هذه المعالجة أكتبها برؤيتي الشخصية وتجربتي المتواضعة وهي لا تفترض صواباً مطلقا عندها، ولا تخوّن أحداً كما أنها لا تتهم طرفاً لا حزباً ولا منظمة ولا شخصية في أمر ولكنها تسعى لتنضيج رؤية موحدة في أفضل السبل التي يمكنها أن تنظر إلى الوضع بصورة أكمل واشمل لتضع المعالجة الأنضج والأنجع.. وقد كتبتها غب تكرار اقتحام مؤسسات رسمية سيادية ليس من منظور شرعية تلك المؤسسات ولا من منظور إهانة سيادة ولكن من منظور تجنيب الخطى احتمال الوقوع بمصيدة من يخطط لانفلات الأوضاع والانزلاق إلى ما هو أسوأ وأكثر انحدرا وتراجيدية في الوقاع العراقي ربما يلغي هذا الوجود بعراقته وجذور ما شاد من حضارة وبعمق بنية الدولة العراقية الحديثة لحوالي القرن .. هلا وجدنا فرصة للحوار والتنضيج حتى وإن كان من دون توافر فرصة الاجتماع أو عقد المؤتمر الوطني؟
بدءاً أود توكيد موقفي الثابت ضد حكومة الطائفية ونظامها الكليبتوقراطي الذي أفسح المجال واسعاً لجرائم الإرهاب واستباحته الشعب الوطن. وبأنني مع بديل يتجه بالبلاد نحو بناء دولة مدنية تحترم مواطنيها وتلبي مطالبهم وتحمي مسير التنمية والتقدم بما يخدم الشعب بلا تمييز بين أبنائه. ومن ثمّ فأنا أؤمن تماماً بأهمية الحوار الموضوعي الهادئ القائم على احترام النتيجة التي يخلص إليها المتحاورون بوصفها أنجع الحلول والبدائل. وفي ضوء الظروف والتعقيدات الجارية لابد من البحث عن أفضل سبل التغيير بأقل التكاليف التي تقع على كواهل الفقراء، بخاصة مع تمترس قوى الطائفية المهيمنة في خنادق تمعن في التمسك بالسلطة وآليات اشتغالها الكارثية على حساب التهدئة والموضوعية ما يدفع باتجاه تفجرات تتفاقم المرة تلو الأخرى. غير أن هذا يبقى أدعى إلى سيادة الحكمة في الحراك وفي رسم خطاه السلمية من أجل تحقيق التغيير المتطلع إليه من قوى المجتمع الحية، كما أشرنا للتو بأفضل السبل واقلها تضحيات وتكلفة بشرية ومادية.
ومن المؤكد فإنني شخصياً، كنتُ وأبقى مع الحراك الشعبي بهويته المدنية وتطلعاته باتجاه هذا الهدف النبيل السامي. ولكنني في الوقت ذاته أجد أنّ من واجبي كما واجبات جميع قوى الحراك المدني، إبداء الملاحظات في خطى هذا الحراك اليوم، وشخصياً، مثلما جهود جميع أطراف الحراك وشخصياته، أبقى باستمرار على مقربة من قادته الوطنيين والميدانيين.. وملاحظاتي المتواضعة، هي بعامة ملاحظات تنتظر التفاعل وعبر نتائج مناقشتها فقط، تصل إلى الصيغة الأدق في شكلها ومضمونها…
ولابد لي أيضا أن أؤكد عظمة الحركة الاحتجاجية التي بدأت عفوياً في انتفاضة مطلبية وعلى سلامة استمرارها وإدامتها.. إلا أن تلك الحركة الاحتجاجية المدنية وقعت منذ البداية بعدة مطبات كان منها مطب الفصل بينها وبين قيادتها الوطنية، عندما انتهجت قوى وطنية آلية البقاء بعيداً عن الحراك وتركه يشتغل بعفويته في انطلاقته المطلبية الأولى وفي تطوره ونموه التالي وتحوله إلى المطالب السياسية القاضية بإحداث الإصلاح ثم التغيير باتجاه التطلع الاستراتيجي في بناء الدولة المدنية، بوصفها المعالجة الجوهرية؛ مبررةً ذلك مرة بالاحتفاظ باستقلالية الحركة ومرة بالخشية من التجيير لحزب أو آخر غيينحسر المشاركون!؟ ولكنها جميعا تبقى مبررات لم تستقم يوماً ولا يمكنها.
صحيح أنّ تلك القيادات الوطنية بتنوعها كانت على مقربة من هذا الحراك بشكل غير مباشر إلا أنّ تلك الآلية التي انتهجتها بعدم توفير فرصة وجود قيادة وطنية موحدة للحراك، منحت فرصة للفصم بين الرأس والقيادة الوطنية المؤثرة الفاعلة التي تباشر مهامها من وسط الجماهير من جهة وبين تلك الجماهير التي وقع قطاع منها بالاحباط مع استمرار الحراك مستنداً إلى (الإدارة الميدانية) مجسدةً بشخصيات أفرزتها التجربة من وسط الجموع المحتجة. ولابد من التوكيد على حقيقة تلك القيادات الميدانية كي لا تفسر الأمور بطريقة ملتبسة؛ إنها شخصيات لها باعها وجهدها ومكانها ومكانتها التي لا يمكن إنكارها وهي بجميع الأحوال لم تدَّعِ كونها بديلا للقيادة الوطنية وقد واظبت بنكران ذات على أداء مهامها الميدانية في تنسيق الحراك إلا أنها لم تستطع سد مسد وجود القيادة الوطنية الموحدة للحراك الشعبي ميدانياً..
لقد فرض هذا الانفصام على القيادات الميدانية أن تتحرك على وفق إمكاناتها فعقدت أنشطتها ومنها عقد صلات وحوارات مع زعامات أجنحة في تيار مهيمن على الحكومة ونظامها الطائفي الكليبتوقراطي.. وبغض النظر عن مجرى تلك الحوارات.. وبصرف النظر عن خلفية الإرادات وتناقض المستهدفات، فقد ظهرت هفوات بعضها خطير جداً، نجم طبعاً عن ترك الأمور تتجه بتجاريب آنية بلا خلفية برامجية مرسومة محددة، كما تقتضي الحركة الاحتجاجية في بعديها الاستراتيجي والتكتيكي.
وقد ولجت الأمور خوانق غير طبيعية من قبيل المشاركة بقرارات غير معروفة الخلفية والأبعاد، بل تفصح عن دواعٍ ترتبط تماما بمستهدفات جناح من تيار الطائفية. ويوم قفز إلى المشهد قرار زعيم الجناح بدخول المنطقة الخضراء دخلت بعض قوى (مدنية) معه ويوم خرج خرجت معه.. ثم عاودت الكَرَّة مجدداً باقتحام مبنى البرلمان وثانية أو ثالثة باقتحام مبنى الحكومة..
فهل كان صوابا مثل هذه المشاركة بتلك الأنشطة الميدانية، تحديداً في اقتحام المؤسسات السيادية للدولة؟ عليّ قبل الإجابة أن أؤكد أن التفاف قطاعات من فقراء الوطن خلف تلك الفعاليات بات مفتوحاً بسبب وحيد يكمن في إصرار قوى الطائفية على لعبتها وعلى تمسكها بعنجهيتها ورفضها التفاعل مع المطالب الشعبية.. لكن من جهة أخرى، ويبدو لي برأيي المتواضع أن الضغط (المدني) على الحكومة لتغيير نهجها (الطائفي) لا يأتي بالأعمال المغامِرة غير المدروسة بخاصة منها تلك التي لا تنظر للوضع العام وما يحيط به من ظروف وتأخذ بنتائج التفاعلات الميدانية لأفعال الاقتحامات لمؤسسات الدولة وما ((قد)) تجلبه من انزلاقات غير مسيطر عليها ولا توجد استعدادات كافية اليوم لمجابهة ثمار المتغيرات المتأتية بوجود جناح طائفي يمتلك ميليشياه من جهة وفلسفته المتخمة بالتحريم والتكفير والمصادرة والمرجعية التي تُسقِط على نفسها قدسية تستعبد الناس وتستصغر الشعب.
إنّ قوى الحراك المدني يجب أن تقرأ هذه الأمور ووضعها العام بدقة وموضوعية وهدوء، فهذا الوضع تتحكم به قوى الطائفية بوساطة أذرعها المسلحة من ميليشيات وتشكيلات معروفة الممارسة؛ أي أنها تسطو على المشهد العام عبر تشكيلات تتقاطع وتتناقض مع بنى الدولة المنشودة.. وأذكّر بأن أجنحة الطائفية، يهيمن كل جناح منها، على ضاحية ومدينة من العاصمة بغداد. يُضاف إلى هذا انفلات أمني، سواء كان مصطنعا من بعض أطراف الهيمنة أم بسبب الإهمال وفشل الأجهزة المعنية أم بسبب الخروق التي يحققها الإرهاب، فجميع تلك الدواعي تصب في تشكيل انفلات خطير يُنذر بكوارث أعتى وأكثر كارثية.
فهل من الصحيح بعد هذا وفي ظل مثل هذه الصراعات الطائفية وما أفضت إليه من انفلات أمني شامل أن تتجه قوى الحراك المدني لتشارك جناحا طائفيا مهمة اقتحام مؤسسة سيادية؟ ألا يضيف مثل هذا الفعل اضطرابا وخدمة مجانية لقوى الطائفية والإرهاب في تعزيز طابع المشهد واضطرابه ليؤكدوا ذرائع وجود تلك القوى المصطرعة عبر آلية البعبع الذي يتصدى له كل جناح طائفي بالإشارة إلى شرعنة الوجود الميليشياوي، أو التشكيلات المتعارضة والدولة وبناها وآلية اشتغالها المدني القوانين!؟ إنّ طرح هذه التساؤلات لا ينطلق من موضوع (الشرعية) الدستورية؛ ولا من (سيادة) الدولة وهيبتها ولكنه ينطلق من منطق دراسة التوازنات والاستعدادات للتغيير وحسمه لالح الشعب لا لصالح جهة أو جناح طائفي كما هو بادٍ في الأفق المنظور للمتمعن في تهديدات التشظي والانقسام!
حسناً، لنعيد التساؤل من موضع آخر: هل يخدم اقتحام مبنى البرلمان أو الحكومة أو غيرهما مهمة التغيير من الطائفي إلى المدني؟ هل يضغط على قوى الطائفية أم يتيح لها مزيداً من دواعي التعكز على وجود البعبع المفضي لشرعنة التوسع بالوجود الميليشياوي وبلطجته؟
إنّ المسؤول الحكومي في الحركة الطائفية ليس سوى واجهة للهيمنة على الدولة بينما العنصر الرئيس في البنى الطائفية وهياكلها وما يستند إليه (الطائفي) ليس سوى الميليشيا المسلحة وزعاماتها ومعها مرجعياتها التي تمدها بالدعم اللوجستي وهو في كثير من الأحيان يأتي من خارج الحدود بكل ما فيه من أجندات مرضية تتقاطع ومصالح الشعب العراقي.
وعليه فالضغط بطريقة إشاعة الاضطراب ليس ضغطا لمصلحة التغيير من طائفي إلى مدني بقدر ما هو خدمة جليلة لفلسفة الطائفية وآليات وجودها مثل ذلك مثل محاولات جر الحراك (السلمي) للعنف لكي يُقضَى عليه بالعنف المسلح..
إنني باختزال وكي أحصر معالجتي هنا بهذه الفقرة، أدعو بنداء يستصرخ الضمائر الحية والعقول العلمية وفكرها التنويري للتنبه على المجريات وعدم الاندفاع وراء تحليلات ومعالجات مستعجلة ربما يفوتها أن تنظر بدقة وموضوعية ترى الصورة بشموليتها؛ بالتأكيد ليس لخيانتها ولا لعدم حرصها ولا لاختلافها في الهدف ولكن لضغط الواقع المعقد ولافتقار للتداول والمراجعة في معمان المعركة السياسية المحتدمة بكل احتقاناتها وطبعا لعدم الربط بين القيادة الوطنية الموحدة والقيادات الميدانية ولاكتفاء بعض الميداني برؤية فردية أو اخرى بوجود الثقة بالنفس وبمصداقية التمسك بالهدف..
لكن الأمور لا تؤخد بصدق النوايا وسلامة الضمائر والاستناد لتحليل أو آخر بل تستند إلى مفاعلة كل الرؤى والمعالجات والاتصال المباشر بمرجعية قيادة وطنية موحدة تكون القيادات الميدانية جزءا حيوياً فاعلا فيها.. وثقتي بهذه اللحظات الحرجة، أننا جميعا بلا تخوين ولا حتى توجيه اي اتهام بل بتعزيز الثقة بين جميع أطراف الحراك المدني، نحن بهذه اللحظات بحاجة للقاء والتداول والتفاعل واتخاذ القرارات الأنجع والأكثر صوابا في تفاصيلها…
لا ينبغي الاكتفاء ببرقيات ترسل عبر الأثير من خارج الحراك، من قبيل ندعو للتمسك برباطة الجاش وعدم المساس بممتلكات الدولة ومؤسساتها، والتضامن لاحقا لهذا النداء مع الضحايا.. يجب أن تكون القيادة الوطنية الموحدة موجودة عن كثب في الميدان. تباشر مهامها ليجري توجيه الحراك بخطى محسوبة غير مغامرة ولا تسمح بوقوع نكبات وكوارث جديدة على كاهل الشعب المبتلى..
أيتها العراقيات.. ايها العراقيون
كونوا على أهبة الاستعداد، أما للتوجه نحو تغيير تشتركون في صنعه معاً وسوياً وبجميع فئاتكم وتياراتكم أو الانزلاق إلى مرحلة أخرى مصنوعة من خارجكم وبأجندات ليست أجنداتكم وتكون هاوية سحيقة أكثر ألما ووجعا وربما فناءً!!! ويومها، لات ساعة مندم.