أن تنحصر بيد الدولة وأن تمع وجود قوى مسلحة خارجها
ولكن الحقيقة تكمن في كون الحكومة تهيمن عليها أحزاب الطائفية وهي التي تسمح بوجود أجنحتها المسلحة خارج سلطة الدولة والحكومة المهيمن عليها.. وعلى أن نسمي بالتحديد وبالأسماء المباشرة الصريحة، من الذي يسمح أساسا بانفلات تلك العناصر؟ ولماذا توجد جهات لا تخضع للقيادة الحكومية الرسمية؟
وبكشفنا الحقيقة سنجيب عن تساؤل: لماذا نقبل بخطاب طائفي يسطو على المشهد العام ويتحكم بالحكومة نفسها؟ وأن ننتقل بخطابنا إلى الإجابة الحاسمة الحازمة عن سؤال: لماذا نبقى بحال صياغة خطاباتنا على أساس الحدث الآني المباشر وملاحقته بعد وقوعه؟ وعن سؤال: لماذا لا تكون الحركة الوطنية مبادرة وصاحبة خطاب مصاغ بدقة وموضوعية وحسم وبوحدة تشمل قواها جميعا؟ عندها يمكننا أيضا أن نجيب عن سؤال: لماذا لا تكسر المنظمات المدنية و\أو الحقوقية حاجز الخشية وتكتب خطابها من منطلق التركيز على مهامها؟
هذه التساؤلات لا تقصد إلغاء الحذر في الصياغة، لأن واقعنا المشوش، والأسر الذي وقع ويقع فيه مواطنونا لحجم التضليل (الطائفي) السائد، ذلكم هو ما يفرض وجود التوضيحات المطولة قبل التوجه لمطلب إنساني أو حقوقي بعينه.. ولكن تساؤلاتنا تتجه إلى كشف الضعف السائد في الحركة السياسية الوطنية والإقرار به…
ولعل الإقرار بهذه الحقيقة سيدفعنا إلى اتخاذ موقف حازم وحاسم تجاه ذاك الضعف أو تلك الثغرة والتعامل معها جوهريا بالبحث عن أسس اتفاق شامل للحركة الوطنية (المدنية) البديل للطائفية ومن ثم لكسر حواجز الشلل من جهة وقطع الطريق على تشرذم في الصياغة وهزال يريد عيره كل طرف الهروب من المجابهة الواجبة فيضع صياغته الخاصة كي لا يبدو أمام بيئته المباشرة قد وقف موقفا نقيضا فيفقد تلك البيئة! أي ليبدو مستجيبا للهاجس المرضي الداخلي القائم على الخشية من تهم التورط بما هو سائد من احتراب
لنمتلك الشجاعة في مغادرة البيئة المرضية وطابع الخشية من التهم الجاهزة ولنقدم خطابنا الوطني المدني الحقوقي المصاغ بمشتركات توحدنا مرةً ولا تجعلنا بحاجة في كل مرة لتكرار مواقف فردية شخصية وأخرى شللية وكل مع مجموعته وبيئته؛ الأمر الذي خلق ذاك التمزق والتشظي والتشرذم وما يزال يفرضه رغم النيات الطيبة للجميع في محاولة التغيير وفي التطلع للبديل لكن كلٌ يتطلع إلى بديل بصياغته المتأثرة والخاضعة لضغط خطاب الانقسام والتشظي!!!
إن هذه القضية بحاجة لوقفة مع أنفسنا جميعا وربما لا توجد إلا استثناءات يسيرة قليلة نادرة ممن تعصمه شجاعته وجرأته وعمقه الفكري الفلسفي التنويري تجاه تلك الحقيقة.. وعلينا أن نوقّع معا وسويا على خطاب موحد يؤكد تمسكنا بمؤسسات الدولة بشرط تعبيرها عن العمق الوطني الإنساني وبخطاب مدني لا طائفي وعن رفض ثابت ونهائي لكل أشكال الطائفية وخطابها المتمترس خلف جناحيها المعبرين عن جوهر (طائفي) مرضي واحد..
خلا ذلك لتتحدث الحركة المدنية والحقوقية عن مطالبها التي تتبناها لمصلحة أبناء الشعب بلا تردد، بلا خشية، بلا مطولات تبريرية فهي ليست بحاجة للتبرير…
وبقدر ظهور تلك المقدمات االتوضيحية ينبغي أن تبقى بحدود الوصول إلى الجمهور وليس مغازلة بيئة شللية أو طرف انتماء مذهبي ديني أو فكري أيديولوجي لأن المرحلة تحمل جنين وحدة الحركة الوطنية بقوى ربما تتناقض فلسفيا في فكرها السياسي ولكنها اليوم معنية بتجنيب الشعب صراعات التمترس والتخندق الطائفي وتلكم هي المهمة الأولى الآنية والعميقة الجوهرية.
أيتها السيدات، أيها السادة من العراقيات والعراقيين
تذكروا حجم مسؤولياتكم ليدرأ كل منا عن نفسه رغباته الخاصة وطابع تعبيراته الفردية الشخصية وتلك التي تعود إلى انتمائه المباشر وليقدم كل منا أولوية الهوية الوطنية وعمقها الإنساني كي نتقدم خطوة فعلية باتجاه بناء دولة مدنية ننشدها..
هنا بالتحديد هو الخطاب المؤمل؛ إذ لا يغير ما بشعب من أمر وواقعة وظروف حتى يغيروا ما بأنفسهم ويتوحدوا على خيارهم ليبنوا جنان وجودهم.. ولن تقوم جنة أو يبنى دار ووطن بفرض سلطة مكون على آخر أو بالحقيقة سطوة ميليشيا جناح على الوضع العام… وعلى الجميع بضمنهم المكون المدّعى تمثيله من تلك القوة الميليشياوية.. ولنتذكر أنه ليس حرا من يقبل ويساهم باستعباد الآخر وسيكون هو أيضا مستعبدا لجهة من يستغله في خطاب الاستعباد..
لقد عبرت البشرية زمن الأحادية، ولايمكن لها اجترار أمراض تلك الأحادية مجددا لأي سبب كان فطابع البشرية هو التعددية والتنوع فكيف بأي طرف منا يرى بوجوده الأحادي أنه على صواب مطلق والآخر على خطأ مطلق! إن هذه الأحادية هي الجريمة وهي الخطأ الجوهري في وجودنا فلنتخلص منها ونوحد صفوفنا على أساس احترام تنوعنا وتعدديتنا وهو المقصد بالجوهر الإنساني لوجودنا الوطنيحيثما استخدمناه في كتاباتنا…
وبالانتصار لهذا الجوهر الإنساني عندها ويومها فقط لن نكون بحاجة لمطولات التبرير وسنختار صياغة وبرامج عمل تجمعنا وتوحدنا وتنتصر لأنسنة وجودنا..
وبقدر تعلق الأمر بنموذجنا الذي أشرنا إليه ممثلا بالفلوجة واي خطاب نتحدث به عنها، نقول: بلى نحن مع استعادة سلطة الدولة في الفلوجة وهي مقدمة لاستعادة كل الأرض العراقية ويوم يتحرر أبناء تلك المناطق المستباحة بأسس وجود دولة مدنية تحترم الإنسان، سيعمل أبناء الوطن معا وسويا لتعزيز منطق ملء مؤسسات هذه الدولة بالجوهر الوطني الإنساني وطبعا وبالتأكيد في رفض كل شكل للأحادية ولصرخات الطائفيين وما يبتغون اختلاقه من خنادق التحارب والتقاتل.. وكلنا أخوة وطن وإنسانية. الأمر الذي يفرض أن نكون بالحد الأدنى، بأغلبيتنا، ولا نقول بكل وجودنا بالمطلق، مع بناء دولتنا المدنية وعمقها الإنساني وآلياتها الديموقراطية..
لنوقف خطاب التمترس والانقسام وإدامة جرائم الثأر الطائفية الهمجية كما همجية كل إرهابي وما ينتمي إليه من فكر معاد لأنسنة وجودنا. ولنتذكر تساؤلا في أنفسنا؛ مافرقنا عن الإرهابي الذي يتمترس خلف الدروع البشرية من المدنيين الأبرياء فيما فينا من يتورط بذات الجريمة التصفوية الدموية الأبشع بالتقتيل على اساس الثأر الطائفي!؟
إنّ هذا الوضوح بخلفية الفكر السياسي الذي نستند إليه، يمنحنا فرص صياغة خطابات حراكنا المدني والحقوقي بلا تردد، بلا خشية كما أكدنا ذلك للتو.. لنُنهي حال التشرذم القائم على تأثرنا بضغوط الآخر الطائفي والخشية المتسربة إلى ذواتنا من التهم الجاهزة المعدة للتسليط على رقبانا وعلى خطاباتنا .. لمناكل الجرأة بالتوقيع على بيان وحملة وتبنيهما بلا تردد وتأثر يضعفنا ويشل مبادراتنا
دعونا نجدد التوكيد على خطاب يوحدنا بلا خشية وحينها يجتمع أهلنا حول هذا البرنامج وينفكون جميعا من التمترس المرضي خلف زعامات الوهم الطائفي، ليلتحقوا بسفينة نجاة نقودها بفكر تنويري ساطع.. وكفانا محاذير تورط الناس في الانقسام أكثر مما تدافع عنهم.