هذه المعالجة لا تتحدث قطعاً عن قضية الإيمان بالله أو بمعتقد ديني بعينه. فتلك قضية روحية تبقى بثبات ورسوخ بيد الإنسان نفسه يقررها في ضوء حقه وحريته في الاعتقاد الديني المكفولين بالقوانين والمواثيق الحقوقية الأممية، التي كفلت أيضا حماية الحق بممارسة طقوسه الدينية وتنظيمها بما يحترم حق الآخر في معتقده ولا يتجاوز على حريته وحقه هو الآخر. ولكن هذه المعالجة تحاول التذكير ببعض آليات قوى الطائفية السياسية في التحكم بالجمهور مستغلة الدين غطاء لحراكها وفسادها، وأوضّح هنا مفردات معالجتي، بتسليط الضوء عليها عبر زاوية المواطن وأوضاعه وظروفه التي تضعه بين يدي المفسدين من قادة الطائفية السياسية ممن يرتدي عمامة التخفي والتستر السياسي وعباءة التضليل والدجل…
ففي ظل الطائفية السياسية، تنحدر الأوضاع الاقتصادية إلى قعر الهاوية بسبب من إقصاء المتخصصين في تدوير عجلة الاقتصاد بخطط موضوعية سليمة.. وتتفاقم الأوضاع لتسفر عن ظواهر الفقر والبطالة والشلل بقطاعات الاقتصاد الصناعية والزراعية وغيرهما. لتبقى حصراً منافذ العمل الاقتصادي الريعي بالتحديد، تلك التي يمكن عبرها يمكنهم نهب ثروات الوطن والناس بأعلى وأسرع ما يمكن.. وتتشظى الأوضاع في صراعات مختلقة على أساس بعبع التهديد القائم على تقسيم المجتمع بين معسكرين متضادين، مع اختلاق أدوات مرافقة لتلك الصراعات الدموية بالإشارة هنا إلى الميليشيات وتوابعها من عناصر البلطجة.
وأبعد من هذا وذاك ينتشر وباء إفساد المجتمع على أسس إشاعة الجهل والتخلف وتشويه ما يتبقى من أشكال التعليم وإمراض الثقافة الشعبية بنشر قيم مضللة وتمرير مفاهيم الدجل والخرافة وترقيتها لمستوى البديل عن قيم التسامح الديني ويجري التعتيم وأشكال الحصارات على أية محاولة للتنوير الفكري الذي يجري حظره بمختلف الأساليب، وما يبقى مقاوماً موجوداً يفعّلون آليات تجييره لعبثية ألاعيبهم.
في مثل هذه الأجواء يكون الفرد تحت ضغوط استثنائية في تفاصيل يومه العادي. فلا أمن ولا أمان له ولا استقرار ولا طمأنينة على مصادر رزقه وعائلته ولا وجود للسلم الأهلي فهو مطلوب للموت بأية لحظة ومن أيٍّ كان؛ فكل ما يحيط به يشي بصراعات مافيوية وأعمال إجرام وبلطجة تدفعه إلى اتخاذ إجراءات حماية حياته ووجوده وعائلته تقوم على مبدأ شعوره الدائم بافتقاد الثقة بالمطلق بمحيطه حتى لأقرب الناس إليه، إنه يحيا وسط ميدان اسمه حرب الطائفية التي تخترق حياته الفردية والجمعية، تلك الحرب التي تضعه ببركة آسنة من الفساد المطلق.
دعوني هنا أصف بعض تفاصيل ما يصيب الفرد في ظل مثل هذه الأجواء التي اختزلتُها. وأول تلك الصفات هي تلك التي يشعر بها المرء أنه بات تحت رحمة من يسمون أنفسهم رجال دين من ساسة الطائفية مالكي كراسي السلطة، بوصف تلك الكراسي من بين غنائمهم يتحكمون بتوزيع الفتات منها على أتباعهم. وهؤلاء من حديثي الثراء المالي المتأتي من السحت الحرام يصورون أنفسهم بأنهم معصومون مقدسون يمثلون الله المقدس على الأرض حصرياً ومن ثم فسلطانهم ليس على أرزاق الناس وأمنهم بل وعلى رقابهم يمتلكون حق قطعها وقطف الرؤوس متى شاؤوا أو قرروا وبلا محاكمة ولا ذنب ولكن خدمة لمآرب متخفية…
إنّ مثل هذا يخلق سمات الانكسار والاحباط وحالات العزلة والابتعاد أو الانقطاع عن الآخر بما يوقف العلاقات المجتمعية السليمة بأي وجه ولا يُبقي منها سوى على علاقات المصلحة والنفعية الآنية العابرة. إنّ الفرد في ذاك المجتمع تتشوه عنده القيم بخاصة وهو يُحاصَر بظواهر الجهل والأمية والتخلف وإحالة التعليم والثقافة العامة إلى مجرد آلية لإشاعة القيم السلبية ومفاهيمها القيمية الرديئة ومن ثمّ توكيد واقع أحادي يقوم على الاعتقاد بالخرافة ورؤى الدجل والدجالين..
وهنا لا يبقى أمام هذا المواطن سوى مرجعية تفرض عليه منطق تشكيلات ما قبل الدولة الحديثة، بوصفها آلية حماية وعطاء النزر اليسير مما يحتاجه لتفاصيل يومه العادي. فلقمة العيش بيد صاحب الجاه والسلطة ومن يملك بلطجية يغلفها بخطاب التخفي بمسمى ميليشيا مقدسة تضحي من أجل ما يسميه المذهب والدين والمقدسات. والمواطن بعد ذلك، من جهة يريد تجنب البلاء وأشكال الإيذاء التي يمكن أن تقع عليه من مراكز القوى الميليشياوية التي تبسط سلطتها على نظام المحاصصة واقتسام المناطق وسكانها قطعان يتملكونها ويستعبدونها.. ومن جهة أخرى يريد عملا ومصدر لقمة عيشه وتلبية مطالب عائلته..
فلقمة العيش في ذاك الواقع الذي تحكمه رؤى الطائفية وعناصرها المفسدة لا تأتي وليست مضمونة مكفولة من دون آليات الفساد المتحكمة بشكل شامل بالمجتمع ومؤسساته الرسمية وغير الرسمية.
والمواطن يحيا منفصماً بين أن يشترك بآليات الفساد بكل تفاصيلها باحثاً عن الجاه والمنصب الذي يحمي يومه ويمنحه بهرجة تستجيب لما بات يؤمن به وسط هذه الأمراض المجتمعية التي سادت وبين أن يزدري الحياة ليحيا بوهم الآخرة التي يصورونها له بعبعاً يطارده في آثامه وسط حياة فاسدة بكل ما يدور حوله ويعيش تفاصيله.
إن هذا المواطن المبتلى بمطحنة الآلة الجهنمية وباستغلاله الأبشع، لا يستطيع الفكاك من حلقات ودوائر متوالدة مثلما مويجات المياه الساكنة عند رمي حجر فيها.. فنظام الفساد الطائفي يضعه باستمرار أمام دوائر التهديد تشكل كل منها بعبعا ضمن الدائرة الأشمل والأوسع التي تفرض الخشية والرعب من البعبع الطائفي وحربه التي تلتهم يوميا العشرات والمئات من الأبرياء!
هذا المواطن المستلب المصادر والمستغل بكل شيء، يجري تجهه الآتي من نظام الفساد الطائفي وهذي بعض المجريات وليس جميعها ومنها:
- قطع التعليم الحديث عنه.
- التجهيل المعرفي والثقافي.
- إصابته بأمراض التخلف.
- استبدال اعتقاده الديني بالخرافة وإيمانه بالله بالممثل الحصري لله أو بالمرجع المعصوم.
- إصابته و\أو الفرض القسري لقيم الفساد عليه.
- ابتزازه بعاقبة الآخرة إنْ هو تعرض لرجال الطائفية المجللين بالقدسية والعصمة بوساطة عمامة التخفي وعباءته.
- ابتزازه ببعبع الطائفية وصراعها الأبدي بين قطبيها وجناحيها وما لهما من قصص تاريخية مختلقة.
- ابتزازه في مصدر عيشه، عمله أو وظيفته، حيث لقمة العيش لعياله.
- ابتزازه في أمن عائلته وتهديده في حياته، إذ هو معرض لحكم الموت بأية لحظة بقرار السيد.
- تكسير كل ما بداخل هذا المواطن من مصدات نفسية روحية وخلق حالات الاحباط والانكسار النفسي الروحي القيمي.
- تكسير أية فرصة للثقة بالآخر حتى أقرب المقربين الأمر الذي يدفعه إلى اعتزال محيطه..
- كما يدفع هذا المواطن كرها إلى الإبقاء على علاقات المصلحة الآنية العابرة.
- وربما يدفع بكثير إلى مبدأ: أتغدى بالآخر قبل أن يتعشى بي، بما يختلق آليات الغدر والخيانة..
- ويخلق بلعبة بعبع التمثيل الحصري لله ودينه روح العداء والتكفير ومبدأ استباحة الآخر وإيجاد تبرير لأطماع المتحكمين الطائفيين الفاسدين في استعباد الآخر وإذلاله، وبتنا نشاهد جرائم النهب لأملاك الآخر والأنكى جرائم الاغتصاب ونظيراتها من جرائم ضد الإنسانية..
- وتتفشى ظاهرة ارتكاب الاعتداء على حقوق الآخر وقيمه وكل شيء له حتى تصل عِرضه وحياته؛ لتولد ظواهر الثأر والانتقام.
هذه الشخصية المحطمة قيمها الإنسانية السليمة، هذه الشخصية المنكسرة المحبطة المجهَّلة تصير مطواعة لتلقي منطق الخرافة إيماناً بديلا عن الدين وتصير مطواعة لكل أوامر الطائفي المفسد لمجرد ارتدائه عمامة وجلبابا أو التجائه للعمامة. إنه عند تلك الشخصية الخاوية المريضة ليس سوى الوكيل الحصري للمقدس يأمر فيطاع في كل شيء، وعلى أقل تقدير من أجل إدامة لقمة العيش التي (يمتلكها) بين يديه والتي يغدق بها من (جيبه)! وتنتظرها أفواه الجياع التي لا تدري معنى اللقمة المتأتية من السحت الحرام لأن المبدأ القائم وسط هذا الواقع هو مبدأ هذا حقي (أقاتل) من أجله ولكنه لا يقول هذا حقي أحققه بأن (أبني وأنتج) لآتي به… فالقضية هنا مجرد (غنائم) بين يدي الآخر البعبع آخذها فهو من نهبها وأنا صاحبها!
وتلك ماساة الإفساد الجارية، وتلكم هي ما ينبغي أن نتذكره ونحن نمضي إلى مسيرة التغيير الجدي المسؤول. وفضح لعبة إعادة إنتاج الطائفية وفرض وجودها حاليا بالعبث واللعب وتبادل الأدوار تمهيدا لفرضها بالحديد والنار بعد استنفاد لعبة التخفي وأدواتها حيث لا حاجة لما استغلوه من تزويقات وتبريرات وأدوات تخفٍ بعد انتهاء صلاحيتها وانكشافها بكل تفاصيلها.
انتبهوا ايها السادة، إنّ ما يجري من خروج هذا الفاسد بمظاهرات وهتافه بالإصلاح ليتبادل معه الدور في التظاهر والاعتصام سيد آخر إنما هي ألاعيب سيمررون بها إعادة إنتاج نظامهم الذي شهدتم في ظله المرار والفاقة والعوز والفقر ومحاولات دائية على تجهيل الأبناء واستغلالهم كما لم يشهده العراق منذ مطلع القرن الماضي وأيام الحرب الكونية الأولى.. فهل أنتم بحاجة لدروس أخرى أكثر وضوحا لفضح ما يجري والتعرف إلى الألاعيب المرضية الدائرة!؟
إنها فرصتكم للتغيير فليبدأ المرء بنفسه وبموقفه وفي إدراكه للعبة.. وفي التحول إلى المعالجة الأنجع بالتخلص من كل تلك الأمراض المجتمعية القيمية والخروج من البركة الآسنة ومن ميادين الاحتراب ومتاريسها المختلقة.. ولننتغض لأنفسنا لا لأدعياء يتلحفون القدسية رداء للخداع.. ولينضم اليوم كل من أدرك الحقيقة وتخلص من انتسابه لشلل الجريمة فكراً طائفياً وجرائم فساد وإرهاب ولنمضي معاً وسوياً في طريق أنسنة وجودنا حراً كريماً سامي الأداء وإننا لقادرون على ذلك
وبخلافه إن لم نتحرر ونتغير فلنقلها بعالي الصوت وإلا فلات ساعة مندم!