العراقيات والعراقيون، وجدوا أنفسهم أمام ظروف معقدة، فتحت في وجودهم الإنساني جراحات فاغرة، فتعاظمت مطالبهم الحقوقية في دوامات ما جرى على أرض العراق من حروب وكوارث بيئية وغيرها. فوحدها حرب السنوات الثماني، التهمت مئات آلاف الآباء لتخلف مئات آلاف بل ملايين اليتامى.. فيما جاءت حالات الحصار ونقص استثنائي حاد للدواء والغذاء والحروب الطائفية لتدفع بمئات آلاف أخرى من الآباء والأمهات مولّدة حجماً آخر من الأطفال فاقدي الآباء (اليتامى) وفاقدي الأمهات (العجيّ: المنقطع فاقد الأم) ونسبة أخرى من فاقدي الأبوين (اللّطيم) ومثل هذا حالات مجهولي النسب والأبوين…
إنّ العناية باليتيم، ليست مجرد عطفاً شعورياً عابراً، يُحتفى به بمناسبة اليوم العالمي لليتيم (المصادف عادة مطلع نيسان أبريل)؛ ولكنّ تلك العناية والرعاية تعني واجباتنا الإنسانية تجاه طفل ينشأ في ظروف قاسية من دون وسطه أو أسرته.. وعراقياً القضية تتسع لتكون قضية جيل بحجم وصل حوالي الأربعة ملايين يتيماً، وهو الرقم الذي ما زال يمعن في ضغوطه الحادة الاستثنائية بسبب من استمرار أسس دفع أطفال آخرين إلى عالم التيتم وبسبب تدهور إمكانات المعيلين الهزيلة وضعف فرص الرعاية الرسمية والمؤسسية لليتامى.
إنّ تلك الحالات من البهرجة الإعلامية التي نراها في اليوم العالمي و\أو العربي لليتيم لا ترقى عن أن تكون مجرد استعراضات عابرة وربما تبرعات لا تصل حجم الكارثة واتساعها. ومن هنا فإنّ المطالبة بفتح صندوق مخصوص على المستويين الحكومي والشعبي باسم صندوق اليتيم، يبقى عراقياً ضرورة قصوى بسبب من حجم هذه الظاهرة الإنسانية الأليمة ومطالبها الكبيرة.
واليتيم من قبل ومن بعد يبقى بحاجة لأن يرى ويلمس ويحيا تفاصيل الحنان والرعاية المجتمعية التي قد تسد جانبا من مشاعر الفقد في وقت لا يوجد من يعوض عن الأبوين.. وطبعا يمكن لتلك الرعاية أن تزيح أية فرصة لنشوء ردود فعل سلبية نتيجة طابع الإحساس بالإهمال، أو عدم الكفاية في الاستجابة لمعاني الحاجات الروحية والمادية لليتيم.
حقوقياً فإنَّ (اليتيم، العجيّ أو اللطيم) هو كائن جاء إلى الحياة بمسؤولية والديه. ولكن ماذا عندما تكون ظروف البلاد العامة هي التي أخذت منه والديه كما بالحروب الخارجية والداخلية وكما بظروف العيش وما تجابهها من كوارث ونوازل مثلما حالات المجاعة ووطأة الفقر بخاصة هنا الفقر المدقع الذي ظهر في العراق في السنوات المنصرمة بنسب ليست قليلة بل مؤثرة أودت بحيوات مواطنات ومواطنين، لعدم تمكنهم من الحصول على الدواء والغذاء الكافيين وفي الوقت المناسب!
بهذا التساؤل، نؤكد مسؤولية المجتمع الرسمي والشعبي عن توفير العناية والرعاية الإنسانية بكل تفاصيلها. سواء بتوفير الحاجات المادية لليتيم عبر دعم معيله، أم بتوفير البيئة الروحية المناسبة. ولابد بالخصوص من إيجاد بيئة صحية محصنة ضد حالات الفساد وما يكتنفها من جرائم الابتزاز بما يوفر مبدئياً دفء الرعاية وما فيهما من الحب والحنان وسلامة القلوب و الضمائر من اشكال أمراض الأنفس وبما ربما يوجد بديلا يقترب من أجواء العائلة التي بات اليتيم يفتقدها.
والقضية لا تقف عند الرعاية الصحية والنفسية كما اشرنا للتو، بل تتسع لمتابعة وسائل الحماية من خطر أشكال الاستغلال؛ كالإستغلال الجنسي أو الدفع باليتامى في اتجاه دروب الجريمة كما بالأنشطة غير المشروعة مثل تجارة المخدرات وما يماثلها من جرائم.
ونتذكر هنا من أبرز حقوق الطفل اليتيم تلك التي تتجسد في توفير فرص تعليمه بما يفي لتخريجه مواطناً صالحاً يمكنه المساهمة في التصدي لما يجابهه في حياته ولما يقع عليه من واجبات تجاه المجتمع. ولربما كانت أموال اليتامى سواء التي ورثوها أم تلك الأعرض في نسبتها والأكبر بوجودها أموال فقراء اليتامى المتأتية من مصادر مؤسسية متنوعة، أقول عن تلك الأموال بضرورة توافر حق اليتامى في واجب حمايتها مجتمعيا قانونيا بوصف الأمر حقاً نوعيا إنسانيا يُبعد اليتامى عن حالات استغلالهم بسرقة أموالهم سواء فردياً أم جميعا في مؤسسات رعايتهم.
إن رعاية اليتامى لا تقف عند حدود الحقوق الفردية الخاصة، من حماية أموالهم، وحظر حالات القهر والحرمان أو حق إكرامهم روحيا ماديا ولن تقف عند حق الإيواء والإحسان والإطعام وكأنهم شحاذو طرقات يذرعونها تيهاً..! فرعاية اليتامى تتسع لتكون وتتجسد في رسم استراتيجية بناء أجيال مستعدة أن تكون فاعلة في البناء المجتمعي مساهمة في مسيرة التنمية من دون مشاعر التمييز والفقد والعوز وبعيداً عن الوقوع ضحايا الابتزاز والجريمة.
فهل تعرفنا إلى القوانين والتشريعات المخصوصة باليتيم؟ وهل أوجدناها؟ وهل تمّ تفعيلها؟ وما هي أدوار الفعل المؤسسي الرسمي والمجتمعي لمعالجة الظاهرة؟ وكيف تمّ النظر لترتيب الأهمية والأولوية في إطار حركة حقوق الإنسان؟ هل تم النظر إلى الأرامل؟ هل تم الربط بين بقايا العائلة بعد فقد المعيل وقوانين المجتمع والدولة بشكل سليم؟ هل تمّ تخصيص المعالجات العلمية الموضوعية سواء بمراكز البحوث أم بالدراسات الجامعية؟ وهل بالأصل توجد إحصاءات جدية مسؤولة وسليمة ووافية للظاهرة؟ ما طابع تلك الإحصاءات؟ هل يوجد فيها تفاصيل تخص الأوضاع الصحية والنفسية الروحية وهوية المشكلات وتسلسل وجودها؟ وهل توجد بالفعل خطط مناسبة تتناول الظاهرة؟
إن (اليتيم) علامة إنسانية قاسية تصرخ بوجه مجتمعاتنا، أنْ أوقفوا الحروب العبثية.. وأنْ أوقفوا سطوة المافيات وتمدد أخطبوطها في ثنايا الوجود المجتمعي مستغلة الفئات الهشة وأولها اليتامى.. وأن تبنوا مؤسسات الرعاية وأصلحوا شأنها، فهي بوابة خطيرة تستولد الجريمة والمجرمين إن لم تكن عليها عين المجتمع والدولة.. ولعل أبرز أعين المجتمع هي أعين المنظمات المتخصصة الحقوقية وأدوارها المباشرة التي تلتحم باليتامى وبواقعهم وبمن يشرف على مسار حيواتهم.
إنني أدعو كل منظمات حقوق الإنسان لتأخذ على عاتقها هذي المهمة بأولوية وأهمية تتناسب وحجم القضية. وأدعو ليكون في كل مؤسسة حكومية نسبة مالية تدفعها لرعاية اليتامى وما يندرج في إطارهم، تعبيرا عن المسؤولية المجتمعية العامة تجاه الظاهرة. وللتشكل مؤتمرات بحثية علمية تدرس الظاهرة في ضوء إحصاءات دقيقة مدروسسة المفردات كي يمكن لمجتمعاتنا أن تقول: إنها رعت اليتيم بمستوى المسؤولية والجدية وبسلامة التفكير وفلسفته وإجراءاته..
وتحية لحركة حقوقية تتبنى هذه القضية الاستثنائية بهوية وطابع نوعي مستقل يرتقي لمستوى الجرح الفاغر لها.