ألواح سومرية معاصرة تنشر هذه الدراسة المهمة بقلم الدكتور هابيل كاظم حبيب وذلك في ظروف تعددت فيها رؤى القوى المدنية التي تقود الحراك الشعبي ومعالجاتها بين شعار التغيير والإصلاح… وهنا توكيد آخر يعلنها بوضوح أن الوضع لم يعد يستوعبه شعار إصلاحي محدود بل لابد من التغيير شعاراً جوهريا لإنهاء نظام الطائفية الكليبتوقراطي وبناء الدولة المدنية دولة العدالة والديموقراطية.. وبغض النظر عن بعض تفاصيل التعدد في الرؤى أو الاختلاف ببعض المحاور فإن جوهر المعالجة يقدم رؤيته للحوار الأشمل. وإليكم نص الدراسة
دور الفئة المثقفة والفئات الاجتماعية الأخرى في الحراك الشعبي الجاري بالعراق.. كاظم حبيب
عقدت مجلة الثقافة الجديدة ندوة فكرية مهمة في شهر تشرين الثاني 2015 تحت عنوان “المثقف والحراك الشعبي”. تم نشر مداخلات المشاركين في العدد 379378 في الشهر ذاته.عالج المشاركون والمشاركات جوانب كثيرة من موضوع البحث، وسعوا للإجابة عن مجموعة كبيرة من الأسئلة التي يفرضها الواقع والشارع العراقي، وتلك التي آثارها المتداخلون الأوائل والمعلقون على تلك المداخلات. وهي مادة غنية تستحق القراءة والنقاش في آن.وبلورت المناقشات مجموعة من التشخيصات المهمة والحيوية إلى تحتاج إلى تبني في النضال اليومي الفعلي لقوى الحراك الشعبي.
لقد قرأت المادة المنشورة بشغف ومسؤولية، دفعاني لكتابة هذه المقالة التي أرجو أن تحظى بالقراءة والنقاش. أركز في هذه المقالة على ثلاث مسائل:
** ما هي طبيعة الدولة التي تشكلت بالعراق على أيدي قوات الاحتلال الأمريكية – البريطانية وأحزاب إسلامية طائفية متلبسة باتجاهات قومية يمينية وشوفينية عربية وضيق أفق قومي كردي للفئات الحاكمة بإقليم كردستان العراق؟
**ما هي طبيعة وخصائص السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، إضافة إلى سلطة الإعلام، المكونة لهذه الدولة الهشة؟
** ما هي المهمة المركزية التي تواجه المجتمع العراقي وحراكه الشعبي في المرحلة الراهنة، وما هو دور المثقف العراقي في هذه العملية وسبل تحقيقها؟
أرى بأن أي باحث حين يستلهم أسئلته من خلال الواقع القائم بالبلاد، وحين يعتمد رؤية واقعية ملموسة لمجريات الماضي غير البعيد، وحين يستند إلى أفق فكري- سياسي واجتماعي مفتوح وغير متلبس بانغلاق إيديولوجي متكلس، وحين يعمل على وفق منهجية علمية جدلية،سيكون في مقدوره الوصول إلى إجابات غير مسبقة الصنع ويشخص استنتاجات مهمة ويحدد مهمات نضالية قريبة من الواقع المعاش، والتي يمكن أن تدقق وتعدل وتغتني باستمرار.
طبيعة الدولة العراقية
في ضوء الدراسات التي قمت بها خلال السنوات المنصرمة التي أعقبت إسقاط الدكتاتورية البعثية الشوفينية الغاشمة وفرض الاحتلال على العراق ومن ثم توقيع الاتفاقية الأمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية ومن سقوط أجزاء من العراق تحت احتلال عصابات داعش الإجرامية ومن شذاذ الآفاق القتلة، يمكن تقديم التشخيص والتلخيص التالي لطبيعة الدولة العراقية القائمة حالياً:
الدولة العراقية الراهنة دولة هشة غير مدنية،غير علمانية، دولة شبه دينية وطائفية بامتياز، تمارس المحاصة الطائفية والأثنية في الحكم وفرض هيمنتها على المجتمع والاقتصاد الوطني وحياة الفرد. دولة تهيمن عليها قوى وأحزاب إسلامية سياسية متطرفة في طائفيتها، سواء أكانت شيعية أم سنية، متلبسة بنهج قومي عربي شوفيني، وقوى قومية كردية متلبسة ضيف الأفق القومي المتفاقم. دولة فاسدة بسلطاتها الثلاث وإعلامها الرسمي وبقية مؤسساتها المدنية، ومنها المالية، والعسكرية، دولة فاشلة في الاستجابة لمصالح الشعب والاستقلال والسيادة الوطنية، دولة ألغت هوية المواطنة المتساوية والموحدة والمشتركة واعتمدت الهويات الفرعية القاتلة والمهمشة للفرد والمجتمع وحقوق الإنسان. دولة تتحكم فيها العديد من مراكز القوة الداخلية والإقليمية والدولية، ويسودها الخراب من الباطن، ويدمرها الإرهاب غير المنقطع، وينغص العيش فيها اقتصاد ريعي-استهلاكي مكشوف بالكامل على الخارج وتتلاعب فيه الإرادات الإقليمية والدولية، دولة خيوط حكوماتها المتعاقبة بيد المرشد الأعلى للثورة الإيرانية وتحركها سياسات ومصالح الدول المجاورة وليس مصالح شعبها وحياته ومستقبله.
هذا التشخيص لطبيعة الدولة العراقية، باعتبارها “أداة قمع للشعب ومطالبه العادلة والمشروعة، وأداة حراسة لمصالح الفئات الاجتماعية الرثة الحاكمة”، ينسحب على سلطاتها الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، وعلى السلطة الرابعة أيضاً. فالبنية والخصائص والسمات كلها ناشئة عن طبيعة الدولة القائمة ومن طبيعة القوى والنخب والأحزاب الحاكمة المتسمة بالرثاثة الفكرية والثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية وبالتخلف الحضاري والتشوه. وينطبق على هذه الدولة الهشة قول الشاعر العراقي معروف الرصافي حين قال عن الدولة الملكية العراقية:
علمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمةٍ كلٌ عن المعنى الصحيحِ محرفُ
أسماءٌ ليس لنا سوى ألفاظها أما معانـيها فليست تعــرفُ
هذا التشخيص يضع أمام دارسي الوضع العام بالعراق، وأمام المناضلين من أجل التغيير مهمة مركزية أساسية تنحصر في العمل الدءوب وبلا كلل من أجل تغيير طبيعة الدولة بسلطاتها الثلاث جذريا، أي التحول من دولة طائفية-أثنية محاصصية إلى دولة مدنية ديمقراطية، لأن وجودها الراهن من حيث المبدأوالواقع ليس في مصلحة وحدة الوطن والشعب واحترام سيادته واستقلاله الوطني وحماية سكانه وثروته الوطنية وسلمه الاجتماعي وتقدمه. وإذا كان هذا هو التشخيص المركزي للوضع القائم بالعراق، فكيف هي القدرات الذاتية للقوى الساعية لتحقيق التغيير؟ وهل في مقدور القوى الوطنية والديمقراطية والواعية لضرورة التغيير تنشيط التوجه والحراك الشعبي نحو تغيير ميزان القوى بما يسهم في توفير مستلزمات التغيير الجذري؟ إن ميزان القوى الراهن لا يميل لصالح القوى الوطنية والديمقراطية ولصالح التغيير المنشود، بل هو ما يزال في صالح القوى العاملة على إبقاء الوضع على حاله وتكريس وجود القوى الرثة على رأس وقيادة السلطات الثلاث وأجهزة الإعلام الرسمية. وهذا يعني إن عملية التغيير تصطدم ابتداءً بظروف غاية في التعقيد والتشابك المحلي والإقليمي والدولي. ويستوجب من القوى الوطنية العمل على وفق تكتيكات سياسية واجتماعية صائبة وعملية وقادرة على الدفع التدريجي والمعجل صوب تغيير موازين القوى لصالح القوى الساعية للتغيير. من هنا يمكن القول بأن العامل الموضوع يتسم بالنضوج في صالح التغيير، في حين إن العامل الذاتي ما يزال يزحف خلف العامل الموضوعي. وفي هذا الموقع يبرز بوضوح وقوة دور المثقف العراقي، المثقف الوظيفي المدرك لمهماته والمستوعب لدوره. وهي المهمة التي يفترض أن نعمل من أجلها.
ما المطلوب، إصلاح أم تغيير؟
من الصائب القول بأن الحديث عن مهمة الإصلاح في مثل هذه الأوضاع لا معنى لها، لأن الدولة كلها بحاجة إلى تغيير في الوجهة والنهج والمبادئ والأسس التي تعتمد سلطاتها الثلاث عليها في ممارسة السياسة والاقتصاد على المستويين الداخلي والخارجي. وهذا يعني بأن المجتمع العراقي بحاجة إلى عمل استثنائي لتغيير موازين القوى لصالح التغيير، وهي المهمة التي تواجه الجميع.
خلال السنوات المنصرمة تسنى للنخب الحاكمة تحقيق ثلاث مسائل لتكريس هيمنتها على الدولة والمجتمع وبدعم مباشر من المرجعية الدينية الشيعية:
- تمرير دستور يمنح السلطة التنفيذية كل الوظائف الضرورية والأساسية، كل الصلاحيات، التي كان المفروض أن تتوزع من خلال الدولة على سلطاتها الثلاث ولا تسمح باستفراد السلطة التنفيذية بالدولة كلها وبكل سلطاتها فعلياً وفرض الاستبداد الفعلي عليها بما تملكه من سلطة القوة والعنف والسلاح والمال والنفوذ واستخدامها بما يعزز نفوذ الحاكم المستبد بأمره. ولم يعد رئيس الدولة سوى صورة مفرغة من المحتوى والمهمات والصلاحيات. وهي يتم تركيع القضايا لإرادة ومصالح السلطة التنفيذية وإفراغ مجلس النواب من محتواه ودوره لصالح رؤساء الكتل النيابية فقط.
- تكريس مواقعها ونفوذها في جميع أجهزة الدولة القمعية، العسكرية منها والمدنية، وحصر وظائف الدولة الأساسية بيد النخبة الحاكمة وقادة الكتل الإسلامية السياسية.يضاف إلى ذلك تشكيل قوى عسكرية (مليشيات طائفية مسلحة) خارج الأطر الشرعية لتحمي مصالح هذه النخب وتعزز هيمنتها على الحكم.
- التصرف الكامل بأموال الدولة وميزانيتها الاعتيادية لصالح مشاريعها في البقاء في السلطة ونشر الفساد وشراء الذمم عبر السلطة التنفيذية والأموال المتوفرة في خزينة الدولة. وقد تم نهبت المليرات من موارد العراق المالية وسجلت بحساب جمهرة صغيرة من اقطاب النظام سنة وشيعة وقوميين عرب وكرد دون استثناء.
في مواجهة تشويه الدستور وتكييفه لصالح النخب الحاكمة, وضد تفاقم الفساد ونهب النفط الخام, واشتداد وتيرة الإرهاب والقتل بالجملة, وغياب مرير للخدمات الاجتماعية …الخ, بدأت بالبلاد الهبة الأولى في العام 2011 واقترنت بما أطلق عليه بـ “الربيع العربي”، أي بعد تسلم الحاكم المستبد نوري المالكي رئاسة الوزراء لدورة ثانية, بضغط إيراني كبير, ومساومة أمريكية دنيئة، وتراجع مخل وغير عقلاني وغير مسؤول من جانب رئيس الجمهورية حينذاك، أمام النفوذ والمصالح والإرادة الإيرانية. مارس المالكي كل الموبقات والمحرمات لقمع الهبة الشعبية العادلة وخنقها في مهدها في ساحة التحرير وفي ساحات أخرى في مدن العراق الكثيرة، باستخدامه القوات العسكرية والأمنية والمليشيات الطائفية المستهترة بكل القيم والمعايير الإنسانية، إضافة إلى ممارسة سياسة التشويه وتزييف الوقائع والتشويش والاعتقال والتعذيب والسجن والقتل لعدد مهم من نشطاء الهبة الشعبية، إضافة إلى شراء المزيد من الذمم بأموال الشعب المنهوبة!
وفي مواجهة ذات الأوضاع انطلقت الهبة الشعبية الثانية لتواصل المسيرة النضالية للهبة الأولى في تموز 2015 من أجل تحقيق أهدافها، وهي الهبة التي ما تزال متواصلة. وقد اقترنت هذه الهبة الجديدة بمعطيات جديدة نشير إلى أبرزها في الآتي:
- سقوط الموصل ودون مقاومة في أيدي عصابات داعش المجرمة وارتكاب جرائم بشعة بحق سكان نينوى من المسيحيين والإيزيديين والشبك والتركمان والكثير من سكان الموصل السنة.، إضافة إلى جريمة معسكر سبايكر 2014.
- إجبار المستبد بأمره نوري المالكي والمغتصب لإرادة الشعب ومصالحه على الانسحاب وترك الموقع لحيدر العبادي، العضو القيادي في حزبه وتحالفه الوطني والمسؤول المالي في حزب الدعوة!
- التزام حيدر العبادي بإجراء إصلاحات سياسية والتخلي عن المحاصصة الطائفية ومحاربة الفساد والإرهاب ومحاسبة الفاسدين وسارقي قوت الشعب.
- اتساع قاعدة الهجرة والنزوح وشمولها لأكثر من ثلاث ملايين إنسان، واستمرار اللجوء صوب الخارج.
- نهوض حركة شعبية واسعة مطالبة بالإصلاح، مما وضع المرجعية الدينية الشيعية أمام أحد أمرين: إما تأييد المطالب، أو خسارة المزيد من مؤيديها، إذ إن فضائح الفساد والتدهور الأمني والإرهاب أصبح لا يطاق، إضافة إلى تعرض القوات المسلحة لخسائر جديدة في معارك صلاح الدين والأنبار.فأيدت المرجعية الشيعية مطالب الحراك الشعبي في الهبة الثانية ومارت الضغط المباشر على حيدر العبادي لاتخاذ قرارات ارتجالية مهمة لإصلاح الوضع لم تنفذ عملياً.
في مثل هذه الأوضاع المعقدة والمتشابكة، تبلور بالعراق أكثر فأكثر المعسكران السياسيان المتصارعان، المعسكر المناهض لمصالح الشعب والتغيير والإصرار على تكريس النظام السياسي الطائفي، معسكر السلطة الحالية، والمعسكر الشعبي المناضل من أجل التغيير وإنقاذ العراق من الحكم الطائفي والأثني المحاصصي. وسنحاول هنا إلقاء نظرة مكثفة على طرفي الصراع.
أولاً: القوى الرجعية الفاسدة والمعادية للتغيير
أ- تتجمع القوى والأحزاب المعادية للإصلاح الجذري أو التغيير في معسكر واسع واحد، رغم الخلافات المستفحلة فيه والتناقضات التي تتآكله والنزاعات الدموية التي لم تنته بين تياراته. يتشكل هذا المعسكر من أغلب القوى والأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، لتقيم تحالفاً عربياً رجعياً وتساومياً غير معلن عنه رسمياً، ولكنه قائم في الواقع، ويمارس أسلوب الإعاقة الفعلية لأي إصلاح جزئي أو تغيير فعلي، إذ أنه يخشى أن يشجع ذلك “التنازل!” سابقة تحفز على استمرار الهبة والحراك الشعبي لا يجوز القبول بها.
ب- إبقاء رئيس الحكومة متحدثاً بالإصلاح والتغيير بصوت مسموع، ولكن مفرغ من أي مضمون أ, إصلاح فعلي، وبالتالي فهو خائب وعاجز عن تنفيذ كل ما وعد به عملياً، مما يسهم بدور فعال في بث الإحباط في صفوف قوى الهبة والحراك الشعبي، ويدفع بقواها، كما تتوقع القوى لمعادية للتغيير، إلىالتراخي والتراجع والاضمحلال التدريجي دون أن تجبر النخب الحاكمة على استخدام أدوات استثنائية قمعية كتلك التي مارسها الطائفي المقيت بامتياز نوري المالكي. ويبدو الوضع هنا أشبه ما يكون بتوزيع أدوار على اللاعبين في قيادات الأحزاب الشيعية.
ج- يوفر هذا النهج التسويفي فرصة ثمينة لإعادة تنظيم صفوف القوى المناهضة للمطالب الشعبية وأهدافها الوطنية والمهنية والالتفاف على تأييد بعض المرجعيات الشعبية وبعض المؤسسات الدينية السنية للبعض المهم من أهداف الهبة، وخاصة الموافقة على إقامة دولة مدنية غير دينية وغير مذهبية بالعراق، وضد الفساد والفاسدين والمفسدين وضد الإرهاب والإرهابيين.
د- تعزيز مواقع المليشيات الشيعية المسلحة وقياداتها الموالية للمرشد الأعلى الإيراني، باعتبارها قوة شيعية مقاتلة في مواجهة قوات الجيش العراقي والقوات المسلحة الأخرى، رغم تغلغلها فيها أيضاً. إضافة إلى استمرار احتلال المواقع المهمة في السلطات الثلاث والإعلام الرسمي الحديث ليكون سلاحا قوياً في التصدي لأي تغيير حقيقي يسعى إليه العراقيون والعراقيات وجعلها تلعب دور المعطل لكل تغيير لا يرتضيه حكام إيران، تماماً كما يجري منذ سنوات بلبنان حيث يلعب حزب الله هذا الدور المشين.
د- منح الحشد الشعبي والقوى المساندة له في القوى والأحزاب الدينية والجماعات الإيرانية المسلحة المشاركة معه في القتال الجاري على جبهات القتال ضد عصابات داعش إمكانية إحراز نجاحات جديدة ليعزز مواقعه في مناطق أخرى من العراق باتجاه مواجهة القوى العربية السنية أو الپيشمرگة الكردية.
هـ- تلعب الأوساط المعادية للتغيير في أوساط القوى الكردية الحاكمة دورها في عملية إعاقة لأي تحسين جدي في العلاقات مع الحكومة الاتحادية وتحقيق التغيير بالعراق، إذ إنها ترى في ذلك خطوة ليست في مصلحة إعلان الدولة الكردية المستقلة، التي يراد بها دفع الأمور باتجاه التعقيد والتشدد بأمل توفير الأرضية الصالحة لإعلان الاستفتاء، الذي لا تؤيده الولايات المتحدة ولا الأمم المتحدة حتى الآن. إلا أن الحكومة التركية، المعروفة بمعاداتها الوحشية لحقوق الشعب الكردي وحق تقرير المصير وعموم الأمة الكردية، تؤيد ذلك، بهدف سافل هو دق أكثر من إسفين في صفوف قوى الأمة الكردية وقواها السياسية، وعلى صعيد القوى السياسية الكردية بإقليم كردستان العراق ذاتها، وهي التي تعاني اليوم من خلافات دستورية وسياسية ومالية محتدمة .
وباختصار شديد، تتمثل القوى المعادية للتغيير في قيادات الأحزاب الإسلامية السياسية، الشيعية منها والسنية، وليس في قواعد تلك الأحزاب، وخاصة الفئات الكادحة والفقيرة والمعوزة المتضررة من الواقع الراهن، وكذلك كبار ملاك الأراضي الزراعية والبرجوازية العقارية والتجارية والرأسماليين الطفيليين المضاربين في سوق المال والعقارات وكبار موظفي الدولة من أعضاء ومؤيدي الأحزاب الحاكمة وجمهرة من الفاسدين والمفسدين العاملين في القوات المسلحة والسلك المدني، بما فيه القضاء العراقي. وتنخرط معهم مجموعات غير قليلة من شيوخ الدين المنتفعة من وجود هذه النخب الرثة في الحكم.
القوى الوطنية الساعية للتغيير
وفي مواجهة هذه الفئات الاجتماعية المناهضة للتغيير والساعية لوضع البلاد على طريق الأمن والاستقرار والسلام والاطاحة بنظام الفساد المالي والإداري ومن أجل الدولة المدنية والتقدم الاجتماعي، تتجمع تدريجاً القوى التالية:
** الفئة المثقفة والواعية التي تدرك أهمية دورها النضالي في مجالات الفكر والثقافة والتنوير ومواجهة الفكر الظلامي المتخلف والفئات الاجتماعية الرثة التي طبعت الدولة الهشة بطابعها، والتي تناهض قيام دولة دينية أو طائفية تصادر فيه هوية الوطن والمواطنة. إنها فئة اجتماعية واسعة نسبياً وقادرة على لعب دور المحفز والمحرض على مقاومة الاتجاهات العدمية الراهنة والفساد والإرهاب.
** الأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية الواعية لمهماتها وكل القوى الأخرى المتنورة والمدنية. ويمكن أن نشير هنا بشكل خاص إلى الحزب الشيوعي العراقي وبعض المنظمات اليسارية و الجماعات والشخصيات الديمقراطية المستقلة.
** وتنخرط في النضال من أجل التغيير فئات غير قليلة من البرجوازية الصغيرة في المدينة والبرجوازية المتوسطة التي كما تزال ضعيفة وتسعى إلى التصنيع وتحديث الاقتصاد الوطني. وتقف جمهرة غير قليلة من العمال، رغم الضعف الشديد الذي لحق بقاعدة الطبقة العاملة العراقية خلال العقود الأربعة المنصرمة، ولا شك في أن البرجوازية المتوسطة والعمال وفئة المثقفين تعتبر الفئات الحاملة لمبادئ وأسس إقامة لمجتمع المدني العراقي. وحين تتعزز قوى الهبة الشعبية يمكن أن تلتحق بها أوساط الفلاحين الفقراء وصغار المنتجين، وكذلك المزيد من النساء والطلبة والشبيبة العراقية.
** وتنخرط في صفوف الحركة الشعبية الساعية للتغيير قوى أخرى تنحدر من فئات اجتماعية عديدة ولكنها تعمل في منظمات المجتمع المدني الديمقراطية الواعية للمخاطر الجسيمة الجديدة التي تواجه المجتمع العراقي
وإذ كانت سنة الحياة والتطور تميل إلى مساعي الطرف الثاني، فأن الواقع المعاش ما زال يكرس الطرف الأول في الحكم، وستكون عملية التحول والتغيير معقدة وشائكة ومليئة بالمصاعب، رغم النهج السلمي والديمقراطي للقوى الوطنية والديمقراطية الساعية إلى التغيير.
إ هذا التصنيف يمكن أن نجده في أوساط الشعب في المدن والأرياف، في أوساط البرجوازية الصغيرة بمختلف مراتبها، وفي أوساط البرجوازية المتوسطة والطبقة العاملة، وهما طبقتان ما تزالان تتسمان بضعف الحجم والبنية والدور والتأثير في الأحداث السياسية والاجتماعية الجارية بالبلاد، ولكنهما يشكلان معأ ومع أوساط المثقفات والمثقفين الفئات الاجتماعية الحاملة لمبادئ وأسس الدولة المدنية والمجتمع المدني الديمقراطي العلماني، إنها الفئات التي يعول عليها في عملية التغيير المنشودة والتي يستوجب النضال من أجل توسيع قواعدها الاجتماعية ونشاطها السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي والإعلامي والبيئي, وكذلك دورها في الحياة اليومية للمجتمع وفي الأحداث الجارية بالبلاد. إنها ليست ضعيفة بشكل عام فحسب، بل وأن مشاركتها في الحراك الشعبي ما يزال بعيداً عن إمكانياتها وأبعد بكثير عن الطموح.
هذا الواقع الجديد يتطلب من قوى الحراك الشعبي في هبتها الجديدة من جهة، ومن قوى الحركة النقابية ومنظمات المجتمع المدني والجماعات المهنية الأخرى من جهة أخرى، أن تمارس دورها في بلورة المضامين الأساسية للمهمتين التاليتين عبر التفاعل الإيجابي المتبادل والحوار الديمقراطي بين القوى الحاملة لهما:
تتجلى المهمة المركزية الوطنية العامة في بلورة شعار تغيير النظام الطائفي–الأثني القائم وتحويله إلى نظام مدني علماني ديمقراطي نزيه يلتزم مبدأ الوطن والمواطنة الحرة والمتساوية والموحدة واحترام الهويات الفرعية وفصل الدين عن الدولة والفصل التام بين صلاحيات وواجبات السلطات الثلاث والاستقلال التام للقضاء والإعلام الرسمي ومحاربة الفساد والإرهاب ورفض وجود قوات مسلحة أخرى تشارك الدولة في وظائفه سلطاتها الثلاث وامتلاك السلاح وحق استخدامه أو القيام بوظائف سلطات الدولة الثلاث،كدولة داخل الدولة، وجيش داخل الجيش الرسمي. وإذا كان هذا الأمر مهماً للدولة على مستوى الاتحاد، فهو مهم أيضاً على مستوى الإقليم والمحافظات أيضاً.
وتتجلى المهمة الثانية، المهمة المهنية، في تشخيص المهمات وصياغة الشعارات المهنية لمطالب الشعب بفئاته وجماعاته المهنية في مختلف المجالات، ابتداءً بالمتقاعدين والموظفين ومروراً بالفلاحين والعمال والحرفيين والطلبة والمثقفين والعاطلين عن العمل والمسرحيين من الجيش والسجناء والمعتقلين السياسيين وانتهاء بكل منظمات المجتمع المدني الأخرى.
ولكي يتحقق ذلك يفترض العمل على مسائل عديدة ذات أهمية كبيرة يمكن إيجازها فيما يلي:
١: السعي الجاد والدءوب لتأمين وحدة العمل بين المهمتين الكبيرتين اللتين تواجهان الهبة الثانية وكل الحراك الشعبي والإضرابات والمظاهرات ذات المطالب المهنية الجديدة، أي التشخيص والتطوير العملي لمهمات المرحلة على صعيدي المهمات الوطنية العامة والمهمات المهنية المطلبية الخاصة لفئات وجماعات ومنظمات ونقابات مهنية.
إذا كانت المهمات المهنية تتحمل العمل عليها وبلورتها من جانب المنظمات المدنية والمهنية والسنوية والشبابية والمدارس والجامعات والنوادي الرياضة وجمعيات الجماعات الثقافية والأدبية والفنية ، وبالتعاون الوثيق مع قوى المهمة الوطنية العامة، فأن مهمات الوطنية يفترض التعاون لصياغتها من جانب القوى التالية:
أ- ممثلو الفئات المثقفة الواسعة ذات الوجهة الوطنية الديمقراطية التي ترفض الدولة الدينية والطائفية في الحكم وتسعى للمشاركة في بناء الدولة والمجتمع المدني.
ب- الأحزاب والقوى اليسارية والديمقراطية الواعية بمهماتها وكل القوى الأخرى المتنورة والمدنية.
ج- وهذا يتم بالتعاون والتنسيق مع منظمات المجتمع وحقوق الإنسان.
إن هذا التصنيف يمكن أن نجده في أوساط الشعب في المدينة والريف، في أوساط البرجوازية بمختلف فئاتها وأوساط البرجوازية المتوسطة والطبقة العاملة، وهما ما تزالان ضعيفات التكوين والدور والتأثير، ولكنهما مع أوساط المثقفين يشكلون الفئات الاجتماعية الحاملة لمبادئ وأسس المجتمع المدني الديمقراطي العلماني ، وهي الفئات التي يفترض توسيع قواعدها وتعزيز دورها وتأثيرها ومكانتها في الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبيئية.
هذا النهج، يبدو لي هو الطريق القادر على تعبئة القوى وتوسيع قاعدة الحراك الشعبي المتنوع الأهداف والمهمات والفئات، وهو طريق تغيير ميزان القوى في الداخل وأداة من أدوات التصدي للقوى المناهضة للتغيير التي تعبئ الكثير من الإمكانيات والجماعات والأموال وتزييف الحقائق وتشويه السمع والأهداف ضد القوى الساعية للتغيير.
وهنا يفترض أن يبدأ العمل على مجالات عدة في المقدمة منها وحدة القيادة للحراك الشعبي والمطالب الجماهيرية مع وحدة العمل وتنوعه المنسق بشكل فعال ومتكامل في ما بينه للوصول إلى الأهداف المنشودة.
تنويع أساليب وأدوات النضال السلمي والديمقراطي الذي تتوفر مستلزمات في الدستور الناجز رغم نواقصه وضعفه وأساليب إضعافه من جانب القوى المناهضة للتغيير. إنها لا يمكن ان تقتصر على مظاهرات الجمعة المسائية، بل يمكن أن تتوزع على أوقات أخرى حسب ظروف الجهات المشاركة، سواء أكان مظاهرة، أم إضراباً أم اعتصاماً، أم مقاطعة، أم عصياناً مدنياً أم غير ذلك. كما يمكن تنشيط دور أجهزة الدولة المدنية لتطالب بحقوقها وتساند المجتمع في مطالبه العادلة والمشروعة.
إن الصراع الراهن يفترض أن يتخذ وجهة فكرية وسياسية نشيطة حيث أدرك المزيد من المواطنين والمواطنات مخاطر وجود مثل هذه الفئات الرثة على رأس السلطات الثلاث والدولة العراقية ، رغم إنها لم تصل إلى مستوى النساء البسطاء المتدينين الذين يثقون بما يقوله شيخ الدين المتخلف على نحو خاص يناقشه ولا يمتلك القدرة على مناقشته فعليه أن لا يفكر فلها مدبر! إلى هؤلاء يجب الوصول والحديث معهم بما يعيشونه يوميا وبأمثالك حسية ملموسة…الخ.
وهنا يمكن ان يلعب المثقفون والطلبة الشبيبة من الرجال والنساء دورا مهما جداً وناجحا، كما يفترض ان يتجلى ذلك في الشعارات التي تجسد المهمات الوطنية والمهنية، العامة والخاصة. ان حمل المطالَب المهنية اليومية للفئات الاجتماعية الواسعة في المجتمع والدفاع عنها هو الطريق السليم والفعال والمضمون لتعبئة الناس حول المهمات والشعارات العامة، فحرية الإنسان وأمنه متلازمان يفترض ان تؤمنها الدولة المدنية الديمقراطية، والفساد وسرقة أموال الشعب ترتبط عضويا ومباشرة بضعف تقديم الخدمات للمجتمع، سواء أكانت صحية، أم تعليمية، أم سكن، أم نقل، أم طاقة كهربائية، أم ماء صالح للشرب، أم مكافحة البطالة والفقر، أم سرقة أموال الشعب، أم بروز كبار المليونيرية والمليارديرية في مقابل اتساع قاعدة الفقراء والمعوقين ويعيشون تحت خط الفقر الدولي لدولة مثل العراق يرتبطان عضوياً ومباشرة لا يمك إحالتها على إرادة الله، ولاتسع قاعدة الإرهاب ترتبط بعجز الدولة عن أتباع مبدأ المواطنة المتساوية والموحدة بما يثير جماعات مهمشة ضد الشعور بوجود جماعات مميزة تلتحق بالإرهابيين دون وعي بعواقب ذلك على الوطن والمواطن وعلى الشخص ذاته، ولا يرى الطريق الصحيح لمواجهة هذه الحالة غير السليمة والمضمرة. وهكذا في القضايا الكثيرة الآخرة مثل السكن والنظافة والبيئة وقصور كبار المسؤولين في دور حكام البعث القدامى بدلا من تحويلها إلى مراكز للثقافة والخدمات ونوادي للطلبة والشباب…الخ.
إن مصالح وأهداف الشعب الكردي وبقية القوميات بالعراق مرتبطة عضويا مع مصالح الشعب العربي وتحقيقها يخدم الجميع ويساعد على تقدمها ومنحها حقوقها بما في ذلك حق تقرير المصير ولا يتم ذلك في ظرف يواجه البلد عدواناً واسعاً يهدد مصالح كل القوميات وأتباع الديانات والمذاهب وكل الناس الشرفاء. ويتطلب هذا وعياً بطبيعة الصراع وأسلوب إدارته للوصول إلى الأهداف المنشودة على وفق أسس وقواعد ديمقراطية. لا شك في وجود مصاعب في مواجهة قوى عربية شوفينية وإسلامية ترفض حق تقرير المصير، ولكن ليس سهلا العمل مع قوى مصابة بضيق أفق قومي لا يجعلها ترى مصالح الشعب الكردي وكل القوميات الأخرى على أسس إنسانية وعقلانية ، مع إدراكنا لمعاناتها وتهميشها السابق من جانب الحكام العرب العراقيين. إن على القوى اليسارية والديمقراطية العراقية أن تلعب دورها في تعديل المسارين على صعيد الحكم الاتحادي والحكم بالإقليم وكذلك على مستوى المحافظات. إن تقسيم العراق في هذه الفترة العصيبة لا يخدم كل القوميات بالعراق ويجعلها عرضة للأعداء على مختلف المستويات في منطقة الشرق الأوسط والعالم، وعلينا أن لا نتساهل مع الأخطاء التي ترتكب من أي طرف كان لأنها تتحول ضد العراق كله ولصالح أعداء العراق وقومياته العديدة وأتباع ديانته ومذاهبه واتجاهاته الفكرية العقلانية.