ليس جديداً ما تطالعنا به الأخبار، بشأن الاختراقات المرضية التي أصابت الخطاب الديني ومن يستغله سياسياً؛ لإثارة الصراعات الطائفية والشحن والاستعداء وتنمية الكراهية. ومؤخراً ذكرت تلك الأخبار أنّ كوردستان أوقفت 30 خطيبا وجدتهم يحثون على التطرف والتشدد؛ وتصبُّ خطبُهم على دعم قوى الإرهاب وجرائمها، باختلاق الذرائع والمبررات للالتحاق بهم ومشاركتهم ما برتكبون من فظائع..
ولقد كشفت وزارة الأوقاف عن تأثر عدد من المواطنين بتلك الخطب وحضها على العنف؛ الأمر الذي دفع بهم للالتحاق بالدواعش. والمشكلة أن هذا العدد من الأئمة ليس كل من يمارس خطاب التضليل.. والكارثة أن بعض المسؤولين بالوزارة، ربما بحثوا عن أسباب وظيفية إدارية للإبعاد من قبيل أن بعض الخطباء ليسوا موظفين بالوزارة ومن ثم يمكن إبعادهم؛ وهنا نتساءل: وماذا عن الموظفين من منتسبي الوزارة عندما يرتكبون الجريمة ذاتها!؟ ألا ينبغي حسم الموقف مع تلاعباتهم وأضاليلهم!!؟
إنَّ القضية لا تدخل بمجال اختلاف الآراء ولا في مجال حرية التعبير ولا في مجال ممارسسة المهنة، وتوظيف تفسير منطقي للنص الديني بل هي قضية أمن قومي يمسّ حيوات الناس ومصالحهم، إنها قضية تمسّ وجود المواطن وحياته وأمنه وأمانه. وإذا كنا سنسمح أو نبيح لبضع أفراد أن يستندوا إلى أحزاب الإسلام السياسي ليحتموا بوجودها في الحياة العامة، فإننا بتلك الحال نفسح المجال واسعاً لتخريب الاستقرار والسلم الأهلي..
إنّ السماح لتلك الشرذمة بنشر خطاب الاستعداء والكراهية والشحن بخلفية أو بغطاء ديني هو ما نحذر من تركه سبهللة يمارس تخريبه كيفما يحلو لمن يقف وراءه. وعليه فإنّ موضوع الإمامة والخطابة في الجوامع والمساجد تظل قضية بحاجة لمراجعة ومتابعة ودراسات جدية يمكن في ضوئها منع اختراق المجتمع عبر بوابة الإيمان والمعتقد وتحريفهما وإشاعة خطاب تضليلي ظلامي لا علاقة فعلية صحيحة بينه وبين الدين ولكنه يستغله لتمرير خطاب سياسي ماضوي يمتلئ حقداً وكراهية على البشرية ويعادي المجتمع وأنشطته الإنسانية بتنوعاتها.
لقد كان أحد المُبعدين عن الإمامة في مسجد بمدينة أربيل، هو عضو بمجلس النواب العراقي عن أحد أحزاب الإسلام السياسي، تسبب في التحاق11 شاباً بداعش بتأثير من خطبه. ولطالما دافعت أحزاب الإسلام السياسي عن عناصرها وممارساتهم في نشر منطق الحقد والكراهية! الأمر الذي لا يمكن الخضوع لضغوطه بأي حال..
فتلك الاعتراضات (الحزبية) على إبعاد خطباء الكراهية عن المساجد لا ينبغي أن تؤثر على خطة وزارة الأوقاف والكابينة الحكومية للإصلاح، إذ تبقى السياسة العامة متجسدة في التصدي لمحاولات اختراق الجبهة الداخلية من جهة ولمحاولة الالتفاف على مهام قوات البشمركة ودورها في حماية الحدود وأمن المدن واستقرارها.
ومثل هذا التوجه يقتضي التصدي للفكر التحريضي المتطرف والتضليلي السياسي المتخفي بعباءة التدين الكاذب.. وهذه المهمة تعني تمتين وحدة المجتمع وسلامة الوعي وفضح محاولات الاختراق بمعنى ألا نسمح لخلايا الدواعش الإرهابية النائمة بارتكاب ما تشاء وطعن البيشمركة والقوات الأمنية من الخلف، كما يحلو لقوى الإسلام السياسي فعله.
ومن أجل تكامل التصور في التصدي للجريمة ينبغي أولا الاعتناء بدراسة الخطباء وإعدادهم في معاهد تكون بإشراف حكومي وبعناصر تنويرية سليمة.. وأن يجري مراجعة مجمل المناهج الدراسية التي تتناول النص الديني بمعالجات موضوعية تنقيه وتغربله من كل ما لحق به طوال قرون الظلام والتخلف.. وترفع منه النصوص حمالة الأوجه وتلك التي لا تعبر عن صحيح الدين ولا تستند إلى مقاصده السليمة.. كما تنهي أيّ مجال أو فرصة لتدريس ما يمت للعنف ويجتر خطابات الدولة الظلامية بتسميات براقة من قبيل مسميات دولة الخلافة والتمذهب الطائفي والتمترس خلف خنادقه التي تثير الانقسامات والاستعداء والاحتراب على خلفية الكراهية!!
كما يلزم منع رجال الدين من خطاب يمس بوحدة المجتمع وسلامته ومنطق عيشه الإنساني الحر الكريم و\أو يتحرش بالسلم الأهلي وأمن الدولة..
حيث بات لزاماً فرض سيادة القانون على أية شخصية كانت حتى لو احتمت بحزب سياسي إسلاموي أو بوجود في مجلس النواب وحصانته. إذ أن تهديد المجتمع والدولة يسحب تلك الحصانة ويرفعها ويضعه تحت مساءلة رسمية تجرّمه وتضعه خلف القضبان على وفق قوانين البلاد.
أما بشأن العمل الحزبي فإنه يجب التذكير دائما أنه عمل تتم ممارسته في إطار دولة مدنية وقوانينها وآليات الاشتغال وأي خروج على هذا المنطق هو خروج على الالتزامات القانونية الأمر الذي يعني وقف عمل الحزب السياسي نفسه.. إذ لا يجوز للحزب السياسي أن يعمل على استجلاب نظام ماضوي من أي تصور بديلا عن الدولة المدنية ودستورها وقوانينها وآليات اشتغال السلطات فيها…
وهكذا لا ينافق الحزب الإسلاموي بشأن منعه من العمل بل يلزم تذكيره بأن ميدان العمل السياسي ليس تجيير الجوامع والمساجد لخطاب تعبوي للشحن والدفع باتجاه منطق الحقد والكراهية وتقسيم المجتمع وشرذمته لمصلحة منطق ظلامي تضليلي..
إن كفالة الحريات للعمل السياسي تظل محددة بالقوانين. كما أن منطق نشر الثقافة مشروط بكونها ثقافة تنويرية تستند إلى العقل العلمي وترفض خزعبلات التخلف والتضليل المتستر بالدين زورا وبهتانا.
من جهة ثانية وبالانتهاء من ضبط موضوع الخطباء وفرض سلطة القانون المدني يكون أيضا على الجانب الآخر مهمات التنوير والتوعية للمجتمع بمخاطر الخطابات التضليلية وآلياتها.
وهكذا يصير جذب الشبيبة إلى أنشطة مجتمعيية مدنية بديلة أمرا جد مهم وغاية في الخطورة.. كما ينبغي لاتحادات الطلبة والشبيبة وللأحزاب المدنية أن تثقف بمنطق العصر والحداثة وأن تستثمر الفضائيات والإعلام الجديد وأدواته كي تؤكد البديل الثقافي الروحي الإيجابي بدل السلبي والموضوعي بدل العبثي المرضي..
وسيكون للمدارس والجامعات وتنقية مناهجها وضبط إداراتها وبرامجها فرصة جد حيوية للتصدي للعبث الإسلاموي المتطرف ومن المجدي هنا تبادل الزيارات والحوارات مع جامعات أوروبا والعالم المتقدم كيما نوجد قنوات فعل لدمقرطة الحياة وقطع الطريق على قوى الشحن المتخلفة وخطاب الكراهية الذي تحمله وتحاول بثه وإفشاءه…
إن عودة الجامع وعناصره إلى حضن المجتمع وسلامة الخطاب، لا تأتي بسهولة ولا يمكن غض الطرف عما يجري خلف اسواره وفي قاعاته الفسيحة وما تضمه من عناصر ينبغي متابعة أنشطتها بدقة على اساس من الشفافية والانفتاح.. وهي ستمارس أنشطتها في العلن طالما كانت لا ترتكب جريمة أو نشاطا محظورا ممنوعا فيما ستتخفى وتحاول التضليل حيثما أرادت بالمجتمع شراً..
إنّ إبقاء وعي المجتمع نابها للمجريات وأداء كل جهة دورها الوظيفي بسلامة هو ما يعني أن تعزل وزارة الأوقاف تلك الإدارات المتساهلة مع عناصر التطرف والتشدد والوصول إلى وقف خبث جريمة نشر الأضاليل والحض على الكراهية بسلطة القانون..
ولعل مثل هذه المهمة هي الأسمى في الدفاع عن المجتمع وعن السلم الأهلي والاستقرار والأمن والأمان…
وهي المهمة الأبرز التي يمكنها أن تدعم البيشمركة وتنتصر لها بحماية الأمن القومي داخلياً وتمتين وحدة المجتمع وكل القوات الأمنية والعسكرية المعنية بحمايية المنجز في إطار دولة مدنية مستقرة.
إن شرارة العبث والإجرام ستتحول إلى حرائق ونيران لا يمكن إطفاؤها إذا ما تُركت سبهللة ومنحت فرص ارتكاب ما تنويه ولابد من الحزم والحسم الآن قبل الاستفحال..
فهلا تنبهنا؟ وهلا نهضنا بمهمة التصدي للجريمة ولأضاليل قوى الظلام!؟
الثقة وطيدة في المجتمع الكوردستاني وبقيادته وجهودها النوعية واستفادتها من الخبرات المفيدة للجهد الدولي الأممي..