ألواح سومرية معاصرة تنشر مجموعة قصصية للتشكيلي والكاتب الأستاذ عادل كامل وتضعها بين ايديكم متطلعين لتفاعلاتكم وتداخلاتكم وتقويماتكم النقدية.. مع فائق الاعتبار والتقدير لجميع الأقلام
قال الصقر العجوز يخاطب حفيده:
ـ هذا ما آلت إليه مصائرنا: خسرنا البراري، والبحار، والغابات، ولم نكسب إلا أقفاصنا، وزرائبنا، وهذه المستنقعات…
ود الحفيد أن لا يرد على كلمات جده، لولا أن قوة ما لم تسمح له بالصمت:
ـ لكن الحكاية، يا جدي، بدأت توا ً….، فلو كانت وضعت خاتمتها حقا ً، لكان نصرهم مشرفا ً، لأنك بعد الآن لا تستطيع أن تعرف من عليه أن يمشي في جنازته: القاتل أم ضحيته…؟
ـ إنها حكاية شبيهة بالشواخص، لا هي تعرف على من تدل، ولا الموتى تعنيهم العلامات… لأننا جميعا ً لا نمتلك إلا هذه الأصداء…، فان اتسعت أو ضاقت، فإننا نجهل بداياتها، مثلما لا تعنينا نهاياتها أبدا ً…
ـ لو كان الأمر هكذا كما تقول…، فلماذا تحتم عليك أن لا تترك لنا إلا بذور أساك، ووهنك، وهذا الموت…؟
ـ أنا لم افعل هذا بإرادتي، اذهب واسأل من نسجها، وحاكها، وبسطها: إذا كان زمن الحياة لا يمتد ابعد من زمن زواله، فهل لهذه الحكاية مدى ابعد من هذا العويل، ومن هذا الصراخ، ومن هذا الصمت في نهاية المطاف؟
بغداد/30 تموز 2015
القصص
1 ـ الغزلان في السماء
2 ـ أحلام يوم غائم
3 البغل
4 ـ الحصان والأتان
5 ـ اقتضى حضوركم
6 ـ الغائب معنا
7 ـ المستنقع
8 ـ المصيدة
9 ـ الوباء
10 ـ حدثني الغراب قال
11 ـ حصل في وقت ما
12 ـ خواطر ظبية عند بوابة الجحيم
13 ـ كآبة بيضاء
14 ـ غبار وكلمات
15 ـ في الطريق إلى المنصة
– تصميم الغلاف عدنان المبارك والرسومات المرافقة للقصص من عمل المؤلف و عدنان المبارك أيضا ً.
* * *
الغزلان في السماء
ـ لا تتعب نفسك، فالغزلان اختفت.
فقال لها:
ـ اعرف…، أنا قلت لك ِ إنها توارت، كأنها تبخرت، ذابت…، ولكن كيف؟
فقال الثور للأتان، وهما يراقبان الزرائب، والحظائر، وباقي الأجنحة، في الحديقة:
ـ هم يقولون إنها عبرت الحواجز، ثم قفزت الأسوار، ولاذت بالبرية..
هزت الأتان رأسها:
ـ إشاعة!
ـ لا، هناك احتمال إنها أصيبت بأحد الأمراض…، ونفقت، فلم يتم الإعلان عن ذلك لتلافي الفوضى.
فكررت الأتان:
ـ إشاعة.
فرد الثور، بعد لحظة صمت:
ـ الاحتمال الأخير غير معقول..
ـ وما هذا الاحتمال…؟
ـ تم اجتثاثها، فأنت تعرف إنها أقدم نظريات الحكم!
ـ إفراط في السخف، وفي السخرية…، فلماذا يتم اجتثاثها، وهي غير ضارة إن لم تكن منافعها لا تحصى…؟
فكر بصوت مسموع:
ـ ربما لأن جمالها لم يعد محتملا ً…، فثمة حسد، حسد يغيض…، يوخز، ربما سمح لهم باجتثاثها، كي لا تحدث فتنة!
ـ أيحدث الجمال فتنة…؟
قال الثور بعد ان صفن قليلا ً:
ـ نعم، أيتها الأتان العزيزة، انه أكثر الفتن إيلاما ً…، وأذى، ففتنة الجمال الأشد مرارة من القتل!
ـ أنا تحدثت عن الجمال ولم أتحدث عن موضوع آخر…؟
ـ كلاهما، فتنة، توقد ما لا يمكن إطفاؤه!
أجابت الأتان بصوت مرح:
ـ دعك من الجمال، إلا إذا كان علقما ً، فالغزلان مخلوقات وديعات، ظريفات، ناعمات، كأنهن بنات ذاهبات إلى المدرسة!
ـ ربما يكن ارتكبن معصية، أو قمن بالتحريض، أو دارت برؤوسهن خيالات التذمر …؟
ـ لا أتصور..
لامس الثور جسدها، بعد أن قرب رأسه منها كثيرا ً، هامسا ً:
ـ أعظم السدود تخربها فأرة! وأغنى الأغنياء يقتله بخله!
ـ أنا لا اعتقد!
فكر لبرهة، وأجاب:
ـ هناك احتمال إنهن قمّن بالتخاطر مع غزلان حديقة أجنبية، أو ثرثرن، أو كشفن عن المستور، أو لم يلتزمن بتعاليم سيدنا المدير…؟
ـ لا…، فانا ثور يشم رائحة السكين قبل ان يلوّح بها هذا القصاب…. أو ذاك؟
ـ دعنا من مخاوفك، يا سيدي، فلو أحصيناها فإنها لا تحصى، كالنعم، وأسباب الرخاء!
ـ لم تبق إلا إشاعة واحدة وهي إنهن، في ليلة العاصفة، وعند اشتداد البرد، وهطول الظلمات ممتزجة بالحجارة…، وبعد إعلان النفير، ومنعنا من التجوال…، صعدن إلى السماء؟
ـ ماذا قلت؟
ـ صعدن إلى الأعالي..
ـ وماذا يفعلن هناك؟
ـ هناك احتمالات متعددة، يا سيدتي الجميلة، أما لأنهن غاضبات على إدارة الحديقة، ومديرها العنيد، وأما إنهن تلقيّن دعوة …، وأما ذهبن للسياحة، أو لأداء فريضة، أو للمؤانسة والاستمتاع، وأما جرت معاملتهن كمعاملة الغرقى، والمحروقين، والمغدور بهم…؟
ـ مع انك تعرف إنني حمارة ذكية، فاتنة، باذخة الحسن، ولم أنجب إلا بغلا ً واحدا ً…، ولم أتورط بالانتماء إلى أطياف الشمال، ولا إلى أطياف الجنوب، ولم تغوني أطياف الوسط، وسواها من الأطياف…، فانا بدأت اشكك…، فثمة وسواس بدأ يوسوس في رأسي.؟
ـ بغبائي؟
ـ لا لم اقصد ذلك، بل قصدت إن الجهل، الجهل وحده، هو الذي يصنع أعظم المعجزات، فهو شبيه بالظلمات التي وحدها تستطيع ان تبصر موقع اصغر عود ثقاب متوقد…!
ـ كي يتم إطفاؤه؟
ـ يا ثوري، لا تدع عقلك النيّر، يبتل بالأوهام، ذلك لأن احتمال صعودهن إلى السماء، شبيه بنزول فيلة أو خراتيت لدك الأرض، ومحونا من هذا الوجود!
انفجر ضاحكا ً، لبرهة، ثم أغلق فمه، وراح يحدق في عينيها العسليتين الواسعتين:
ـ لن أؤذيك بالحديث عن بغلك الابن الذي ذبح فداء ً للذئاب، بل سأتحدث عن الإفراط في حساسيتك، وعن رهافتك المبالغ بها!
ـ وماذا افعل وأنا ولدت حمارة….؟
ولم تدعه يقاطعها، متابعة:
ـ فلم أنجب حمارا ً، مثلي، ليحمل الأثقال، والأوزار، ويجر العربات، وأخيرا ً يصبح نذرا ً للأسود والنمور والتماسيح…، فأنجبت بغلا ً لن يرتكب أخطاء والده الحصان، ولن يرتكب إثم والدته الأتان!
ـ وهل لا يصعد البغل إلى الأعالي…؟
ـ لا…، لم يصعد ولم ينزل منها …، بل مزقته أنياب الذئاب، وصار طعاما ً لها…، فقد كان من الصعب، وربما من المستحيل، ان يحصل على أجنحة…، مع إنني بذلت جهدا ً جبارا ً مع النسور، والصقور، والغربان، وسواها من ذوات الأجنحة، فباءت جهودي، وتضرعاتي، ووسائلي المختلفة بالفشل والخيبة.
رآها تبتعد عنه، وسمعها تولول:
ـ لم اقصد إثارة شجونك، واساك…، فنحن ولدنا للمفترسات، خاتمة أعمارنا المقررة قبل ولادتنا…، فهل كان باستطاعتنا التلاعب بالأقدار….؟
استعادت قواها، وقالت بصوت غاضب:
ـ ولا مكان للذئاب في السماء!
وقالت ساخرة:
ـ فقد ترى النمل والنحل والبلابل ولكنك لن ترى النمور والأسود أو الضباع!
أجاب بصوت رزين، هادئ:
ـ اعرف…، ولا مكان للكلاب، ولا مكان للخنازير، ولا مكان للأفاعي أيضا ً…
ـ آ ….، قل كلاما ً يهدأ عقلي المرتبك، المشوش، المضطرب…، وإلا ماذا لو صعدت بنات أوى، والتماسيح، والفيلة، إلى السماء، فأين سنذهب…؟
ـ عدنا نفكر!
وأضاف:
ـ حذار…، فقد تكشفنا أجهزة الذبذبات الذكية..، وتدلهم علينا: عثرنا على ومضات في رأس ثور وفي رأس حمارة في الزريبة المرقمة…، خلف حظائر …، بجوار أقفاص ….، الأسود!
ـ لا ترعبني..، فأنت، أيها العنيد، مصاب بعقدة السكين! تنام وتستيقظ ولا تتغيب عنك رائحتها! حتى ان طيفها استحال إلى شبح!
ـ أيها الأتان، يا له من مساء كدر، حزين..، شبيه بنهاية العالم.
ـ عدت تفكر…! ألف مرة قلت لك: إذا اكتأبت، أو داهمتك الأحزان، وإذا أصبت بالشرود، أو الذهان، فأذهب حالا ً إلى زريبتك وجد أول بقرة ونزها!
ـ مللت، حتى اسودت علي ّ الدنيا.
ـ للأسف…، أنا اختلف عنك، فانا استطيع فعلها مع أول حصان، بل وحتى مع فيل! لكنك مازلت عنيفا ً، وحشا ً، فأنت أرقى مني.
ـ بماذا أنا أرقى منك…؟
ـ في الأقل، لحمك يباع، وثمنه مرتفع، وجلدك أثمن!
ارتج جسده، وراح يحك جسده بالجدار، بقوة، حتى أدماه. اقتربت منه، هامسة:
ـ لا تغضب…، جلدك لن يذهب إلى المزابل، ولن يحرق، في المحرقة، ولن تتغذى عليه الديدان….، جلدك سيتحول إلى بساطيل في أقدام جنودنا الشجعان!
تهيج، وازداد توترا ً، فهاج، مرة أخرى، وراح ينطح الجدار، حتى كاد يكسر قرنه:
ـ اهدأ ..، أرجوك..، فهذه هي مصائرنا، الحمير، بعد أن حملوا عليها أثقال البشر، أصبحت تعد طعاما ً للعاطلين عن العمل، لحمنا للمفترسات، وجلودك للأحذية!
برك فوق الروث، لدقائق، ثم نهض واقترب منها:
ـ ها أنا أدرك سر غضبك، يا ثوري!
ـ ماذا دار برأسك، أيتها الجميلة، غير صحيح!
ـ ها، وماذا دار برأسي؟
ـ قلت: لا البغال، ولا الحمير، ولا الجاموس، يسمحون لهم برفع رؤوسهم أعلى من حاجز هذه الزريبة!
ـ اقسم بالمدير، وبمساعدته الببغاء، أنت ِ أذكى أتان عرفتها في حياتي.
ـ حمارة تحاور ثور لعلها تغويه!
ـ أسس! بدأت أجهزة كشف الذبذبات تعمل.
ـ إذا ً، أيها الموقر، أين اختفت الغزلان…؟
ـ إنها لم تصعد إلى السماء…، لأن أحدا ً لم يوجه لها دعوة…، ولأنها لا تمتلك أجنحة، ولم يتم اجتثاثها، ولم تمرض، ولم ترسل إلى المحرقة، ولم يسمح لها بالعمل في السيرك …، فأين اختفت…؟
ـ لو أخبرتك…، ماذا تهديني؟
ـ قبلة!
ـ يا للقمر، ويا للنجوم، ما أبهاهما في حلكة هذا الليل…! ثور يهدي حمارته قبله!
هز رأسه:
ـ حتى لم يعد لدي ّ قرن! غضبي سبب لي النكبات!
فقالت بحزن:
ـ وأنا رهافتي كادت تفقدني عقلي!
صمت برهة وقال لها بصوت مرتفع:
ـ هكذا تغزل اليد بالمغزل غزلها!
ـ ماذا تقصد؟
ـ بالعربي…، الظلمات لا معنى لها إلا بنقيضها…!
ـ غير صحيح، فأنت قلت: شبيه الشيء منجذب إليه؟
ـ أكاد أقول…، أنت مثلي، كلانا اجتاز حاجز الجنون!
ـ لا، لا، لا ، فأنت قصدت: حاجز المحرمات، وكأننا نجونا من الطوفان!
ساد الصمت فترة غير قصيرة، لتسأله بغتة:
ـ لقد ناورت طويلا ً حتى كدت لا تبوح لي بالجواب: أين اختفت، أين توارت، أين … ذهبت الغزلان، إن لم تهاجر، ولم تهّجر، ولم تصب بداء الخنازير، ولا بالايبولا، ولا بأنفلونزا البلابل، ولا بداء فقدان الذنب، ولم تصب بداء العظمة، وبداء الكلب، ولا بحمى القنافذ…، ولم تذبح فداء ً للقائد، ولم تصعد إلى أعلى الأعالي…..؟
ـ أخاف ان أبوح، يا وردتي!
ـ وهل تراني اعمل مخبرة، وهل حديقتنا تستخدم الحمير لإعلاء مجدها…؟
ـ هذا غير سليم، ليس بدافع الاستحالة، بل لأن حديقتنا لم تعد بحاجة إلى حمير يخبروها بما يحدث…!
ـ أحسنت..، تكاد تخفف من شطحتك، وتطمأن قلبي المضطرب، بهذا الاعتذار.
همس من غير كلمات. فقالت:
ـ فهمت! أنا كنت اعرف إن السيد المدير عقد صفقة خاصة بالغزلان، وأرسلها كي تتجول في حدائق العالم! وهناك من يقول إنها أرسلت إلى المتاحف!
ـ ربما للدعاية …، ان نفتخر بغزلاننا، وليس بالبراغيث، أو بالديدان..، أو بالصراصير؟
ـ يقال، هناك ألف سبب، ولكن السبب الأول هو: إن السيد المدير باعها! بل ويقال انه باع الحمير والبغال والثيران معها!
ـ لكنه لم يرسلنا.
ـ انتظري …، فلم يحن زمن سفرنا بعد..!
ـ تقصد، ان السيد المدير، أنقذها، ففي الأقل، لن تذبح ولن تباع ولن تهلك في زرائبها بسبب البرد، أو الإهمال..؟
ـ آ …، لو أسرع المدير، يا حمارتي، وعجل ببيعنا!
ـ أرجوك …، ألا تدرك ان الأسى خيانة، والخمول نذالة، وفقدان الأمل جريمة يعاقب عليها القانون!
21/2/2015
أحلام يوم غائم
لم يفلح الفأر، رغم تحرشاته، ولكزاته، وقذفه بالحصى، ووخزه بمخالبه، في إيقاظ الأسد، حتى بدا له شبيها ً بالتمثال الذي طالما أثار إعجابه، بهيأته، ورشاقته، وتناسق نظراته مع جسده.
عاد الفأر، مرة ثانية، يتحرش، ويوخز، من غير جدوى. حتى فكر ان يسرق إحدى العربات التي كانت تفخخ، في الحديقة، ويقودها بنفسه، ليفجر القفص؛ والأسد في عرينه.
ـ عرينه…، لا.
متابعا ً بصوت ساخر:
ـ عن أي عرين أتحدث…، وأنا لا أشاهد إلا أرضا ً مبللة رائحتها تذهب ابعد من أسوار الحديقة، حتى أصبح المسكين ينام فوق برازه!
واستغرب الفأر إنهم كانوا شيدوا له تمثالا ً، أقاموه، عند المدخل، منذ سنوات بعيدة، وها هو لم يعد يكترث لماضيه، ولا للزائرين، وهم ـ مثله ـ فشلوا في إثارته، وإيقاظه من سباته العميق.
ـ أسد…؟!
لأنه شاهد الدب يرقص، كما شاهد الذئاب لا تكف عن الحركة، ومراقبه الزوار، ورأى الزرافة تلوح برأسها كأنها مازالت في البرية، والتمساح يداعب أصابع الأطفال بمرح، والكركدن يحدق في السماء، وشاهد سواها، عدا الأسد، ومعه ليوث آخرين أيضا ً، يغطون في سبات عميق.
كانت ظهيرة باردة، غائمة، والسماء تنذر بسقوط المطر، عندما خرج الفأر خصيصا ً لزيارته، إثر حلم رأى فيه الأسد، منتفضا ً، غاضبا ً، يلقي خطابا ً في الساحة الكبرى، وسط الحديقة، ويدعوا لإنزال الهزيمة بالثعالب، وبنات أوى، والنمور، والدعالج، والأفاعي، والخنازير، وبالمخلوقات المماثلة، في مكرها، ووضاعتها.
ثم ها هو يجد الأسد جثة هامدة. فلكزه بقوة، ووخزه بشوكة، وما ان لمح الدم يخرج من الجرح، حتى أدرك انه على قيد الحياة، مما أثار فضوله، وحيرته. فابتعد عنه، مرتجف الأوصال:
ـ لا معنى للحديث معك عن الماضي السحيق.
لكن الفأر سمع لغط الزائرين، المتجمهرين، فشاهدهم ضجرين، يتأففون، وحائرين أيضا ً، فقال يخاطبه:
ـ بل أنا أحدثك عن العصر الذي لم يجرأ أحدا ً إلا ان يقدم لك الولاء والطاعة …، مع إننا لم ننس ان ما فعله أسلافي، وأجدادي، وآبائي من احترام لكم، فكنا نأتيك بالهدايا، للاعتراف لك بالسيادة، والفخامة، والعظمة.
صمت برهة وقال لنفسه:
ـ لا معنى للاسترسال..، فأنت تعرف ان زمنك ولى…، وأصبحت عتيقا ً، باليا ً، لا تصلح حتى للسيرك! مع انك طالما أثرت إعجابنا بوثباتك، ورقصاتك، ومهارتك في القفزات البهلوانية…، ولكن ما الذي كان يدور في رأسي، بعد ان رأيتك في الحلم؟
ارتج جسد الفأر، وهو يشاهد الزائرين يتجمهرون خلف القضبان، فسأل نفسه: ما الذي يثير فضولهم، ودهشتهم ..؟
فسمع احدهم يقول:
ـ ربما هرم، وأصبح عاجزا ً..
وأضاف آخر:
ـ وتعب من الزعامة، ارتوى منها، شبع، فتخلى عنها.
ـ ربما يعاني من الجوع، أو من الخنوع، أو الإذلال!
ـ أو أصيب بأحد أمراض العصر..
ـ أو في الغالب فقد مرحه، وهيبته، ورهبته …؟
اقترب الفأر منه كثيرا ً، من غير حذر، وحدق في رأسه الكبير، وراح يتتبع ملتقطا ً الذبذبات الصادرة عن دماغه:
ـ أيها الفأر…، ماذا تريد مني…؟ منذ ساعة وأنت تدور، وتهذي، وكأنك الموت نفسه جاء يبشرني بالخلاص…، فعد ـ أرجوك ـ إلى جحرك، لعل أسد التراب يبتلعك، في الطريق..، أو يجهز عليك كلب من كلابنا السائبة!
فدار بخلد الفأر: حتى في نومه، وفي لاوعيه مازال شرسا ً، وعدوانيا ً!
ـ أيها الغبي…، لو كنت شريرا ً، كما قلت، لمسحت الأرض بك، فما أنت سوى لقمة ضئيلة …، وإلا فأنني سأنتفض…، مع إنني اعرف انك ستلوذ بالفرار…، كما يفعل أمثالك، الأنذال، وكما فعل أسلافك، وهربوا من الغابات، وغزوا قرى البشر ومدنهم.
ـ لن اهرب…، فلوا افترستني سأقول هذا أفضل من ان أموت بين أنياب قط، أو كلب متوحش…، فهذه حسنة نادرة آمل ان تفعلها، فانا طالما حلمت ان يفترسني أسد بدل الموت في حفرة مظلمة.
ـ لن ادعك تستفزني، فانا عمليا ً لا أريد ان اعرف ما يدور برؤوس الحمقى وهم أكثر سخفا ً وبذاءة منك…، فعليك ان لا تتجاوز حدودك.
ـ وأنت…، هل عرفتها؟
ـ إنها بحدود المساحة التي أشعلها!
ـ مسكين، لم يتركوا لك من الأرض الشاسعة، ومن غاباتها، ومن براريها، إلا مسحة بحدود جسدك!
ـ وماذا افعل بها حتى لو وهبوني أرضا ً بسعة السماء؟
ـ حسنا ًلم يفعلوا ذلك!
ـ نذل..، فأر مطابخ، مجاري، ومزابل…، وبوزك ملوث بالسخام، ومصيرك أما ينتهي داخل المصيدة، أو تمزقك الأنياب..
ـ وأنت، يا سيدي، هل يشفع لك تمثالك…، وهذا الجمهور الغفير من المعجبين الساخرين، المستهزئين، والمتندرين بك…؟
ـ يا أحمق، أنا هو من لم يعد مكترثا ً للدنيا وما فيها، لا ماضيها ولا مستقبلها، بعد ان بانت عن حقيقة أوهامها، أو قل: أوهام حقيقتها !
فقال الفأر ساخرا ً:
ـ حتى أنا آبى ان أبول عليك!
ـ نذل، قلت انك نذل، ككل حيوان مأبون، ابسط أفعاله النذالة!
ـ أنا لست مأفونا، ولا مثليا ً، أنا ـ يا سيدي ـ ضحيتكم!
ـ وهل أنا هو المدير…؟
سمع احد الزوار يخاطبه:
ـ عضه!
فأجابه:
ـ أنا لست كلبا ً سائبا ً، ألا ترى الأسد يحلم!
صفق الجمهور، وارتفعت هتافاتهم، فسمع الفأر احدهم يسأله:
ـ وبماذا يحلم؟
ـ يحلم ان تغادروا الحديقة، كي يستيقظ، وينتظر حلول الليل، لتأمل النجوم، والمجرات، والكوزرات…!
ـ اهو من الحرس الخاص؟
ـ لا ..، هو من أنهى دورهم، وجعل حديقتنا منزوعة السلاح، فهو اتخذ من المنقرضات قدوة له…!
صفقوا للفأر:
ـ عجيب..، ان نجد فأرا ً يفكر في هذه الحديقة؟
ـ أسس..، قد يسمعنا المدير…، وقد يسمعنا الأسد…، فماذا افعل، أم ان موتي سيبهجكم…، لأن دوري، هو الآخر، أصبح فائضا ً…؟
دار بخلد الأسد، وقد أدار ظهره نحو الجدار، تاركا ً الزوار في حيرة اكبر، ان المصائب لا تأتي إلا بحلول عمياء! مع ان نهاياتها لا تذهب ابعد من مقدماتها إلا بوصفهما بالغة التوازن، متابعا ً مع نفسه: فطالما ذكر جدي: سيأتي الزمن الذي تتندر فيه عليكم أرذل البهائم، واقلها حنكة، ولكن أشدها قدرة على المواجهة، البقاء، والعبور.
اقترب الفأر من آذنه، هامسا ً:
ـ لا تكترث …، سأروي لك الحلم الذي رأيته، للجميع.
ساد الصمت، لبرهة، ثم سمع امرأة تطلب ان يسرد لها تفاصيل الحلم، من غير تفسير، أو تأويل:
ـ لم يكن حلما ً بمعنى إشباع الرغبة، أو الاستمتاع، أو التحذير، بل كان كابوسا ً. عادت وأكدت إنها ليست بحاجة إلى التفسير، والإفراط في المبالغة:
ـ لا تتفلسف…، طلبنا منك ان تروي ما شاهدت، ومن الأفضل ان تسلينا، مادمنا في عصر التسليات.
ـ آ ….
تأوه، ثم بدأ يروي بصوت متقطع:
ـ كنت أقف قدام سيادته، في الباب. فسألني: ماذا تفعل…؟ فقلت: جئت أؤدي ولاء الطاعة، والشكر، والامتنان. لكن الأسد انتفض، ونزل من المنصة، واخذ يلاطفني ومسح علي ّ بلسانه الكريم…، لم يبصق في فمي!، بل مسح جسدي كله، وباركني. وقال لي: مبارك دربك يا غلام. آنذاك فقدت الوعي، لزمن وجيز، وما ان أفقت، حتى رحت أشاهد الأسد يثب، ويرتفع عاليا ً، فقد أصبح يحوّم بأجنحة نسر، فوق سماء الحديقة. ثم فجأة اكفهرت الدنيا، فأرعدت السماء، أبرقت، اغبرت، اسودت، وامتلأت بسلاسل دوي حتى حسبت إنها نهاية الدنيا. فهمس الأسد في إذني: إنها الحرب…، إنها الحرب، إنها الحرب. كررها ثلاث مرات. فسألته والفزع كاد يقتلعني قلعا ً: ماذا افعل…؟ غاب الأسد لحظات، توارى، ثم ظهر أمامي عاريا ً، من غير جلد، ومن غير شعر، وقد انتزعت أنيابه منه وقطع ذيله…، حتى بدا لي مثل ديناصور صغير غاطس في بركة..، فسألته: ماذا حدث؟ أجاب بتردد: اسكت، أخشى عليك ان تعاقب بجريرة انك من أتباعي، أو لأنك رأيتني، ورأيت هذا الذي أنا نفسي لم أره منذ زمن بعيد. فضحكت، وأنا اخبره: ماذا أبقيت لي كي يأخذوه مني، فأنت سلخت جلدي وجلود أسلافي سلخا ً لم يسمح لي إلا ان أكون من أتباعك، حتى قيام الساعة.
صاحت السيدة بصوت مرتفع:
ـ ليس هذا هو الحلم الذي رأيته…!
فسألها الفأر باستغراب:
ـ أكنت في رأسي؟
أجابت بصوت جازم:
ـ لا تموه…، أرجوك، وإلا سأضطر لإخبار السيد المدير؟
ـ ومن أنت …؟
ـ إن لم ترو …، الحلم كما رايته، فستعرف من أنا؟
سمع الأسد يأمره بسرد تفاصيل الحلم كاملة، من غير تلاعب، محذرا ً من التمادي في المبالغة، والتهويل، والخداع:
ـ الأسد هو الأسد..، مثل قولنا: ليس لدينا إلا ما هو موجد!
ـ أوجز، ولا تتحايل، فطبائعكم هي التي أفضت بنا إلى هذا الحضيض!
ـ ولكن سعادته لم يكترث للعواصف، والأمطار، ولا للريح ذات الأنياب اللولبية، الشبيهة بمجسات العناكب، وبعض الدابات الليلة، لأن مخلوقات حديقتنا بدأت بالفرار، والهرب، فقد سرت شائعة تقول ان الطوفان على الأسوار …، وانه سيكنسنا من خارطة البسيطة، ويجتث ماضينا، آنذاك نكون كأننا سقطنا في قاع العدم. لكن فخامته لم يحرك ساكنا ً، فعطت عليه من شدة الهول: يا سيدي، هذه هي نهاية العالم! فدعنا نهرب. كاد يكشر عن أنيابه، ويغضب، ولكنه أبى وتكبر. فقلت بسليقة الواجب: سأموت معك إذا !. فأقصى ما يحلم به العبد ابن العبد ابن ابن العبيد هو ان يموت من اجل سيده..! آنذاك مرت سفينة كبيرة، بلا أشرعة، أو بيارق، أو دخان، لأنها لم تكن سفينة نوح، ولا سفينة تجارية، أو تقل السائحين، بل كانت سفينة حربية. فانتشلونا عنوة، رغم امتناع سيدي من ذلك. فسيادته أبدى امتعاضه…، في بادئ الأمر، ثم لان، هادن، واسترخى، ورضخ للأمر الواقع..، وأنا عملت مثله.
عادت السيدة تصرخ:
ـ وكيف انتهى الحلم؟
ـ سيدتي، لماذا الصراخ، ما أسبابه، وأنا أكلمك باحترام العقلاء…، هل هذه هي حقوق المرأة….، هل هذه هي المساواة، وأنت سيدة لطيفة جاءت لزياراتنا في مثل هذا اليوم الغائم، المكفهر، الأسود…؟
ـ آسفة، فالعاطفة كادت تفسد علي ّ عقلي، بعد ان بلغت أقاصي الحلم ومناطقه النائية!
ـ لم ينته …، فانتم تعرفون استحالة وضع خاتمة للذي مقدماته مسبوقة بأسبابها، مثلما تعرفون ان الأسباب ليست بحاجة إلى الأسباب كي تمتد، فالرأس يكمل الذنب، مثلما الذنب لا يمكن فصله عن الرأس، كما روى أسلافنا في غابر الدهر.
وهن للحظة ثم عاد يتكلم:
ـ عادوا وأقاموا للأسد التمثال ..، وهو القائم اليوم في الباب العظمى لحديقتنا…، ثم دار الزمن دورته، فأكرموه بهذا القفص، وبالأرض التي هي بحجم جسده المبارك! وقالوا له: لن يمسك الضر، ولا الشر، ولا الفاقة، ولا المرض، ولا البرد، ولا التسفيه، حتى نهاية حياتك مهما امتدت وعبرت حواجزها المحرمة.
خاطب الأسد الفأر عبر الذبذبات، من غير زئير، أو صوت، أو همس:
ـ لِم َحرّفت وحذفت، موّهت وكذّبت، بالغت وأخفيت…، لكن ماذا افعل عندما لا تزوّر الأسفار إلا من أمثالك…؟
ـ صه…! أنا أتحدث إلى السيدة الأولى..؟
قال الأسد للفأر، بالأسلوب نفسه:
ـ لقد خدعتك…، إنها عشيقته، لأنه طلب منها ان تتجسس علينا مباشرة، بعيدا ً عن الأنظمة الأخرى.
فخاطبها الفأر:
ـ آ ..، هل أنت سيدة موقرة أم من المخبرات؟
لم تسمعه، فقال للأسد:
ـ لم تنتبه لي، ولم تجبني.
قال الأسد له:
ـ أنا مازلت أسدا ً، وعليك ان تعرف مع من تتكلم؟
اقترب الفأر من الأسد، وهمس في آذنه:
ـ أصبح عدد الزائرين لا يحتمل، كأن يوم القيامة حل علينا، في هذا اليوم المكفهر…، فالسماء اسودت، والعاصفة اشتدت.
سمع ذبذبات الأسد:
ـ يا أحمق، الشمس مازالت في الأعالي تؤدي عملها..، وما هذه الغيوم إلا شبيهة بهذا الطوفان، مهمتها حجب الحقيقة.
ارتج جسد الفأر:
ـ أشم رائحة كريهة..
ـ وهل هناك عفنا ً اشد من رائحتك …، لأنك كنت تحلم ان تراني ميتا ً..، وها أنا لم أمت…؟
وقال متابعا ً:
ـ والآن اخبرني كم بلغ عدد المشيعين …؟
ـ سيدي …، الآن فهمت! فاغفر لي ارتكابي لهذا الذنب…؟
فسأله الأسد:
ـ ماذا فهمت؟
ـ انك أنت من يشيعهم إلى الأبدية!
واسترسل الفأر:
ـ لقد اشتدت العاصفة، وراحت تقتلع الأشجار، وتهدم الأسوار، وتكنس العلامات، فهي تهب من الشمال ومن الجنوب، ومن اليسار ومن اليمين …، أيها الميت انهض! أرجوك، باسم أسلافك وأحفادك ..، هم يستنجدون، ويستغيثون، ويطلبون العون منك!
ـ أغلق فمك، أرجوك، فانا لا امتلك سفينة…، وأنت تعرف إنها كانت بارجة حربية…، وذهبت، فلا تربك علي ّ خاتمة الحلم!
ـ آ ….، أكان هذا وهما ً…؟ أكان هذا سرابا ً…؟
ـ لا …، لم يكن وهما ً ولا سرابا ً…، فعندما تستيقظ ستكتشف انك بانتظار قرون كي ترى انك لم تستيقظ أبدا ً، وما ان ترفع رأسك حتى تجده طار في الهواء، أو أكلته الضباع، فلا تجهد نفسك بتأويل ما تراه، فانا أصدرت تعاليمي بمراقبة أحلام هؤلاء النائمين، فانا لا أتوقف عند التأويل، ولا عند التفسير، ولا عند تعدد الاحتمالات…، لأنني ساترك الحلم يذهب ابعد من الحالم، مثلما تعلمت ان ادع الحالم يذهب ابعد من أحلامه.
5/3/2015
البغل
ـ لا احد خارج مغطسه، ورطته، أيها الولد العزيز…، في هذا الإسطبل…!
تابع الحصان الهرم يتحدث إلى البغل ـ ابنه ـ ، عندما كانت درجات الحرارة قد بلغت درجة الانجماد:
ـ فأنت ترى بجلاء ما آلت إليه الأمور، أمورنا جميعا ً، بلا استثناء، فهي عامة، تؤيد نظرية: مادمنا لا نمتلك إلا الدفاع عن هذا الذي سنفقده، ألا يتحتم علينا ألا نأسف على ما سنخسره! “كأنه أراد الاعتراف: مادمنا ندافع عن كل ما لا يستحق إلا الدفن، والإهمال، فلماذا ندعه يغيب..؟ ” فكر البغل مع نفسه.
تابع الحصان، وهو يحك جسده بالجدار:
ـ فإذا كنت محكوما ً بوجودي في هذا الإسطبل، فلم الهرب منه، مادمت أينما ذهبت فالنتائج لا تختلف…، مادامت مقدماتها سبقت نهاياتها بزمن بعيد؟
ثم تمتم الحصان مع نفسه، بصوت مسموع: فانا لم ارتكب الذنب لأنني كنت لا امتلك قدرة على عدم ارتكابه، وأنا ـ هنا ـ لا أدافع عن ذنبي طلبا ً للغفران، لأن الأخير لا معنى له لولا انه وجد قبل ارتكاب الذنب! ألا ترى إننا كلما تقدمنا في النبش لا نكسب إلا الذهاب بعيدا ً في هذا المغطس…؟
هز البغل رأسه ضاحكا ً:
ـ أسرفت، يا أبتاه، بشرح القضية التي فقدت وضوحها، وربما منطقها…، فانا مأزقي يتلخص بما ارتكبته أنت من ذنب، أو إثم…، فلا أنا أصبحت مهرا ً، مثلما وعدت أمي، ولم أصبح حمارا ً، كي لا أشقى! فأنت وضعتني بين منزلتين الأولى تخلت عني، والثانية لا استطيع الانتماء لها. ولعلك تتذكر زمان الفتنة التي سادت، وعصفت بحديقتنا، وكيف كنت لا اعرف كيف اخلص نفسي من الخيول المتوحشة، وهي تذبح كل من لا يشبهها، وكيف كانت الحمير تغتال من يقترب منها. وإذا كنت خرجت سالما ً من المحنة، فلا يعني هذا إنني استرددت حقا ً ما من حقوقي، ذلك لأن موقعي لم يعد تائها ً بين فصلين، من الفصائل، بل راح الشك يفند حتى يقين وجودي، كمخلوق، يتمتع ببعض مواصفات الجرذان، أو ألسعالي، أو الخنافس!
اعترض الأب:
ـ بالعكس…، فأنت حصلت على امتياز نادر، لم يحض به احد من قبل…، وإلا …، من غيري …، منحك درجة أعلى من حمار مهمته حمل الأثقال، وجر العربات، أو بانتظار ان يصبح طعاما ً للضواري!
صاح البغل، وهو يرتجف:
ـ هكذا تبرر وجودي كوجود من لا أب ولا أم له! اسمه: البغل! فولا اغتصابك لها، في ليلة حالكة الظلام، أو تحت الشمس، لكان رأسي الآن اقل اضطرابا ً…!
ابتعد البغل قليلا ً متمتا ً بصوت مشوش:
ـ ألا ترى انك مازالت تدربني ـ كما فعلت منذ زمان بعيد ـ كي لا افتح فمي، وكي لا احتج، ولا أتذمر، ولا ….، مع انك لم تطلب مني ذلك مباشرة، ولكن دفاعك عن ذنبك يدل انك تحرص ان تدع فعلتك تذهب ابعد من وجودها المحض، نحو وجودي أنا: الضائع النسب، نحو: وجود مركب لا امتلك قدرة على فك لغزه!
ضحك الحصان ساخرا ً:
ـ وأنا من دربني كي اعمل على تدريبك….، من أغواني كي تكون إلا ثمرة غواية…؟
ـ هكذا يتم خلط النهايات بالتباسات مقدماتها، كي تكون النتائج بمنأى عن المس! بل حتى لا مجال لمناقشتها، فأنت لم ترتكب الذنب، وإنما هو الذي جرجرك لتنسج منه هذا الثوب!
فقال الحصان بصوت حزين:
ـ أنا لم اخف عليك محنتي، وهي محنتك، لأنك لو أخبرتني بمخلوق واحد غير مبتلى بمحنة، فسأعترف لك إنني فعلت فعلتي وأنا بتمام العقل، ولن أتنصل عن العقاب، لأن الأخير سيكون ظلها!
وأضاف بارتباك:
ـ فانا لا اقدر ان أرى الضوء من غير الظلمات!
وسأله:
ـ هل ثمة براءة غير مسبوقة بشوائبها؟
ـ هكذا نضطر للقبول بالأمر الواقع، إن كان إثما ً أو تسلية! فالعدالة وحدها لا معنى لها خارج الإسطبل؟
ثم سأل البغل الحصان:
ـ أعطني حسنة واحدة للخطيئة؟
ـ آ ……
صمت الحصان طويلا ً، ليقول بصوت ساخر:
ـ لو كانت الخطيئة بلا فائدة ما، فمن السهل تفنيد الفضيلة أيضا، ليس لأنهما مركبان من العناصر ذاتها، ولذات الدوافع، بل لأنه لا يوجد ما يدحضهما!
ـ ألا ترى كيف أصبح المغطس…، حديقة، والذنوب تسليات…. ، فانا أود ان أخبرك، مادامت البراءة تعني عدم الفعل، فلا براءة هناك!
ـ أتجدف، يا ولدي، لتحملني وزر هذا الذنب…، لأنك لا تتهمني بالذنب، بل تلمح للذي أرسلني!
ـ لا يصدقك أحدا، بل أنت نفسك لا تستطيع ان تلفق مثل هذا الاتهام، ليس لأنني تدربت على معرفة حدودي، بل لأن الحدود ذاتها لا تسمح لي بالذهاب ابعد منها.
نظر إلى الأقفاص، والزرائب، والحظائر، وأضاف:
ـ لو لم يكن شعور سكان هذه الحديقة، حقيقيا ً بالذنب، والأسى، والجور، لكانوا غير مضطرين للنوح، وكأنهم في مأتم، من غير مشاعر متأصلة بالذنب…، لأنهم، مثلي، ثمرة اغتصاب!
ـ تجلد..، يا ولد…، فانا نفسي امضي الليل أنوح على النهار، وامضي النهار أنوح على رحيل الليل، فهل أذنبت حبا ً بالذنب، لو لم يجرجرني الذنب إليه …، أم كنت امتلك قدرة عدم ارتكاب الذنب ولم افعل؟
غضب البغل، ورفع صوته:
ـ كأنك ملاك! وكأن أمي خلقت وحدها للغواية!
ـ لا…، ألا يكفي انك ولدت بأنف اعد لتحمل استنشاق الروث…؟ كي أخبرك: نادرون هؤلاء الذين يحملون أنفسهم أوزار أعمالهم، كما فعلت،واعترفت لك…، ولكن دع حكمتك لا تحرف النتائج عن أسبابها، والأسباب عن نهاياتها.
ـ لكنك طالما قلت: ما من ذرة إلا وهي في موقعها، ولا موقع بمعزل عن ذراته!
ـ لا تذكرني بما هو أقسى، فهناك ما لم تره، ويسلط عليه الضوء: هناك الأخ الذي ذبح أخاه، والبنت التي افترست أمها، الابن الذي اغتصب أمه، بعد قتل الأب…، هناك البراعم لا تتجدد إلا بعد إزاحة من جاء بها..
كاد البغل ان يفطس من الضحك:
ـ وأنت تعرف إنني ولدت لا مخصيا ً ولا عقيما ً، كما خلق انكي، الإله، في حديقتنا، فخلق الأم التي لم تترك مخصيا ً إلا وأنجبت منه طاغية صار ضحية، وضحية عاد ليكون قدوة للأنذال، والسفاحين…، فأنت تعرف إنني تتبعت خطاك حتى نهايتها! فرحت أراقبك وأنت تصول في ساحات الوغى، وفي ساحات السباق، حتى انتهى بك الأمر إلى جر العربات، ومنها عربات الموتى…، لتتجاهل انك أتيت بي لا أنا بالذكر ولا أنا بالأنثى…، مع ذلك كنت أغويت أمي بأنك ستنجب لها مهرا ً…، ألا تبا ً للبغل الذي وجد نفسه يبكي لأنه لم يصر حمارا ً ولم يصر مهرا ً…!
ـ ماذا افعل لك كي تغفر لي ، وأنت تتجاوز حدودك؟
ـ هل عصيتك؟
ـ شكواك هذه…، ذاتها معصية، وهي ذنب لا اكبر منه! لكنك رحت تنوح لتسمع السماء وتخبرها بما يعذبك!
قال البغل:
ـ دعني اروي لك ما حدث لي: لقد رأيتهم يهرولون، فهرولت خلفهم، ورايتهم ينوحون فنحت معهم، وعندما رايتهم يتناسلون رأيت العقم شاخصا ً أينما وليت وجهي…، فلا احد يتذكرني، لا ولد ولا بنت، سيزرع وردة فوق قبري!
ـ ها أنت أصبحت مثل المرأة التي تقطع البصل وتنوح عليه…!
أجاب البغل:
ـ كأنك تبحث عن شرعية مقبولة تغويني للقبول بها بعد عمل المرأة الشرعي في تقطيع البصل!
ـ يا ولدي…، لا مسافة بينهما، لا في مقدماتها، ولا في نهاياتها، وأنت مازالت تتجمد بردا ً في هذا الشتاء تارة، أو ستفطس في جحيم الصيف، تارة أخرى!
ـ لا أقول انك أجدت خلط الأوراق، أو أجدت التمويه، واستخدمت سلطتك بما حصلت عليه من امتيازات، لا تحصى، ولا أريد التقليل من مكانتك، ومهارتك، وما قمت به، على مر العصور…، فأنت لا تقارن بحيوان عقيم، لا مع اليسار ضد اليمين، ولا مع اليمين ضد اليسار، لا مع الأبيض ضد الأسود، ولا مع الأسود ضد البراءة!، ولكنك تختلف عني، فأنت لم تصبح مثل ولدك، ولد مسلوب إرادة الأب، وولد مسلوب إرادة الحمل، فانا لم امثل إلا قدوة هذا الخليط، بل ذروته، فانا حاصل نزوة أساساها العبث، واللهو، والعدوان، واللامبالاة، والاغتصاب! فماذا تطلب من حيوان ولد أعمى كي يتحدث عن الأنوار…، والمباهج، والجنات…، وإن أغلق فمه، يعاقب بالجحيم، وبنيران جهنم، بعد حياة أوراقها صفحات ممحوات إلا من هذا الخليط، ومن هذا الجور؟
متمتما ً بشرود، وهو يحك جسده بالجدار:
ـ فأين يكمن الخلل…؟ هل يكمن في إدامته، كالإصرار على العدوان، والإصرار على ارتكابه بشرعية بالغة الغش، كالعثور على مبررات تسوغه، وتمنحه شرعيته، حد القداسة، أو كي يبرمج ليغدو قانونا ً، ودستورا ً كأنه نزل من السماء…؟ فيصير العدوان نصرا ً، وتصير السرقة فطنة، والقتل بطولة، والسلب غنيمة، والتزوير ذكاء ً، وكتم الأنفاس عدالة، والاغتصاب فخرا ً…؟
ـ أنا أسمعك، رغم البرد، ورغم انتظار ما سيحصل لنا داخل هذه الحديقة، فقد تتحول أجسادنا إلى قطع لحم طازجة تتمتع بها أفواه تلك المفترسات الخاملة!
ـ هكذا يلد الليل ولده! وهكذا علينا ان نمضي حياتنا بانتظار هذا الوليد، حتى لو لم يكن إلا هذا البغل!
تمتم الحصان بصوت وقور:
ـ يا ولدي، ان تولد من غير ذنب، وتعيش بلا خطيئة، كأنك لم تولد، ولم تعش، ولم تمت!
لم يقاوم البغل قهقهات كادت توقعه أرضا ً:
ـ ليس لدي ّ رأس يقدر على سبر أغوار هذه الكلمات. فما أنا سوى حلقة في السلسلة التي مقدماتها مسبوقة بمقدمات، ونهايتها متصلة بما لا نهاية له. لكن عندما أشقى لمعرفة هل: ولدت، هل عشت، هل مت…، أجد ان غيابي وجد قبل ولادتي، وقبري ليس سوى الباب الذي سأخرج منه، لكنني مع ذلك لا أجد عدالة تامة بين أسد يتلهى بلحم غزال، أو تمساح يبتلع بقرة، وبإنسان يطلق النار على أطفال، وبين شمس تضيء دروب السفاحين، ومطر يغرق القرى، وبإنسان يعاقب نفسه لأنه بلا ذنب! فانا لا امتلك قدرة معرفة ما حدث وما يحدث كي اعرف ما الذي سيحدث عندما ينتهي اجل هذا الظلام، وهذا البرد، وما هو أكثر استحالة على الفهم ان لا احد، كما قلت، ولد من غير خطيئة، وعنف، واغتصاب، ولا احد عاش من غير ارتكاب الذنوب، ومع ذلك تراه يمشي متبخترا ً، مزهوا ً، كالطاووس، وكأن الإثم واجب، والخطيئة سلوى، والسرقة نبل، والخسة عفة، والدناءة فضيلة، والمثل وساخة ونجس من عمل الأشرار، والذنوب ورود!
صمت الحصان طويلا ً، ثم تمتم:
ـ ولأنك لا تمتلك الأسباب التي أدت إلى نتائجها، فلا احد باستطاعته البت بما سنفعله، ولماذا فعلناه، حتى أسرفنا في الزهد، وتطهرنا من الموبقات!
وطلب منه ان يصغي جيدا ً، فقرب رأسه، قال الحصان متابعا ً:
ـ ولأنك من غير ذنب، فلن تحصل على الغفران!
وذكره بأول كلام الليل:
ـ فماذا لو امتنعت أمك من ارتكاب الزنا! لو لم تغلبها الغواية، ولا مبالاة النتيجة؟
بغيض أجاب الابن:
ـ وهل تهرب أتان مسكينة من حصان جامح كانت شهرته ملأت الدنيا…! حصان شارك في ساحات الوغى، باسلا ً، مغوارا ً، من ثم حصل على أوسمة النصر، في الجري …، قبل ان ينحدر مصيره لجر العربات، وحمل الأثقال، والى مشرد، وأخيرا ً إلى مخلوق معد للذبح! فهل تطلب من حمارة في أوج توهجها، الاعتراض، والامتناع، والتعفف؟
ـ ها أنت أزحت صفحة من صفحات المستور..، مع ان المخفي يتستر بما لا يحصى منها!
اعترض البغل:
ـ لا جدوى من النبش في هذه الألواح…، دعنا لا نزيد الطين بله…، فانا الآن اغطس في وحل الإسطبل، بجوار الزرائب، فوق الأوساخ، فلا أنت تستطيع ان تحشرني معكم، ولا أمي يسعدها ان تفتخر ببغل! فهل لديك كلمات تخفف عنا وطأت إثم الاغتصاب؟
ـ آ ….، يا مسكين، أين ذهبت…؟
ثم تابع الحصان العجوز:
ـ عدت إلى المشكلة التي عفى عليها الدهر: من كسر الجرة! بعد ان اندمجت أنظمة الحدائق في حديقة واحدة! وبعد ولى العالم العتيق، واندثر! وقد أصبحنا طلقاء، نتنعم بالحرية، حتى لو دفعنا حياتنا ً ثمنا ً متأخرا ً لها!
ـ حسنا ً، لنقل: هذا صحيح…، ولكن اخبرني ـ أرجوك ـ إلى أي الفصائل انتمي…، ومن ذا الذي يمنحني ورقة العبور…، كي لا أتعثر، أكثر مما تعثرت، في الدرب…؟
ـ ها أنت، يا ولدي، كلما اقتربنا من العثور على منفذ، تعيدنا إلى الحفرة، لنغطس فيها.
ـ مع انك هرمت، ولا احد يحفل بما أنجزته، ولا بتاريخك، لا في ساحات الوغى، ولا في ساحات السباقات، إلا انك ستموت وتدفن كحصان، حتى لو افترستك ضواري هذه الحديقة!
ـ وأمك، مثلي، ستحظى بالمصير نفسه.
ـ أنا أتحدث عن نفسي…، فلا أنا استطيع الانضمام إلى جماعة جر العربات، ولا إلى فريق السيرك، ولا إلى حمل الأثقال، فانا قد لا أصلح حتى طعاما ً للكلاب الجائعة!
قرب الحصان رأسه من البغل، هامسا ً:
ـ لا تثقل رأسك بالأحزان، فأنت أفضل مني، لأنك لا تمتلك نزعة العدوان، حتى لو كانت محض غواية، ولا تمتلك جموحي، ولا ما كان يشغلنا من نبالة الاصالة، ولغزها!، فأنت لديك امتياز المخصي، حتى لو لم تخص!
ـ إذا ً فانا لن اجني على احد، كما جنيت علي ّ…، أليس هذا هو قصدك؟
ـ دعنا من القصد…، فأنت خاتمة عهد، ونهاية عصر!
ـ أبتاه…! ها أنا أرى حياتي تغيب! كأن شيئا ً لم يحدث…، ومع ذلك تطلب مني ان لا أثقل رأسي بالإحزان..؟ فأي عقاب أعقاب به بسبب ذنب لم ارتكبه، ولم أفكر بارتكابه…، وزيادة في الشقاء، فانا كلما فكرت بالخلاص منه، أجد الأبواب موصدة. أمي تخلت عني خشية الفضيحة، وأنت غير مستعد لتبني ولد عقيم!
لم يجد الحصان ردا ً، إلا بعد مرور وقت غير قصير:
ـ انظر …، الذئاب تلد ذئابا ً، مثل النمور، والتماسيح، مثل الضفادع، ومثل القمل لا يلد إلا قملا ً…، ففي حديقتنا، قبل الطوفان وبعده، لم يحصل ان ولد القرد تمساحا ً، ولا الثور غزالا ً، ولا الغراب بلبلا ً…!
اعترض الابن:
ـ كنت اعتقد انك عثرت على حل …
ـ بل وجدته!
ـ هات ما لديك أيها العجوز…، فالبرد يجمدنا.
فسأله:
ـ هل أنا هو من اختار ان يولد حصانا ً…؟
ـ لا.
ـ وهل اختارت أمك ان تكون أتانا ً..؟
ـ لا.
ـ فما هو ذنبك كي تثقل ضميرك بذنب لم تقترفه…؟
ـ أبتاه …، هذه هي المشكلة.
ـ وهل ثمة مشكلة؟
ـ أليس حقا ً ان المشكلة التي لا حل لها ليست مشكلة…، كالذي يعاقب لأنه لم يرتكب ذنبا ً…؟ ومع ذلك تقول لي: لكل سؤال جواب…، وقد أغفلت: ان الجواب استحال إلى إشكالية!
ـ آ ……، فهمت، لكن….
ثم أضاف بعد لحظة صمت:
ـ أذهب واسألها: من منا المذنب…، كي ينال العقاب؟
قال البغل:
ـ فكرت بالأمر …، وسألتها، فأرشدتني للقائك! وها أنت تنصحني ان أجد الجواب لديها ….؟ إذا ً….، في نهاية المطاف، لا أنت ارتكبت الإثم، ولا هي آثمة، أما أنا، فعلي أن احفر قبري، وادفن إثمكما فيه!
لم يتكلم الحصان، فما دار بخلده، لم يعلنه: ومن قال لك أنت تقدر ان تختار حفرتك…؟
تساءل البغل بأسى عميق:
ـ ولكن اخبرني لماذا لم أجد من يشاركني هذا الهم، وهذا الأسى، ويخفف عني مصيبة لا يد لي فيها، فلا أنا ولدت مهرا ً كي أموت حصانا ً، ولا ولدت كرا ً كي أموت حمارا ً…؟
ـ الم أخبرك، منذ البدء: لا احد يولد خارج مغطسه!
متابعا ً أضاف:
ـ لكنك، في الأخير، أفضل مني، أيها الابن، لأنك لا تقدر ان تعتدي على احد، رغم إنهم جميعا ً يعتدون عليك!
ـ وماذا عن الأوزار التي حملتها طوال حياتي…؟
ـ لقد ذهبت…، مثل مرور الريح، والفصول، والبشر…، الكل لا يترك حتى أثرا ً لمروره..! فلم التشبث بالهم، والأحزان…؟
ـ إذا ً…، اخبرني، ما الخلاصة التي لا مناص من تعلمها، بعد ان قادتك إلى هذا الإسطبل…؟
ـ لو كنت اعرفها…، لكان لدي ّ ولد لا ينشغل بمثل هذه الأسئلة!
حدق الحصان شزرا ً في عيني البغل، وسأله:
ـ اخبرني، ما الذي حفزك لتسألني أسئلة ستذهب مع الريح، مع عذابنا، ووجودنا…؟
ـ بالأحرى كنت انبش في الأسرار التي كتمتها..؟
ـ لا أسرار هناك …، أبدا ً! عدا الأسرار التي لا أنا، بالإمكان مسها…؛ فهي بلا قفل مع إنها منحتك مفاتيحها ـ مثل الأنثى تشغلك بغوايتها غير مبصر إنها كتمت كل الذي بدا لك انشغالا ً ـ وهي مثل هذه الأرض، تارة تصير معسكرا ، وتارة تصير معتقلا ً، هي ارض حرب وهي متنزه للعشاق، هي أصبحت إطلالا ً لقصور، وهي أصبحت حفرة عميقة الأغوار …، وكم مرة بدت مثل ارض مهجورة جرداء، ومرات تحولت إلى مأوى للخنازير…، عارية إلا من الرمال…، هي مرآة لا ترى فيها إلا ما تراه يأخذ مساره مع غروب الشمس، لا المرآة احتفظت بالأثر، ولا الأثر ترك أثرا ً…، مع الدورات، التي لا حافات لها…، فهل جئت تبحث عن إجابة تعيد لضميرك بعض ما فقده من السكينة…، أم لأن البرد ذكرك بالحنين إلى ذكرى غابت وطواها النسيان…؟
ـ كل ما قلته، والليل يوشك ان يضع أوزاره، ليلد فجره…، كالعاقر وحدها تعرف كيف تؤدي دور هذه الأرض…!
وناداه:
ـ اقترب.
اقترب منه:
ـ انظر…، والليل يتوارى، ما الذي تعلمته من الظلمات سوى انتظار هذا الذي تراه يشع فضة، وبعد لحظات، ذهبا ً، بما لا يحصى من أطياف الأثير …و …، فأين هو المغطس، وأين هي المحنة، وأين هو الذنب…، وأنا لم أبح لك بأكثر من حكاية، مهما استطالت، فلن تمتد ابعد من مسافة محوها!
ـ هكذا اخذ النهار موقع الليل…، وهكذا بدت حديقتنا ـ بذئابها، بكلابها، بثعالبها، بأرانبها، وبوحوشها المروضة، بقردتها وثعابينها وخنازيرها، بإبلها وجاموسها وماعزها…، وبكل حي آخر تم أسره، وبكل من سلبت إرادته، وروض، ودجّن، أو استبدل، أو صار مخلوقا ً آخر…، فالجميع أصبح عائلة توحدها هذه الأقفاص، لكن لا احد يعرف ما الذي يجري، فيها، لا أنت تعرف شيئا ً عن جارك، ولا جارك يعرف شيئا ً عنك…
قاطعه بصوت رقيق:
ـ أكنت تصدق إننا سننجو من البرد…، وإننا مازلنا على قيد الحياة…؟
ـ لا…، أبدا ً، فانا كنت احسب إنني جئت أودعك، بعد ان بلغ زمنك نهايته!
ـ الشمس تفند ذلك…، أليس كذلك؟
أجاب البغل:
ـ حقا ً حتى البرد، لن يدم أكثر من زمن اندثاره، لأنك قلبت الذنب إلى عمل، والاغتصاب إلى فعل، والعدوان إلى حكاية، والدناءة إلى بطولة، وأخس النذالات إلى مجد!
ـ أنا لم افعل ذلك، من غير وجودك، فأنت هو الفجر أراه يبزغ من أغوار الظلمات!
ـ كأنك تدعوني لاستنشاق عطر الوردة التي خرجت من الدمن..؟
ـ بل وادعوك ان تحدق في وجهي: هل هذا هو وجه طاغية يمكن ان يرتكب ذنبا ً، بدم بارد، حبا ً بالذنب…،أم أنا حصان وجد مصيره يتدحرج قدامه وهو يجهل، مثلك، هل سيمتد العمر به نهار آخر…، قبل ان يدور مفتاحنا في قفل الظلمات؟!
20/1/2015
الحصان والأتان
مرت الأتان(1) تتبختر نشوانة من أمام الحصان، في الإسطبل، حيث أخفى ابتسامة لمحتها الأتان، فاقتربت منه كثيرا ً، حتى استنشق رائحتها، فسألته:
ـ أتسخر مني، أيها الحصان الجميل؟
ـ بالعكس…، فانا استعدت أزهى أيامي، عندما بذلت كل ما كان بوسعي أن أقدمه للآخرين!
لم تخبره بما اسر في إذنها، قبل سنوات طويلة، وهو يسفدها: عساك أن تلدي مهرا ًعداء مثلي، فلا تجعليه كالحمار الذي ينوء بحمل الأثقال(2) لتقول:
ـ ماذا نفعل غير حمل الأثقال..، فانا نفسي لو افعل ذلك لتخلصوا مني، وجعلوني وليمة للمفترسات!
ـ هذا هو الصواب.
ووجد صعوبة في متابعة الكلام، فسألته:
ـ أراك مهموما ً، حزينا ً، وتنظر بشرود …، ولا مبالاة؟
أجاب بعدم اكتراث:
ـ كنت أود لو مت بدل أن انطق بكلمة أسف، على ما مر…، ولكنني سأعترف لك، يا صديقتي القديمة، مادام الكلام، في نهاية المطاف، كالصمت، محض مرور من المجهول إلى المجهول، فها أنت ِ تستنطقيني!
ـ ها أنت أصبحت فيلسوفا ً، تفكر مثل القدماء؟
ـ لا، أيتها الأتان السعيدة، فانا لم اعد اجري في ساحات الوغى، ولا في ساحات المنازلات الكبرى، ثم لم اعد اجر العربات، بعد أن شغلوني بجر عربات الموتى، ثم عربات الزبل، ثم حمل الأثقال، رغم تقدمي بالعمر بعد سنوات طويلة من الخدمات التي قدمتها!
ـ وماذا بعد ذلك..؟
ـ الجواب وحده سيبقى لغزا ً…، فانا لم اقتل، ولم أمت…، بل وجدت مصيري ينتهي بي في هذا الإسطبل، في هذه الحديقة، وقد وضعوا لافتة تقول: حصان أصيل!
نطقت بنشوة:
ـ وها أنا أجدها مناسبة كي نعيد صداقتنا الحميمة القديمة…، يوم ولدت بغلا ً!
قالتها بخبث، فأجاب بصوت واهن:
ـ آ …، أيتها الجميلة، مهما تقدم العمر بك، فأنت مثار للدهشة، والغواية…، ولكن لماذا تبعثين في الأسى، بعد أن غاب عني عقلي، وفقدت جذوته!
فقالت بحيرة:
ـ وماذا افعل بعقلك…؟
ـ لا تسخري مني، فالعقل وحده مسؤول عن الغواية، والخطيئة!
ـ لو كان ما تقوله صحيحا ً، لكانوا أرسلوك إلى المسلخ طعاما ً للضواري، أو تخلصوا منك بإرسالك إلى المحرقة!
فقال بصوت حزين:
ـ لن يطول الأمر …، فعندما لم اعد قادرا ً على عرض مهاراتي، للزائرين، بوصفي أصبحت أثرا ً، كما قالوا ذلك، ستنتهي حفلتي في هذا الوجود!
ـ يا للخيبة، لن أتذوق عسلك!
فنطق بصوت مرتجف:
ـ لكن خيبتي اكبر …، أيتها الغالية، عندما لا أجد ساحة للجري، ولا أجد ساحة للمنازلة، ولا أجد قدرة للتمتع بزمني…، عدا الاحتفاء بوجودي وقد صار هيكلا ً…، بعد سنوات بذلت فيها كل ما كان بوسعي أن ابذله من اجل الآخرين، ولكن اخبريني..
صمت فترة غير قصيرة، ليسألها:
ـ أين ولدنا الغالي؟
اكتأبت، وبصعوبة وجدت الرد:
ـ افترسته الذئاب.
ـ آ ….، فهمت، لهذا ترغبين بابن…! إذا ً…، لن ادع الحزن يؤذيك، بعد أن ملأت رائحتك عقلي!، لكن ما الذي يضمن إن بغلنا السعيد، ابننا، لن تفترسه الكلاب، أو ينتهي به المطاف إلى هذا الإسطبل، في هذه الحديقة؟!
14/1/2015
اشارات :
1 ـأتان: ( اسم )
الجمع : أُتُنٌ ، و أُتْنٌ
الأتان : الحِمارة ، أنثى الحمار
2 ـ طه باقر ” مقدمة في ادب العراق القديم” ادب السخرية والغزل والتراتيل. جامعة بغداد ـ كلية الاداب ـ 1976 ص182
اقتضى حضوركم!
اقترب الغراب من النمر كثيرا ً وهمس في أذنه بصوت خفيض جدا ً، انه اقتضى حضوره إلى مكتب مكافحة الضوضاء، في تمام الساعة التاسعة صباحا ً. ففكر النمر برهة وسأل الغراب:
ـ أي بعد ساعتين…؟
ـ تماما ً.
ولم يجد النمر لديه رغبة للاستفسار، أو معرفة الأسباب، ليس لأن التبليغ بحد ذاته غير قابل للنقاش، بل لأنه، منذ أسابيع، بل وأشهر، شعر أن أيامه بلغت ذروتها، وقد كتم الأمر، ليمضي الوقت وحيدا ، بعد أن اتخذ قرارا ً بتجنب التفكير، وما شابه، كالتذكر، والاستعادة.
خفض رأسه وتركه يستقر فوق الأرض، بانتظار مرور الوقت. فلم ينشغل بالنظر ابعد من قضبان قفصه، بل وكف حتى عن النظر في الفضاء المحيط به، وقد ضاق، غير آسف انه قد يكون ارتكب هفوة، أو زل لسانه بكلمة، أو أبدى رأيا ً، أو حزن، أو لم يتناول طعامه بحسب المواعيد المقررة، أو لأي سبب آخر من الأسباب….، فهو ـ دار بباله ـ ليس لديه ما يعترض عليه، أو يؤيده، لا ما يحتج عليه ولا ما يدعوه له، الأمر الذي جعله يفكر بان احد أحفاده جادله في أمر لم يخطر بباله منذ ولادته في الغابة، قبل أكثر من نصف قرن، فقد سأله هل حقا ً إن وجودهم في الحديقة، أو في أية حديقة أخرى، يماثل عدمه؟ فتساءل الجد بشرود:
ـ لم افهم…؟
فقال حفيده له ما دمت الغابة قد سلبت منهم، وتم الاستيلاء عليها، فان وجودها وعدمه ينتهيان نهاية واحدة.
اقترب حفيده منه:
ـ أنا سمعت ما قاله الغراب…؟
فرد بلا مبالاة:
ـ ربما سيتاح لي…..، هناك، قول ما … لم … اقله!
وسكت. لأنه لم يجد أية ضرورة لأشغال ذهن حفيده بما أراد الاعتراف به، فقال الآخر:
ـ يبدو لي انك لا ترغب أن أشاركك همومك، أو ربما مازالت تعتقد بأنني لم انضج بعد!
رفع النمر رأسه قليلا ً:
ـ المشكلة يا ولدي هي ذاتها التي كانت قد وجدت قبل وجودنا…، وأنا الآن أود أن استمتع بتنفس ما تبقى من الهواء، رغم انه أصبح خانقا ً، بل وضارا ً.
ـ المشكلة كامنة في الهواء إذا ً…؟
ـ ليست في الهواء أو في الماء أو في هذه الأقفاص…، بل لأنه إن كانت هناك مشكلة أو لم تكن فان أحدا ً لا يستطيع أن يذهب ابعد منها!
ـ آ ….، عدت إلى السؤال الذي أخبرتني بإهماله…، لماذا مكثنا نستبسل بالبقاء على ما نحن عليه، حد الموت؟ وأنا سألتك: كل وسائل التقدم متوفرة، من الهواء إلى الماء، ومن الأرض إلى الغابات، ومن المعادن إلى النار….، إلى المخلوقات المتنوعة المهارات…، ومع ذلك نمضي حياتنا نكافح حد الهلاك من اجل الحفاظ على أقفاصنا، زرائبنا، حظائرنا، جحورنا، ومستنقعاتنا…..؟
ـ وماذا قلت لك …؟
ـ قلت لي: أغلق فمك، فأنت مازالت صبيا ً.
ابتسم الجد:
ـ والآن اكرر: لا تدع فمك يعمل بمعزل عن ….
ضحك الحفيد:
ـ ولكنك تعرف إننا لا نمتلك شيئا ً آخر غير هذه الأفواه….، وغير هذه الأصوات، فأما ننبح أو نعوي، وأما نجأر أو ننعب أو ننهق…!
ـ لا ….، فهناك …ما …
وأشار إلى رأسه، متابعا ً:
ـ اعرف … اعرف، ولكني فكرت إننا لا نستخدم إلا نسبة ضئيلة مما في هذه الرؤوس….، فانا سبق وسألت نفسي: لماذا وجدت هذه العقول….، وماذا لو عملنا درجة إضافية بها…، وما الذي يحصل لو عملنا بما تمتلك من إمكانيات متوفرة فيها…؟
ـ آ …..، صحيح، كأنها كانت تعمل، في يوم ما، مائة بالمائة! ثم حصل التدهور…، وإلا ما معنى إننا لا ندعها تعمل بطاقتها …؟
ـ لا أعرف..!
فكر الجد بصوت مسموع:
ـ أنا أيضا ً أضعت حياتي في هذه السفاسف، والهمهمات، والدندنات، والأسئلة!
ـ آ …، يا جدي، تكلم…، أود الاستماع إليك …، وأنت …تتحرر… من … الخوف.
ربما لأنه شعر انه لم يعد لديه ما يخشاه، أو يتوقعه، أو ينتظره، تابع مع مسحة من المرح، واللامبالاة الكدرة:
ـ اقترب مني ..
اقترب:
ـ ليس لدي ّ ما أبوح به لك…، عدا، كيف تنجو….، ففي الغابة كان أسلافك، لملايين السنين، عرفوا كيف يتخلصوا من المطاردين، والصيادين، والأشرار…..، فقاوموا الإبادة، والاجتثاث…، ولكن الأمر اختلف ـ في هذه الحديقة ـ تماما ً، فبعد أن نهبوا غاباتنا، واستولوا على أراضينا، ومواردنا، ووضعونا في هذه الأقفاص، فليس لدينا ما نفعله، عدا تعلم طرق أخرى للدفاع عن النفس!
ـ وهذا ما يفعله الأشرار أيضا ً…، أسرونا، وها هم يكللون نصرهم بالحفاظ علينا من الاندثار، ومن الزوال!
ـ لا اعرف!
مرت دقيقة صمت، فسأل الحفيد جده:
ـ أظنك كنت تريد أن توصيني….، ثم، تراجعت، وقلت لي: حذار أن تفتح فمك، وتعوي!
ـ ربما الأصوات مثال على ما ستؤول إليه المقدمات!
ـ زوال هذه الحديقة؟
ـ بل وزوال السماء ذاتها، بمجراتها، ونجومها، وكواكبها، لتتخذ هيئات أخرى غير هذه التي ظهرت في زمننا….!
ـ ما الحكمة من ذلك؟
ـ هذا ما كنت أود أن أخبرك به: فكر أن لا تفكر! ففي هذه الحديقة، ما أن تفكر، حتى يستدعوك….
ـ آ ….، ولهذا استدعوك، يا جدي العزيز…؟
ـ حتى هذه اللحظات، اجهل السبب…، ولكن ماداموا استدعوني، فالأمر لا يدعوا إلى التشاؤم…، والقنوط، والجزع….! وإلا لكان مصيري انتهى….، كمصير جدتك! وليمة للعاطلين عن العمل!
رفع الحفيد صوته:
ـ ألا ترى إن المعضلة تكمن هنا…؟
ـ لا تشغل رأسك…، فكما قلت لك: فكر أن لا تفكر، من اجل خلاصك. فان لم تنج، أكلوك، ومحوك من هذا الحديقة!
ضحك الحفيد:
ـ وأنت أمضيت حياتك لا تفكر إلا بالنجاة…، ثم، هذه هي النهاية، لم تنج!
ـ هذا ما جعلني أغلق فمي: فمادامت الطرق كلها تحافظ على المعادلة ذاتها فان عقلي يبقى منشغلا ً بـ: لماذا لا يعمل مائة بالمائة..؟
ـ قبل قليل قلت لي: أمضيت حياتك كي لا يعمل هذا العقل إلا وكأنه أدى واجبه! وها أنت تقول العكس…؟
ـ لم اقل العكس….، بل تساءلت لماذا لدينا عقول أفضل منا، اقصد العقول التي تأبى العمل.. ؟
ـ تقصد: لماذا لا ندعها تعمل بما تمتلك من قدرات حقيقية للعمل…؟
ـ هذه هي المعضلة.
ـ لا …، أنا اختلف معك، يا جدي، فالمعضلة لا تكمن هنا …
ـ أسكت! لا تجدف….، الم أخبرك: تعلم فن أن تبدو لا تفهم شيئا ً. الم أخبرك: مع الأغبياء كن أشدهم غباء ً ومع الأذكياء اخف حتى فمك! فإذا كان الصمت من ذهب فان الكلام ليس سوى تراب!
ـ آ ….، كي امضي عمري وأنا لا انتظر إلا من يستدعيني قبيل الموت…؟
ـ هذا إذا سمحوا لك أن تحافظ على صمتك!
ـ آ …، ربما استدعوك لأنك تكلمت؟
ـ بل ولم أفكر حتى بصمت!
ـ ربما وشى بك احدهم؟
ـ أنا لم اعد أشكل خطرا ً على احد، ولا حتى على نفسي…، فمن ذا يوشي بكائن فائض…؟
ـ ربما أصابعك، أو لسانك، أو ذيلك..؟ فأنت امتنعت عن أداء دورك في السيرك، ولم تعد تلعب مع اللاعبين…؟
ـ أنا هرمت …، وأصبحت هزأة…، فلماذا أوشي بنفسي، وافضحها…، ثم ما الذي اكسبه من هذه الوشاية؟
ـ مادمت لم تمت، فأنت مشبوه؟
ـ اعرف…، في هذه الدنيا، غير مسموح لك …، أو بالأحرى…، لا اعرف….، ربما وجدت هكذا ….، مسموح لك أن تحلم، أو أن تتوهم انك تحلم، لكن غير مسموح لك إلا أن تتوهم وهمك كأنه هو وحده ضد الوهم! فالضفادع ولدت كي تهلك في مستنقعها، مثل هذا الغراب الذي يعمل في مكتب مكافحة الضوضاء…
ـ لا تحزن يا جدي، فلن ادعهم يؤذوك…
ضحك الجد:
ـ إلا إذا عملت في إمرة احد الذئاب، أو الكلاب، أو مع بنات أوى…
ـ بل سأعمل مع البعوض، والقمل، والبرغوث…
ـ ماذا قلت…؟
ـ فهؤلاء…، يا جدي، هم أعداء العاطلين عن العمل، لان عملهم هو امتصاص دمائهم…، مثلما يشكلون تهديدا ً أبديا ً لهم، فهم وحدهم يقدرون على إعلان التمرد، والعصيان، والثورة….!
ـ الثورة…؟ يا مجنون…، وكل أسلحة الدنيا لديهم، مع الثروات، والموارد، والشاشات، والمراوغات…، فلم يبقوا لنا إلا أن نولد لنموت…، ونموت لنولد، ولكن من اجلهم!
ـ آ ….، مع أن عقولهم لا تعمل إلا بنسبة ضئيلة، حتى الحمير لديها أدمغة تعمل أفضل منهم!
ـ وهذه معضلة أخرى…، فماذا لو عملت عقولهم درجة أخرى….، فأنهم سيستولون على السماوات وعلى ما هو ابعد منها!
ـ آ …..، الآن فهمت لماذا أمضيت حياتك مع جدتي في ركن قصي، بعيد، لا يراك احد ولا ترى أحدا ً منهم….
ـ وهذه هي الحصيلة…، لم أغلق فمي، لأنني لم امتعض!
ـ ولكنك لم تفتح فمك، ولم تدع عقلك يعمل، مكتفيا ً بالرقص!
ـ ومتى رقصت يا ابن….؟
ـ مع جدتي…، أنا رأيتك، رقصت معها…، وتكلمت معها، قبل أن يتم اختطافها، ويذهبون بها أسيرة، ثم، أصبحت وليمة للعاطلين عن العمل.
هز الجد رأسه، وهو يشاهد الغراب يقترب منهما:
ـ آن لك … أن تغادر.
نظر الجد بأسى في محيا حفيده:
ـ هكذا العمر ذهب ومعه ماضيه، ومعه مستقبله أيضا ً!
همس الحفيد في أذن جده:
ـ لن ندعهم يؤذوك…، فالثورة قادمة!
سمع الجد الغراب يخاطبه:
ـ تكفي عقوبة الموت…، فلا تضاعفها؟
ضحك الجد:
ـ وماذا بعد الموت…؟
رد الغراب بصوت جاف:
ـ لولا ما بعد الموت لعم الخراب هذه الأرض وفسدت حدائقها!
فسأل الحفيد الغراب:
ـ من خولك أن تهدد جدي…، وتفزعه؟
ـ أنا لم اهدده، ولم انذره، ولم أفزعه…، بل أخبرته بما سيحصل له.
خاطب الجد حفيده:
ـ لا علاقة للسيد الغراب بما حصل…، وبما يحصل، فلا احد يستطيع أن يحدد من المسؤول…
في صالة المؤسسة العامة لمكافحة الضوضاء، طلب من النمر الجلوس، فقد أمره جرذ بذلك، واخبره بضرورة أن لا يفتح فمه، وألا يتذمر، أو يحزن، وان لا يظهر خوفا ً أو أسى على محياه، فالقضية جد عادية، وستنتهي حال إجراء التحقيق فيها. فهز النمر رأسه، وراح يراقب بصمت تام: دخل ثور….، ولم يخرج. ودخلت ظبية، هي الأخرى، لم تغادر. فقرر النمر الامتناع عن التفكير، مكتفيا ً بالمراقبة، كأنه يشاهد فلما ً أو برنامجا ً وثائقيا ً. فدخل تمساح ولكنه لم يتأخر كثيرا ً ليخرج يتلوى مثل أفعى، أعقبه دب، ولم يمكث إلا قليلا ً، ليخرج بجناحين شفافين، فصاح الجرد بصوت غاضب:
ـ أين أنت أيها الكلب!
نظر النمر إلى الخلف، فلم ير إلا أتانا ً جاثمة بجواره، تصدر عنها رائحة روث، فقال لها:
ـ ربما قصدك؟
ـ لا اعرف…، فانا حمارة بنت حمار وصولا ً إلى جدي الأعظم ….، كلنا ولدنا بطاعة مديرنا …، والولاء له….، وسنموت بأوامره أيضا ً.
هز رأسه:
ـ نحن ولدنا نمورا ً…، وهؤلاء ولدوا حشرات، وسواهم ديدانا ً تزحف، وأخرى تحّوم، وهناك من لم يولد بعد….، وهناك من لن يرى النور أبدا ً، مع انه مذكور في سجلات الوفيات والولادة، وليس في سجلات الولادة والوفيات!
اندهشت الأتان:
ـ هل هناك من لم يمت بعد…؟
فكر مع نفسه، قد يكون تفوه بكلمة محرمة، ضارة، أو تجاوز حدود المسموح به…، فهو لا يتذكر ـ حتى عندما اجبروه على مشاهدة كيف تم افتراس زوجته أمام ناظريه ـ انه نبس ببنت شفة أو صدرت عنه إشارة، بل قال لنفسه: إن لم تمت اليوم فلن يتأخر موتها كثيرا ً….، وأضاف بصمت تام: ولكنني لم اصفق، ولم ابتهج!
قالت الأتان:
ـ المشكلة إن كل ما نفعله لا يرضي سيدنا المدير….، وقائدنا الخالد….؟
ـ ولن يرضى…، لأن المعضلة خارج نطاق صلاحياته..!
ـ اعرف…، قسما ً بالفصول، والعناصر، والخرافات، والحقائق….، اعرف ذلك، لأنني لو كنت ولدت لبؤة لكان مصيري أكثر تعاسة!
ضحك النمر:
ـ وماذا لو كنت ولدت ديناصورا ً …؟
ـ لكانوا وضعوني في المتحف!
ـ هذه هي اللعبة…؛ أنا قلت لحفيدي: لو كنت ولدت حمامة فمن يخلصك من مخالب الصقور…، أو من بنادق الأشرار….، أو من الأفاعي؟
ـ آ ….، لو كنت ولدت دغلا ً، أو شجرة، أو شوكا ً…
ـ سيان…، فلكل طريدة مطارد….، ولكل قوي أقوى منه…، ولكل منتصر خيبة، فالهزيمة وحدها هي المؤجلة!
ـ ماذا قلت…؟
ـ آ …، آسف، أنا لم افتح فمي أبدا ً، المشكلة إن بعضا ً من خلايا هذا الرأس تعمل بوقاحة!
صاح الجرذ بصوت حاد، وغاضب جدا ً:
ـ يا حمارة، يا فأرة…، الم تسمعيني؟
ـ لا!
ـ أترغبين أن أرسلك إلى المحرقة، أم إلى الذئاب، أترغبين أن أرسلك إلى السرداب أم إلى الضباع…، أم أعيدك إلى مستنقعك…؟
ـ وماذا افعل في المستنقع؟
ـ كي تصبحين وليمة للتماسيح!
ـ ما يقرره سيدنا المدير هو الصواب!
اقترب الجرذ منها كثيرا ً:
ـ لن أخلصك بالموت وأسعدك به…!
ـ ماذا فعلت…، سيدي، وأنا أتان حملت أثقالكم طوال الزمن…، كي أعاقب بما هو اشد من الموت؟
ـ سأعاقبك بالرحمة….، سأرسلك إلى حظيرة الخيول..
ـ ستعيدني كي أمارس أقدم مهنة عرفتها حدائقنا؛ البغاء…، آ …، وسأصبح مومسا ً، جميل منك أيها الجرذ أن ترحمنا…، لا أن ترسلنا إلى الزرافات، أو إلى الكلاب!
فسألها بشرود:
ـ أراك سعيدة؟
ضحكت الأتان:
ـ اليوم رأيت ما لم أره طوال حياتي…، رأيت تمساحا ً يخرج من الماء ويجامع إحدى الزائرات عند ضفة البركة….
ـ ولم يفترسها؟
ـ لا ….، بل رأيته منتشيا ً مسرورا ً وهو يمسك بها من الأعلى إلى الأسفل…، وعندما قذف صرح بلذّة صرخة أفزعت سكان المستنقع أجمعين!
ـ آ ….، سنستدعيه، فهذا يعد خروجا ً على العدالة، والدستور، والقانون…
قالت الأتان:
ـ ما هو ذنب المسكين…، الذنب هو ذنب السيدة التي كشفت عن مفاتنها، وأغوته…، لأنها كانت قد فعلت ذلك مع احد الدلافين، ثم مع كبير التماسيح، حتى إنها تأوهت وباحت بالرموز المقدسة! فقال لها التمساح: لا فائدة من ذكر هذه الأسماء، خارج نطاق العبادة. فهمست في أذنه: اسكت، وماذا فعلنا…؟
دار بخلد النمر العجوز: ويطلبون مني أن أغلق فمي وهو الباب الوحيد الذي وجد ليبقى مشرعا ً.
ضحك الجرذ وسأله:
ـ فمك هذا لم يعد بابا ً…، بل صار شقا ً غير قابل للغلق، وصار حفرة من المستحيل ردمها!
قهقه النمر:
ـ حتى أنت تخاف من الكلمات…، بعد أن صارت عتيقة، بالية، ولم تعد صالحة حتى للبهائم!
ـ وماذا لدينا سواها؟
لم يجب. ابتعد النمر قليلا ً، فخاطب الجرذ الأتان:
ـ أنا غير مسؤول عن مصيرك…، اخرجي منبوذة حتى نهاية أيامك في هذه الحديقة!
تضرعت:
ـ ماذا فعلت كي تلعنني أيها السيد المحترم؟
ـ لا تدعيني أتراجع …، فلو غضبت، تعرفين ماذا سيحصل؟
ـ لا… أرجوك، لا تغضب، أرجوك، لكن دعني اخرج من غير لعنة.
ـ وأين اذهب بها….؟
ـ دعها تذهب مع الريح.
وحدق الجرذ في عيني النمر:
ـ أيها الهرم….، المخرب! يا من يستخدم أقدم الأدوات في آخر العصور…؟
ـ عدنا إلى الأصوات…، إلى النباح والعواء والنعيب والنقيق….، فانا لم ادع فمي ينطق بكلمة.
ـ حتى لو صمت، فكلماتك التي لم تنطق بها تفضحك!
ـ أين هي الفضيحة؟
ـ آ ….، يا لك من نمر وديع! مثل حمل، بل مثل حمامة، إن لم تكن مثل بلبل!
ـ لا تؤذيني…، سيدي، فانا لست حملا ً، ولا حمامة، لست بلبلا ً ولا عصفور ً…، فانا ولدت كي اقهر مخالبي، وأنيابي، واخمد النيران المتأججة في أعماقي…!
ـ اعرف…، ولكنك لا تكف عن النظر في الشمس؟!
ـ اجل، فعندما لا أجد من اشتكي عنده، وأسأله، ارفع رأسي، وأحدق في الشمس…
ـ ماذا تقول لها…؟
ـ أقول… أي…، قلت … قلت…
نهقت الأتان بصوت رقيق مشوب بالخوف:
ـ اخبره…، فالنجاة في الصدق!
أجاب النمر متلعثما ً:
ـ بعد وقائع الحرب الأخيرة، التي جرت بيننا، في هذه الحديقة، بعد أن افترس الضعيف الأكثر ضعفا ً، وبعد حفلات التنكيل بالصغار، والإناث، والشيوخ، وبعد …، وبعد حفلات الاغتصاب، والتعذيب، ورمي الجثث في المستنقعات، والبرك، وبعد طمرها، ودفنها في المناطق المجهولة، أو تركها تتعفن في العراء، وفوق تلال المزابل، والنفايات…. وبعد…، وبعد طرد الأبرياء من حفرهم وجحورهم وزرائبهم وأقفاصهم، وحرق منازلهم عليهم، وهدمها فوق رؤوسهم….، وبعد اغتيال أكثرنا حكمة، وعقلا ً، ووداعة…، وبعد ….
ـ وبعد …ماذا…، أيها الشرير العنيد…؟
ـ رفعت رأسي ونظرت في السماء…، فرأيت الشمس…
ـ نعرف…، لدينا معلومات في غاية الدقة، ولكن ماذا قلت لها…؟
ـ قلت لك: لولاك….، أكان يحصل هذا كله؟!
ـ لا….، لا تزور…، وتموه، من اجل خداعي!
ـ قلت لها: لولا أشعتك البهية، الذهبية، ولولا … نورك…، وحرارتك، ودفأك، وطهرك، ونقاوتك، وصفاء طويتك….، لولا هذا كله الذي ….
ـ لا تسكت.
وخاطبت الأتان النمر بتضرع:
ـ قل الصدق….، فقد تخفف العقوبة…، وقد تحصل على المؤبد…!
همس النمر في أذنها:
ـ اقسم لك لولا هذا الصدق…، لكانت المصيبة اخف وطأة علينا!
صرخ الجرذ وهو يرتجف:
ـ اخبرني ماذا قلت للشمس….، قبل أن أرسلك إليها!
أجاب بصوت ناعم:
ـ سيدي، أنا اعرف أن القرار قد صدر بحقي قبل استدعائي، بل وقبل ولادتي…..، ولكن تريث…، فانتم لن تقدروا على تدمير دولة البعوض، ولا إمبراطورية البرغوث، ولا ارض النمل، فهناك الديدان العنيدة التي تحول اصلب المعادن إلى غبار….، وهناك الحشرات التي تلتهم أعظم الغابات وتساويها مع التراب….، وهناك…، ذلك القابع في الزمن…، في لغزه، الذي سيبقى يذهب ابعد من زمنك، ومن زمني، ومن الزمن نفسه!
ـ ما الذي يكمن في الزمن، أيها …..، المخبول؟
ـ الذي لا تستطيع أن تغلق فمه!
ـ ولكنه لا يتكلم…؟
تضرعت الأتان للنمر بصوت حزين:
ـ اخبره بماذا بحت….، ألا تراه يرتجف، ويرتعد….، وينز عرقا ً …؟
صرخ الجرذ في وجه الأتان:
ـ يا حمارة…، أنا لا ارتجف، ولست خائفا ً، ولا أنز عرقا ً مرا ً….، فانا اعرف إن الزمن سيذهب…ويزول.
فسألته الأتان بقلق:
ـ وتزول حديقتنا أيضا ً…؟
قال النمر يخاطب الجرذ:
ـ أنا بحت للشمس: لولاك…..، هل كنا سمعنا هذه الضوضاء، ولولاك…، هل كنا استنشقنا هذا العفن، ورأينا هذا …..، الخراب؟
ابتعدت الأتان عنه، تبحث عن الباب:
ـ سيدي يا كبير الحكماء، أيها الجرذ الوقور، لقد تجاوز السيد النمر المحرمات، والآثام، والكبائر كلها!
ضحك الجرذ وهو يخاطب الأتان:
ـ أنا أمضيت ملايين السنين أحاكم الخارجين على القانون…، كي انتظر من يوجه لي تهمة الخروج هذه ضدي…..! أيها الأحمق، لولا العفن، لولا هذا العفن الغالي، الثمين، النادر، لما رأينا أمنا الشمس العظمى …، ولولا هذا الزمن لما كنا أدركنا سر ديمومة هذا الذي يذهب ابعد من زواله….
ـ سيدي، أنا لم أشتمك، لم ألعنك، لم أوبخك، ولم انبس ببنت شفة سوء ضد مقامك الكريم.
فصرخ الجرذ بصوت مذعور:
ـ أنت شتمت ولعنت ووبخت من كان السبب ….
صاحت الأتان:
ـ انه ـ سيدي الموقر ـ ذهب ابعد من المحرمات، وابعد من ارتكاب الخطيئة…
ضحك الجرذ:
ـ لن يقدر!
قال النمر بنشوة:
ـ ها أنت تعلمت الحكمة….، فما عليك إلا أن تعمل بها.
ـ لكنك اقترفت الإثم الذي لا غفران له؟
ـ لو كنت تعلمت الحكمة حقا ً…، لعرفت، انه لا معنى للغفران لو لم يمح إثم هذه الضوضاء….، وخطيئة هذه الكلمات! فما قبل وجود الشمس، وما بعد غيابها، شبيه بما قبل الزمن، وما بعده، فهو يماثل هذا الكون قبل أن توجد فيه مثل هذه الحديقة، ولا يختلف كثيرا ً بعد غيابها. المهم، يا سعادة الجرذ المحترم، أن تعمل بالحكمة التي عليك أن تتعلمها، كي لا تستدعينا، وترسلنا إلى الموت، لأن ما قبل الموت، شبيه بما بعده، لا ضوضاء تدلك عليك، ولا كلمات تقودك إلى إغلاق بابه!
26/5/2015
جرى السؤال عنه بصيغة غير مباشرة، بل وكأنه ليس هو المقصود، فقال العم انه من الصعب تخيّل وجود كائنات لها مثل هذه الخصائص، أو الصفات، كي تعمل عمل الجراثيم الفتاكة، شديدة الضرر، الأمر الذي يستدعي تتبع مصادر المعلومات، وما إذا كانت صادقة، أم إنها من اجل التنكيل، والتشهير، وإشاعة الفوضى. وقال العم انه لا يستطيع البت بوجود عنصر يحمل المرض، من غير أن يكون مصابا ً به، فقال الآخر إن المعلومات لا يشوبها غبار، أو شك، وهي ليست بحاجة إلى المراجعة، ولا إلى التدقيق…..، وختم كلامه بابتسامة لم تترك أحدا ً في الجناح إلا وظن انه هو المقصود.
ولكن الأم سألت الجرذ قبل أن يغادر:
ـ لا يسعنا إلا أن نثمن جهودكم….، إنما لم تخبرنا بعلامة ما دالة ….، ومحددة، وإلا كيف سنتعرف عليه…؟
ضحك الجرذ:
ـ ليس باستطاعتي التحدث تماما ً عما يخفي، أو تشخيص ما يدل عليه…، إلا انه يمتلك خواص تلك العناصر القادرة على التحول…، والتمويه.
ـ خواص…؟
صاحت الأم، فقال لها:
ـ شبيهة بمن يرتدي قناع الساحر…، الذي يتوارى خلفه، فضلا ً عن قدراته العجيبة على الاختباء، والتستر، والتلاشي.ـ عجيب.
وتساءلت الأم:
ـ إذا كنتم تمتلكون هذه المؤشرات عنه، فلم هو طليق؟
ـ لأنه لا يترك إلا أثرا ًيعمل على محو أثره!
ـ انك ـ سيدي ـ تثير مخاوفنا، حد الرعب…، فالقضية تبدو شبيهة بالدسائس، والمؤامرات، وربما بما هو اشد خطورة … منهما.
ـ تماما ً….، وإلا لماذا تسللنا، ليلا ً، إلى أجنحة الحديقة…، وحدودها النائية، بحثا ً عنه؟
غادر الجرذ. فعقد الدب العجوز اجتماعا ً حضرته الأم، وعدد من الراشدين، مع ضيوف من الجناح المجاور، وهو جناح الذئاب، فقال كبيرهم:
ـ لا اعتقد إنها قضية عابرة…، أيها الدب الحكيم..
فرد الدب بصوت متلعثم:
ـ بل اعتقد إنها قضية خطيرة…، فما ذكره لا يثير الحيرة، والبلبلة، والقلق، بل يجعلنا في الواجهة.
ضحك الذئب:
ـ وعلى من نتستر …، أم أعادونا إلى نظريات المؤامرة، وكأن الشفافية محض وهم؟
ـ سيدي…
وأضافت الأم:
ـ انه تحدث عن كائن شبيه بالموت…، تعرفه تمام المعرفة، ولكنك لا تمتلك قدرة على تحديد موقعه، ومميزاته!
قال كبير الذئاب:
ـ دعينا من الموت…، فكلنا نموت…، فضلا ً عن كراهيتنا للموت، ورائحته!
ـ اعرف…، وإلا هل باستطاعتك تحديد ملامحه…، وقد تسلل إلينا، وراح يبذر جيناته الملغزة فينا، مستثمرا ً سذاجتنا، وسلاستنا، ونوايانا الطيبة..؟
قال الدب العجوز متسائلا ً:
ـ لِم َ لا نتصور هذا كله محض تهديد لنا…، ونحن مازلنا نتعرض للفتن، والاجتثاث…؟
قال الذئب باستغراب:
ـ نهدد من…، وعلى من نشكل خطرا ً…، وإدارة الحديقة لم تسمح لنا إلا اختيارات واهية…، بل وتركتنا نعيش محرومين منها.
هز رأسه بلا مبالاة. فقالت الأم:
ـ أنا لم أحبل بشرير…، ولا بفاسد، لا بجاحد ولا بعاص ٍ…، ولم ألد مخلوقا ً يكاد يكون لا مرئيا ً!
أجابها العم:
ـ لم يتركوا أحدا ً لم يتعرفوا عليه…، تاريخه، أمراضه، نزواته، رغباته، هفواته، نواياه، نشاطاته، وكل ما يدور بباله…
تابعت الأم:
ـ حتى المواليد التي مازالت في الأرحام قد تم ترقيمها، وهم يعرفون عنها ما لم نعرف….!
ـ بل هم يعرفون إنني تخليت عن العواء …
وأضاف كبير الذئاب بصوت خفيض:
ـ وأنا بصدد التحول إلى كلب…، أسوة بتحويل القطط إلى جرذان، وتحويل الثيران إلى ضفادع، والأشجار إلى نباتات معدنية، والنساء إلى رابوتات بلاستيكية..!
صاح احد الغزلان من وراء المشبك الحديدي:
ـ سيدي، سيدي الذئب؟
هرول الذئب باتجاه الغزال:
ـ نعم، عزيزي، ما الذي حدث؟
ـ السيد الفأر يقول إننا نتستر على كائن غريب الأطوار…
ـ الفأر أم الجرذ؟
ـ الظلام لا يسمح بالرؤية، ورائحته أكثر غموضا ً من صوته، فمن ذا يميز بينهما؟
فقال الذئب للغزال:
ـ لا تقلقي…، عودي إلى نومك، فالقضية لا تستدعي الذعر!
ـ سيدي، وهل نقدر أن نغفو وهناك من ينذرك، ويهددك…؟
فسألها:
ـ هل حقا ً تخفون هذا الذي لا نعرف من يكون؛ هذا الذي يمحو أثره ولا يترك إلا أثرا ً ممحوا ً…؟
ـ صراحة….، عثرنا على جدتي ميتة!
ـ أتشكين بأحد…؟
ـ لا….، بل اشك انه قتلها، فهناك آثار مقاومة…
اقترب العم ـ وهو مدير جناح الدببة غير الرسمي ـ وسألها بصوت متقطع:
ـ هل باحت جدتك بكلمة…؟
ـ لم يسمح لها الموت…، أو ربما هي التي لم تسمح للموت بذلك!
ـ غريب…
فقال العم:
ـ كما قال السيد الذئب عودي إلى النوم…، فلن يمتد الليل إلى الأبد..
ـ سيدي، ومتى تبزغ الشمس، وأنت نفسك أخبرتنا بأنها لن تظهر مادمنا لا نراها؟
ـ آ …، أنا تحدثت عن العميان! وقلت: كما قال زميلنا الفيلسوف: علينا أن نبتهج بشروق الشمس وليس بغروبها، نحن العميان!
ـ ننتظر؟
ـ لا فارق، لكن البهجة تمتلك قوة تمويهية سحرية تنطلي حتى على المتكلم!
ـ لكننا نكاد نجهل ما الشمس…، لأننا لم نر إلا النجوم البعيدة، ويقال إنها اندثرت منذ زمن بعيد، وفقدت كيانها، وما نراه ليس إلا وهما، حتى لو بدا ساطعا ً!
قال الدب يخاطب الذئب:
ـ المعضلة إن ذلك الجيل راح يعمل ببالغ الدقة، فلا يدع العين تبصر، ولا يدع الشمس تشرق أيضا ً.
صاحت الغزال:
ـ وما مسؤوليتنا نحن وقد ولدنا لنحافظ على ذريتنا من الفساد، والتلف؟
ـ عفيفة! كم أنت عفيفة أيتها الغزال!
وأضاف الذئب يقول لها:
ـ وأنا اشهد إن جناحكم شبيه بجناح النعاج، والحمام، والأرانب، من أكثرها براءة، وطهرا ً!
هزت رأسها مبتعدة:
ـ لا أنسى هذا الإطراء أبدا ً….، لأنني قلت لسعادة الجرذ: إذا كانت الغزلان تتستر على شرير ـ كهذا ـ فهذا يعني إن الشر قوة تذهب ابعد من الأشرار!
اقترب الذئب وسألها:
ـ تعالي، اقتربي…
وسألها:
ـ إذا كان الشر يمتلك هذه الفعالية فان الأشرار يمتلكون حصانة!
ولم يدعها تفح فمها:
ـ وإذا كانت لديك قدرة رؤية الخيط الوهمي بينهما فعليك أن تخبري مكتب السيد المدير مباشرة بما تمتلكين من أدلة…، ومعلومات.
ـ اقسم لك…، اقسم لك…، أنا اجهل هذا الحد الفاصل بينهما، فتارة الأشرار هم من يصنع الشر، وتارة الشر هو من يصنع الأشرار، ويرعاهم، فالعملية زئبقية، تماثل تداخل المعادن الأكثر شفافية بالأكثر كثافة، وصلابة، بل تماثل مفهوم الزواج بين أول الخلق ونهايته…! فالقضية لا تسمح لك بالعثور على قفلها…، فكيف ستعثر على مفتاحها؟
ـ ملعون، أيها الغزال، هل أنت ذكر أم أنثى…؟
ـ لا اعرف! وهذه معضلة قررنا معالجتها بعد العثور على هذا الكائن الطريف!
في جناح الثيران، المجاور لحظيرة الخيول والحمير والبغال، استدعي الجرذ مسؤول الجناح، وراح يراقبه. كان الظلام حالكا ً، باستثناء ما كان يصدر من إشعاعات مجهولة المصدر، فطلب الجرذ من الثور الاقتراب منه:
ـ نعم، سيدي.
ولم يشرح له شيئا ً عم أسباب الزيارة، بل استفسر عن رأيه بما يجري في جناح النعاج، والضباع، والأسود…، فأكد الثور إن حالة السبات متواصلة، فلا توجد متغيرات، باستثناء ضجة وزقزقات الطيور عند الفجر، وهمهمات أخرى صادرة عن أجنحة التماسيح، وبنات أوى، والنعام.
اقتربت بقرة سمينة بإفراط، وسألت الثور هامسة:
ـ في هذا الوقت، ما الذي يبحث عنه؟
رد الجرذ عليها:
ـ كأننا في مستنقع؟
ـ آسفة، آسفة …سيدي، اعتذر.
فنهرها الثور، ودفعها بعيدا ً عنه، لكنها اقتربت وقالت للجرذ:
ـ أخشى إنكم جئتم تعترضون على….
ـ على ماذا …؟
سألها الجرذ، فأجابت:
ـ على هذا الإفراط في الوزن!
وأضافت:
ـ فنحن في الواقع لا نتناول أكثر من العلف المخصص لنا.
ضحك الجرذ وقال بصوت حاد:
ـ أتسخرين……، وأنا لدي ّ معلومات إنكم تتسترون على…
اقترب الثور وسأله بفزع:
ـ نتستر على … ماذا؟
أجاب الجرذ بصوت غامض:
ـ لا رحمة في الأمر…، فالعقوبة ستتجاوز الموت!
فسألته البقرة بذهن شارد:
ـ أقسى من المحرقة؟
ـ قلت أقسى من الموت!
ساد الصمت برهة اثر دوي حدث في جناح آخر، قال الجرذ:
ـ لم نعثر، في جناح العم، على اثر للذي لا يترك أثرا ً.
فقال رئيس الجناح:
ـ عدا خوار العجول…، فان أصواتها لا تذهب ابعد من أسوار هذه الزريبة…؟
ـ جيد…، لكن القضية لا تخصكم، ولا تخصني، بل إنها شاملة.
ـ آ …
تأوه حصان كان قد اقترب منهم، وقال:
ـ اعتقد إنكم تبحثون عن حمار غير ملتزم؟
تنهد الجرذ:
ـ أكمل…
الحمار الذي وجدناه معنا، ليلة أمس الأول، لا نمتلك معلومات عنه…، فهو يرفض الكلام.
ردد الجرذ:
ـ الحمار، الحمار الأبيض، أم البني، أم الوحشي، أم المرقط…، أم، الحزين؟
ـ انه مختلف تماما ً…، سيدي، فما عرفناه إنهم اشتروه بسعر زهيد، لا يساوي فلسا ً، رغم انه بحجم فيل!
ـ آ …، ما ـ هي ـ مشكلته إذا ً…؟
ـ يرفس! ويضرط…! فلم يبق دابة إلا وبقر بطنها، وآذاها، وأثخنها بالجراح.
ـ مأبون! الحمار… المأبون! دعك من هذا …، لأننا سنرسله إلى جناح العاطلين عن العمل…
همست البقرة:
ـ عن أي شيء تبحثون إذا ً…؟
همس الجرذ:
ـ عن كائن يتسلل إلى ….، داخل الرأس…، ويدمدم، يملأ الرأس ضجة، لكنها ضجة طبل، ثم يتسرب إلى البدن برمته، وما أن نشدد الخناق عليه، حتى يتبخر!
ضحك الثور:
ـ يتبخر….؟ انك تذكرني بالصقور التي كانت تحمينا من الجراد….، ما أن بدأت العاصفة، حتى تبخرت، ولم نجد أحدا ً منها!
فكر الجرذ بصوت مسموع:
ـ قالت لي السيدة المستشارة: انه شبيه بالحاضر الذي لا تمتلك شيئا ً عنه سوى غيابه، وأحيانا ًهو شبيه بالعنصر الذي يبحث عن آخر ليشكل معه عنصرا ً مختلفا ً له خواص تدع المصاب أن يتوهم أوهاما ً تذهب ابعد من الحقيقة…!
ـ بل إنها هي الحقيقة…
فسألها الجرذ بغضب:
ـ أين هي …؟
ـ من؟
ـ الحقيقة؟
ـ أنا قلت انك تحدثت عن هذا الذي يذهب ابعد من الوهم…، فقلت: يا بقرة… ما الذي يذهب ابعد من السراب، غير المطر!
صاح الجرذ:
ـ انه هو الكائن المبلل، أو غير اليابس، الجاف…، ولكنه يتميز بالمرونة، والمراوغة، والخداع…، فهو مثل من يرتدي آلاف الأقنعة، لكن حقيقته مختلفة عن أي قناع منها! فهو يقوم بالجريمة بإعلان براءته منها!
ـ عدنا إلى الحقيقة… سيدي!
فسأل البقرة بصوت مرتجف:
ـ للمرة الثانية تنطقين بالحقيقة…، حتى يخيّل إلي ّ انك تتسترين عليها؟
اقترب الثور من الجرذ، وخاطبه بوقار:
ـ سيدي، هذه بقرة…، مثل أية أتان، أو فأرة…، لا مهمة لها سوى أن تحبل مرة واحدة في العام الواحد! فهي تعد من أغبى الأغبياء…، فلا تعّول على خواطرها! إنها من الكائنات ذات الصوت الأشد قبحا ً من صوت الحمير، فصوتها يماثل أصوات الضفادع، والصراصير، والخنازير….، فهي لم تبلغ سن الرشد في سلم تطور الأنواع…، بعد، وإلا هل سمعت بقضية شبيهة بنقيضها في وقت واحد، سيدي؟
ـ أخشى انك تقصد الحقيقة أيضا ً يا سعادة الثور؟
ـ وهل هناك سواها…؛ تلك التي تراوغ الوهم، التي تعد من اصلب الثوابت، بمرونتها، وحيلها، وزئبقيتها.
ـ ما هي… أرجوك….، فالفجر يقترب…
قال الثور فجأة:
ـ بل نحن نقترب منه…، لأن الفجر هو شبيه بالحقيقة التي قصدتها …
ـ لا تسرف..، فأنت بدأت تراوغ…، حتى إنني فكرت أن أرسلك إلى المسلخ….، فقد استوردنا آلة ذبح حديثة
هاج جسد الثور، مرتجفا ً، مرتجا ً، وراح يتخبط، فأحاطت به الخيول والأبقار والزرافات وامسكوا به. قال بعد أن هدأ:
ـ انك جئت تبحث عن مخلوق لا وجود له….، تارة تقول انه يدعونا إلى رؤية أحوالنا، فما أن نراه، حتى يغيب..، وتارة تقول انه يوسوس فينا، فما أن يظهر، لنمسك به، حتى يغوص في مناطقنا النائية، المجهولة…، فهل أرسلتك السيدة المستشارة لتمتحن ما بلغناه من ارتداد…. وتدهور، وغباء؟
ـ آ …، كم زل ّ لسانك يا ثور وأنت لم تكمل حتى نصف عبارة؟
ـ لم يزل….، سيدي، فهذه هي تعاليم استقيناها من أحلام الأسود النائمة…، فأنت تعرف إننا نعمل بها…، منذ زمن بعيد….، لكنها غير معلنة!
صرخ الجرذ، وراح يرقص:
ـ وجدتها، وجدتها، وجدتها!
قالت البقرة متندرة:
ـ الحقيقة؟
شتمها بكلمة نابية، لاذعة، فاحشة، جعل محياها يغدو كوجه البوم لا احد يعرف كيف غدا رمزا ً للحكمة، والحكماء..! فقالت بخجل:
ـ أنت تعرف..
اعترض:
ـ أنا لا اعرف…
ـ ها أنت لا تقول الحقيقة.
ـ قسما ً … بالذي لا يرد اسمه إلا عند الشدائد، سأرسلك إلى جناح الزرافات!
ـ أووووه…، ما أسعدني، وأنا اسمع انك ستخلصني من جناح الحمير والثيران..
توارى الجرذ.
قال الثور للبقرة:
ـ ما معنى هذا الإسراف…، وهم يتصيدون زلات ضمائرنا الغائبة!
ضحكت البقرة:
ـ يا حمار! عن أية ضمائر تتحدث…، أم انك أيضا ً تتحدث عن الحقيقة…؟
ـ اخرسي.
ونز عليها.
ـ آ …..، الحقيقة إننا سنلد عجولا ً للذبح! كما تلد نساء البشر البنين كي يرسلوهم للموت في الحروب!
فقالت بصوت غير مسموع:
ـ دعني اعترف لك بما رأيت ليلة أمس…، ولا تشوش علي ّ، بعد أن اختلطت علي ّ الحقيقة بالوهم، والوهم بالحقيقة…
ـ وماذا رأيت …؟
ـ رأيت شابا ً يجرجر امرأة شمطاء انزوى بها خلف شجرة السدر الكبرى وراح يجامعها ..
ـ وما شأنك أنت بالأمر..، حيوان يجامع حيوانة….؟
ـ عندما رأتني السيدة الشمطاء أحدق فيها استنجدت، واستغاثت، بي… فقلت لها: ليس لدي ّ ما افعله…، عدا ضميري! وهو ـ كما تعلمين ـ لا فائدة منه.
ـ وماذا جرى بعد ذلك….؟
ـ راحت تهمس في اذن الشاب: لا تسرع، اسرع، لا تسرع،…
ـ وماذا كنت تفعلين؟
ـ كنت ابحث عنك!
ـ وأين كنت..؟
ـ في زريبة الحمير…
ـ ملعونة…، بل كنت نائما ً معها احلم!
ـ وبماذا كنت تحلم؟
ـ الم تطلبي مني ذلك بقولك: إن لم تجدني فانا اسمح لك باستدراجي إلى أحلامك في لحظات النوم العميقة؟
ـ هذه ليست هي الحقيقة…؟
لكنها قالت:
ـ ثم هرب الشاب…، أما الشمطاء فبدأت تولول: يا الهي…. لماذا تركتني وحيدة…، فسمعها عدد من حراس الحديقة، اقتربوا منها، وما أن رأتهم، حتى استغاثت: من منكم رأى … بعلي؟ فهجم عليها الأول…، فراحت تتخيل انه تحول إلى ذئب خافت أن يفترسها، ثم هجم الثاني، والثالث…، حتى كاد الفجر يزيح ظلمات الليل…..، آنذاك وجدت الشمطاء جسدها ملقى عند ضفة المستنقع….، فخرج تمساح، وسألها: ماذا تفعلين هنا يا أيتها الملاك؟ فقالت له: أأنا ملاك حقا ً…؟ قال التمساح بصوت رقيق: يا ملاكي! فسألته: ومن أنت…؟ أجاب: أنا جهنم! فهمست في أذنه: أنا أكاد أتجمد بردا ً!
خار الثور، ونطحها، ليبقر بطنها، ويخرج عجلا ً منها، بدا قويا ً…، فقال للثور:
ـ يا عم…، لا تؤذ أمنا! فالبقرة كالأرض، إن أذيتها محقتك!
ـ لم أؤذيها …، أسألها.
اختفى العجل. فسأل الثور البقرة:
ـ اعتقد إن سيدنا الجرذ كان يبحث عن ذلك الشاب…، فهو يعمل عمل تلك المعادن الخسيسة، ما أن تمسه أصابع السحرة حتى يتحول إلى ذهب!
ـ لا …، أنا لا اعتقد…، فانا أرى انه كان يبحث عن تلك السيدة ذات الجسد الملائكي!
ـ هل تتذكريه…؟
ـ الآن …. لا… ، ولكنه كان شفافا ً شبيها ً بغيمة بعوض هائجة بانتظار إعلان التمرد!
ـ يا بقرة…، كأنه كان يبحث عنك! وليس عني…؟
ـ عني…، عني أنا الشبيه بفيل أعمى!
ـ كان علي ّ أن اخبره بأمرك!
ـ أنا لم انو أن أدعو إلى الشر…، فانا كرست حياتي للفضيلة، وقد شهدت أنت بذلك…، فلا تخافي…، فالعجل ولدنا غادرنا كي يلقى مصيره….، وعلينا أن نبحث عنه.
دخل الجرذ قفص كبير الاسود:
ـ انهض!
ـ ما أنا بناهض!
ـ قلت لك انهض، وإلا ….
ـ وإلا ماذا …؟
ـ سأرسلك إلى المتحف! واضعك مع الديناصورات…
ـ آ ….، أبهجتني، فانا عندما استنشقت رائحتك عن بعد، قلت: ما ألذ هذا العطر…، لابد أن هناك نبأ …
ـ عطري؟
صرخ الأسد بصوت مبحوح:
ـ بل جيفتك! يا جرذ المجاري…، لكن، لا تكترث، ففي عالمنا، اختلطت العطور بالروائح النتنة، فنكهة الأفواه الجوف لم تدعنا نميز ما يصدر عن البلابل!
ـ دخت؟
ـ لا احد يقدر عليك….، فأنت مازلت تنتمي إلى عصر ما قبل الطوفان…، لأنك لم تنج من الغرق فحسب، بل عشت لتشهد ما هو أكثر فظاعة، وأكثر مرارة، فمن ذا يستطيع أن يسد أبواب دربك العنيد؟
ـ اسمع يا ….
خاف الأسد، وارتد متراجعا ً إلى الخلف، لصق جسده بالجدار، بجوار لبؤته النائمة:
ـ أسمعك، سيدي..
ـ أنا كلفت بالبحث عن عنصر غريب الأطوار، شبيه بالجنين الذي يتكون تلقائيا ً، وبعد ولادته، يتوارى…، مثل فضة الفجر ما أن تبصرها حتى تتلاشى، وتغيب…، ومثل كلمات سيدنا المدير، زعيمنا الخالد، ما أن ينطق بها، حتى تضطر لقضاء عمرك كله بانتظار ما ستؤول إليه….
ـ أسمعك جيدا ً …
ـ هل في نيتكم إعلان التمرد…، تمهيدا ً للعصيان، وإشعال فتيل الثورة…؟
صاح الأسد مذعورا ً:
ـ هل تدعونا إلى ذلك…؟
ـ أنا…، أنا أسألك، لأن علي ّ أن أقدم خلاصة بما رأيت…، إلى الجهات الرسمية.
ـ سيدي…، أنا أعلنت الثورة منذ زمن بعيد…، منذ زمن بعيد جدا ً…، وقد تكلل نصرنا بهذه الهزيمة الميمونة المدونة في أسفار التاريخ، بالبقع الخالية من اللون؛ فهي شبيهة بثورة الديناصورات، كان مصيرها حتميا ً، لتحتل موقعها في المتحف….، أم أرسلوك لتورطنا …، وتزهو بمكاسب فاسدة؟
ـ هذا يعني انك لست معهم؟
ـ لا!
ـ مع من؟
ـ أنا مع هذا القفص، ومع هذه النائمة التي لا أراها إلا عبر الأحلام!
ـ آ …..، يا لها من نكبة! لا الدب ولا الثور، لا الحمار ولا الغزال، لا التمساح ولا الكركدن، لا ابن أوى ولا القنفذ، لا التيس ولا الكبش، لا الزرافة ولا الضبع، لا الماموث ولا النمر، لا البرغوث ولا البعوض، لا الديدان ولا الحشرات….، ومع ذلك هناك من يعمل عمل المرآة السرية تترك الجميع يحدقون فيها…، فما أن يتعرفوا على أنفسهم حتى تتهاوى المرآة، وتتناثر، ويجن حاملها، ويتبخر من رأى فيها مصيره يتهاوى….، فعلى من تلقي القبض، ومن المسؤول عن الهاوية، وقد وجدت مأواها واختبأت فيه؟
ـ سيدي، اذهب وسلم نفسك للعدالة! فانا اعتقد انك كنت تبحث عن نفسك!
قال الجرذ، لكن بصوت قوي، وحاد:
ـ لا احد يصدق!
ـ إذا كانوا لا يصدقون الحقيقة…، كما هي عليه، بادلتها، وبراهينها، وعلاماتها…، فلم يبق لديهم إلا أن يذهبوا إلى ما هو ابعد منها!
ـ ماذا قصدت…؟
ـ إلى الوهم!
ـ آ …، فهمت، الآن فهمت.
ـ لا يا سيدي، لم تفهم شيئا ً! ولكنك، منذ ملايين السنين، لم تقدر أن تفهم إلا هذا الذي رأيته في المرآة…، فصار هو دليلك للدرب، والى المعرفة! لأن الأخيرة، سيدي، لن تترك أثرا ً لخطاها في الدرب، فهي لا تمحوه، كما تظن، ولكنها تجيد أن تورطنا بغوايته، وما أن نجد أنفسنا ذهبنا في العمق، عمقها، حتى يجرفنا السطح، سطحها، فلا تجد شيئا ًيدل عليها، أو يدحضها. فالرواية التي يرويها جرذ، أو قنفذ، أو برغوث، ليس من المنتظر أن تكون لها خاتمة، إلا مثل ظل يحّوم فوق المكان الذي لا مهرب منه، كالجنين لن يغادر الظلمات إلا وتراه يتحدث عن البشارة، والضوء….، فتهرول خلفه….، ثم تكتشف، بعد فوات الأوان، انه هو الذي لا يتركنا نذهب ابعد منه، وقد راح يهرول خلفنا، مثل قاتل لا يرتوي أبدا ً إلا بفتح ممرات مستحدثة للمواليد، المواليد التي لا تمتلك إلا ما تمتلكه البذرة: المغادرة! ثم البحث عن ظلمات تخفي فيها وهنها، فترقد فيه بانتظار المغادرة!
ـ من أنت…؟
ـ أنا هو كل من رأيته عبر بحثك عن الجناة….، أنا ضحيتك، أنا ضميرك، مرآتك التي رأيت فيها هذا الذي لا تخمد ناره، إلا بعد أن تكتوي بها، وتحترق، وتصير رمادا ً….!
ـ انك ترسلني إلى المحرقة؟
ـ بل المحرقة تدعوك إليها…، لكن، لا تخف، فبعد زوال هذه الحديقة، بمن فيها، لا تزول مكوناتها، ولا هذا الذي كنت تحاول الإمساك به…، فهو وجد قبل وجودك، وهو موجود بوجودك، وسيدوم بعد زوالك. لا تخف، فانا هو من تبحث عنه، لكن للأسف، لن ادعك تلقي القبض إلا على هذا الذي ظننت انك أمسكت به، ومحوته!
3/6/2015
المستنقع
ـ هل أنجزت مهمتك…؟
رفع الدب رأسه وأجاب الجرذ المسؤول عن المتابعة:
ـ يبدو إنني أكملت الجزء الأكثر أهمية فيها…، لكن الأمر ليس بهذه البساطة…، سيدي.
ولم يتوقف عن الكلام، موضحا ً مدى عنايته بانجاز ما كلف به. فرفع الجرذ صوته، بعد أن صمت الدب:
ـ تستطيع أن تقول أن المهمة التي يصعب وضع خاتمة لها، لا يمكن عزلها عن أسبابها…؟
ـ وهذا ما أكدته تماما ً.
فضحك الجرذ:
ـ وإلا فانك ستواجه مشكلات أيها الدب العجوز.
فكر الدب، مع نفسه، ثم رفع صوته بخوف:
ـ أمهلني فترة وجيزة من الزمن، فالوباء الذي تسلل إلى المناطق البرية، من الحديقة، نجح في إحداث اختراقات…
ـ ليس هذا ما نريده منك…
وسأله بصوت أعلى:
ـ هل هناك استجابة، أو قل ترحيبا ً، أو تسترا ً …، أو… خيانة؟
ـ بحسب زياراتي الميدانية اليومية، خلال ساعات النهار والليل…، وبعد المعاينة المباشرة، التفصيلية، وإجراء الفحوص المختبرية، والنفسية، والفكرية….، ظهر لي أن الوباء محض إشاعة!
ـ إشاعة…؟
ـ ليس لدي ّ كلمة أدق….، وإلا لقلت لسيادتكم: إنها حالة اعتيادية!
ـ ولكن عدد الوفيات في زيادة ..، حتى أكدت بعض التقارير ان حالات الانتحار فاقت الإشاعات …، دالة على وضع مبيت،ومقصود، يرتقي إلى الشبهات، بل إلى الخيانة…؟
اقترب الدب من الجرذ:
ـ لم اترك شاردة ولا واردة إلا ودونتها…، أما مهمة البحث عن الأسباب الملغزة، فانا غير معني …، وغير مسؤول عنها.
ابتعد الجرذ قليلا ً:
ـ سأخبر مكتب السيد المدير بذلك…!
ـ انتبه…، يا سيدي، فانا سأعثر على هذا الذي بدا لكم بلا أسباب، وعلل.
ـ جيد.
اختفى الجرذ، المسؤول عن المتابعة، والمراقبة، والرصد، ففكر الدب مع نفسه، انه لم يعد يميز ما إذا كانت الحياة قد بلغت ذروتها، أم إنها ستبدأ من جديد. فثمة حد لا هو بالعازل ولا هو بالموصل بينهما؛ هل نحن خاتمة دهر أم أوله؟ وهل الكارثة واقعة بالضرورة أم أنها في طريقها إلى الاكتمال….؟ فتذكر ان الجرذ حذره من الوقوع في هذه المناطق الرخوة، والغامضة ، لأنها شديدة الالتباس، وقد لا تزيد الغموض إلا مزيدا ً من التعقيدات غير الضرورية…، لهذا عليه بذل أقصى ما يتمكن من العثور على النتائج التي تؤكد ان المرض وجد استجابة، وليس محض ضيف أو زائر دخيل، وليس محض إشاعة!
ـ هل عثرت على هذا الذي لا وجود له…؟
ورفع رأسه، محدقا ً في عيني جاره، الذئب العجوز:
ـ المشكلة ان الذين يموتون لا يتركون أثرا ً دالا ً… ، على أسباب الرحيل الغامض.
ضحك الذئب:
ـ بل المشكلة إننا أصبحنا غير معنيين بموتانا، ولا بأسباب الموت، أصلا ً!
فقال الدب:
ـ سيان…، إن كانت الدوافع حقيقية أم كانت مراوغة، ووهمية، فالجثث المجهولة الهوية تملأ الممرات..، والزرائب، والحفر، والحظائر، وضفاف المستنقعات…
ضحك الذئب مرة ثانية:
ـ قبل ان نرحل…، وقبل ان نطرد منها، وقبل ان نختفي من هذه الحديقة، طالما انتابنا هذا الإحساس بالغياب…
ـ لم افهم قصدك؟
ـ كلامي ليس بحاجة إلى الشرح، ولا إلى التأويل…، فعندما حل الوباء، فينا، قاومناه، وعندما فشلنا في القضاء عليه، تصالحنا معه، وبعد هذا الصلح أصبح الداء يمتلك لغز الغائب في حضوره، وهو لغز الحاضر في غيابه!
ـ كأنك تتحدث عن هذا الذي يحصل اليوم…
ـ أنا اعتقد ان الرغبة بالموت، في الأصل، كامنة فينا، أي إنها ليست مستحدثة، وليست بحاجة إلى من يوقظها …
عدنا إلى الحد الفاصل بين السراب والماء، بين الوهم والحقيقة، وبين الجائر العادل، والعادل الجائر…، عدنا إلى الفاصل الذي نجهل سر عمله وهو يموه علينا قدرته على التجدد، والانبثاق…، وأضاف يدندن مع نفسه بصوت أعلى:
ـ فإذا كان الوباء قد وجد من بانتظار حضوره، ووجد من يستقبله، ويحتفي به، ويتضامن معه، ويشاركه أهدافه…..، فما معنى البحث عن الأسباب الكامنة وراء هذه الأسباب؟
قال الذئب بصوت مذعور:
ـ لأننا سننقرض!
ـ ماذا نفعل إذا كانت النتائج واحده؟
ـ نحد منها.
ـ لدينا من وجد الموت حلوا ً مثلما هي الحياة…، ولدينا من فر وغادر…، ولم يبق إلا من لا عمل له سوى انتظار هذا الزائر الجميل!
ـ آ …، أيها الدب، انك شغلت حياتك بقضية خاسرة….، للأسف لا جدوى حتى من الأسف، أو الاعتذار، أو حتى طلب الغفران!
ـ صدقني أنا لم انشغل بها…، هي التي شغلتني…، أو هكذا وجدت نفسي منشغلا ً بقضية تداخلت مقدماتها بنتائجها، ونتائجها بالمقدمات..! فانا الآن لا أرى إلا هذا الحشد غير المكترث لمصيره، ولمصيرنا جمعاء، فها أنت تراهم يتنزهون، ويتسامرون، ويتجولون…، بين الجثث، وتراهم لا يكترثون لموجات الفرار، والنزوح، والهجرة…، وكأن شيئا ً ما لم يحدث…
ـ هذه هي الحقيقة!
ـ حتى تكاد الحديقة أن تخلو من سكانها!
ـ الحقيقة أم الحديقة…؟
ـ سيان، مثل أن تقول: ما الصمت إلا اعلي الأصوات…، ومثلما تقول: ما الشمس إلا ذرة فحم! لأنك عمليا ً ستجد داخلها المجرات والشموس والكواكب، وهذه هي الحقيقية التي سكنت الحديقة، وهذه هي الحديقة التي ترعرعت فيها الحقيقة!
ابتعد الذئب عنه قليلا ً، فخاطبه الدب:
ـ لِم َ لم تستنطقها…، وكلاهما يتضمنان اللغز نفسه…، مثل قولك: المفتاح هو القفل، والقفل هو المفتاح؟!
اقترب منه، وتكلم همسا ً:
ـ كان علي ّ أن افعلها، قبل نصف قرن، ولكنني، لأسباب اجهلها، لم افعلها…، فقد قلت: دع الأيام تكمل مساراتها حتى لا تتعثر فتتعثر معها!
ـ لكنك تعرف أن المشكلة لا تكمن هنا…؟
ـ أين تكمن..؟
هز الدب رأسه مذعورا ً:
ـ أنا أيضا ً لا اعرف…، فالحياة تبدو تعمل وهي تحول لا شرعيتها إلى واجب…، والواجب إلى لامبالاة!
ـ ها أنت تقترب من الحقيقة…
ـ إن متنا ورحلنا أو غبنا أو لم يحصل ذلك، إن ولدنا أو لم نولد، فالنتيجة تبقى كامنة في عوامل ديمومتها، وهي عوامل فنائها…، وتستطيع أن تقول: القفا يستكمل الوجه!
ضحك الدب:
ـ دعك من الهزل!
ـ هل سردت لك طرفة، أم تراني اسخر…؟
ـ بل سمحت لي بالعثور على الأسباب المؤدية إلى وجود الأسباب…، ومنحتني قدرة الولع بلا أسبابها أيضا ً!
ـ آ …، عدنا إلى الشر الذي تربص بضحاياه…، فما أن يجد الوباء سكنه حتى يغدو هو المأوى!
ـ لم افهم…، أرجوك، فهذا العدد الكبير من المعلومات يشوش علي ّ ما كنت أظن إنني عرفته…!
ـ سيدي، ببساطة، نحن أصبحنا المعضلة غير القابلة إلا كي تكمل مقدماتها…، فالوباء لم يتسلل، ولم يجد من يأوهيه، وليس هو إشاعة أيضا ً.
ابتعد الدب ولصق جسده بالجدار:
ـ انك تدعوني إلى الموت؟
ـ ها، ها، ها….، كأنك لم تمت بعد؟
ـ لكن بماذا اخبر سيدنا المدير….، عندما يأتي الجرذ ويزعق في وجهي: هل أكملت مهمتك؟
ـ ها أنت تخترع مشكلة لا وجود لها…، كي تجعل منها مشكلة شرعية؟ فقبل أن يستوطن الوباء، كنا نعمل على استبعاد حضوره، وعندما حل، وراح يفتك بنا، أدركنا استحالة مقاومته، وعندما اعتدنا وجوده بيننا أصبحنا نعمل على مراضاته…، وعندما جاء من يدعونا للقضاء عليه…، أدركنا استحالة اجتثاثه!
رد الدب بصوت واهن:
ـ لعل الزمن السعيد الوحيد الذي عرفته حديقتنا، كان زمنا ً لا وجود له….، وإلا كيف تتحدث عن السعادة والمسرة والمرح بمعزل عن الذين هم أصل البلاء، والوباء، والبلية…؟
ـ ها أنت تقول الصواب..
ـ سيدي، هذه نتيجة، وهم يطلبون مني أن اعثر على أسبابها…
قال الذئب وهو يبتعد نحو المستنقع:
ـ كان عليك أن تتعلم من الأشجار لغز مرحها، وكان عليك أن تتعلم من الصخور سر سكينتها، وكان عليك أن تتعلم من الماء سر شفافيته!
هرول الدب خلفه:
ـ لا تسرع…، فإذا مت أنت يا جاري، بعد أن حصد الموت أرواح هذا العدد الهائل من المخلوقات، فعن من أدوّن، ولمن أبوح بالأسرار…؟
ـ لا تدوّن….، ولا تفشي سرا ً…، مع إننا اتفقنا بعدم وجودها، إلا بحدود ظاهرها المعلن…، لا تدوّن …، فمن طلب منك أن تشتغل في مهنة اختراع الوهم، ومن طلب منك أن تكد وتشقى في وصف تفاصيله الدقيقة، من ثم لتعيد بناءه، كي تدرك أخيرا ً انك لم تعرفه…، تارة تقول انك أضعته، وتارة تقول انه أضاعك، وفي الغالب تكون أضعت حياتك، هذا إذا كانت لديك حياة أصلا ً!
ـ توقف..، لا تسرع، فالجرذ لم يمت بعد…، ومادام لم يمت فهو سيعثر علينا، وسيلقي القبض علينا حتى لو متنا!
تسمر الذئب مذعورا ً:
ـ كأنك أصبتني بالعدوى…؟
ـ العدوى…؟
ـ فانا أصبحت اجهل ما سيحصل لي بعد الموت؟
ـ سيدي، لا اعتقد انه سيحصل لك إلا ما كان حصل لك قبل أن تولد!
ـ آ ….، ها أنت تعيد لي السكينة…، فما سيحصل لي بعد الموت هو استكمال للمشروع الذي سبق ولادتي…، فانا أدرك الآن ـ الحقيقة وفي هذه الحديقة ـ إنني لم اربح خسائري، ولم اخسر مكاسبي…، فالعدم السابق على الوجود سيمتد إلى الوجود المكمل لعدمه…!
ـ بالضبط!
ـ هل ستدوّن هذا في تقريرك أيها الدب الأحمق؟!
ـ أرجوك …، فإذا كنت أحمقا ً فهذا لأن الحماقة سابقة في وجودها وجودي…، فانا لم اخترها، مثلما لا يوجد احد ما يختار الذهاب إلى جهنم بطيب خاطر، وإنما لأن الاختيار يحصل من غير قدرة على قهره…؟
صرخ الذئب:
ـ إنها الحرية الشفافة! إنها الحرية التي لا يصنعها إلا الأحرار…، لأن ناتج عمل الأحرار لا يأتي إلا بها، مع إن أحدا ً لا يعرف لماذا دامت أغلال العبودية بديمومة وجود هذا العدد الغفير من الأحرار..؟ ذلك لأن الحرية إذا ً سابقة في وجودها وجودي…، وهنا يبدو الإيمان بها وهما شبيها بمن يدحضها أو يغفلها…، وهكذا عدنا ـ سيدي ـ إلى المعضلة…؟
ـ تقصد … التي وجدت قبل وجودنا…، لأنها هي التي ورطتنا بالوباء، ثم علينا أن نجد ونكد ونشقى ونعمل على استبعاد إنها معضلة…، وهكذا تمتلك الشرعية قدرتها على التمويه، والديمومة، والخلود؟!
ـ على البطش، والجور، و…على ما لا يقال.
ـ أسكت…، قد تلتقط ذبذبات أصواتنا…، وقد يرصدون ومضات عمل أدمغتنا، ما داموا يمتلكون مفاتيح فك شفرات هذا المفاتح في هذا القفل؟
ـ لم افهم..؟
ـ الم تقل إن الحقيقة وجدت مأواها في هذه الحديقة، وان خلاف هذا القول لا يحتمل الدحض: فلولا الحقيقة لا وجود للحديقة، ولو لم تكن هناك حديقة فان الحقيقة تكون عادت إلى ما قبل وجودها، ووجودنا، وإنها خالدة بعد فناء الزمن؟
ـ قلت اسكت..، رغم إن هذه الذبذبات، سيدي، سابقة في وجودها وليس ملحقة به!
ـ نحن أم الذبذبات…؟
ـ كلانا…، فهل لديك قدرة فصل هذا السابق عن اللاحق، في ديمومة بقاء النهايات متسترة على لغز انبثاقها، وتجددها….، أم لديك قدرة عزل النهايات الممتدة عما سبقها من أزمنة لا بدايات لها….؟
تهاوى الدب..، فاقترب الذئب منه:
ـ مسكين! أمضيت حياتك منشغلا ً بهذا الذي ذهب ابعد من وجودك! ابعد من الماء والأشجار والصخور والزمن…، ابعد من الحديقة، ومن الحقيقة أيضا ً…؟
وجد الدب لديه قدرة على النطق:
ـ وأنت…؟
ـ أنا لم اترك حملا ً لامه، ولم اترك ذئبة لبعلها، ولم اترك أرنبا ً طليقا ً، ولا طيرا ًيدب فوق الأرض، ولا بشرا ً يتبختر، إلا واعدت له عدمه…، سقته إلى الدرب الذي ضل مساراته فيه! فكنت اردد مع نفسي: أنا هو عدمكم وقد اكتمل وجوده!
ـ آ ….، أنت إذا ً هو الوباء، سيدي؟
ـ بل أنا هو العقار…، يا حيوان، يا حمار، يا معزة، يا بعير، يا بعوضة، يا جاموسة، يا …
ـ اسكت، أرجوك، فقد يظنون انك تقول الحقيقة، فكيف اثبت لهم إنني لست إلا حيوانا ً، حمارا ً أو قنفذا ًأو بغلا ً….، كيف اخلص نفسي مع إنني فقدتها قبل أن يكون لها وجود …؟
ـ هذه معضلتك التي عليك أن تستكمل فصولها… ولا تتركها مبتورة، ناقصة، فلا يصح أن تكون حكيما ً من غير مغامرة، ولا يصح أن تكون ربحت شيئا ً من غير خسائر…، فالنار لا تترك إلا رمادا ً، والحياة، في الأخير، لا تترك ما يدل عليها!
ـ إذا ً…، لم تعد لدي مهمة…، بعد حديثك المروّع هذا…، فأنت لم تبق لي شيئا ً ما من الوهم أتعكز عليه…؟
ـ هي التي ستعثر عليك، ولن تدعك وحيدا ً، فالذي يولد وتراه يهرب من الموت هو في الواقع يخدعنا ويخدع نفسه لأنه وحده من يقترب منه….، فإذا اعتقدت بأنني سأرمي بجسدي إلى المستنقع، فانا في الواقع ألبي نداء الأغوار النائية…، لأننا عمليا ً لم ندوّن إلا ما كنا نسعى إلى محوه..!
ـ وهل ستتركني أراقب كيف نغطس في هذه المياه الآسنة…؟
ـ هذه هي المشكلة…، لأنني كنت احلم أن أموت في المياه العذبة! لعلي أولد في مستنقع آخر تندمج نهاياته بدشيناته وتغيب فواصله وتلاشى قبل أن تترك أثرا ً لها، ولا أثرا ً يدل على إنها قاومت حتى زوالها!
ـ ها أنت تجعل الحد الفاصل بينهما متحدا ً…، مادمت ستولد من موتك مرة ثانية، لتكون لك صورة غير التي محوتها…؟
ـ أنا ـ يا سيدي ـ مثلك، فانا هو الوباء الذي لا يمكن استئصاله إلا بالعودة إلى هذا الذي نلبي نداءه…!
صرخ الجرذ، وهو يقترب منه، يتبعه حشد من النمور، والتماسيح، والأسود، وأفراس النهر، ويمشي خلفه السيد المدير:
ـ قفوا …، قفوا…
لكن الذئب غطس في ماء المستنقع، واختفى…، تاركا ً فقاعات من الهواء، فوق السطح، تحولت إلى هالات!
ـ ها أنا أرى ما لا يحصى من الكواكب تتلاشى، ومن الشموس تنطفئ، وثمة مجرات تتناثر…، في هذا الفضاء المشغول بالفضاءات، وقد تخللته هذه الومضات الغريبة! فالدورة لم تستكمل دورتها وما انفكت تدور….
امسك الجرذ بالدب:
ـ هل دوّنت كلماته…؟
ـ نعم، سيدي، فانا لم اترك شاردة إلا ولحقت بها، ولم اترك واردة إلا واقتنصتها، لم اترك أدق التفاصيل تغيب عني، ولا اللا مرئيات تتوارى داخل مكنوناتها، حتى عثرت على اللا أسباب التي ستشغلنا ملايين السنين، ورحت ارصد مساراتها الملتوية، المراوغة، لظاهرها وباطنها، كما تعقبت الأصداء بعد زوال أصواتها، وتحريت عن مصادر الظلال، والضلال، ولم اترك ضالة، ولا بدعة، ولا منكرا ً، ولا فرية….، إلا ونبشت في حفرها وفي دهاليزها المظلمة وأخرجتها من مخبئها ومناطقها المجهولة….
سمع المدير كلمات الدب، فسره ما سمع، فأمر بحركة من رأسه الجرذ، نفذها في الحال.
صرخ الدب:
ـ لم يحن أوان نهايتي أيها الزعيم….، فهناك الكثير الذي لم أدوّنه بعد….، الكثير…، بل الأكثر من الكثير….، من هذا الذي نقشته فوق هذه الألواح…؟
ـ مت بوقار الصمت! فهناك ألف ألف حسنة ستحصل عليها، وألف ألف أخرى تنتظرك بعد الموت…، وألف ألف ألف مضافة عندما تبعث إلينا من جديد!
ـ سيدي أيها الزعيم الذي لا يموت، يا واهب المقدمات من غير نهاية، وواهب النهايات من غير مقدمات،، يا من ظله لا يزول، ولا يستحدث، يا سيدي الجبار لا أريد إلا واحدة …. من هذه الحسنات!
ورفع صوته:
ـ واحدة فقط…
فأمر المدير الجرذ:
ـ دعنا نستمع إلى رغبته…
قال بصوت غائب:
ـ لا أريد أن أموت!
ابتسم المدير وقال للجرذ:
ـ ولكنهم لا يريدون أن يتأخر…
وخاطب نفسه:
ـ أما أنا فلا صلاحيات لدي ….، وأنت أول من يعرف ذلك!
فصرخ الجرذ:
ـ سيدي…، لدي ّ كلمة أخيرة…
ـ قل.
ـ إنهم لن يدعوك، بعد موته، حيا ً!
ضحك المدير:
ـ اعرف!
فقال الدب لنفسه:
ـ وأنا أيضا ً كنت اعرف لماذا لم يردم هذا المستنقع!
9/6/2015
المصيدة
شاهد ـ عبر شاشة الحديقة ـ أسدا ً يفترس ثورا ً بريا ً، ففكر أن يعترض، لدي مدير الجناح، بضرورة منع عرض الأفلام المحرضة على الكراهية، والعنف، لكنه استدرك، أن مسؤول الجناح سيخبر الإدارة، بخلاف ذلك، وبضرورة عرضها مادامت تعمل على إدانة العهد البائد. ومادامت هذه الأفلام تأجج الغضب، والتوتر، وتعمل على إشاعة الفوضى، والتمرد.
ولا يتذكر الثور كيف انتهى الفلم، فقد عرضوا فلما ً يوضح دفاعات القرود ضد الغزاة، فقال لنفسه، ما شأني. بانتظار مشاهدة فلم يروي حكاية حمامة أضربت عن الطعام، بعد أن فقدت شريكها.
نهض، ومازالت مشاهد الافتراس تستفزه درجة انه وجد نفسه وسط قطيع النعاج، بدل أن يذهب إلى زريبة الأبقار، أو حتى إلى حظيرة الخيول والحمير، قال الكبش الذي استقبله بحفاوة:
ـ زيارة سعيدة..، أيها الأب ..
انتبه لنفسه: ما الذي افعله هنا …؟ وبدأ بالتراجع. صاح الكبش:
ـ إلى أين…، فلم نصدق حضورك…، كي تغادر…؟
ـ سأعود.
ليعود ويجلس فوق العشب، يتأمل مشاهد جديدة. كانت المعركة تجري بالسلاح الأبيض، داخل الخنادق، والسماء تمطر، محدقا ً في بساطيل الجنود، تغطس في الوحل، ثم تتداخل الأجساد، بعضها بالبعض الآخر، فقال: ما شأني!
لم تكن المشاهد ملونة، دار بخلده، فهي قديمة. لأنه لمح البساطيل بلون غامق، والغيوم، هي الأخرى لا تختلف إلا بالدرجة عن باقي الأشكال، والصور..
أرسل نظره إلى الأجنحة، عامة، وتخيل أقسام الحديقة، وزرائبها، بركها، وباقي أقسامها، ولم يسترع انتباهه الحدود العازلة بين الأنواع، والفصائل، بل ولم يأبه لوجود القضبان، والمشبكات، والحواجز….، إنما شعر انه لا يقوى على الحركة، وان خدرا ً ما بدأ يتسلل إلى جسده، فيمنعه من التراجع، أو التقدم.
رفع رأسه قليلا ً ولمح الأسد، في الشاشة، يقوم بحركات استعراضية، ويخاطب الثور. أصغى. كان الصوت خفيضا ً، مما اضطره للاقتراب، فسمع الأسد يقول للثور:
ـ دعنا نتصالح!
فقال الثور:
ـ ومن يشهد على هذه المصالحة…، بعد أن أصبحت وحيدا ً بين مخالبك وأنيابك…، ولا احد معي من أفراد القطيع…؟
ـ أنا اشهد! ألا تثق بوعدي…؟
لم يجب. فقال الأسد:
ـ لن افترسك…، وسأدعك ترحل…، هل اتفقنا…؟
ـ غريب…، أنا لا اصدق!
همس الأسد في اذن الثور: أصغ إلي ّ جيدا ً….، لقد رأيت كابوسا ً مروعا ً قبل ان …، امسك بك…!
ـ هل كان ملونا ً؟
ـ بل ولم أر فيه إلا عاصفة هوجاء، خالية من الأصوات، اقتلعت الغابة، ودمرتها، ومحتنا من الوجود…، ثم رأيتكم تزحفون علينا من الجهات كلها….، والبعض منكم كان يهبط من السماء بأجنحة بيضاء مع المطر …؟
ـ نحن لا نفعل ذلك، سيدي.
ـ في الكابوس…
وسأل الأسد الثور:
ـ ولأنك كنت ضحيت بحياتك من اجل سلامة أبناء عشيرتك…، ولم تهرب…، فمن يضمن إن القطيع لن يشن هجوما ً مدمرا ً ضدنا ….، ثأرا ً لك …، وحماية لأبنائكم وأحفادكم من الأذى والانقراض….؟
ـ آ …، فهمت.
ـ جيد.
دوى انفجار هز ارض الحديقة بأسرها. فانقطع التيار الكهربائي، فقال الثور لنفسه، حقا ً إنها قصة غريبة…، مصالحة تجري في العراء…، بين أسد طليق، وثور أسير…، للأسف…
لكزه الكبش من الخلف، ففز الثور مذعورا ً:
ـ لم ترجع إلى زريبتك؟
أجاب الثور:
ـ انتظر إصلاح التيار الكهربائي … لأرى نهاية المصالحة!
ـ أية مصالحة؟
ـ آ ….، أرجوك، عد إلى نعاجك وتمتع بليلة خالية من الضوضاء…، فانا أفكر بإجراء مصالحة …
ـ مع من….؟
ـ مع هذا الأسد القابع خلف القضبان…؟
ـ آ …..، حسبت انك ستتصالح مع نفسك أولا ً…؟
ـ يبدو انك تتمتع بروح الدعابة، أم أصبحت شفافا ً…؟
لم يدعه يكمل:
ـ لقد سمعت احد الخطباء يهاجم الأشرار من البشر هجوما ً لاذعا ً حتى وصفهم بالنعاج!
ـ جيد…، ولم يصفهم بالثيران؟
ـ لا…، يا سيدي، فانا نفسي طالما حلمت ان أمي ولدتني مثلك…، كي ادخل أسفار التاريخ، وحكايات الجان، وأفلام رعاة البقر…!
ـ أقترب..
ـ ها أنا اقترب…
كم أنت مرح، فضلا ً عن اتزان عقلك!
ـ سيدي، ومن قال ان لدي ّ عقل…؟
ـ قبل قليل كنت تحتج على مقارنة الأشرار من الناس بالنعاج..
ـ آ …..، دعك من التذكر….، دعنا نتسلى!
فقال له الثور:
ـ أنا هربت من الزريبة لأنهم سيرسلونني غدا ً إلى الأبدية!
ـ يا للعيد! مبروك!
ـ يا نعجة؟
ـ سيدي، أنا ذكر….، أنا كبش…، أم لم تعد تميز بينهما، أم أصبت بعمى الإدراك؟
ـ يا أنثى….!
ـ اقسم لك أنا أصبحت جدا ً ولي حشد من الأبناء، والأحفاد…، بل وأحفادي أصبحوا أجدادا ً، وجميع من تراهم هم من نطفتي، وينحدرون مني…!
ـ يا لسعادة قطيع النعاج!
ـ حتى أنت …؟
ـ اسمع…، قلت لك: سأذبح! أي، غدا ً، سيكون يوما ً فاصلا ً بين وجودي وعدمه!
ـ سيدي…
ـ أصبحت تفكر وكأنك تخيلت نفسك ثورا ً سماويا ً…؟
ـ اقترب…، اقترب.
وهمس بصوت يخلو من الكلمات:
ـ بالفعل أنا هو هذا الذي قرأت عنه في الأساطير….
ـ آووووووه…، الآن، فهمت، فهناك معضلة إذا ً…؟
ـ لا…، لا توجد معضلة، توجد نذالة؟
ـ آسف …، تعرف إنني عشت سنوات طويلة مع النعاج حتى لم اعد….
ـ واضح…..، لا تعتذر!
عاد التيار الكهربائي، وعادت الشاشة تبث برامجها:
ـ دعنا نكمل نهاية الحكاية..
ضحك الكبش:
ـ هذه صور من المعركة…!
ـ آ …، نعم، انظر…، الأقدام تزحف، تدك الأرض، الانفجاريات…، الطائرات تقصف….، الدخان ينتشر، الغيوم تتقدم…، انظر…، البساطيل تغطس في الوحل…!
همس الكبش بخوف:
ـ أغبياء!
ـ كيف عرفت…؟
ـ القصاب قال لي ذلك!
بشرود سأله:
ـ ماذا قال لك…؟
ـ قال إن الحرب لم تبق من النعاج إلا هذا العدد الضئيل….، فلولا هذه الحرب لكنا حافظنا على قطيعنا من الإبادة…، ومن الاجتثاث…!
ـ وأنت صدقت القصاب…؟
ـ لا! لم أصدقه، لكنه قال إنهم خسروا الكثير من البشر لأسباب غبية…، فبدل أن يتصالحوا ويعمروا ويعملوا معا ً حولوا حياتهم إلى ساحة حرب طاحنة وراح احدهم يفتك بالآخر من اجل إن …..، يهزم الجميع!
ضحك الثور وهو يشاهد عبر الشاشة: عاصفة حمراء تغطي ارض المعركة. قال الكبش هامسا ً من غير كلمات:
ـ لأن القصاب اخبرني بأنه استبدل رأسه برأس نعجة!
ـ آ…وووو…ه، ولم يستبدله برأس ثور…؟
ـ لا…، لأنه لم يبق من الثيران أحدا ً لم يرسل لإحراز النصر، إلا سيادتك!
ـ أخرس! الم اطلب منك أن ترجع إلى نعاجك ولا تقلقني…، فهذا هو آخر ليل لي أرى فيه الدنيا!
ـ لا تحزن…، سيدي، تنتظرك أزمنة سعيدة، حيث الظلمات ستكون شفافة!
ـ كيف عرفت؟
ـ إدارة الحديقة أعلنت ان كل من ولد، هنا، لن يذهب إلى الجحيم!
لوي الثور عنقه، مبتعدا ً عن الكبش ونعاجه، مع انه مازال يستعيد صور الحرب، ويصغي إلى أصوات البساطيل تغطس في الوحل!
ووقف يتأمل القفص الكبير، حتى خاله بلا نهاية. فقال للأسد:
ـ أنا كرموني بالطابق الأرضي! وباقي الطوابق وزعت بحسب الوزن!
تخيلها عمارة شاهقة، فعّدل الأسد عبارته وقال:
ـ إنها ناطحة سحاب تليق بالمواليد الجدد…، والآن، أراك مكفهر كأنك خسرت الحرب …، مع إنها انتهت منذ زمن بعيد!
ـ لا أنا لم اخسرها…، ولكني لم اكسبها.
ـ آ …، تذكرت حكايتنا في البرية، والمصالحة …، فقد كان عملا ً استثنائيا ً….، مع ان عشيرتك هاجمتنا وأنزلت فينا الهزيمة!
ـ عشيرتي…؟
ـ لقد تعاونت مع الصيادين الأشرار…، وتم اجتثاثنا من الغابات، ومن البراري…
ـ ولان ما الذي تريده مني…؟
ـ كلما أريده هو العودة إلى شروط المصالحة…
ـ أنا لم اخل بها…، مع انه لم يبق لي من الحياة إلا ساعات هذا الليل…!
ـ هل سيرسلونك إلى جبهات الموت…؟
ـ تستطيع القول: لا تريث في الأمر….، فالجيوش ـ هي الأخرى ـ تزحف على بطونها!
ـ هناك النعاج، الماعز، الزرافات، الأرانب، والخنازير …؟
ـ لا …، جنودنا يفضلون لحم الثيران!
حزن الأسد، وتمتم مع نفسه بصوت مسموع:
ـ كنت آمل ان تقدم لي يد المساعدة وتعمل على إرسالي إلى السيرك ….
قال الثور من غير تفكير:
ـ لن ترسل إلى الحرب، بل ستهرم هنا، داخل قفصك، وتتعفن! ولن تبول عليك الثعالب!
ـ اسكت!
ـ ماذا قلت كي اسكت…؟
ـ ذكرت سيدنا المدير…!
ـ لا تكترث ….، الإشاعات كثيرة وقد اختلطت الأوراق ولم يعد من يكترث لها…
فقال الأسد بصوت ناعم:
ـ لدي ّ فكرة …؛ سأنقذك فيها….، أو …. ادعهم يتريثون في إرسال لحمك إلى جبهات القتال!
شرد ذهن الثور وراح يصغي:
ـ ان تتبرع بجلدك للأبطال البواسل….، فمادمنا جميعا ً أوفياء لحديقتنا…، فانك تستطيع ان تقدم درسا ً في القيم، والمعايير الوطنية.
ـ أتبرع بجلدي…؟
ـ ليس الآن….، بل بعد تبلغ حجما ً كبيرا ً…، حيث جلدك يصلح لصناعة اكبر عدد من البساطيل، ذات المواصفات الخاصة! فأنت تعرف كم تشتهر حديقتنا بجلود ثيرانها الأصيلة؟
ـ فكرة جيدة! وماذا عن لحمي….، فهم اليوم يعيشون أزمة اقتصادية خانقة وندرة في العملات بعد انخفاض أسعار البترول…؟
ـ المسألة بسيطة فأنت ستتحدث عن أهمية الجلود وليس عن اللحم المتوفر…، لدى الخراف والنعاج والحمير…
ـ آ …..، يا لها من فكرة عبقرية…، لكن ماذا افعل للقصاب الذي سيأتي مع يزوغ الفجر…؟
ـ اسمع…، ما عليك إلا ان تستخدم قوتك في تحطيم باب هذا القفص اللعين…، فاخرج وأتربص به حتى إذا ما جاء فجرا ً حتى امسك به…، واعقد معه مصالحة!
ـ ضدي…؟
ـ لا …، بل من أجلك…؟
ـ من يضمن….، فانا، يا سيدي، سأموت، ولم أر مخلوقا ً عمل عملا ً يستحق الذكر! عدا الوشاية، والغدر، والنهب، والتزوير، والتشهير …
ـ دعك من الظن…، فالمستقبل ليس وهما ً..
ـ كما ترغب..، سيدي.
وجاء الكبش مسرعا ً وهو في حالة ذعر:
ـ ماذا حدث…؟
ـ القصاب …، القصاب سيدي، القصاب يبحث عنك؟
فقال الثور للأسد:
ـ هيا، جاء دورك…، كما وعدتني.
صاح الأسد في الثور:
ـ دعنا نهرب…
صاح الكبش بالثور:
ـ تريث…، انه لم يأت لذبحك….، بل جاء لتساعده على الهرب!
ـ أساعده …، وماذا افعل من اجله…؟
قال الكبش:
ـ يمكنك ان تخفيه في رحم واحدة من البقرات السمان!
ـ وماذا لو بحثوا عنه ولم يجدوه…؟
ـ ما شأننا…، الحديقة كبيرة، وقد يكون لاذ بالفرار هربا ً من الخدمة العسكرية….؟
قال الأسد:
ـ الفكرة جيدة..
صاح الكبش وهو يحدق في شاشة التلفاز:
ـ يا للرعب….، انظروا ….، السماء اكفهرت …، ولا أمل لنا بالنجاة…؟
لاذ الجميع محتمين بقفص الأسد بعد ان عدلوا القضبان. كانت السماء تمطر حمما ً وتتساقط الحجارة حمراء متوهجة فوق الأجنحة، والبحيرات، والزرائب، والكهوف…
وقف القصاب بباب القفص وصاح:
ـ أين انتم…..، أيها الأبطال الميامين…..؟
مد الثور رأسه هامسا ً:
ـ لا تتهور …، فأنت أول المتخاذلين…
ـ من …؟
ـ أنا الثور السماوي الذي حطم رؤوس أجدادك!
ـ آ …، أيها الثور اللعين…، آن لي ان استدعي الأرانب…؟
ـ ولماذا الأرانب…؟
ـ كي تشعر بالخجل…، وتحس بالحياء!
ـ ولكنك ستوزع لحمي….، وجلدي ستصنع منه أحذية …، وإنا مازالت في مقتبل العمر…
ـ سأخصيك!
ـ لقد تم أخصائي …، مع السيد الأسد…، ومع هذا الكبش الذي اختبأ في جحر الجرذان!
انهالت الحجارة، والشظايا، وامتلأت السماء بالنار، وارتفعت أعمدة الدخان.
صاح الكبش:
ـ الحديقة تحترق!
صرخ القصاب:
ـ أنا لا اصدق هذا …..، فالحمم مازالت تتدفق من الشاشة!
ـ بل وتأتي من وراء الأسوار …، فلم تعد هناك شاشة، ولا حديقة!
همس الثور في أذن الأسد:
ـ دعنا نجري مصالحة…، هيا ادعوا القصاب إلى عقد جلسة طارئة…
ـ أين هو القصاب …، أنا لا أراه ….، لقد التهمته نيران المحرقة!
ـ آ …..، انظر….، لقد ظهرت الأشباح!
ـ دعنا نحتمي بالحفر، وبالمغارات…
ـ لا فائدة…، فالأرض تحترق، والحجارة تذوب، والتراب تحول إلى لهب…
ـ آ …، دعونا نستنجد….، ونطلب الغفران.
وظهر شبح القصاب يلوّح بالسكين، فسأل الثور الأسد:
ـ ماذا سنفعل…؟
صرخ الأسد في وجه القصاب:
ـ هل تبحث عنا…؟
ـ من انتم…؟
ـ لو كنت تعرف من نحن …، لعرفت من تكون…؟
ـ اختلطت …، اقسم لكم اختلطت علينا الحقائق بالأوهام، فانا لم اعد أميز بين البلبل والكركدن، ولا بين الأفعى وبين السمكة….!
حدق الثور في عيني الأسد:
ـ ماذا تفعل…؟
ـ اجري مصالحة!
ـ لم تبق من لحمي شيئا ً للجنود البواسل….!
فقال الأسد للقصاب:
ـ لم اترك لك حتى الجلد!
احكم القصاب إغلاق باب القفص، وراح يقهقه:
ـ وقعتم في المصيدة، أيها الأغبياء!
وخاطب الأسد:
ـ أما أنت …، فلن تخرج من عرينك هذا إلى الأبد!
5/5/2015
الوباء
ـ آن لك أن تهرب…، فقد عثرنا على ممرات …، وشقوق…تيسر لنا الهرب.
رغم الظلام والبرد والغبار، فقد راح يراقبهم يبتعدون، مهرولين، وزاحفين، الواحد بعد الآخر، غير مكترث لدعواتهم له بالفرار، وبمغادرة حفرته.
وسمع آخر يخاطبه بصوت خفيض:
ـ فلا تكن عنيدا ً…، فالوباء يتقدم…
فردد مع نفسه: وما الفائدة من النجاة…، وأنا ـ متابعا ـ لست إلا ذروته. فان قبعت، هنا، فسأهلك، وإن هربت فسأحمل موتي معي، أو هو من يحملني معه، في متاهات الموت! فالنهاية سابقة على مقدماتها!
ورفع رأسه لمشاهدة الممر: لا احد….، وقد خلى من المتسليين. ففكر انه أصبح وحيدا ً، كما كان قد أمضى سنواته الأخيرة في عزلة. فأرسل نظرات إلى البعيد، رغم كثافة الغبار، وحلكة الظلام، فثمة أجنحة تتجاور، متلاصقة، وأخرى موزعة بحسب خارطة الصنوف، في الحديقة: الأقفاص الكبرى، ذات القضبان الحديدية المتينة، وذات المشبكات، لصقها مساحات محاطة بالأسلاك، وأخرى بالجدران الخشبية، وهي مستقلة عن الصالات، والكهوف، وبعيدة نسبيا ً عن المركز، ولكنها لا تبتعد كثيرا عن المغارات، الخاصة بالأنواع المفترسة، والأخرى الأقل شراسة، وقد شيدت بجوار التلال التي تشرف على المستنقع الكبير…، وثمة، في الوسط، ترتفع أعمدة منصة الاحتفالات الكبرى، ووزعت داخلها شاشات تعمل على مدار ساعات الليل، وفي الخلف، فكر، أقيمت المحرقة، بجوار السجون، والسراديب، والمصحات، وأجنحة المرضى والميئوس من شفائهم…..، فكف عن التفكير، وتراجع خطوة للخلف كي يسترد أنفاسه، فقد شعر بالبرد، يتسلل، مع الخوف، إلى جسده الضامر.. ليس من الوحدة التي أحس بها، توا ً، بل لأنه رفض مشاركتهم قرارهم بالفرار، والخلاص من الخطر الذي سيسببه البقاء بانتظار ما سيحصل بسبب الوباء.
لم يحتمل لسعات البرد، ولا رائحة الغبار، فغادر الحفرة، ووقف يراقب، فلمح مجموعة من الجرذان تغادر، مسرعة، بلا تردد، في خطاها، تتبعها أسراب من الطيور الكبيرة، والصغيرة، تقفز، خلف قطيع من الماشية، الخراف خلف الماعز، والجمال خلف الزرافات، وأفراس النهر وراء الجاموس، والدببة تهرول خلف الأرانب..، والبرغوث وراء الثيران، والخنافس خلف البعوض، مبتسما ً بلا إرادة، فقد تخيل حكاية سفينة نوح، بالمقلوب، فبدل الاحتماء بالسفينة، أصبح الفرار منها طوق نجاة. كلا، أجاب بمرح، لأنه تذكر المسيرات الجماعية المليونية التي طالما تأملها، عن بعد، وقد اشترك فيها الجميع؛ لإحياء ما لا يحصى من المناسبات، ذلك لأن الهلاك يحصل من غير تمهيدات، ولا إنذارات مباشرة.
ـ أنت…؟
صاح، بعد أن لمح شبحا ً يزحف، فلم يتلق ردا ً، فصرخ الأرنب بصوت أعلى:
ـ أنت…، أيها الحمار..، أيها التيس..، أيها الجحش، أيها البعير!
اختفت الظلال، هي الأخرى، في الظلام الحالك، ممتزجة بعتمة الغبار.
فتساءل بشرود، ومن غير قصد:
ـ لِم َ لا اهرب…، فحتى نوح هرب من الطوفان؟!
وراح يقهقه، مخففا ً من وطأة الخوف، وشعوره بالعزلة، ومن عصيان أوامر الجماعة:
ـ أنا لم اهرب عندما كان ذلك مشروعا ً، ومتاحا ً لي، ولم أسافر عندما كان السفر متعة! فهل اعص بعد أن صار الهرب ضرورة…؟ ودار بخلده، انه عندما كنت حرا ً، وطليقا ً، لم يختر إلا حفرته، وحديقته، فهل يرتكب إثما ً بعد أن تساوت لديه النهايات، والمسافات، وغدت غير مختلفة إلا بتمويهاتها…؟
ود لو كان قد اخبر أفراد أسرته، والمجاورين له، ومعارفه، وباقي الأصدقاء…، بالأمر الذي لم يبح به، وأخفاه، منذ زمن بعيد، ولكنه لم يجد أحدا ً يخبره بما تستر عليه، وتوارى حتى محاه من ذاكرته، داخل ملفاتها السرية:
ـ وماذا لو بحت بما توارى وتلاشى وغاب في نفسي…، بعد أن غمر الطوفان الأرض ومن عليها، وبعد أن زالت علاماتها…؟
صمت لبرهة، وأجاب:
ـ فانا قلت لماذا نموت كأننا لم نولد…، ولماذا نولد وكأن لا عمل لدينا إلا انتظار الموت. فقلت وأنا اكتم فزعي: أن تلك الفجوة بينهما اندمجت، انصهرت، تلاشت، حتى لم اعد أميز أيهما علي ّ اختياره، وأيهما علي ّ نبذه…؟
لا احد. وقال لنفسه:
ـ لا احد.
ترك بصره يتتبع بقعا ً معتمة رمادية لها حافات مشوشة تبث أصداء خطاها فوق التراب وهي تبتعد، فلم ينشغل بها، فقد عاد يقهقه:
ـ فانا نفسي اجهل ما الذي تبقى…مني، كي اعمل للحفاظ عليه…؟
متابعا ، وهو يرى شبح ثور يجري خلف كبش:
ـ فانا لم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي…، فهل أنا ذئب أم حمامة، هل أنا حصان أم تمساح، هل أنا نملة أم باز، هل أنا فرس نهر أم صقر، هل أنا فقمة أم حرباء، هل أنا وحيد قرن أم أيل، هل أنا خنزير أم بلبل، هل أنا سمكة تحولت إلى طير، أم أنا ولدت قردا ً، أم إنني صرت، بمرور الأيام والسنين، مجهولا ً يمشي خلف مجهول، أم إنني أدركت استحالة أن أكون كائنا ً آخر غير هذا الذي اجهله….؟
فجأة أصغى إلى حركة تحدث داخل الحفرة، فشعر بنغزات من الألم، في صدره، وفي أعلى رأسه، وبخوف يشل قدرته على التفكير:
ـ من…؟
لم يختف الصوت، ولكن لم يأته ردا ً، فقال، وقد عاد إليه مرحه:
ـ انه ـ هو ـ صوتي النائم!
فعاد يراقب:
ـ ما الذي تنتظره …، والباء يزحف، يدنوا …؟
لم يصدم بالصوت:
ـ وهل سأنجو منه لو ذهبت إلى البرية، أو إلى البحر، أو إلى البلاد البعيدة الخالية من العلل الفتاكة، أو إلى الحدائق التي اضمن فيها وجود عدالة لا تنتهك فيها حقوق الضعفاء، ولا حقوق الأبرياء، أو حتى لو غادرت هذا الكوكب الزاخر بالخراب…، والجور…، وفقدان المناعة؟!
ـ كن عاقلا ً لمرة واحدة في حياتك أيها العنيد…؟
ـ قصدت أن تقول لي: كن مجنونا ً لمرة واحدة وانج من الذل …، غادر!
ولم يجد قدرة لديه على مقاومة الضحك: يتحدثون عن العقل، وبعد قليل سيتحدثون عن الحرية، وبعدها يسرفون بالشفافية…، من يعلم، فقد يتحدثون عن الفردوس، وعن الإلهة العادل…، كأنني أنا هو من اختار الجنون…..، وكأنني أنا هو من اعرض عن السلامة…؟
صمت، ليسأل نفسه:
ـ تُرى من ذا يضع المسافات بينهما….، وأنا، منذ قرون، وقرون، وقرون…، انهمكت بالبحث عنها..، فقلت: نولد لنموت، كأن عملنا خطة مدبرة لبناء هيكل الموت، ومجده الزاخر بالابتهالات! فهو وحده الذي لا يموت…، لا يتقدم أنملة ولا يتخطاها أبدا ً.
ـ وهزمت…؟
ـ سيدي، أنا لم اهزم لا لأنني لم ادخل الحرب، ولم أخض أوارها، مكرها، وخرابها، فحسب، ولكن لأن الهزيمة سابقة في وجودها علي ّ…، وعليك، مثلما هي النهايات كامنة في مقدماتها.
ـ لو كان الأمر هكذا …، كما تقول، فلم اخترت أن لا تتحول إلى ..
آ ..
صدم، فتراجع خطوة:
ـ أنا هو من يسأل هذا السؤال.
ـ ولم تجد ردا ً، ولا إجابة شافية..؟
ـ كنت أقول لِم َ لا نعيد حياكة حياتنا على النحو الذي يليق بنا…، بدل أن نموت كأننا لم نولد، ونولد كأننا لم نمت…، فركلوني، وجرجروني، وسلبوني حقوقي، فصرت لا اعرف من أكون….، امشي وأنا واقف، ابكي وأنا اضحك، أهرول وأنا ازحف…، احلم وأنا غاطس في الوحل..
دوي صوت انفجار شديد ملأ الفضاء:
ـ تدريبات…..!
ـ يا أحمق..، الوباء انزل ضربات قاصمة في الأجنحة، والحظائر، والزرائب…، وهو يدنو…، من غير مقاومة تذكر…
ـ آ …، قرون وأنا أفكر في محنة هذا الوباء…
ـ ومكثت تتأمل، تراقب، تخمن، ولم تقاومه، ولم تعالجه، ولم تهرب منه…؟
وجد رأسه يسقط فوق الأرض من شدة الضحك:
ـ الحمار لا يميز بين الهزيمة والنصر…؟
ـ من…؟
ـ اختف!
ـ آ ….، السيد ابن أوى أم السيد كبير الفئران….؟
ـ اختف….، كي أتوارى معك، ونجد فسحة للتستر.. وملاذا ً للاحتماء.
رافعا ً صوته قليلا ً:
ـ ولكن لماذا لم تهرب يا سيدي…، الست أنت مدير جناحنا…، والمسؤول عن هذه الجبهة…؟
ـ وماذا ستقول الضفادع، وماذا سيقول البعوض، والقمل، والبرغوث، والذباب، وباقي الحشرات …، عني؟
ـ كأن الهزيمة بحاجة إلى أسباب، ومبررات، بعد أن شيدت لنا هذه الصروح: المغارات، الكهوف، السراديب، الأقفاص، البرك، المستنقعات، فضلا ً عن هذه الحيطان، والجدران، والأسوار المحصنة بالأسوار …؟
ـ آ ….، صحيح…، فانا هو من أمر ببنائها!
ـ فلا احد …، لا اليوم، ولا في أي يوم آخر، سيتحدث إلا عن نصرك المبين…، لأن الهزيمة، في الواقع، ستذهب مع الريح، أما هذه الأقفاص، شواخصها،أطلالها، آثارها، وبقاياها، سيدي، فلا احد يقدر على زحزحتها من الوجود!
ـ أسكت…، دعني أسبقك في الدخول…
ـ حذار…، قد تجد صمتي راقدا ً فلا تصطدم به، كي توقظه..!
ـ الم ْ يهرب صمتك بعد..؟
ـ لا! فانا أصبحت حارسه الأمين!
ـ كنت اعرف انني ساجد من لا يتخلى عني، في مثل هذه المحن..
ـ ولا أنا..!
ـ لا اصدق.
فرد بصوت متلعثم:
ـ سيدي، صمتي وصوتي، مثل المسافة بين ميلادي وموتي، مسافة تامة!
ـ آ ….، فهمت، مثل اقتران المستنقع بالضفادع، والضفادع بالمستنقعات.
ـ تقصد …:الحرية وجدت للأحرار، والأحرار وجدوا للحرية! مثل قولك: لا همّ للعبيد إلا بديمومة عبوديتهم؟
ـ لا أريد أن اختلف معك كثيرا ً….، لأن القانون من غير أدلة، كالأدلة من غير قانون!
ـ سيدي، وهل هناك قوة قادرة على قهرك، ومنطقك ولد من غير شوائب…؟
لم يجب، فساد الصمت برهة، تخللها دوي انفجار شديد:
ـ هذا هو صوت بغل لم يهرب من الكارثة…!
ـ لا ..، لا اعتقد …، فانا اعتقد انه عويل حيوان يذبح!
ـ لا تفزعني، فلا احد مكث في هذه الأجنحة…، فالثيران ولّت الأدبار بعد أن رأت النعاج والماعز تحّوم بأجنحة مستحدثة مع أسراب من الأسماك الطائرة مع البرمائيات ذات الأنوف المستطيلة عندما تحولت الطيور إلى زواحف، والمفترسات أصبحت تدّب، والثدييات تتلوى كالثعابين …
سكت، ليسأل مدير الجناح:
ـ سيدي، هل هناك وباء حقا ً…، هل رأيته، وشاهدت علاماته، أم إنها واحدة من الإشاعات…؟
ـ ماذا تقول أنت…؟
ـ أنت المدير…، أما أنا…، فلم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي…، تارة أبدو مثل القنفذ، وتارة مثل النعامة…، وفي الغالب اكتشف إنني خليط من المنقرضات التي انحدرت إلى ماضيها الأبعد…، فانا لم يعد مصيري يعنيني، ولا هو يفكر بخلاصي… أصبح كل منا سببا ً للآخر، ونافيا لها في ذات الوقت. فالأعمى الذي يمشي خلف أعمى وحده لم يعد يكترث للشموس…
ـ في الواقع، لدينا معلومات تؤكد انه شبيه بما تحدثت عنه…
ـ أتقصد إن سواحل العفن لا تستحدث إلا …
قاطعه ولم يدعه يكمل:
ـ أصغ…، فالوباء يزحف، بعد أن كان يتسلل…، أصبح يرفع رأسه بعد أن كان بلا رأس..
ـ سيدي، يقولون انه استولى على الأبواب، واحتل الممرات، بل وسمعت الدعلج الأعور يؤكد إن المحرقة سقطت أيضا ً…
ـ إشاعات…، لا تصدق…، فكما قلت: هذه الأقفاص ستبقى شوكة في أفواه المغرضين الأعداء، وليس في عيونهم كما يقال، فهي وحدها ستشهد بنصرنا.
ـ سيدي…
ـ نعم.
ـ نصركم ليس بحاجة إلى أبراج، وعمارات، وقلاع، وقصور…، يكفي إن لدينا هذه الحفر…، الدهاليز…، السراديب، المغارات، الأنفاق، والمجاري…
ـ صحيح…، ولكن لماذا الفرار العام، وهذه الهزيمة…؟
صفن لحظة:
ـ اعتقد إنهم ذهبوا للسياحة، أو لمشاهدة مباراة العصر بين البرشا ويوفانتس…؟
ـ آ …، تذكرت…؛ تشّجع من ؟
ـ أنا اختلف مع صمتي، فهو من مشجعي رعاة البقر، وصوتي متذبذب، تارة يضحك على الجميع، وتارة يتلذذ بضحك الجميع عليه! فمادامت المسافات اختلطت بحدودها فلا معنى للتسويات!
لم تجب على سؤالي؟
ـ آسف، سيدي..
ـ وإلا أرسلتك إلى …، المحرقة.
ـ سيدي، لا تفعل، أنا من مشجعي الميناء، بعد أن كنت من أنصار الشرطة، ثم وجدت صمتي ينحاز إلى الوزراء، لكن المأساة، سيدي، اختلطت بالفكاهة، والعطر غدا جيفة، لأن الشفافية ساوت بين جهنم وبين الجنة، وبين الثواب والعقاب!
ـ آ …، أيها الملعون…، الآن عرفت لماذا لم تهرب!
قرب رأسه منه كثيرا ً:
ـ أنا أيضا ً أريد أن اعرف…! لماذا لم اهرب من الجحيم؟
ـ ها، وتعترف…، أيضا ً…؟
ـ أنا لم أتعرض للجلد، ولم يسلخ جلدي، ولم ترض عظامي، ولم أتعرض للصعقات، ولم يدر الحبل حول رقبتي، فانا أتكلم بطلاقة، حر كأن أمي ولدتني توا ً!
ـ أنت لم تهرب كي تعرف من منا هرب، ومن منا لم يهرب…، فضلا ً عن معرفة ما الذي سيحدث…؟
ـ لن يحدث شيئا ً أبدا ً…، بعد أن أصبحت الأجنحة خالية منا، منذ زمن بعيد! فعندما تظن إن الخراب لا وجود له فما معنى البحث عن الأسباب..؟
ـ أنا لم اهرب…، وأولي الأدبار…، ألا تشهد لي بذلك؟
ـ نعم، فأنت هو من ذهب ابعد من ذلك!
ـ مثلك؟
ـ ليس تماما ً…، فأنت ستتصالح معهم، وكأن الوباء نعمة، والاغتصاب هبة، وتعود إلى منصبك، أما أنا…، فلا احد سيفكر بإصلاح حفرتي التي ولدت فيها، أو ربما سيردمون فتحتها، وأبقى داخلها حتى من غير شق اخرج منه لتنفس الهواءّ
ـ اسمع…، أنا خائف قليلا ً…!
ـ عجيب…، القائد لا يخاف…،لأنه محصن، مزكي، تأتيه البشارة من الأعلى ومن الأسفل…، فهو، من شدة الخوف، يكتسب مناعة المجد. فأنت مثل الموت الذي لا يموت، بعد أن لم يجد الموت شيئا ً يأخذه منه!
ـ دعنا نحتمي بحفرتك، فالوباء اقترب كثيرا ً، فانا اشم رائحته…! لانها لا تحتمل، ادخل، هيا ادخل كي استدل بك…
ـ سيدي، إنها محض حفرة، وتتكون من ممر واحد…، ومن جدران رخوة، تنتهي بفراغ يرقد فيه شبحي الصامت، فلا تكلمه، فهو نائم، والنائم كالميت، كلاهما بانتظار اكتمال الدورة..!
لكزه:
ـ حذار أن توقظه.
ـ آ …، قبل قليل قلت: لا مسافة بين نهاية اللعبة وبدايتها…، فلم التوجس، الحذر، والخوف مني؟
ـ سيدي، أيها المدير، لم تعد الحياة لعبة، ولا ملهاة، إنها أصبحت هذا الذي تفقده…، وهكذا فانا لا أثق إلا بما ستنتزعه مني.
ـ وماذا تبقى منك …؟
ـ هزيمتي…، فأنت رأيت كيف وزعت بالتساوي على الجميع…، فلم تنتصر الديناصورات على الفئران، ولا التماسيح على كائنات سواحل مستنقعاتها العفنة…!
ـ دعك من الحزن، فالظلام يزداد شدة، كالبرد يتقلص، والغبار راح يزداد كثافة.
ـ هذه هي علامات الساعة، ساعة حديقتنا، ومنصتها، وساحة احتفالاتها! فهي نهاية لا احد يقدر على وصفها.
ـ اسكت، دعني اسمع صمتك ماذا يقول!
ـ حتى في هزيمتك تبحث عن ربح…؟
ـ هذا هو فائض العفن! ومع ذلك تجد من يتحدث عن فائض الكرامة، والفداء!
ـ عدت تؤيدني…، وإلا لكنت هربت معهم، ونجوت مع الناجين، بدل ….
ـ أنا اختنق…، فصمتك بدأ يتسلل إلي ّ…، انه سابق على الكلام…، وماض ٍ ابعد من غيابه!
ـ آمل أن لا تصاب به…، فأين اذهب بك، بعد أن هدموا المشافي، وخربوا الأقفاص، والزرائب، وهدموا الحفر فوق رؤوسنا، وفككوا أحلامنا ونثروها فوق المزابل…. فلم تعد هناك حتى حانات، ومراقص، وبيوت للسعادة، والمسرات….، لا أطباء ولا ملائكة، فالكل هرب…، ومن لم يهرب توارى في ظلمات الجحور…. أو تحول إلى حجارة، أو إلى نبات!
ـ أرجوك…، لا تهددني بالطرد، فانا الآن في رحم الأرض، وفردوسها!
ـ لكنك لن تصمد…، معي، لأنك لا تحتمل هذا النصر!
ـ النصر…؟
ـ آ …، أيها الشقي، لا أريد أن أراك تتمرغ، تتلوى، وتتدلى…..، وأنت تمد يدك تتسول قليلا ً من الهواء، وأنا ارتويت من الهزائم!
ـ قبل قليل سمعتك تتحدث عن النصر…؟
ـ يا حمار…، سيدي، هذه تمويهات!
ـ أتخدعني..؟
ـ لا! أنا اخدع نفسي… فالنصر لا يستقيم من غير الهزائم، كالفردوس لا تراه من غير الوهم!
ـ انك تعاقبني…؟
ـ من أكون..، ها، من أكون كي أعاقب من عاقبني ولم يبق لي إلا أن أوغل في جلد ما تبقى مني…؟
دوى انفجار هز جدران الحفرة، فتابع:
ـ ربما يحتفلون ….، بالنصر، فانا اسمعهم يرحبون بالوباء!
ـ دعني أغادر..
ـ من منعك، سيدي؟
ـ صمتك تسلل إلي ّ، واحتل ضميري، بعد أن استوطن جسدي، حتى أني لا اعرف أين هو فمي، وأين هو رأسي..!
ـ ها، ها أنت أصبحت مثلي، لا تعرف إلى أي الفصائل تنتمي…، أصبحت خليطا ً من العقارب والخنازير والبرغوث…
ـ …..
ـ مت! يا للسعادة، ولكن الغريب انك لم تهرب!
سمع صمته يخاطبه:
ـ لم تصمد اشد المخلوقات شراسة، يا …، بعد أن سقطت الأجنحة، الواحد بعد الأخر، وبعد أن تم احتلال الساحة الكبرى، والمنصة….
ـ ومديرنا الخالد…؟
ـ اسكت، إنه يتدلى…، علقوه، ولكنه مازال يخطب! إلا تسمعه…؟
بدأ يزحف نحو فتحة الحفرة:
ـ آ …، المدير، زعيمنا مازال يزعق بالمجد، والعظمة، والثأر…
ـ أنت…، أيها البغل، ماذا تفعل؟
ـ هل تتحدث معي…، أيها الغريب…؟
ـ لِم َ لم ْ ترحب بنا….، وتحتفل أسوة بالآخرين.
ـ ولكني لم اعد حتى بغلا ً…، فانا اجهل من أكون كي أرحب بكم، أيها..
ـ آ ….، حقا ً ماذا فعلوا بك…
دار بخلده وهو يخاطب صمته:
ـ أنا لا اقدر أن افعل شيئا ً أبدا ً، فجسدي تخلى عني، وروحي أصبحت ترفرف في الظلمات، مع البرد، بصحبة الفراغات ..
صرخ الغريب:
ـ اخرج.
ـ لا اقدر…، فانا هو كل ما تبقى من هزائم هذه الحدقة، وغبارها.
ـ لا تحزن…، لأننا سنعيد لكم بناء الممرات، والأسوار، والجدران، والدهاليز، والحفر، والمجاري،…، وسنشيد لكم احدث الأقفاص، والمغارات، فانتم، بعد اليوم، أحرار كأشعة الشمس، رغم دخان الحرائق، وأطياف الموت.
سأل صمته بصوت خفيض جدا ً:
ـ كيف ارجع وأعود دابة، أو أصبح نباتا ً، أو حفنة رمل في ساحل هذا المستنقع..؟
لكزه صمته:
ـ أسكت…، فالوباء مازال يبحث عنا…!
ـ آ …، أين نتوارى…؟
ـ اخرج.
ـ ماذا تقول…، وأنا لا اعثر على نفسي!
ـ كما قلت لك…، اخرج كأنك لا تعرف ماذا حصل… ، وماذا جرى.
ـ يا صمتي…، لا ترتكب الإثم!
ـ لكنهم سيهدمون الحفر على رؤوسنا، فيصبح الأعلى قاعا ً، واليسار يمينا ً، والأتي ماضيا ً.
ـ سأخرج…، ولكن ماذا افعل..؟
ـ لا تفعل شيئا ً، من طلب منك أن تفعل….؟
سمع الغريب يرحب به:
ـ اذهب وشاهد ساحة الأعياد…، فالأحرار يوزعون الحرية لم ينشدها، مجانا ًن، بلا قيود وبلا شروط!
ـ آ …، صحيح، فانا قبعت دهرا ً في الظلمات، فلم اعد أر سوى الليل يتمم ليله وما توقف عن استكمال دورته بعد!
سمع صوت المدير يخطب بصوت مرتفع:
ـ وسنعمل على تهذيب العاصفة، ونطهرها، ونبني…. وسنطلب من السماء أن تأتي بالأمطار، بدل هذا الغبار، وسنطلب من الشمس إن تأتي بالشفافية بدل هذا البرد، فتزدهر البراري، وتمتلئ الحقول بالزرع …
سمع الهتافات ترتفع، عاليا ً، والأرض تتمايل، كأنها وربت، وراحت ترقص طربا ً:
ـ وسنعيد بناء الأسوار، والممرات، والزرائب، والحظائر لكل من لم يهرب، ولكل من صمد، وتحمل نكد الأيام وذاق مرارتها…، وسنمنحكم وسام الولاء للحديقة، من النوع الأول…
بحث عن صمته، فلم يجده، ليلمح الثور، مدير الجناح، يقف عند المنصة، مصغيا ً الى المدير:
ـ قلت لكم، بحسب أدق التقارير، والمعلومات، والشهود، انه تم القضاء على الوباء تماما ً…، وما تبقى منه، سيهزم، أو يولي الأدبار، أو يهلك كمدا ً….، فالبرد لن يسمح للأشرار التطاول على أقفاصنا، ومنجزاتنا، ومجدنا…، فالبرد سيعاقب كل من تسول له نفسه العدوان والاعتداء على مجد هذه الحديقة وقد استعادت حريتها وأصبحت مشرعة توزع هباتها على الأحرار….ونبراسا ً للحفر في أسفار الخالدين.
وعاد يبحث عما تبقى منه، فوجد الثور يخاطبه، مصادفة، رغم الهرج، والأصوات الصاخبة، المرتفعة:
ـ اخرج من حفرتك!
ـ أنا لا اعرف من خرج منا، ومن لم يخرج!
وضحك بهستيرية:
ـ حتى لو لم اخرج…، فإنهم يجدون ألف ألف وسيلة لا يدعوني فيها ارقد بسلام فيها…، آ …، عندما يصبح الصمت واعظا ً للدوى، والأبدي يبحث عن قليل من التراب…، والجمال يتستر بحفنة من الغبار!
تابع المدير يصرخ بأعلى صوته:
ـ قلت لكم لا تخجلوا من حفركم..، ولا من أدرانكم، ولا من ماضيكم….
فقال له هامسا ً عبر ممرات الأثير:
ـ سيدي، أنا بانتظار الحصول على حفرة جديدة!
ـ ستحصل عليها، حالما تتخلى عن صمتك، هذا الذي كنت تجهل هل كنت تتبع خطاه أم هو الذي يمشي خلفك…
ـ آ …، سيدي، أنا مازالت ابحث عنه! فانا لم اعد أجد نفسي!
وسقط من شدة الضحك، فعاد السيد المدير، من أعلى المنصة، يخاطب الملايين:
ـ ها انتم تشاهدون ما يحدث، أمامكم، فهذا هو واحد من الذين نذر حياته للعيد الأكبر، حرية الأحرار، وأحرار الحرية…
لم يجد جسده كي يمسك به، بعد أن فقد أي اثر لصمته، فلم يكترث للبحث عن مبررات لغيابه، أو للبحث عن فراغ يتوارى فيه، ولكنه لا يعرف كيف وجد شيئا ً ما ـ لم يعد يعنيه ـ يتطاير مع الغبار، وثمة، للمرة الأولى، أحس بأنه غدا متحررا ً من صمته، ومن كلماته، فراح يتلاشى في الفضاء.
16/6/2015
حدثني الغراب قال
قال كبير القرود، بعد أن شاهد الغراب يقترب منه ، ويقف بجواره، داخل جناح الطيور:
ـ مع إنني لم اترك جناحا ً، ولا زاوية، ولا مكانا ً لم أزره، والقي النظر عليه، في هذه الحديقة، إلا أن ما يشغلني، منذ أسابيع، هو شعوري بأنني لا اعرف إلا القليل…
رد الغراب باستغراب، مبتسما ً:
ـ أنا اعتقد انك عرفت ما يكفي…، من المعرفة. لأن ما يشغلني أنا ليس هو لأنني عرفت الكثير، أو أكثر مما ينبغي، بل كيف أصبحنا عائلة واحدة…، لا احد فيها يعرف ماذا يجري في الجناح المجاور له، ومع ذلك، لا احد لديه فضول في مثل هذه المعرفة…، بل ولا احد فكر أن يعرف ماذا يجري في داخل جناحه، إن لم اقل لا يريد أن يعرف ماذا يدور داخل خلايا رأسه؟
هز كبير القرود رأسه، ضاحكا ً:
ـ حكاية هذه الحديقة، يا صديقي، كحكاية هذه المحرقة…، كلاهما يعملان بلا تذمر، وبصمت تام!
اقترب الغراب من كبير القرود:
ـ ها أنت تطلب مني أن أخبرك بما لا تعرف…، كي تطمأن..، فأقول لك: لا فائدة لو عرفت أكثر مما عرفت….، لأنها ستكون معرفة ضارة!
ـ غريب؟
ـ أنا لم يتم اسري، ولم يتم إرغامي، ولا إغوائي، ولا تهديدي، ولا إغرائي….، كي أعيش في هذا الجناح المجاور لجناحكم، دخل هذا القفص الكبير…
ـ تقصد…، انك اخترت السكن معنا بحريتك التامة…، على خلاف ما جرى لجميع مخلوقات هذه الحديقة التي أرغمت …، كي تعيش هنا معنا داخل حظائرها، وجحورها، وأقفاصها، وحفرها، وزرائبها…؟
ـ ليس هذا هو ما يشغلني تماما ً..
ـ ما الذي يشغلك إذا ً…؟
ـ إن تلك التي تم اصطيادها، وأسرها، أو إرغامها …، لم تعد تعنيها هذه المعضلة! ولكنك لم تسألني لماذا لم أفكر بالفرار، والهرب، وأنا امتلك هذه الحرية، في الذهاب إلى أية غابة، أو إلى أية حديقة أخرى…؟
ـ ولماذا أسالك السؤال الذي لم تترك لسؤاله معنى…، فأنت قلت انك جئت من تلقاء نفسك، ولم يرغمك احد بالسكن معنا..؟
ـ هذا صحيح…، ولكن هل كانت لدي ّ حرية تامة حقا ً كي أتشدق بها…، واوهم الآخرين بالحديث عنها…، أم لأنه لم يعد لدي ّ حديقة أخرى غير هذه الحديقة ألوذ بها؟
ـ محنة…، أليس كذلك…، أن تتشبث بالمكان الذي لا مكان آخر سواه…، والمحنة اشد عندما لا تجد إلا المكان غير الصالح للحياة لتتشبث به بوصفه وطنك السعيد؟
ـ ها أنت تفصح عن نزعتك الغامضة بالنبش بمعرفة ما لم يعرف…، وربما بما لا يمكن معرفته…؟
ـ أتراني أذنبت..، أيها الغراب؟
ـ لا…، كلانا لم يعد منشغلا ً بالذنوب أو بالغفران…، ولكن اعتقادك بمعرفة القليل…، شغلني: فما الذي تريد معرفته…؟
ـ ها، ها، تكاد تمسك بالمفتاح!
ـ لا تضحك…، فأنت عندما علمّت القاتل كيف يتستر على ضحيته، لم تعد تكترث للباقي…، فالأرض باتساعها أصبحت مدفنا ً بلا حافات!
ـ ها أنت تلمّح إلى إني كنت شريكا ً في الجريمة…؟
ـ إن لم تكن شريكا ً، فأنت كنت الشاهد عليها!
ـ ماذا تريد أن تقول؟
ـ لو كنت اعرف ماذا أريد أن أقول، لكنت أغلقت فمي…، فانا أريد معرفة هذا الذي حولنا إلى عائلة صغيرة تعمل من غير هفوات، بل ومن غير أخطاء، وإلا لكانت تهدمت، وزالت؟
ـ أنا اعتقد انك قصدت إنها تعمل بهفواتها، وأخطائها، ما دامت حافظت على ديمومتها..! فالأمر، في النهاية، شبيه بما فعلت: لم تمنع القاتل من ارتكاب الذنب، بل علمته كيف يتستر عليه! ولكن ما الذي كان يحصل لو لم نكن أسرة واحدة، خلقنا من عناصر هذه الأرض، ولن نقدر أن نذهب ابعد منها؟
ـ أبدا ً فانا لم أفكر بالعودة إلى الغابة، ولا بالهرب من هذه الحديقة…، بل بهذا الذي لا يسمح لنا إلا ….، بعمل أعمال لا معنى لها، إلا لمجرد إننا لا نمتلك إلا أن نعملها!
هز الغراب رأسه:
ـ لابد انك هرمت، شخت، ووهنت قواك…، ولم يعد لديك ما تعمله..؟
ـ أنا لم أولد بعد….، أو قل: إنني سأموت وأنا لم أر النور…، وكأن حياتنا وعدمها يماثلان ما حدث في أول الزمن، وفي آخره…، فانا أتخيّل ـ مثلا ً ـ ماذا لو لم تحدث تلك الجريمة؟
ـ فهمت! فهمت انك تريد أن تقول: ماذا لو رفعوا هذه القضبان، والحواجز، وحطموا الأقفاص…، كي نولد أحرارا ً في الحرية ولا نموت إلا فيها؟
ـ لِم َ لم تقل: نعيش فيها؟
ـ يا كبير القرود، أترغب أن أطلق سراحك، وأحررك من قفصك، ومن أسوار هذه الحديقة…؟
ـ لا….، أيها الغراب، فانا أيضا ً لم يعد لدي ّ مكان اذهب له….!
ـ هكذا ….، لو أجرينا استفتاء ً عاما ً لسكان حديقتنا وسألنا السؤال التالي: هل ترغب بالمغادرة…، لقالوا لك بصوت واحد: وأين نذهب…؟
ـ آ …..، الآن بدأت اعرف انك لم تكن حتى شاهدا ً !
ـ تقصد إنني حتى لو لم اعلمه كيف يواري سوأته فان الجريمة وقعت؟
ـ هرمت، الم اقل لك شخت، ووهن عقلك..، ولم تعد لديك مشاغل تتلهى، وتتسلى بها…، عدا المراقبة، لأن سؤالك، منذ البد، فضحك!
ـ ها أنت تلفت انتباهي إلى أمر لم أتوقف عنده: المحرقة ـ هي ـ قبرنا! ولهذا لم نعترض على وجودها، لأن لا احد يستطيع أن يعترض على موته، ولا على ما سيؤول له جسده…، ولكن هل كان باستطاعتك أن تتصوّر وجود حديقة من غير أقفاص، ومغارات، وجحور، وأنفاق، وسراديب، وزرائب، وثقوب….؟
ـ أنت أجبت…، وقلت: لولا الحواجز لعمت الفوضى، ورجعنا إلى ماضينا حيث الأقوى يتحكم بمصائر الأقل قوة….، وهكذا الضعيف لا يرحم من هو اضعف منه…؟
ـ دعني أعيد السؤال: هل يمكن تخيل محرقة خارج حدود هذه الحديقة؟
ـ لا!
ـ إذا ً…، هل بإمكانك الحديث عن براءة خالصة؟
ـ لا!
ـ يا صديقي الغراب…، أنا لم اهرم، ولم أشخ، ولم يهن عقلي…، ولم توشك أيام حياتي على نهايتها…، فانا لدي ّ من الأسئلة ما يجعلني لا أغلق فمي، فلو عدنا إلى حكايتك ـ وهو ما حصل في أقدم جناح من أجنحة هذه الحديقة ـ وسألتك: الم تكن أنت المحرض على القتل….، إن لم تكن أنت القاتل؟
ـ إن جازفت وتابعت الكلام…، فأنت تجازف برأسك!
ـ أيها الأفاق، السفيه، الغشاش…، وتضحك علي ّ؟
ـ أنا لم اقل انك كنت القاتل، ولم اقل انك كنت المحرض…، بل افترضت ذلك! والآن دعني انفي الاتهام، وأسألك: ما الذي كنت ستفعله لو لم تر ما حدث….؟
ـ لا افعل شيئا ً.
ـ ولكنك وجدت كي تعمل؟
ـ سأعمل ما كان بوسعي عمله.
ـ لكن الجريمة حصلت، أو هي حصلت قبل أن تفكر بحصولها، وهي حصلت حتى لو كان حضورك غائبا ً…؟
ـ ما الذي تريد أن تعرفه…؟
ـ أريد أن أقول: ليس لدينا إلا هذه الحديقة، التي أمضينا فيها حياتنا، ونحن لا نعرف ما جري، ويجري فيها، وأنت قلت: لا نعرف حتى ما يجري في أقفاصها؟
ـ بل نجهل ما يدور في رؤوسنا أيضا ً!
ـ أحسنت…، أنت أجبت على سؤال لم أسأله: لأن ما يقال عن الحياة ليس هو الحياة، لا في ماضيها، ولا في غدها.
ـ أرجوك لا تتحدث بما لم يصبح موضوعا ً للمعرفة!
ـ أسألك، أيها الغراب: هل تستطيع زحزحة المحرقة عن موقعها، أو حتى أن تغلق بوابتها؟
ـ ولماذا افعل مادام وجودها حقيقة راسخة؟
ـ إذا ً…، فهي مثل الحرية، ولا تعمل إلا عملها!
ـ غريب…، ما وجه الشبه، بين الضدين؟
ـ لو لم تكن هناك حرية، فلن تكون هناك جريمة؟
ـ هذه هي مشكلة كبار السن، وهذه هي مشكلة استخدام الأدوات التي عفي عليها الزمن!
ـ اللغة؟
ـ بل الرؤوس!
ـ أوووووووه.
وأضاف كبير القرود بتعجب:
ـ إذاً فقد كان وجود المحرقة معدا ً قبل وجودنا….، أو قل: النهاية لا وجود لها إلا بمقدمتها؟ فان لم تستحدث الحديقة محرقتها، فما معنى وجود الأخيرة….؟
ـ الآن …، بدأت تحفزّ في ّ رغبات هامدة!
ـ كأنك تنوي قتلي؟
ـ تعبت! أنا شبعت!
ـ لا تموه…، فلن تخدعني.
ـ ولكنك تحرضني…، تستفزني، توقد في ّ النار الخامدة!
ـ إذا ً فانا اجهل ما كان يدور في رأسك…، لأن الجريمة راقدة فيك، قبل ادعك تفكر فيها؟
ـ اخبرني: ماذا أبقيت للضحية ما يستحق الذكر؟
ـ آ ….، يا لك من غراب حاذق، وماكر؟
ـ وهل كنت أصبحت غرابا ً لولاك؟
ـ ها أنت تحولني إلى مذنب….، وبعد قليل، تحرضهم على قتلي، كي يرموني إلى المحرقة، لتحافظ على عملك: الشاهد الذي كان وجوده سابقا ً على حصول الجريمة؟
غضب الغراب، واقترب من كبير القرود:
ـ لن ألوث سوادي…، فانا لم أكن شاهدا ً…، ولم أكن محرضا ً، فهل باستطاعتك أن تخبري ماذا جرى هناك؟
ـ آ …، الآن عرفت الذي لا جدوى من معرفته! فقد كان علي ّ أن لا اعرف…، ولكن هل كان باستطاعتي أن افعل …؟
ـ ها أنت تمسك بالمفتاح وتديره في القفل، فلولا وجود الضحية، لكان من المستحيل حصول الجريمة؟
ـ ولكنت تحدثت عن الأساطير، والهذيانات، وعن الحكماء الذين لا عمل لديهم سوى صنع أدوات غير صالحة للاستخدام، وذهب زمنها….؟
ـ لا..، لا يا كبير القرود العزيز، بل أنا أتحدث لأننا لا نمتلك سواه! سوى الكلام، فكلما شرعت بالعمل لم أجد إلا … الحكاية ذاتها. فانا لا أهذي، وليس عملي من صنع أدوات مضى زمنها…، بل لم يبق لدينا إلا القليل الذي لا حرية لنا إلا في انجازه؟
ـ الموت؟
ـ ليس الموت تماما ً…، بل الذي يخفف من وطأته، فأنت الذي يجهل ماذا يدور في الحفر، والمجاري، والسراديب، والأقبية، والحظائر، والزرائب، والمغارات، والجحور، ليس هو الذي تراه يحدث في هذه الأقفاص السعيدة، البهيجة، والباذخة، فهنا لدينا الهواء…، في الأقل، يسمح لنا بالطيران!
ـ بل أنا أرى أن ما يحدث في هذا الهواء اشد هولا ً مما يحدث في البرك، والمستنقعات، والأجنحة الخلفية؟
ـ غريب..!
ـ لأن ما يحدث في هذه الأقفاص، هو الذي نشهد عليه، فانا وأنت شهود، على هذا الذي نراه يحصل، وليس لدينا إلا القليل الذي يسمح لنا بتنفس الهواء…، فلا أنت تقدر أن تعرف الإجابة على سؤال لا جواب عليه، كما ليس لديك قدرة صنع أسئلة خارج إجاباتها…، ولا أنا لدي مهارات بهلوان في تجاوز حدودي…، فعندما سألتك، في البدء: ألا ترى إنني لا اعرف شيئا ً…، قلت لي: وما فائدة هذه المعرفة؟ فأسألك الآن: من منا المذنب…، ومن منا امسك بلغز البراءة…؟
ـ ها أنت …، بخبرتك الطويلة، تبرأني من الإثم، ومن الخطيئة!
ـ لم يدر ببالي ذلك أبدا ً….، فلا الغزال هو الذي استدعى مخالب النمر لتمزقه، ولا الأسد اعتدى على الماموث بدافع العدوان، وارتكاب الذنب…، إن الحكاية برمتها لا تقول أكثر من هذا الذي يحدث في هذا القفص، وفي هذه الحديقة. فأين تذهب وجميع المحميات، والحدائق، هي مستنقعات تحيط بها الأسوار، وجميع الأسوار مسورة بالجدران، وجميع الجدران لا وجود لها إلا كي تكون شاهدة على ما يجري فيها…، كالذي يجري هنا تماما ً.
ـ أتعرف…، بعد هذا اللقاء، ما الذي يشغلني، يا كبير القرود؟
ـ أن تطلب من الموت: ارحمني!
ـ بل اطلب من الرحمة: كفى!
ـ يا صديقي…، أيها الغارب، لا أنت عرفت، ولا أنا كنا نرغب أن نعرف…، مع ذلك فان هذا القليل من المعرفة لا معنى له…، لأن من الصعب العثور على من يمتلك أدوات المعرفة، لأن من يمتلكها لا يجيد استخدامها، ومن يجيد استخدامها لا تعنيه بشيء، ومن تعنيه، يتركها تذهب مع الريح! فان لم يتركها، فإنها لن تدعه يفعل غير ذلك!
ـ ها، فهل تريد أن تعرف ماذا يجري خلف المحرقة؟
ـ هذا ـ هو ـ الشيء الوحيد الذي يذهب ابعد من المعرفة: الرماد. لأنني كلما مررت بتلك الأطلال اسمع ما لا يحصى من الأصوات، الأصداء، والذبذبات؛ أصوات وأصداء وذبذبات من وجدوا مأواهم هناك، تشع، تبث، ترسل أنينا ناعما ً، جافا ً، لينا ً، من غير كلمات، كي تبقى الأطلال شاخصة بما تخفيه، وبما تعلنه أيضا ً.
ـ كأنك، أيها الغراب، تقول لي: لم تنته الحكاية؟
ـ بل، سيدي، إنها لم تبدأ. لأنها، في الأصل، لو وجدت كي تنتهي، لكانت لها بداية صالحة للسرد، والتدوّين!
ـ آ …، كأنك تنبش في الرماد، لاستنطاقه، ما دام الرماد وحده لا يزول!
ـ ها أنت تعلمت كيف تتعلم…، الم أخبرك، منذ زمن بعيد: إنني أمضيت حياتي أفكر، كي لا أفكر! لأننا، عندما لا نجد شيئا ً نعمله، نضطر، بحريتنا، وباختياراتنا، أن نعمل هذا الذي لا يسمح لنا إلا برؤية هذا القليل…، بل الأقل منه…، الذي يجعل من المعرفة ذنبا ً، وخطيئة، وجريمة يعاقب عليها الضمير!
قرب كبير القرود رأسه من الغراب، وسأله:
ـ كيف نجوت…؟
رد الغراب قبل أن يحلق عاليا ً:
ـ لا تسألني، فانا لا اسأل أسئلة من غير جواب!
ـ ولكن الموت لم يجب على أسئلتي؟
سمع كبير القرود الغراب يتمتم:
ـ تمتع، تمتع، تمتع بهذا الذي لا إجابات عليه، وإلا فان بعض الأسئلة أقسى من رحمة الموت، وأقسى حتى من الموت الرحيم!
8/4/2015
حصل في وقت ما
عندما لمحها تبتعد عن جسده، تركها تتمادى وكأنها كانت قد حصلت على موافقته، أو إنها ليست بحاجة إلى مثل هذه الموافقة، فشاهدها تحفر بضرب من اللامبالاة في التراب خطوطا ً متعرجة وملتوية ومتداخلة النهايات…، حتى وجد فمه يتلعثم بكلمات لم يفهم من معناها ما يؤكد انه منحها تلك الحرية، أو انه لم يعترض عليها على نحو مباشر. وعندما ميز إنها كانت مازالت متصلة بجسده، شاهد الأخرى مترددة في مغادرة حدودها، إلا بعد لحظات، حيث رآها تتحرك مثل حلزون يدب بعيدا ً عن الماء…، وتبتعد عنه أيضا ً. لم يصدم، ولم يستفز إلا عندما مر جار له تذكره بصعوبة وهو يخبره بان الأمر لم يعد يجري بحسب الأعراف والعادات. فهز رأسه بحركة تقليدية في بادئ الأمر، لكن الجار أكد له أن النتائج ستكون ذات نهايات من الصعب التكهن بفداحتها:
ـ أنا لا أظن ذلك…، فانا في الأصل …
وفكر الذئب العجوز مع نفسه، بأنه كان يتكلم في أمر لا علاقة له بما كان يتحدث عنه الآخر، لأن الآخر قال له:
ـ فهنا أنت تراني فقدت السيطرة …
فسأل نفسه بصوت مسموع:
ـ ما الذي حدث….؟
وخاطبه:
ـ كأنك تتحدث عن أمر محدد…؟
رد الآخر:
ـ الم تر إنني اجري من غير ذنب!
ـ آ ….، صحيح…، ومن غير ساق!
فقال الآخر بصوت متردد:
ـ بل حتى انفي تخلى عني …، فانا الآن امشي خلفه!
فسأل الذئب نفسه: وأنا امشي خلف من …؟
أرسل نظرات قلقة متابعا ً أصابعه وقد ابتعدت كثيرا ً عنه:
ـ آ ….، انظر …، إنها انفصلت عني.
لم يجب الآخر. فراح يصغي إلى انفه:
ـ منذ سنوات وأنت تعاملني بإهمال وعدم اكتراث حتى انك أصبحت تستنشق الهواء وكأنك تخليت عني…
ـ ماذا تقول…؟
قال انفه:
ـ آن لي أن أخبرك بما عزمت عليه…
قال يخاطب انفه بخوف:
ـ أنت تذكرني بقصة روسية قديمة …
ـ اسمع، لا مجال للهذار….، فانا سأتبع خطوات نابك الذي تركته يفر من فمك…، بعد ان تخليت عن القواطع …
ـ آ …
عندما بحث عن جاره وجده اختفى. فترك رأسه يستقر فوق صخرة وهو يرى ذنبه يبتعد عنه:
ـ وأنت أيضا ً…؟
ـ سأقوم بنزهة صباحية …، ثم انك لم تعد تستخدمني..
اعتذر الذنب له:
ـ هذا صحيح…ن فلم تعد لديك فائدة.
ـ إذا ً لا تغضب علي ّ.
ـ ولماذا اغضب…؟
لم يعد يرى الأشكال والصور والألوان إلا هالات متداخلة النهايات، تبتعد وتقترب منه، وعندما لمح ساقه اليسار تمشي خلف ساقه اليمين كاد يعترض، لكن أذنه التي لم يستخدمها، همست له:
ـ دعهما! لا تعترض…، وهل كانت لك إرادة على أصابعك …؟
حرك رأسه قليلا ً، وهو يراقب شيئا ً شبيها ً بالحبال يتلوى فوق الأرض…، يبتعد عنه، حتى صدم وهو يرى كرات تتدحرج من حوله. فقال له لسانه:
ـ تبدو الأوامر صدرت لها …
ـ أين معدتي؟
لم يجد وسيلة يتلمس بها جسده، باستثناء نظرات سمحت له أن يراقب أعضاء جسده تخرج الواحدة بعد الأخرى. فمر قنفذ بجواره ثم تبعه آخر:
ـ إلى أين…؟
أجاب القنفذ الثاني:
ـ امشي خلف شبحي!
ـ هو شبحك أم أنت شبحه…؟
ـ ما الاختلاف …، المهم إن احدنا لا ينوي الانفصال عن الآخر! فأنت تعرف إن الحديقة إذا تقسمت ذهب مصيرها إلى الحضيض، مثل هذا الكون إن لم يكن وحدة متماسكة فانه لن يغدو أكثر من كوابيس لا رابط يربطها!
قال لسانه يخاطب القنفذ الأول:
ـ كأنك تنوي الهرب…؟
ـ ما شأنك أنت…، انتبه لمعدتك، وأمعائك، ومخرجك!
نظر الذئب فشاهد حلقة تتمايل مبتعدة عنه:
ـ وأنت…، يا مخرجي، ماذا تفعل…؟
أجاب:
ـ أنا أنفذ أوامر قلبك؟
قال القلب:
ـ أنا غير مسؤول عن ذلك…، صحيح، كنت أغط في نوم عميق، ولكنني لم آذن له بالمغادرة..
صرخ المخرج:
ـ سيدي، أنت تكذب! فأنت نظرت إلي ّ كعضو تالف!
ـ آ ….، ولكن هذا لا يسمح لك باتهامي بالكذب، ولا بهذا التصرف المشين، أم انك لم تعد تستحي، فرحت تفعل ما تشاء…؟
ـ ها، وتعترض علي ّ…؟
ـ كنت لا أود الاعتراض…، ولكن اخبرني من أين أتبرز…؟
ـ آ ….، هذه مشكلتك أنت، وليس مشكلتي..
فدار بخلد الذئب انه لم يغادر حفرته منذ زمن بعيد، ولم يتناول طعاما ً، وما ذاق قطرة ماء، بل اكتفى ـ إبان مرضه ـ بتنفس الهواء، والقيام بجولات سياحية عبر ساعات النوم الطويلة. ذهب مرات قليلة إلى بركة الحديقة الخلفية، ثم زار أجنحة الثيران، والنعاج، ومر بمغارات بنات أوى، والجرذان، من غير مشاكل تذكر.
ـ اسمع…
انتبه إلى الصوت:
ـ لم تبق إلا أنت يا لساني…، أيها السليط…، غير المهذب!
ـ أنا آخر من يتخلى عنك…، فانا أحذرك وأقول لك إن عقلك الأسفل الذي ينوي الهرب….
تساءل الذئب: وماذا افعل وأنا من غير أدوات للعمل….
رد ما تبقى من دماغه الأعلى:
ـ حذار من الطبقة الوسطى…، فهي ترى انك جمدت عملها، بعد أن دفنت الطبقة السفلى، وانك تنوي الالتحاق بماضيك!
ـ ها…، وهل لدي ّ ماض ٍ …؟
ـ أنا معك …، مع انك لا تمتلك شيئا ً يذكر، فلا تدع القلب يخلعك، ويغادرك…!
وجد انه تحول إلى كائن لا حافات له. فلم يعد يذكر متى فقد جلده.
فشاهد بقرة نحيلة تتبعها أخرى ويمشي خلفهما ثور اسود، وشاهد مجموعة من الزرافات تحوّم في البعيد، مثل طيور، فدار بباله انه طالما رأى مثل هذه المشاهد، في اليقظة، أو عبر أحلامه، من غير منغصات أو الم.
ـ تعبت!
فقال له لسانه:
ـ حذار أن تفقد عقلك؟
ـ آ ….، أصبح لساني يتحدث مع لساني باستقلالية تامة…!
ـ هذا هو ذنبك، سيدي.
فقال الذئب بصون واهن:
ـ لم يعد لدي ذنب.
ـ أنا لم اقصد ذيلك…، بل ذنبك!
ـ لا ….، منذ أسرونا ووضعونا في هذه الأقفاص لم اعد امتلك ما افعله…، فهل أنا مسؤول عن الخطيئة التي لم ارتكبها…؟
ـ سيدي، أنها هي الوحيدة التي لا غفران لها! فلو كنت أذنبت، لهان الأمر، أما ما تخفيه، فهذه علامة مثيرة للظنون، والشبهات!
ليحس، في شروده، إن الجاذبة قد بلغت درجة الحياد: مثل الزمن وقد تخلى عن الحركة.
ـ ماذا قلت…؟
رد دماغه الأعلى:
ـ أنا أدركت هذا قبل حصوله بقرون طويلة، وقلت: عندما تكتمل الحركة يتحرر الزمن من ذاته. وأنا هو من قال: إنها حتمية تغوينا بمظاهرها الخداعة!
ـ أي أنا أصبحت كأنني لم أولد…؟
ـ بل وكأنك لن تموت أبدا ً!
حاول أن يتحسس نبضات الدماغ وومضاته وصلتها باللسان والقلب …، فعجز عن التحكم بها بعد أن شاهد بصره يتجمع في مثلث أعلاه يلامس الأرض وقاعدته إلى الأعلى!
ـ بمعنى إن هذا كله يحدث بمعزل عن إرادتي….، انفي غادرني قبل أن اشعر بالظمأ، وذيلي راح يلهو بمعزل عن أسناني، دماغي الأسفل تخلى عن الأوسط، وانسلخ عن جلدي، لا اسمع، ولا قدرة لدي ّ على تحديد الاتجاهات، الزمن هرب من البرد، وأشعة الشمس تبتعد تاركة الفراغات تتقلص.
لمح لسانه يقوم بحركة:
ـ لا ….، أرجوك….، إلا أنت….، أيها العضو المراوغ..!
فقال لسانه له:
ـ ليس لديك أفعال…، فماذا تفعل بأقوالك؟
تجمد، وبدت المشاهد متداخلة، ليس لها نهايات محددة، تتقلص تارة، وتتسع تارة أخرى:
ـ لم اعد أنا هو الذي كنت عليه….، فأجزاء جسدي استقلت، انفصلت، وراحت ترقص لهذا التفكيك!
ـ لا…، أنا لم أتخل عنك بعد…
ـ من أنت…؟
ـ لو كنت اعرف من أنا لتخليت عنك!
ولم يتبق من رأسه إلا الإحساس ذاته بأنه تحول إلى ذرات منفصلة ومتباعدة بعضها عن البعض الآخر:
ـ والآن اخبرني ماذا افعل….؟
لم يجد من يرد عليه:
ـ ولكني لم ارتكب إثما ً، فلماذا أعاقب…؟
ـ وهل كنت تقدر على ارتكاب الإثم ولم ترتكبه…؟
ـ كنت استطيع أن …
ـ جرب.
فهجم بما تبقى لديه من قوة على الفراغات التي اتسعت فجواتها وتحولت إلى أثير.
ـ اسمع…، أنا ذيلك عدت إليك!
ـ وماذا افعل بك…، أنا ابحث عن عقلي؟
ـ لا تحزن…، فلو كان لديك عقل لكنت حافظت عليه…، أما الآن فانظر ماذا حل بك…؟
ـ كأنك تطلب مني أن أولد مرة ثانية…؟
ـ اجل!
ـ لا …، لن ارتكب هذه الحماقة مادمت استطيع الامتناع عنها.
ـ سترتكبها! بل وستتضرع لارتكابها.
ـ ماذا تقصد…؟
ـ اقصد انك ستدافع عن كيانك…!
ـ غريب….، لا كيان لدي ّ وتطلب مني أن أدافع عنه…؟
ـ ها أنت تدافع عن …
ـ وهل أدافع عن انف أمضى الوقت كله يستنشق رائحة الطرائد….، أم عن عين أمضت حياتها ترصد العدو، أم عن أنياب تتشهى لحم الفرائس، أم عن قلب أعمى…..، أم عن أصابع فرضت هيمنتها علي ّ حتى أصبحت عبدا ً من عبيدها…؟
ـ ها أنت تعترف انك تخليت عنها!
ـ هل أنا هو من تخلى عنها، أم هي التي تخلت عني…، فانا لم اعد إلا وهما ً مهمته اختراع الأوهام الأقل نفعا ً….! فأي دور علي ّ أن أؤديه….، وأنا اعرف تماما ً استحالة ذلك…؟
ـ اختر قناعا ً…
ـ أنا اخترت نفسي وفشلت! فماذا افعل بباقي الأقنعة…؟
ـ كي تبحث عن نفسك…
ـ أرجوك ….، أخبرتك بكل ما اعرف…، فهل تنوي أن تعاقبني بما لا اعرف…؟
ـ اجل!
ـ لن أدافع عن نفسي…، مادمت أنت هو من يحاكمني…؟
ـ آ ….، أنت تبحث عن العدالة إذا ً…؟
ـ لم أتفوه بهذا الطلب، ولم يخطر ببالي….، فالعدالة لديك!
ـ تقصد إنني أنا هو من قسمك، ونثرك، وحولك إلى أجزاء متباعدة، متصارعة، وأنا هو من فكك جسدك، ومرغك عقلك بالوحل…؟
ـ أنا لم اتهمك…، ولم اتهم سواك أيضا ً، فماذا تريد مني…، وأنا اغطس في قاع الوحل…؟
ـ أن تنتظر طريدة! فما أن تمسك بها، حتى تستعيد أجزاء جسدك عملها!
ـ ولكني أخبرتك بأنني ـ أنا ـ هو من أصبح طريدة!
ـ لا توهمنا أيها الماكر….، فالذي يرتكبون أبشع الآثام هم وحدهم الذين يرتدون أقنعة الملائكة.!
ـ ومتى استبدلت وجهي بوجه آخر…؟
ـ لم يبق لي معك كلام.
ـ أين ستذهب …، وتتركني؟
ـ ستلتحق بي، وستتبع خطاي…، فها هو انفك يعود إليك، مثل جلدك، وها هي أصابعك ترجع لتؤدي عملها، ها هو قلبك الأعمى ينبض، ومخرجك عاد إلى موقعه، فافرح أيها الكاتم على أسرار بذرتك الأولى!
ـ ما أعظم هذه الغابة…!
ـ لا تتندر…!
ـ وهل لدي ّ قدرة على التندر…، أيها الكائن الغامض، بعد أن انتزعت مني كل ما تريد…، ولم تترك لي حتى ذريعة للوهم! حقا ً يا لها من حياة أما تمشي فوق وحلها، وأما أن يمشي وحلها عليها!
12/5/2015
خواطر ظبية عن بوابة الجحيم
قالوا انه استحدث من العدم، وقالوا انه استورد من كوكب أخر غير كوكب الأرض، وانه لا ينتمي إلى المجموعة الشمسية، وقالوا انه هو الذي صنع نفسه، وهو الذي اخترعها، وقالوا انه ليس إلا وهما ً، وقيل انه ليس إلا مخلوقا ً افتراضيا ً، بحدود ما يدور في الخيال الجمعي، أو عبر الأساطير، ولكن أكثر الوقائع تشير إلى أن حجمه، وتكوينه، هيأته، لا مثيل لها مع مخلوقات القارات التي مازالت تشتهر بالإشكال ذاتها، أو الشبيهة به، كالتماسيح، والخراتيت، والديناصورات، والزواحف الأخرى. وقد أثارت هذه الأقاويل لغطا ً حول نشأته، وما قبلها، بحجة عدم وجود حياة أصلا ً بإمكانها أن تذهب ابعد مما هي عليه، أو بسبب إشاعات أصبحت مدعمة بالوثائق تؤكد إن أموالا ً كبيرة أنفقت من اجل اقتنائه، وتربيته، والعناية به حتى لم تعد للإشاعات قيمة تذكر، أو اثر للتداول حول هيبته، ومكانته، وموقعه بين كائنات الحديقة.
أتراه فكر بالضجة التي أحدثها، وجعلت منه أكثر شهرة من الجميع، ومتميزا ً بالرعاية، والعناية الاستثنائية، وقد غدا مشهورا ً، وعلما ً نادرا ً، خارج نطاق الحديقة، حد استحالة مقارنته بالمخلوقات الأخرى، كالأسود، والنمور، والتماسيح، والحيتان والزرافات، والماموثات، والثيران الوحشية، وأفراس المستنقعات، والأفاعي ذات الأبواق، والحيتان الحلزونية، والسحالي المتعددة الرؤوس والطيور البرمائية…. الخ…، دار بخلد الظبية، وهي تجلس القرفصاء، مكورة جسدها النحيل، داخل فمه الكبير:
ـ فأنت، يا سيدي، لا تنوي ابتلاعي…؟
ذلك لأنها فكرت انه لا ينوي تعذيبها أيضا ً، قبل أن يغلق فمه، رغم انه هدأ من روعها، ملوحا ً لها بأنه قد يمزقها، ويقطعها إلى أجزاء، قبل أن يسحقها، ويطحنها، كي يبتلعها دفعة واحدة. فكادت تصرخ، وتستغيث، لولا إن قواها كانت قد خارت، ولم تعد تتمكن إلا من محاولة استرضائه، ليرحمها، ويعفو، ويغفر لها، ويتركها في حال سبيلها، فتمتم بمرح لا إسراف فيه:
ـ هذا ما كنت أود سماعه منك ِ، أيتها النحيلة كثمرة يانعة!
ردت بصوت مذعور:
ـ دعنا الآن من الكمين الذي أوقعتني فيه…، ودعنا من غفلتي، ودعنا لا نتحدث عن انتشار الخبر، الذي يسيء إلى سمعتك، وشخصك…، فانا سأعترف بأنني انأ التي اختارت الجلوس في هذا الفم الجبار…، سأعترف، عبر وساءل الإعلام كافة، مباشرة، من غير رتوش، أو تملق…، بأنني كنت أقوم بنزهة، للمتعة، والاسترخاء، والاكتشاف….
فقال لها بالصوت المرح نفسه:
ـ لا مجال للمزيد من المناورة…، فأنت الآن جزء من أجزاء ثروتي!
اعترضت وهي ترتجف:
ـ سيدي الشبيه بالديناصورات التي تحدت إبادتها، وامتد زمن مجدها حتى يومنا هذا…
تململ، فاهتز جسدها، بعد أن حرك فكه الأسفل، وتمايلت، وكادت تسقط بعيدا ً عن حافة فمه:
ـ لا تفعل هذا أرجوك.
أجاب:
ـ أنا لا أشبه أحدا ً، أنا أشبه نفسي! بالأحرى نفسي وحدها هي التي تشبهني!
ـ آ ….، اجل، هذا صحيح، بحسب احدث النظريات، فأنت لا تشبه أحدا ً!
ـ بل أشبه نفسي ونفسي تشبهني!
ـ صحيح فانك لا تختلف عن نفسك، ولا نفسك تختلف عنك!
ـ هل هذا يعني إنني هبطت من كوكب يقال إنني لا أساوي فيه حجم فار من فئران هذه الحديقة، ولا ذبابة من ذبابها…..؟
ـ من قال هذا أيها الكائن الذي لا يختلف عن نفسه، ولا تختلف نفسه عنه؟
ـ المواقع الاجتماعية، والشبكات العنكبوتية، والإعلام الحر، الشفاف، والمستقل…؟
ـ ماذا تقول..؟
ـ آ …، الإعلام الشفاف ….، جميل، خاصة بغياب سواه، لأن الإعلام الشفاف استطاع أن يصنع مني شبحا ً! والآن يعنيني معرفة من عمل على تشويه سمعتي، فهل أنا فأر، أم أنا ذبابة لا عمل لها سوى الطنين؟
ـ لا…، هذا هو رأي الإعلام غير المقيد، الطليق، الأبيض، المستقيم، أما انأ فمازلت أتنزه في المدخل….
أجاب بتذمر:
ـ سأغلق بوابة الفردوس!
ـ أرجوك، لا تفعل هذا…، فانا لم استمتع بحياتي بعد…، بل أنا حديثة الولادة، ولم أر شيئا ً من الدنيا ..
ـ حسنا ً…، هذا اعتراض مقبول، إن لم يكن لطيفا ً، فالمرونة ستفضي بتوازنات نافعة لنا جميعا ً!
ـ لنا؟
ـ لك ِ أيتها الظبية الناعمة، النحيلة من غير تعجرف، والهيفاء من غير تعنت…، يا صاحبة هذين العينين الساحرتين….، لك ِ ولي … أنا، أنا الذي لا يشبهني احد والذي لا أشبه أحدا ً!
وسألها بعد لحظة صمت:
ـ الم يصفوني بأنني خرتيت العصر، ووحيده، وقالوا أن صفاتي تجاوزت صفات الديناصورات المنحدرة من الماضي السحيق….، وإنني أؤسس تاريخي من غير تاريخ؟
ـ سيدي، لكثرة صفاتك، وألقابك، وأسماؤك، وعلاماتك التي انتشرت، وذاعت، أصبحت أعظم منها، فهي لا تشبهك إلا لأنها نشأت منك…، فأنت أعظم منها جميعا ً! بل حتى لو رصت ورصفت وجمعت فإنها لا تساوي شيئا ًمما أنت عليه!
ـ ماذا تقصدين بهذا الكلام…؟
ـ سيدي، تستطيع أن تتأكد بنفسك…؟
ـ أنك تطلبين مني أن أغادر البحر؟
ـ لا…، بل أن تشاهد بنفسك ما تبثه الفضائيات، وشبكات التواصل، والإعلام المستقل، النزيه…؟
ـ لا تتندري علي ّ، فانا لست هزأة؟
ـ سيدي، أنا اقبع في باب الفردوس، في فمك المبجل، فهل ثمة مجال للمناورة، أو التندر؟
ـ جيد.
ـ فعندما تصغي إلى حديث يدور بين أي اثنين، من سكان حديقتنا الخالدة، فانك ستعلم انه يدور حولك! فاسمك أصبح خارج الأسماء، مثلما أفعالك خارج الأفعال! لأنك أصبحت خارج التاريخ ما دام الأخير مصيره إلى زوال!
ـ انتبهي….، يا ظبية شاردة الذهن…، فانا لست مغفلا ً…، وأنا لست بحاجة إلى إطراء، أو غواية، أو إلى مدائح.
ـ ليست هذه دعابة، ولا دعاية معادية، بل حقيقة ذهبت ابعد من الحقيقة ذاتها..!
ـ فانا أسطورة إذا ً…؟
ـ ليس أسطورة تماما ً إلا لأنك ذهبت ابعد منها. لأن الأساطير، سيدي، ما أن تبلغ ذروتها، حتى تسقط لتتهشم، وتندثر، كأنها تماثيل صنعت من الصلصال، وليس من المعادن الصلدة!
هز رأسه، فارتجت، وتمايلت، حتى بدت إنها ترقص، لأنها بدت له مثل باقة ورد:
ـ آسف…!
ـ كم أنت رقيق، سيدي، الرمز؟
ـ الرمز؟
ـ آسفة …، هذه هفوة صنعها الإعلام الطليق، وصاغتها الإرادات الحرة، حيث ذهبت بالأسطورة إلى ذروتها..!
ـ ولكن لماذا الأسف….، مادمنا لا نمتلك الكثير في مواجهة النهاية؟
ـ إلا أنت، سيدي، لا نهاية لنهايتك!
ـ كفى، فانا لشدة يقيني قد اصدق، وقد يتسلل إلي ّ الشك، مادام الأخير لا يثبت اليقين بل يزعزعه!
تجمدت، مصغية إلى صمته. فاخبرها انه لم ينصب كمينا ً لها، لأنها لا تساوي إلا قشة، أو حبة دخن، وانه لم يكن بانتظار أن يعتدي عليها…، فقالت له بالذبذبات إنها هي التي أكدت استحالة حصول العدوان أو الاعتداء:
ـ فانا عندما خرجت في فجر هذا اليوم البارد، ذهبت إلى المحيط، لإقامة الصلاة، وتقديم النذور والقرابين …
ـ تابعي، فانا بك أبصر البحر..ن وبك أرى السماء!
ـ ثم لمحت بوابة تدعوني للدخول..، فسألت كبير الحراس…، بيت من هذا..؟ فقال: هذا هو بيته!
ـ لم يذكر اسمي؟
ـ سيدي، الم أخبرك باستحالة أن ندعوك بالأسد، أو بالنمر، أو بالدب، أو بالتمساح، أو بالفهد، أو حتى بالثعلب؟
ـ لماذا هذا الاستثناء ؟
شرد ذهنه، فردت بصوت متلعثم:
ـ هذه قضية لا علاقة لها بما نحن فيه، سيدي، دعني ..
ورفع صوته:
ـ فالبرهان يقام عادة على المعادلة كي تكون صحيحة، مثل الأدلة التي ترافق التحقيق في الإجراءات، ومادمت، يا صاحب العظمة، عبرت إلى الضفة الأبعد …، فهل يصح لأحدنا أن يفعل ذلك. فما معنى أن يحتفل بك البعوض، ويمجدك البرغوث، وتهتف لك الجرذان والقنافذ ..، وهل لخوار الماشية والدواب والزواحف والمنقرضات معنى في إعلاء شأنك، وأنت أعلى من أن تكون عاليا ً؟
ـ انتبهي …، هذه كيانات لها حصانتها، فلا تشوشي علي ّ…، فانا اعرف ماذا اعمل!
ـ بل قصدت الزواحف كافة، والثدييات، وأصحاب القشور العليا..، من القرود إلى النمل البشري.
ـ اسمعي، مع إنني استمتع بنعومة صوتك ..، وعطر نبضات جسدك، ورقة إشعاعات قلبك، إلا إنني مازلت أكن بالغ المودة حتى للحمير!
ـ ولماذا الحمير…، سيدي!
ـ أنا أيضا ً لا اعرف …، مع أن وحيد القرن هو الأجدر بهذا المنصب..!
ـ ولماذا وحيد القرن..؟
ـ آ ….، هذا سؤال مهذب: لأن ظاهرة القرون، أو النتواءات، أو الزوائد، أو هذا الذي يستخدم للدفاع عن النفس، أو للمباهاة …، تحول إلى ما يشبه اليقين. فراح كل من يلمس أعلى رأسه يعتقد انه انأ من أرسله لينفذ أوامري …، فطغى وتجبر وتكبر…، حتى إن البعض عمل على إزاحتي، أو استبدالي بخرقة، أو بعلامة من علامات الزوال!
ـ وحيد …، وحيد.
ـ ولهذا أمرت كبير الأطباء، ومنذ زمان، أن يستأصل القرن الأوحد، والأحادي، والواحدي، غير المزدوج، وغير المتعدد الاستخدامات ..، وغير المركب، من اجل حياة بيضاء خالية من القرون!
ـ خالية من القرون، أم خالية من القرن الواحد ..، مع إنني ظبية، وليس غزالا ً…، أنثى ولست ذكرا ً، مع إنني لست متحيزة لأي منهما، لكنني لست خنثا، فانا لست على الحياد؟!
ـ فضلت إزاحتها، بل اقتلاعها، واجتثاثها من اجل أن يأخذ التمييز مجالا ً مهذبا ً يسري على الجميع؛ من النمل المراوغ إلى بنات أوى الماكرات! لأن جدي الأعظم تنبأ بمن يأتي ويحقق المسرة، والسلام.
ـ جميل.
وسألت الظبية نفسها: أهذه نهاية الحكاية أم فاتحتها؟
فقال لها:
ـ وهل تتمكن الطائرة من الهبوط من غير مدرج…؟
ـ ولا تتمكن من الإقلاع من غير مدرج أيضا ً…، مع إن طائرات اليوم تتمتع بمدارج ذاتية! أي، كي لا أربكك، من غير مدارج.
ـ أنا استحدثت المقدمة كي نذهب ابعد منها، من غير صدمات، وتقاطعات…، فأنت الآن لا تمتلكين التصوّر الكامل للمشهد: هل أوقعتك في كمين كي افترسك أم …؟
صرحت غاضبة:
ـ كلا، كلا، كلا…، سيدي!
ـ إذا ً….، كيف حدث الأمر؟
ـ وأنا ذاهبة إلى البحر للاستحمام، والتطهر، وتقديم النذور…، رأيت بوابة الفردوس تدعوني…..، فهرولت، حتى لم اعد أتذكر أن هناك بوابة أخرى كبوابة المحرقة أو كأبواب الجحيم!
ـ لا يخلو صوتك من غواية!
ـ سيدي، أنا لا أساوي حجم ذبابة، أو فأر…، أو حتى كيان ضفدعة؟
ـ آ ….، لكن لا تشتمي هذه المخلوقات الظريفة، فالأخيرة تنق، طوال الليل والنهار، نقيقا ً كأن لا عمل لها غير التزاوج، والتناسل، والغناء، شبيه بالثيران لا عمل لها غير النز….، والعصافير غير الوثب!
ـ سيدي، نحن في حديقة موقرة، نموذجية، دستورية…، ولسنا في مرقص، أو ملهى، أو في كلجية؟
ـ لا فارق…، دعينا من العلة الأولى!
ـ آ …، ما أرهفك، حتى ظننت انك تناور!
ـ أنا…، ومع من…؟
ـ لأنك، سيدي، لوحّت لي بذلك…؟
ـ عدنا إلى: من بدأ …؛ الأقوى أم الأضعف…؟
ـ سيدي، لا احد…، فكلاهما استدرجا إلى المسرح…، لأن الضعيف أبدا ً لا يستطيع أن يقدر مقدار ضعفه، لهذا يظن دائما ً انه هو المنتصر، كي يسحق خصمه…، لكنه سرعان ما يدرك أن عليه تذوق مرارات الهزيمة وويلاتها، إزاء عدم تقديره لقوة العدو!
ـ العدو…؟
ـ هكذا بدأت الحكاية…، بالعداوة، والكراهية، والخصام…، لنرثها …، ونمضي بها بعيدا ً في الخراب. لأنها موروثات غير قابلة للاستئصال، والاجتثاث، على خلاف البراءة، مثلا ً! لأن أصحاب الرؤوس الخاوية وحدهم يقدرون على تحقيق المكاسب، على حساب العلماء!
ـ أنت ِ حقا ً ظبية إذا ً…؟
ـ ليس لدي ّ قرن!
ـ جميل…، والآن آن لك الإصغاء إلي ّ بعمق….، لأن مصيرك بين فكي ّ!
ـ مع إنني كنت امتلك هذه القدرة…، إلا إنني استطيع قراءة ما تتوخى فرضه علي ّ؟
ـ أنا لا افرض، ولا أمر…، ولا اصدر قرارات، بل آمل أن تنفذي الأمر من غير كراهية، أو إرغام، أو تهديد، أو عداوة!
ـ سيدي…، وعلى من تعتدي…، فانا ساذجة، وبريئة، فانا انتمي إلى أكثر الفصائل أناقة، وخفة، ونعومة!
ـ آ …، لو أخبرتك ماذا فعلت بي أيتها الساحرة…، فقد كان جمالك يرقد في ّ كما ترقد الحمم في أعماق البركان!
ـ ها أنت تناور؟
ـ إذا ً فأنت هي الغواية….؟
ـ تقصد … ثمرتها؟
ـ وقد آن لنا أن نعقد صلحا ً…، فلا أنا اعتدي عليك، ولا أنت تلمسين الجمر الخامد في روحي!
ـ دعني إذا ً أجد حديقة أخرى اذهب إليها….، فالحديقة لم تعد صالحة لسكني فيها!
ـ هكذا …، ببساطة، ادعك تفلتين وكأن شيئا ً لم يحدث؟
ـ اخبرني بماذا تضمر…؟
ارتج جسدها وهي تتأمل أسنانه الأمامية، وخلفها برزت سلسلة من الأنياب، امتدت بعيدا ً في العمق: بوابة النعيم، باب الفردوس! دار بخلدها، فقال لها:
ـ سأسمح لك ِ بالعودة…، وكأنك هربتي مني، وما أن تصلين إلى جناحك، وتلتقين مع صحبك، يكون لك حق التشهير بي…!
صاحت:
ـ أنا لا اعرف الكذب! فعندما ألقيت القبض علي ّ، وطلبت مني أن اعترف…، أخبرتك: أنا لا اعرف شيئا ً…، وقلت لك بوضوح: افعل ما شئت…، وها أنت تفصح عن…
ـ حسنا ً…
لمحت الأسنان تقترب منها، وثمة أخرى من الأعلى تطبق عليها. غاب وعيها، لبرهة، لترى إنها محاصرة برؤوس حادة تحاصرها.
وسمعته يتمتم مع نفسه:
ـ هل اقطعها إلى قطع، أم ادعها تخمد وتهمد وتصعد روحها إلى الغيوم، أم ابتلعها وهي مازالت تتنفس وتحلم بالفرار…، أم ماذا افعل…؟
لتسمعه يخاطبها:
ـ أنا لم اعتد عليك…، فانا لم أغادر مستنقعي…
ـ آ…، نعم، أنا اعتديت عليك…، لأنني اقتربت منك، فابتلعتنني…، أليس هذا هو قصدك؟
ـ لا!
ـ لا تدعني أغادر فأنجو …، ولا تبتلعني فأموت…، فماذا تريد مني..؟
ـ أريدك ِ أن تعودي إلى جناح الغزلان، وتتحدثين عن الحقيقة؟
ـ سأفعل..، سأقول إنني رأيت بوابة الفردوس حسب!
ـ جيد…، ولكن ماذا لو سألوك: لماذا هربتي من الفردوس…، فماذا ستقولين…؟
لم تجد الإجابة، رغم انه سحب أسنانه حتى اختفت، وصارت تجلس فوق بساط رقيق، ناعم الملمس، وقد وجدت من يناولها حزمة من العشب، بدت لها طرية، وآخر يقدم لها الماء بإناء من فخار…، فدار رأسها: ماذا يحدث لي، وأين أنا؟ ربما يكون قد ابتلعني، وأنا الآن استيقظ في العالم الآخر؟
كرر السؤال عليها، فقالت مع نفسها: أم ربما أنا مازلت في مغارتي، مع أفراد عائلتي، بجوار الزرائب، والجحور، والحظائر….، مع الماشية، والدواب، والقطيع ….، ترعى طليقة في البرية، فلا ذئاب ولا ضباع ولا كلاب؟
ـ لا تحلمي…! فالحلم شبيه بمن يرى الذي لا وجود له! انه يمنحك متعة الأفيون التي تفضي إلى الخمول، والسبات، والموت!
ـ أأحلم …، سيدي أنا لا احلم!
ـ إذا ً لا تترددي في اتخاذ القرار الصائب…، فمن لا يفعل ذلك لا يجني سوى الخسران، والندم. وأنا لا أريد لك إلا الاستمتاع بعمرك الجميل!
ـ لن افعل …، لن افعل، سيدي، لن أتردد.
ـ ولا تخافي من الخوف، فالأخير يسلبك صحتك، واستقرارك، ويشوش عليه رؤيتك!
ـ لن افعل، سيدي، لن أخاف، وهل هناك أسباب للخوف، وأنا اعمل بمعية هذا العملاق، سيدي!
ـ ولا تدعي الظنون تنهشك…، لتورثك السقم، وفقدان الشهية، وسهر الليالي.
ـ لن افعل، لن افعل سيدي…، فالشك يزعزع اليقين.
ـ والآن…، ماذا ستقولين لصحبك، أبناء جلدتك…، شعبك الطيب الغاطس في الوحل…؟
ـ آ …، أيها الزعيم الخالد…، سأقول لهم: أنا لن افعل ذلك من أجل حياتكم الفانية..!
ـ وماذا لو سألوك: من اجل ماذا تفعلين؟
ـ سأقول أنا افعل ذلك من اجل أن يدخلوا جميعا ً الفردوس، فلا وحل ولا مستنقعات، لا حفر ولا ثقوب، لا عثرات ولا قهر، لا ظلمات ولا علل….، ففي الفردوس تنعدم المنغصات، وتغيب الذنوب، فلا كد، لا عمل، ولا جوع، ولا أمراض! ففي الفردوس ستتذوقون لذّة الرفاهية، ونعيم الهواء الشفاف! فهيا أيها القطيع تعالوا معي للخلاص من القحط، والضيم، من الفقر والخوف، من الذل والاستبداد!
أجاب بصوت هادئ، وقور:
ـ كنت اعرف انك، أيتها الظبية الجميلة، لن تهدري فرصة عفوي، وسماحتي، ومرونتي، وحلمي معك!
ـ لا…، كيف افعل ذلك…، وأنت لم تسمح لي إلا برؤية باب الفردوس…، فماذا هناك، في الداخل، وفي الأعماق…؟
أجاب بتوتر، بصوت لا يخلو من التوتر:
ـ أتتندرين…؟
ـ وهل امتلك قدرة التندر…، هل أبقيتها لي، كي اعرف ماذا أقول؟
ـ ما ـ هو ـ قصدك أيتها الماكرة….، إذا ً…؟
ـ دعني أجد قليلا ً من الهواء، كي امسك بصوتي، فانا اختنق. دعني أرى الضوء كي لا يغيب عقلي، دعني استيقظ كي لا اذهب بعيدا ً في الوهم!
لكنها لم تعد تسمع صوته، إلا بعد أن أفاقت، وسألت نفسها: أين أنا…؟
فسمعته يخاطبها:
ـ أنت في الباب…، في المدخل…!
ـ آ ….، أنا مازلت على قيد الحياة، أي أنا لم أمت، ولم اصعد إلى الأعالي، ولم انزل إلى العالم الذي لم يرجع منه احد…؟
ـ يا مجنونة! أنا سأطلق سراحك، وأعتقك، كي تكوني حرة من الأحرار…..!
ـ أتفعل ذلك حقا ً، ومن غير ثمن…؟
ـ سأفعل ذلك من غير ثمن…، فانا لا اكذب أيضا ً!
ـ آ ….، كلانا لا يعرف التمويه، ولا يعرف الغش، لا يزور ولا يرائي، لا يمارس الخديعة ويتجنب الأفعال الخسيسة، ، لا يخون ولا يفسق….، لأننا بالأحرى لا نقدر على ارتكاب الذنوب، والمعاصي، والآثام. آ …، ما أشجعك، وأكثرك نبلا ً، ما أجملك وأكملك صورة، وما أعظمك رقة، ورحمة، وعدلا ً!
وأضافت بصوت أعلى:
ـ ولكن هل أدركت كم كنت صادقة… ليس معك، بل مع نفسي؟
ـ هذا وحده لا اشك فيه…، مع إنني بحاجة إلى برهان ملموس يستدعي الإثبات! فالأعمال ليس بالنوايا، بل بالأفعال!
ـ وهل ظبية، مثلي، هي التي تأتيك بالبرهان…، ثم كيف تريد مني أن اصدق انك على صواب، وانك من الصادقين؟
ـ عدنا إلى العداوة الأولى…، عدنا إلى الجرثومة!
فقالت بصوت لا يخلو من الخوف ومن الغضب أيضا ً:
ـ أصغ إلي ّ جيدا ً: لا أنت عدوي…، ولا أنا عدوتك، لا أنت تكرهني ولا أنا أكرهك…، لا أنت تبغضني ولا أنا أبغضك….، لكن، يا سيدي، لا أنت تتركني اذهب طليقة، ولا أنا ساجد حديقة خارج سلطتك! فعندما تريثت في ابتلاعي، وافتراسي، وقتلي، تريثت بحجة إنني اعتديت على مستنقعك، في هذه الحديقة، فانك كنت تفكر أن اعمل لصالح أهلي، وصحبي، وأبناء عمومتي، مع إنني اعرف انك لن تؤذيني، بل ستهبني كل ما حلمت به، طوال حياتي، عدا أن أكون صادقة، أمينة، مخلصة، وفية، مع أهلي، وشعبي الطيب المسكين! فهل حقا ً لنصرك علي ّ معنى…..، وهل لعدم خيانتي بطولة، أم إنها الحقيقة التي لا أنت تستطيع التخلي عنها، ولا أنا استطيع تجنب مضارها….؟ فأنت خلقت مفترسا ً، متوحشا ً، وأنا ليس لدي ّ إلا مسافة الهرب، والهزيمة …، فان هربت اليوم، منك، فأين سأذهب منك غدا ً…؟ إنها الحكاية التي نرويها قبل أن تتكون في الحناجر، لأنها سابقة علينا، وليس من المؤكد، حتى لو دخلنا في فردوسك، أيها السيد العظيم، لا نجد من يطردنا منه، كي ندخل بوابة المحرقة، ونحرق، نشوى، ثم يذر رمادنا، مرة بعد أخرى، مع الريح!
ـ آ …، لو كنت اعرف من أغواني بصيدك، ومن أوقعك في كميني…، لما فعلتها أبدا ً…! فانا نفسي لم أكن ارغب أن أؤذي من لم يؤذني، عدا إنني اعرف إنني لست المذنب الوحيد…، فهل حقا ً كنت ِ تجهلين البراكين التي ما انفكت تتكون داخل هذا الجحيم…؟!
14/4/2015
غبار وكلمات
ـ هل تتذكر الديناصور الذي كان يختار أجمل طيورنا، وأجمل غزلاننا، وأغلى ما نمتلك من فتياتنا، وفتياننا،، ويلقي بهم إلى فم التنين، سيد السماء، والصحراء، والبحر، سيد الظلمات والأغوار السحيقة، للحفاظ على عرشه في هذه الحديقة، من الزوال…؟
سكت الجد برهة، ثم أضاف يخاطب حفيده الذي طلب منه أن يوصيه بوصيه يتخذها نبراسا ً له:
ـ ثم اجتمع سكان حديقتنا، بعد أن بلغ الجور ذروته، في ظلام ليلة عاصفة، شديدة البرودة، وامسكوا بالديناصور، والقوا به إلى فم التنين…؟
رد الحفيد:
ـ سمعت بالحكاية، وقرأتها، منقولة عن أسلافنا، وأجدادنا، وحكمائنا، ولكنني، يا جدي، كنت آمل أن توصيني، وترشدني…، كي اتخذ من وصاياك، هدى للمشي من غير عثرات…، فأنت تعلم كم الدرب موحش، ومقفر، حتى إنني أكاد لا أراه… إلا حفرة مسورة من يدخلها لا يخرج منها! وأنت ترى كم أصبحت حديقتنا لا تحتمل، زاخرة بالضوضاء، والصخب، والبغضاء…، حتى كأن مهمة مديرنا أصبحت معنية ببناء نظام يرسخ الكراهية بيننا، ويعزز أمجاد سلفه الديناصور سيء الصيت…!
تنهد الجد، مستكملا ً باقي القصة:
ـ ثم اجتمع سكان حديقتنا، ووضعوا خطة للقضاء على التنين….
صاح الحفيد:
ـ يا لها من شجاعة…، لكن هل حقا ً أوقعوا التنين في الكمين، وتم القضاء عليه…؟
ـ لا تتعجل….، كأنك بلا رقبة، وبلا بصيرة! فلم يكن التنين حقيقة…، بل كان وهما ً من الأوهام! كان ذريعة، لخداعنا، وتعزيز مجد من لا مجد له!
ـ ماذا تريد أن تقول….؟
ـ أردت أن أقول إن التنين، والديناصور، ونحن الأبرياء الضحايا، على مر القرون، والزمن…، لسنا إلا لعبة لا أول لها ولا خاتمة! فهي مثل الليل الذي يتعقب النهار، فلا هو امسك به، ولا النهار نجا من ليله! بل قل هو مثل الموت الذي قرر أن لا يدع أحدا ً ينجوا منه ليكتشف انه ـ مهما عمل ـ لا يكف عن رؤية من فلت منه…، بل وهو شبيه بمن صرخ: وجدتها، وجدتها…، ليكتشف انه فقدها، ليعاود البحث عنها، من غير كلل، أو إعياء!
قال الحفيد بصوت حزين:
ـ وهذه ـ هي ـ وصيتك لي، وهي خلاصة عملك، وفكرك، وحكمتك؟
ضحك البوم، وتكلم من غير حذر:
ـ لا تتحدث وكأنك أمسكت بالحلم! بل تحدث وكأننا مازالتا نعيش في عصر الديناصور والتنين!
فسأله حفيده بشرود:
ـ لكن زمن الديناصورات ولى، واندثر… ولم يترك حتى أثرا ً لخطاه؟
ـ اجل، ولى…، زمن الديناصورات …، كي يأتي الزمن الآخر، البديل… ، ليستكمل ما يفعله الزمن القديم..!
صاح ببهجة وتعجب:
ـ انه زمن الأكثر ذكاء ً…؟
ـ تقصد….، الأكثر مكرا ً…، وجورا ً…، وتمويها ً…، منا جميعا ً…؟
ضحك الحفيد:
ـ تقصد انه الزمن الذي يقودنا إلى الحضيض!
ـ انه زمنهم، وهو زمننا ما دما أسراه، لأنهم هم سادته، فهم من يشرف على أقفاصنا، وحظائرنا، وحفرنا، وزرائبنا، ويتحكمون بمصائرنا.
ـ ولكن ماذا افهم بهذه الكلمات….، هل هذه هي وصيتك لي…، وكأنك تقول: إن فتحت فمك قطعوا رأسك، وإن أغلقته فسأموت كمدا ً، أو اهلك مكظوما ً ..؟
ـ لهذا تراني، يا حفيدي، اقبع في عشي…، لا اخرج منه، ولا ادع أحدا ً يدخله!
ـ وما ـ هو ـ مصيري أنا…؟
ـ أنت ـ هو ـ الاستثناء الغريب! بل أنت القوة الوحيدة التي لا تدعني ارحل، التي سمحت لي بالبقاء على قيد الحياة، فأنت لا تدع أحدا ً يدخل علي ّ، ولا تسمح لي بمغادرة هذا العش، من داخل هذا القفص!
ـ أنا …؟ أنا الخائف، المذعور، المطارد، المشبوه، المنبوذ، هو … أصبح سر قوتك؟
ـ قبل أن تأتي إلى هذه الدنيا، في هذه الحديقة، بزمن بعيد…، أوصاني جدي وصية حفظتها بحذافيرها، فقد أوصاني بحماية حياتي من الأعداء…، قال إن الجميع هم أعداء الجميع…، فان لم تجد الدفاع عن وجودك، غلبوك، وما أن تغلب، حتى تصير عبدا ً مثل باقي العبيد، تأكل وتنام وتموت، لتموت وتولد وتأكل وتنام وتموت، تأتي وتذهب كأنك لم تأت ولم ترحل، ترحل كأنك ستأتي لكنك ترحل وكأنك أتيت وأنت لم ترحل ولم تأت!
ـ وقال لك: لا تدع أحدا ً يغلبك، وأنت فعلت ذلك؟
ـ كان الأعداء بعدد سكان الدنيا، بل وبعدد كواكبها ونجومها ومجراتها، فالكل اعداء قبل ولادتهم، والكل أعداء بعد فنائهم، فأنت قد ترى بعضهم فتتجنبهم، تتحايل عليهم، تستدرجهم للرضا عنك…،
ـ كان الأعداء بعدد الكواكب والنجوم والمجرات، وبعدد سكان الدنيا، من اسود وتماسيح وخنازير، إلى بعوض وذباب وبرغوث، فالكل عدو للكل، قبل ولادته، وبعد فنائه، فهو يحمل العداء لك، بالبديهة، حتى لو وضعته في موضع الصديق، لأن الأخير ما هو إلا العدو المضمون، بما يمتلكه من عداء بالفطرة، والغايات، فأنت قد ترى البعض منهم، فتتجنبهم، أو تساومهم، أو تتصالح معهم، أو ترضخ لهم، وقد لا ترى البعض الذي يتخذ منك مأوى، وذريعة، وأداة، فهم يحاصروك من الجهات كلها، من الخارج ومن الداخل، حتى تدرك انك أصبحت عدو نفسك اللدود! بعد أن تدرك انك عدو الجميع، من المجرات إلى الفيروسات والجراثيم، فعلى من تنتصر، والهزيمة هي تاج النصر!
ـ آ …، يا لها من لعبة، غير مرحة، وغير سارة! لأنك لا تقدر أن تفلت منها، حتى لو تجنبتها…؟
ـ أصغ: قال جدي لي، في وصيته: انظر إلى السماء فانك ستجد هناك من يحلق أعلى من الغيوم، وهناك من اتخذ منها سكننا، وهناك من يعيش أسفلها…، وقال لي: انظر إلى الأشجار فانك ستجد من يعيش في الأعالي، وفي الوسط، وستجد هناك من يمضي حياته في الأسفل…، وقال لي: انظر إلى الأرض، فانك ستجد من يهرول، ويقفز، ويزحف، ويدب، وهناك من تصالح معها، والباقي يمضي عمره في الأنفاق، والحفر، وما تحتهما!
ـ آ …، يا جدي، أوجز…، فالإيجاز ضرورة!
ـ أنت أيضا ً لا تريد الإصغاء، ولا تريد أن تعرف هذا الذي أنا بصدد معرفته.
ـ ما هو ..؟
ـ قلت الذي أريد معرفته، وليس الذي لا يمكن معرفته. لأن الأخير بحكم الوجود نفسه!
ـ أوجز، أرجوك، فانا أراك لا تريد أن تقول كلمة نافعة…؟
ـ آ ….، سألخص لك الخاتمة وكأنها فقدت بدايتها، بل وكلأنها من غير مقدمات: فلقد قال لي جدي لي: احم وجودك من … نفسك، فالعدو الذي لا يمكن اجتثاثه يقبع في ظلمات النفس، وليس الخارج إلا حقيقة تؤكد استحالة القضاء على هذا العدو!
هز الحفيد رأسه بذهن شارد:
ـ إذا ً ففي كل منا ديناصورات، وتنانين، وضحايا أيضا ً؟
ـ اجل، اجل، اجل، لكن السؤال هو: مع من أنت، بل السؤال: ضد من أنت…؟
ـ حسنا، آن لي أن أسألك: مع من كنت…؟
ـ اخترت أن لا أكون مع احد! فمادامت نفسي تحمل جرثومة أسلافها، فقد تخليت عنها قبل أن أتخلى عن الأعداء.
ـ وعرفت حقيقة نفسك، أي: سعادتك، ورضاك، ومسرتك…؟
ـ الذي عرفته إنني كنت لا أريد أن اعرف شيئا ً…، لا القليل عن كل شيء، ولا كل شيء عن القليل…، فقد وضعوني في القفص، وقالوا لي: تمتع! فأنت طليق، وحر، وعش شفافا ً!
ـ آ ….، يا له من قفص لا يتسع إلا لواحد منا…! فهل سأمضي حياتي فيه، بعد أن تتركني، يا جدي، للأعداء؟
ـ إذا ً…، هل عرفت لماذا كنت لا أغادر عشي الصغير، في داخل هذا القفص، داخل أسوار هذه الحديقة؟
ـ لا…، لا لم اعرف!
ـ لأنك ورثت عنا جرثومة ديمومة هذا الذي لا يدوم، لأن الخلود هو انك مهما غبت فأنت لن تغادره! بالأحرى هو من لا يدعك تغادره!
صاح الحفيد بصوت مضطرب:
ـ لماذا اقتل نفسي إذا كنت ولدت كي أعيش…؟
ـ أخبرتك بما كنت أود كتمانه، وها أنت نبشت، فعثرت على الذي كنت أتستر عليهّ.
ـ جدي..، لم يعد هناك ديناصورا ً يلقي بالطيور، والغزلان، والفتيان، والفتيات، إلى التنين، فهو أصبح من الماضي، ونحن اليوم نتمتع بحماية هذه الأقفاص، وهذه الأسوار، من الأشرار ومن الأعداء…؟
ـ هذا هو السؤال الذي لم أجد إجابة عليه! فالأعداء هم الأعداء…، فوجودهم يسبقهم في الحضور ووجودهم لا يزول بزوالهم، فحتى لو لم يكن هناك أعداء فهذا يؤكد استحالة عدم وجودهم! فالكل أعداء للكل برضاهم أو بعدمه، بعلمهم أو رغما ً عنهم، لأن عدم وجودهم يتقاطع مع وجودنا! إن كانوا خارجك أو إن كانوا سكنوا أقاصي روحك! فأنت ولدت لتتذوق صنوف المرارات، بمختلف مصادرها، وأنواعها، وغرائبها…، ثم عليك أن تغلق فمك وتقول لنفسك: لا معنى للشكوى…، ولا معنى للغفران، ولا معنى لأي معنى من معاني الغوايات، والتمويه، والخداع….
ـ كأنك، يا جدي، توصيني بالتصالح مع الأشرار الأعداء الأنذال …؟
لم يجب. فقال الحفيد بشعور المنتصر:
ـ أو تطلب مني إعلان التمرد، والعصيان، والحرب…؟
ـ آ ….!
تأوه الجد بألم، وسأل حفيده بصوت مرتبك:
ـ ماذا تريد مني…، بعد أن تخليت عن الجميع، وبعد أن تخلى الجميع عني…؟
ـ لا أريد إلا أن أتعلم منك….
ـ أووووه….
صمت وامتد الصمت فترة غير قصيرة:
ـ يا حفيدي…، تعلم كيف لا تتعلم! وفكر كيف لا تفكر! وأخيرا ً: أحلم أن لا تدع أحدا ً يراك تحلم!
ـ كأنك بلغت درجة الكفر..، فانا أشم رائحة المعاصي في كلماتك…، بل واستنشق ما هو أقسى منها..
ـ ماذا تقول…؟
ـ انك تعلمني الرحمة؟
ضحك الجد:
ـ اجل…، الأقسى من الموت هو انتظاره، وهو انك لا تعرف متى يأتي..، والأقسى من ذلك هو الرحمة! فالأخيرة تسمح لك أن ترى ما يجري بوضوح أدق، بل وترى الذي لا يراه احد سواك!
تساءل الحفيد بخوف:
ـ الرحمة..؟
ـ هو أن تمحو ما تعلمته، ولا تعمل كي تتقدم في العمل، ففي كل ثانية يحدث ما لا تراه العين، وما لا يدركه العقل…، وما لا تدركه البصيرة، بعد ذهاب البصر!
ـ آ …، فهمت.
ـ لم تفهم…، أنا ظننت إنني فهمت أن الديناصور كان يرتكب جرائمه من اجل الحفاظ على سلطته…، ولكنني سألت نفسي: ما الذي يحدث لو لم يرم الأبرياء إلى فم التنين…، هل ستزول سلطته، ولا تدوم، بعد أن ورثها عن أسلافه …؟
ـ وماذا استنتجت…؟
ـ إن أحدا ً لم يفهم هذا الذي كانوا يعتقدون انه هو الحقيقة….
ـ كان عليهم التقدم…، وتخطي عثراتها..
ـ وهنا تحديدا ً يكمن لغز التصدع الأعظم…، فالقوة التي عملت على صناعة ثوابتها، كانت تعمل، في الوقت نفسه، على إفنائها.
ـ لهذا اخترت أن تتجنب الاختيار…؟
ـ بل اخترت الذي سمح لي بعدم رؤية ما كان يحدث، لا رؤية الديناصور، ولا رؤية التنين، ولا رؤية الضحايا!
ـ كأنك لم تعش، بالأحرى كأنك كنت تقول: هذا هو العدم تماما ً!
ـ هذا ما شغلني …، وجعلني أدرك لا جدوى هذا الانشغال، هو إنني أعيش في حديقة نائية، معزولة يظن سكانها إنهم سادة السماء، والبحار، بعد الأرض…؟
ـ آ …، أظن انك لم تكن مع التنين…، ولا مع الديناصور، ولا مع الأبرياء من الضحايا …؟
ـ مع إنني انشغلت بمراقبة ما كان يحدث…، فانا لم أر الذي كنت أريد أن أراه…
ـ ها أنت توصيني برؤية هذا الذي لم تره…؟
كف الجد عن النطق، فقال الحفيد:
ـ أنا لن أكون مع التنين، ولا مع المدير، ولا مع الغزلان، ولا مع الضفادع، ولا مع الطيور….، بل سأكون مع نفسي…
صاح الجد:
ـ لا احد يسمح لك أن تكون مع ….. نفسك..، فهل تستطيع أن تتصور وجودك بمعزل عن هذا الوجود في هذه الحديقة…؟
ـ كوجودك بعد أن اخترت عزلتك…؟
ـ أنا لم اختر عزلتي…، بل وجدت إنها اقل الأضرار ضررا ً…، واقل الإضرار، في الغالب، لا تلغي ما فيها من نفع!
ـ وأنا لن أحيد عن هذا الدرب…؟
ـ لن يدعوك….، فلن تقدر أن تقف سالما ً بين الطريدة والصياد، ولا بين الظلمات والنور، ولا بين التقدم والارتداد….، فأما أن تكون مفترسا ً وأما أن تتجنب الافتراس….؟
ضحك الحفيد، وقال للجد بمرح:
ـ سأدعك تهلك وحيدا ً منسيا ً….، في هذا العش، داخل هذا القفص، محاصرا ً بالأسوار، في هذه الحديقة…، أما أنا فسأصدر امرأ ً كل من لم ينفذه سيرسل إلى المحرقة!
ـ ماذا ستفعل..؟
ـ كل من يعترض علينا فهو ضدنا!
ـ ها أنت تعود إلى وصايا أسلافك: ما الحياة سوى حرب لا يكسبها احد!
ـ انك ـ يا جدي ـ تفقدني عقلي؟
ـ يا ولد…، وهل لديك عقل كي تفقده…، فانا أمضيت حياتي أتأمل المشهد: فلا القرد تحول إلى زرافة، ولا البلبل صار نسرا ً، ولا الضبع تخلى عن الجيف…
ـ ها أنت تناقض نفسك…؟
ـ اعرف…، لأنني لو لم افعل ذلك، فستظن إنني أمسكت باللغز…، وأنا ـ في الواقع ـ لم أجد لغزا ً أوهى من هذا الذي أراه: نولد في الليل بانتظار الفجر، ثم يأتي الفجر، كي نرى الظلمات ذهبت ابعد من حافاتها!
ـ هل نكف عن الانتظار…؟
ـ أنا لم اقل ذلك…، ولكن ليس لدي ّ ما أخبرك به، فالكل على صواب، مثلما الكل على باطل، الأقوى إن لم يفترس الأضعف، فسيهلك، والأضعف إن لم يهرب ويتستر ويتوارى فسيهلك أيضا ً. فهل لديك سوى أن تموه…، وتمكر، وتلعب…؟
ـ اسمع…، سأروي لك الحكاية التي ظننت إنني دفنتها، كي تعرف استحالة حسمها، أو تسويتها. فقبل سنوات بعيدة، وأنا بعمرك، كدت اشترك في قتل الديناصور، ولم يدر بذهني إن من كان يدعوا إلى التمرد والقتل غايته إرساء مجد الديناصور، ونظامه…، لكن متى أفقت، صحوت، ودار المفتاح في القفل…؟ آ …، بعد أن كان علي ّ أن امجد التنين!
ـ تمجد من كان يلتهم ضحايانا …؟
هز الجد رأسه:
ـ لا تتعجب! فأكثر الأسرار سرية، هي التي تخلو من السر! ففي عهدنا كان الجميع يموت من اجل التنين…، أنا قلت: آن لنا أن نقلب الشعار….! ليهلك التنين كي نعيش من اجل الديناصور ولنصبح جميعا ً فداء ً للمجد الحديقة!
ـ بهذا الوضوح…؟
ـ لا…، قطعا ً، بل قلت لفخامة الديناصور: ما دام التنين هو القدر الذي لا يمكن للذاكرة أن تتخلى عنه، فليتم استحداث القدر البديل…، قلب الذاكرة وتركها تدشن قدرها!
ـ جدي…؟
ـ نعم…
ـ فعلت ذلك…؟
ـ في تلك اللحظات التي تحول فيها الديناصور إلى قدر، لم يعد لوجودي ما يبرره…، فالبطولة التي حسبتها ستدوم، اختفت، والتسوية التي حسبتها عادلة، توارت، ومن غير تعويض!
ـ لم افهم…
ـ أنا لم أصبح مرشدا ً، ولا واعظا ً، ولا وضيعا ً…، فأنت تعرف إن سلوكا ً كهذا لا يخفي خاتمته…، لهذا قفزت…، خارج اللعبة، كي ادخل في مسار لا تعنيني نهايته إن جاءت مبكرة، أو امتدت ابعد من زمنها …
ـ لكنك لم تصبح نجما ً…؟
هز البوم رأسه، وجرجر حفيده إلى العش:
ـ الجميع ـ هنا ـ حكموا علينا بأننا نحن من صنع الظلمات، على خلاف أسلافك ـ في الحدائق الأخرى ـ جعلوا منا علامة للحكمة، والعقل، والشفاء!
وأضاف بعد لحظة صمت:
ـ دعك من هذا …، لأن الأمور كلها جرت على خلاف قدرها، ذلك لأن القدر الجديد أصبح غاية! وهو السماح بتحويل التراب إلى ذهب، والخراب إلى فردوس، والقتل إلى خلاص!
ـ لكنك لم تحصل إلا على الغبار، والكثير من اللامبالاة…؟
ـ كنت أريد رؤية المشهد كاملا ً…
ـ ورأيته …، أم مازلت تراقبه عن بعد…؟
ـ لأن الأغبياء ـ قل الأقل مكرا ً ـ يصدقون بان المسرة ستأتي، حتى لو كان لها وجود غائب!
ضحك الحفيد:
ـ مع إن اسمك اقترن بأسماء الديناصور…، إلا انم مازلت تواظب على محو وجوده…؟
همس:
ـ اقترب…، فانا لا أريد أن اسمع صوتي أبدا ً، فانا لا امثل إلا دور البوم…، المجاور لكهوف الخفافيش، فانا لا أعيش في المجاري، ولا أتغذى على الجيف…، ولكنني لا أريد أن اصدق أن هذا الذي وقع، وقع حقا ً، رغم انه وقع، وصار من الماضي، بانتظار أن يصبح مستقبلا ً!
ـ أكاد اجن!
ـ هذا يعني انك لم تستأصل جرثومة التنين…، التي مازالت تعمل في رأسك…؟
ـ أي تنين…؟
ـ هذا الذي إن لم تقدم له النذور، والعطايا، والهبات…، ولقم فمه بالضحايا …، فانه لن يدعك تذهب إلى النوم إلا وأنت تتحسس رأسك هل غاب أم لا…؟
ـ قبل قليل قلت لي: تخّل عنه..؟
ـ والآن أقول لك: كي لا تدع القدر يسحقك، سر معه، كي تتركه يتهاوى عندما يبلغ ذروته. فأنت، يا صغيري، ولدت للحكمة!
ـ ها أنت تتقمص دور الحكماء…؟
ـ لا…، أنا آخر من يفعل ذلك…، ولكني للأسف انشغلت بسرد الأحداث التي وخزت ضمائرنا، بعد أن سحقتها، ذلك لأنك أنت من طلب مني أن ادع صمتي ينطق! فأخبرتك بما اعرف… مع إنني آخر من يصدق أن هناك معرفة كنا حصلنا عليها!
ضحك الحفيد:
ـ لكنك تحايلت، وموهت، وراوغت، وقلت شيئا ً آخر!
فزع الجد:
ـ هل تنوي فضحي، والوشاية بما قلت…؟
متابعا ً أضاف بغضب:
ـ أم تنوي القضاء علي ّ…؟
ـ لا… لا انوي الوشاية بك، ولا انوي القضاء عليك…، فانا هو مستقبلك…!
ابتسم الجد:
ـ إذا لن تدعني انشغل بتذوق المرارات…؟
ـ أنا لم اقصد إيذاؤك …، بل كنت اطلب العون منك.
ـ لكنك لن تقدر على إيذائي!
ـ جميل!
ـ لماذا ….، آه…، إذا ً علي ّ أن أعيد سرد الحكاية بإيجاز شديد: بعد أن استولى امكر الماكرين على الحديقة، بكامل مرافقها، وهيمن عليها..، وصار الجميع يعملون بإمرته…،حتى أدرك أن قواه بلغت ذروتها، وانه لا يمتلك إلا أن يدفع ثمن ذلك، حتى راح يرى وجوده يتشذب، يتقلص، فصار يستنجد بماضيه، فلم يجد إلا التنين عونا ً له، فاخترعه، حتى وجد انه أصبح أول ضحاياه!
ـ كأنك تتحدث عن مديرنا…؟
ـ لا، أنا لا أتحدث عن زعيمنا، ولا عن مديرنا، ولا عن قائدنا….، بل أنا أتحدث عن نفسي! فلقد كنت أظن ان الاشتغال بالحكمة يفضي إلى السلام، والمودة، والمسرات…، لكنني اكتشفت، كما ترى…، العكس، فماذا افعل، غير الاحتماء بهذا العش، داخل هذا القفص…؟
اقترب الحفيد من جده، وهمس بصوت ناعم:
ـ قل وصيتك واختف، فلن أربك عزلتك بعد هذا اليوم.
ـ لن أصدّع رأسك، بأي كلام، لأن الماضي لم يترك شيئا ً إلا وأخذه معه، وما سيأتي، فهو لكم، ليستكمل هذا المسار العنيد، بعدي، وبعدك.
ـ ها أنت أكملت وصيتك، كأنك ولدت بعد موتك! حتى كأنني أنا الذي رحل قبل ولادته!
ـ تنينا ً، أم ديناصورا ً، أم ضحية لا اسم لها بعد…؟
ـ ليس لدي ّ قدرة اختيار احدهم، ولكنني أبدو غير قادر إلا على اختيار هذا الذي اجهله.
ـ آ ….، أنا كنت أتصوّر إنني ولدت كي اخلص حديقتنا من الديناصور وان لا ننشغل بتقديم الضحايا، للتنين، فظهر لي إن الأخير هو الذي اخترع الديناصور، وانه هو وحده أدرك إن عرشه لن يدوم بالحكمة! فراح يعبد دربه بالضحايا، ويستنجد بتقديم النذور وبالقرابين، وعندما لم أجد أحدا ً معي، تساءلت: مع من أكون…، بعد أن وضعوني في هذا العش، داخل هذا القفص، محاطا ً بالحديد، ومحصنا ً بالأسوار….، فلم أجد ما يشغلني لولا انك استنطقت صمتي، حتى أكاد اصدق انك ـ منذ الآن ـ لا تفكر إلا بما ستوصي به، ذات يوم، حفيدك، بما وقع علينا، من غبار، وأنت ترى إن الماضي لم يغادرنا، بعد أن بارك مستقبله بنا، وبك، لاستكمال كل ما لم يره البصر، ولكل ما سيذهب ابعد من هذه المصائر.
24/6/2015
كآبة بيضاء
الى عدنان المبارك
– من دون مجازفة يكون الأيمان أمرا مستحيلا. سورين كييركيغور
لم يكن نبأ رحيل صديقه قد احدث صدمة بوصفه غير قابل للتصديق، أو لأنه كان لا يريد أن يصدقه، فكر مع نفسه، بشرود، أو لأن رحيله خسارة طالما قال إنها كانت تماثل استبعاد الأمل بالعثور على عقار لمرض لا يمكن الشفاء منه، أو لأن رحيله يوازي استحالة تسكين تلك الآلام العصية، بل لأن علاقته بصديقه كانت بمثابة عبور بالمحنة إلى أقصاها. فكر بذهن تائهة، انه لم يفقد شريكا ً لا يمكن تعويضه، في حياة بدت تبرهن إنها كانت عصية على الفهم، وربما خالية من المعنى، عقيمة، وغير قابلة للتسوية، بل لأنه أحس بصعوبة إغراء نفسه بالعثور على معادل لا يجعل حياته تبدو مثل ورقة شجرة تتدلى بانتظار مصيرها…، فالقضية لا علاقة لها بالخسارة، أو بالخيبة، لأنها، منذ أن غادر القفص، والحديقة، قبل عقود، وجد اختياراته تدحض أي أمل بالعثور على حلول مناسبة، تعيد السكينة التي وجدها قد غادرته ، فقد تذكر آخر لقاء له قبل أن يطلق جناحيه للريح، إن صديقه أكد له انه سيحمل معه رائحة العش، والأشجار، والأهل، والتراب…، حتى لو صار نائيا ً وفي أقاصي الأرض، فالحكاية غير قابلة للشرح، ليس لأنها غير قابلة للتفتيت، بل لأنها تتكّون عبر اندثارها، وزوالها أيضا ً، وقد تأكد له أن رسائلهما، عبر الأثير، والباثات المختلفة، داخل الزمن وخارجه، كانت معادلا ً يصعب تفنيده، أو تعويضه بأي بديل مماثل، آخر. صحيح لم تعد ثمة ـ وفق الوقائع ـ صداقات، ولا ما يماثلها، شبيهة بزمنها، ولكن كل منهما كان يدرك أن هناك لغزا ً يصعب الاستغناء عنه: لغز مودة يصعب وضع شواخص لها، أو تركها تعمل من غير بصيرة تذهب ابعد ملغزاتها.
وود لو ابتعد عن بيته الخشبي، تحت أغصان الأشجار، داخل القفص الحديدي الكبير، والقيام بجولة له ليس للتحقق من النبأ، أو نفيه، وليس للتخفيف من الصدمة، أو استبدالها أو التحايل عليها، بل للانشغال بجعل رؤيته اقل عتمة، والحفاظ على مرونة ما تساعده بفهم ما كان عليه أن يقوم به..، لكن قواه لم تساعده على تنفيذ رغبته، رغم ضآلتها، فترك نظره يذهب إلى أقصاه.
اقتربت منه نملة وسألته:
ـ أيها الصقر…، أراك شارد الذهن…
لم يجد لديه ما يبوح به، فالأمر لا يعنيها، ولا يعني أحدا ً آخر سواه. ولكنه وجد أن الكلمات تختلط داخل حنجرته، وتتداخل أصواتها بمعانيها، لتعلن له انه قد يفقد قدرته على التنفس، والتفكير، وربما الحركة أيضا ً، وإلا لماذا عاملها بلا مبالاة، وقد تدخلت من اجله، وليس من اجل نفسها، فلوي عنقه، وحدق في عينيها الواسعتين:
ـ لا يمكن الاعتذار لك، سيدتي، فالكلمات ليست سوى بقع معتمة وأنا لا أكاد أرى شيئا ً..
مضيفا ً:
ـ من شدة التوهج!
هزت رأسها:
ـ قلنا هذا منذ زمن بعيد…!
منذ زمن بعيد…، كأنه اكتشف امرأ ً غدا نسيا ً منسيا، وليس له وجود، انبثق من غير قصد، مثل مصادفة كان عليها أن تحدث، لوجود ما لا يحصى من المصادفات، بقانونها، أو من غير هذا القانون، فقد تذكر ما كان يردده صديقه، بان ما لا يمكن إغفاله، ولا يمكن محوه، لا يكمن في تدوينه، وصياغته كمواعظ، وإرشادات، وأوامر، بل الذي يمد المحو بما يجعل ديناميته غير قابلة للدحض. قال له إن الألفية الثالثة، يفترض إنها لم تعد أسيرة نشأتها، ومقيدة بقيود ماضيها السحيق، عند سواحل العفن، في المستنقعات، ولكنه سمع أصداء صوت صديقه يتخلل ممرات الهواء، والضوء، تتموج، وتتابع، مكملة بعضها البعض الآخر، بسلاسة، بان ما يخسره الكائن، وما سيخسره ـ من الفيروس إلى أرقى الثعالب والدلافين والطيور ـ هو جزء من ترتيب يذهب ابعد من حصره بحقبة أو سِفر أو كتاب، فقال يخاطب صديقه، قبل الإفاقة من الشرود:
ـ فهناك ـ إذا ً ـ ما قبل الزمن….، وما بعده!
رفعت النملة صوتها:
ـ ها أنت تحجب عن نفسك ما تود إعلانه…، ولا تبوح إلا بالفائض من اجل …
ـ آسف…، الآن بدأت أدرك إنني ابحث عن عقار…، علاج ما … لشرودي.
فضحكت:
ـ لن تجد ضالتك، فمرضك سابق في وجوده وجودك أيها الصقر…، وهذا لا يتقاطع مع القول باستحداث المرض…، فالفاعل السابق على فعله يؤكد انه في فعله الفاعل وليس الفعل! وهذا يعني إن ما حصلت عليه من دواء ليس له علاقة بمرضك، لا من بعيد ولا من قريب! فالنتائج قد لا ترجع إلى مسبباتها، بل قد تكون خالصة، تماما كوجودك من غير أسباب بعد أن أصبحت تامة، ولا حاجة لها إلى البراهين، والأدلة!
شرد ذهنه، أكثر فأكثر، مما اضطره لاستنشاق الهواء، فشم رائحة جذور رطبة ميزها عن رائحة التراب، ورائحة الرماد، والغبار.
ولا يعرف لماذا تذكر جده الذي ولد في البرية، بعد أن حصل على الإقامة، في القفص ذاته الذي لم تجر عليه تحسينات تذكر، انه قبل أن يصاب بالعمى التام، إن ما يؤيد صواب استبدال العداوة بالتعايش المرح، المشترك، بين الفصائل، والأنواع، يدحض مفهوم ديمومة النكبات، والعيش فوق بركان، وقال انه لو لم يحصل على يقين يؤيد صواب رؤيته بتالف الحياة ما بين أشرس المخلوقات مع ارقها، واخسها مع أكثرها نبلا ً، وأمكرها مع تلك التي ولدت كي تحافظ على نوعها من اجل المودة والحد من الاقتتال إلا لأسباب قاهرة. فتذكر صديقه يعيد عليه سرد حكاية أقدم مصالحة جرت في تاريخ الحديقة، قبل أن تسّور وتقام لها حيطان وجدران عالية محمية بالأسلاك والحرس والكاميرات، من خطر الضواري غير القابلة للتنازل عن شراستها، وشعورها بالمجد، والعظمة، إنها لم تحصل إلا بوجود من سبر أغوار القدر، ومخفياته الدفينة، والعمل وفق مبدأ: عش لغيرك كأن الآخر لا يعيش إلا من أجلك! ولكنه قال إن الحشرات والديدان والقوارض وكل دابة تدّب لم تخلق إلا بخليط من العناصر ذاتها التي فقدت توازنها، بعد أن تحولت العداوات إلى عرف، ومسلمات أسبابها كامنة فيها، وراحت تعمل عمل النار؛ لا تترك إلا رمادا ً يشترك بتجديد الدورة، فلا احد استطاع محو جاره القريب، ولا احد استطاع اجتثاث جاره البعيد، وإيذاءه دون أن يدفع الثمن…
ودار بخلده: لهذا ـ قلت لي ـ فكر بصوت مسموع: تبحث عن درب، ـ مثل سفينة تتعرض للأعاصير، إن لم يعمل الجميع على سلامتها، ـ إن لم نعمل معا ً على سلامته، فالعثرات لن تدع أحدا ً يتقدم خطوة إلا صوب المجهول.
فسألته النملة:
ـ وماذا قلت له…؟
ـ بعد أن حلق عاليا ً حتى كاد يتوارى في …..، الأفق، قلت لنفسي: خلف من احلق، ومن ذا سيكون دليلي في هذا الليل …. فقال لي: لا تغفل أن تتذكر إن النار الكامنة في الأشجار، الماء، الصخور تأبى إلا أن تكسر قيودها، فإما أن تحلق معي…، نحو حديقة لا يتحول فيها الفيل إلى قملة، والأسد إلى جرذ، والنسر إلى برغوث…، وأما …
ـ ماذا قال..، تكلم، لا تغلق منقارك هذا المثلوم؟
ـ قال: أن اغطس!
فدار بخلده، وهو يستمع إلى أصوات وضوضاء ولغط كان لا يدعه يصدق انه أصبح وحيدا ً، لأنه راح يرى موجات سكانية، تتبعها أخرى، وفي فترات مختلفة، تفر هاربة شاردة بدل أن تلقى المصير ذاته الذي اعد لها، ولنا، ولكم….
ورفع صوته قليلا ً:
ـ تركونا…، الواحد بعد الآخر، بحثا ً عن حديقة ليس مهمتها ذبح أبنائها، وأدمة اقتتال الجميع ضد الجميع، وتأجيج فن النذالات، الخساسات، وما فوق الدعارة، والكراهية، والبغضاء والحفاظ على لغز بذرة الموت دائمة الاخضرار، وهي لا تتعرض للخمول، ولا تهن في عملها أبدا ً. كانوا يغيبون، يختفون، جماعات جماعات، وافرا ً، ومجموعات مجوعات، سيدتي، أما من تبقى فكان يلقى المصير الذي لم نعد نعترض عليه: النزول إلى المكان الذي لا رجعة منه…، أو انتظار ما بعد الرحمة: المحو بما يمتلك من تنويعات، وتمويهات، ولذائد فائقة المذاق!
قالت النملة بأسى عميق:
ـ لا أحزان تدوم…
فقال لها:
ـ ولا مسرات دائمة. لكن صديقي الذي كنت أتتبع خطاه في الريح …، بعد دهر، أنبأني بأنه مهما ابتعد، وحلق عاليا ً، وعانق تخوم المسرات المستحيلة، فانه مازال يستنشق رائحة العش الذي ولد فيه…
فقالت النملة بصوت مستفز:
ـ لأنك لم تغادر معه…، أم لأنك اخترت مغطسك معنا..؟
ـ خجلت من الكلام، بالأحرى: لا اعرف ماذا حدث لي….، لكن عدم المعرفة كان قد بلغ ذروة هذا الخجل. فانا طائر كسر جناحي قبل الخروج من ….
ـ أكنت جبانا ً…؟!
ـ ربما كنت متهورا ً، طائشا ً، مخبولا ً، مغامرا ً…، إلا إنني لم أكن احمل جرثومة هذه الرذيلة: الجبن!
ـ وهل كان….؟
صرخ الصقر:
ـ لا …، كان خلي يحمل نارا ً أبى أن يراها تنطفئ وتصير رمادا ً في حديقتنا السوداء!
ـ وأنت…؟
ـ أنا تركت النار تخمد…، بهدوء، بهدوء…، بل بلذّة هادئة، هادئة جدا ً، وبلا مبالاة….، فبعد أن رأيتها تتوهج وجدت روحي تدفن في القاع، وجدتها تغيب…
ـ لماذا …؟
ـ ذات مرة قال لي صديقي في واحدة من رسائله: أنت ملح الأرض…، فقلت له: لم تعد الحرية تغويني برؤية من يغطس، وأنا أنجو بمفردي من مخالب الضواري وأنيابها، فأما ننجو جميعا ً أو لتأخذنا جهنم.
ـ لا تموه علي ّ…؟
ـ وهل ابقوا لي قدرة على التمويه…، أو سلامة العقل، أو حسن المنطق، بعد أن خمدت النيران في ّ وصرت رمادا ً لها.
ـ مازلت ـ أيها الحكيم ـ لم تفقد توهجك القديم…
اقترب منها قليلا ً:
ـ لا …، أنا لم اخلط بين الثقيل والخفيف…، ولا بين البعيد والأبعد، ولا بين القريب والأقرب…، فبعد أن درست خصائص العناصر الظاهرة والكامنة أدركت إن لكل منها، ولكل منا، في هذه الحديقة، تفوق عنصر على آخر يفضي إلى خسران الكثير من ديمومتها…، وصديقي الذي ذهب إلى البعيد، مع ما لا يحصى من السكان، الطيبين، المتوهجين ذكاء ً…، أنا ذهبت ابعد منه، وابعد منهم جميعا ً!
ـ ابعد منهم…، ومنه…؟
ـ في هذا القفص….، داخل هذا العش، مكثت أتتبع خطا صديقي في الأفق، فوجدت إنني انتزع الأوهام، الواحد بعد الآخر، حتى لم تعد هناك سلطة للوهم علي ّ…، فأصبح أكثر من طليق! حتى كأن العبودية لا وجود لها، ولا حتى للشر حضور!
ـ غريب…
ـ ما الغريب ..؟
ـ انك الآن لا تقو حتى على الطيران، وتتبجح بالمجد كأنك ذهبت ابعد من النصر؟!
ـ الم ْ أخبرك إنني ذهبت ابعد منه، وابعد منهم..!
ـ صديقك لاذ بالريح…، والأفق، من غير أوهام وتمويهات وخداع…؟
ـ وأنا لم اترك مساحة نائية لم أزرها وأحط عند تخومها البعيدة…
ـ وما الذي كنت تبحث عنه…؟
ـ لا شيء! اللا شيء تماما ً! لأن الذي كان يشغل الجميع صعقني حتى لم تعد لدي ّ أسئلة أو حتى تصوّر….، فالجميع ـ وانتم، يا معشر النمل، في المقدمة ـ لا هم لهم إلا بلوغ تلك الذروة…، التي لا عمل فيها، والتي هي ضد العمل، من اجل الحصول على ركن…، ضفة، زاوية، مزدحمة بالثمار، والجداول، والغزلان، والبلابل، والحرائر، والـ …
ـ عدت تموه علي ّ…، وأنت تكاد تسقط أرضا ً…من شدة الارتباك، والذهول.
ـ وهل اقدر أن أقول شيئا ً آخر، بعد أن أخبرتك، يا سيدتي، إن صديقي هرب لينجو من النزول إلى الأعالي! وليس من الظلمات!
ـ أوه…، أيها الكافر، رحت تجدف.
ـ ها… لو كان ما تقولين يحمل ذرة صدق، فهذا هو ذروة إيماني! فانا هو الصادق بعد أن لم يعد لدي ما اشك به، وما يثير مخاوفي!
ـ ذروة الإيمان بماذا …، حدد… أرجوك…؟
ـ إن أحدا ً لا يقدر على الصلح، أو المصالحة، أو التعايش، مادامت النهاية تدّب كدبيب هذه الأنعام ترتكب أشنع المعاصي، والفواحش، والموبقات، ثم لا تكف تتضرع بالحصول على الغفران، والنجاة، كي تولد أكثر استعدادا ً لديمومة ما هو أكثر قسوة من الموت، وأكثر شناعة من الرحمة!
ـ آ …..، تكاد تخرجني عن ملتي، ملة النمل…، لأنني بدأت أراك تتعذب وتشقى من غير سبب…، باستثناء حملك للأوزار والآثام والخطايا بطيب خاطر!
للمرة الأولى منع ضحكة كادت تفسد عليه شروده:
ـ لو كنت شعرت بثقل هذه الأوزار، أو عذابها، لقلت: هل من مزيد؟
ـ اووووه…
ـ لا تكترثي.. فالخروج عن الدرب…، يعززه!
هزت النملة رأسها مذعورة:
ـ بمحوي…؟
ـ كما حصل لي…، سيدتي، عندما كان علي ّ اما ان لا اخرج عن مساره، او اغيب فيه.
ـ عدنا الى قيود الحتميات.
ـ بل … الى لا حافاتها…!
ـ حقا ً ان الصدمة لم تترك لك الا ان….، تجد عونا ً…
فرد بهدوء:
ـ لو لم يكن الموت هو أعلى درجات الحرية، لكان وجودها اشد إيلاما ً وأذى من قيودها…! بل لكان وجود الحرية ذاته قيدا ً…!
ـ هذا هو شرع النمل، سيدي!
ـ لا اختلاف عن شرع البرغوث أو القمل أو البشر…، فكل من تسول له وساوسه الخروج لن يلقى إلا المصير الذي سيمضي حياته كلها لدحضه….، فالمعضلة هكذا تغدو وهمية، ومن صنع التصوّرات..
ـ افتراضية…؟
ـ حتى هذا الافتراض…، سيدتي، تارة يوهمنا بالمسافة بين الأضداد، وتارة يوهمنا بوحدتها.
هز رأسه، بشرود تام، وهو يلمح ذبذبات تتراقص في الهواء، فقال يخاطب النملة:
ـ كنا نفكر بالعقار ولم نكن نفكر بالمرض…
ذلك لأنه شرح لها عبر صمته وشروده أن صديقه غادر لأن الهواء تحول إلى ذرات لا لون لها، حادة، جارحة، وان الحديقة التي كان عليها أن تساعده تحولت إلى إدارة لا عمل لها إلا القضاء على العمل… وسحق كل من يخرج عن الدرب، سحقا ً ناعما ً، وفي الغالب، مروعا ً حد انه وصف بما يحدث للميت من عذابات في أول أيام دفنه في القبر! غريب …، رد عليها وترك نظراته تعالج نقص الهواء، وتقلص جسده، وتعرضه إلى هزات، فقالت بصوت مرتبك:
ـ انك ترتجف، ولا تقوى على الوقوف….
وجد صعوبة بالرد، فكرر بصوت مخنوق:
ـ الهواء، الهواء، الهواء….
هبت نسمات امتزجت فيها أصداء أصوات خفيضة، فاخبرها انه لم يكن يأمل بلحظات يجهل كيف ستكمل تتابعها، إن كانت مقيدة بأقصى ما تتمتع به من حريات، أو طليقة بقيود حتميتها…
ـ آ … فهمت.
عندما تجدد الاتصال بينهما، بعد عقود، لم يجد صعوبة بالعثور على ممر يذهب بهما ابعد من الإشارات، والكلمات، فعبر الأثير ـ تابع يصغي لصوت صديقه ـ تستطيع رؤية المشهد كاملا ً، كأنه لن يتوانى عن استدعائنا للقيام بما لم ننجزه…، ولم يكن الأمر يتعلق بالصفقات، أو بالمكاسب، قال لنفسه، بل لأنه عندما غادر، خاطبه: ها أنت أصبحت طليقا ً كما كنت عليه قبل تكونك الأول..! ولكنه أحس بان خواطره تضمر خيبة لا يريد إعلانها، والاعتراف بها، لجارته النملة، وهي مازالت ذاهلة منشغلة بأمره.
ـ لا!
قال للنملة التي اقتربت قليلا ً منه:
ـ آخر كلمة قلتها لصديقي، أينما ذهبت، فسيتتبع شبح الحديقة خطاك، أو تدرك انك تمشي بعناد خلفه!
صاحت النملة:
ـ الآن فهمت لماذا أنت كدر..، وحزين…، فأنت صدمت بخبر رحيل صديقك الأعز، الذي كنت تأمل أن يشيعك، ويرتب مراسم دفنك، حتى لو كانت افتراضية، وعن بعد! بدل أن ترمى فوق القمامة، لتفترسك كلاب الليل! أو تتحول إلى غبار، أو إلى أثير!
ـ ليس هذا بالضبط…، فانا ميت مثلما أنت ِ ميتة، مع إننا لم نولد بعد…، فهو بالتحديد لم يمت بعد، لأنه كاد يمسك بلغز ولادته المشفر! فهو ذهب ابعد من موته، مثلما انه مازال يتجمع تحضيرا ً لمولده!
ـ آ ….، مازلت تعمل على نفي نبأ رحيله…، لأنك لا تريد أن تؤكد رحيلك أنت، أم لان الحقائق أصبحت كالأوهام كلاهما لا تعرف من يفند الآخر، أو يمحوه.
ـ أيتها الحكيمة…، أنا لا أتحدث عن الصداقة التي مسها الغياب، وهددها بالمحو…، بل عن هذا الذي يولد توا ً…، عبر زواله، وتلاشيه! فأين هي الحكمة التي لا تترك إلا أثرا ً يزيل غيابها، قبل أن يكنس حضورها! أنا أتحدث عن فخ إن نجوت منه آذاك، وإن وقعت فيه آذاك، فلا تدرك أخيرا ً أكان قد نصب لك، أم كان عليك أن تقع فيه..، وسابقا ً قال احد صقورنا: هل توجد نذالة أو معصية كنذالة ومعصية من يشهد أمام الإله لمصلحة الإله بأمر الإله…..؟
ـ آ…، كأنك غادرت قفصك، كأنك فلت من الزمن، ومن الداء، ومن المعاقبة…؟
صدم. أنا قلت له ـ راح يخاطب نفسه بصوت جهوري ـ لن تعزل قدرك عن عثراته، ولن تقدر أن تعزل العثرات عن قدرها. الكل لا يتجزأ رغم إننا نمضي زمن زوالنا لا نعرف من الجاني ومن المجني عليه، ومن أصاب ومن أصيب!
ـ كأنك تخفي علي ّ ما يجول بذهنك…؟
تململ، وحرك رأسه يسارا ً ويمينا ً، مصغيا ً لنبضات قلبه تدق موزعة وخزات ناعمة داخل جسده، ليرتفع قليلا ً في الهواء:
ـ أنا احلق…، فانا لم اغب بعد!
ابتسمت النملة:
ـ لكنك قلت لي: إن ما كان يشغلكما ليس الموت، ولا الدنيا…؟
عاد ووقف بجوارها:
ـ صحيح…، العاجز وحده من يشغله الموت، والأكثر عجزا ً من يدع الدنيا تمشي فوقه! لكن اخبريني أيتها الحكيمة هل هناك قضية لا علاقة لها بالخروج من العدم، وبالعدم الممتد….، من ثم المضي في استكمال ما لم يستكمل بعد…؟
قالت النملة بثقة:
ـ اجل، هو الذي لا تقدر الكلمات على إعلانه…، مع إنها لا تقدر على تجاهله، وإغفاله.
ـ الصمت..؟
ـ الصمت كلام شبيه بالثقوب السود، لأنني كنت أتحدث عن الذي لا نمتلك إلا أن نقع فيه، أو نختاره.
وقال لها متابعا يرد على ما قاله:
ـ فانا لم اختر هذا القفص…، ولم اختر إلا أن …
صمت وقال بصوت متدفق:
ـ فلقد أدركت إن صديقي، في المرة الأولى، لم يغب….، فقد أعاد لي هذا الذي لا علاقة له بما يجري في حديقتنا…، وها أنا اعترف لك انه سمح لي، في المرة الثانية، أن استيقظ من الغياب… فانا كنت طليقا ً داخل قفصي، ثم فجأة وجدت إنني في مواجهة ما يسمى بما وراء الزمن…! فانا أصبحت خارج الرحلة! تائه تماما هل تراها لم تبدأ بعد، أم ليس لها بداية أصلا ً…؟
ـ آ …، ها أنت تفكر…، لأنك بعد قليل ستصبح هدفا ً…!
ـ أنا لا أفكر إذا فانا موجود! وغريب أمر من قال أن وجوده رهن الفكر!..، لأن عدم التفكير هو نفي للموت…، فالذي يفكر يدرك تماما ً انه لن يغادر قفصه… ليس لأن القفص سابق على وجودنا، بل لأن وجودنا من غير قفص يبرهن بضرورة اختراعه!
ـ تعرف …، أيها الصقر…، أنا محض نملة! وأنت محض طير! لهذا اطلب منك أن تكتم هذا الذي يكاد يفضحك، ويصير مصيرك كمصير أسلافك، لم يمسكوا بالصحراء، ولا الصحراء أمسكت بهم!
ـ كأنك تشاهدين ما يدور في رأسي..؟
ـ بل أنا قرأت الذي دار برأسك، وأكاد اعرف ما الذي لم يدر برأسك بعد!
ـ جاسوسة! أيتها الشقية، ألا تعرفين انك هو أنا، وأنا هو أنت! فانا وأنت وحدنا القفص، وسيغيبنا أيضا ً…! فعلى م َ نفسد حياتنا ونذهب أعمق من مغطسها…؟
فقالت بهدوء:
ـ لا تضطرب…، فما كان بينكما لم يكن عقدا ً…، ولا عبورا ً…، ولا بحثا ً عن فردوس….، كلاكما كان قد دمج السابق باللاحق ، واللاحق بالسابق، لأن كلاكما لم يكن مع الليل، ولم يكن مع النهار…، كلاكما رأى الجحيم في الفردوس، والفردوس في الجحيم، فالعالم حديقة لا حافات لها، رغم إنها مكونة من أقفاص، وأجنحة، وزرائب، ومستنقعات!
ضحك الصقر، وهو يخاطب صديقه:
ـ أنت كنت تبحث عن أيام مضافة تصغي فيها للذي يمد بعمر ديمومتك….، وأنا كنت اعمل على تقليصها. أنت كنت تحب أن تتعلم، وأنا كنت أشذب ما تعلمته، أنت تتسع، وأنا أتقلص، أنت تواجه موتك، وأنا امشي خلفه أدله علي ّ! أنت كنت تحفر بالكلمات فوق الريح، وأنا أرفرف لعلي أنجو منها، أنت كنت تعمل على سبر جذور المحنة فتدرك إنها ذهبت ابعد من مداها، وأنا كنت أراها تركتني تلهو بي مثل ورقى تتدلى بانتظار مصيرها….
ـ أين..؟
سمعها تخاطبه وهو يحّوم مبتعدا ً عنها:
ـ لا اعرف!
ارتفع في الهواء، وود لو ارتفع من غير توقف، لولا وجود السقف الذي يغطي الحديقة بأكملها، فضلا ً عن أسوار أعلى منه، يصعب رؤيتها بالعين المجردة…، إلا أن ذلك لم يمنعه من العثور على فتحة ضيقة للمغادرة، بعيدا ً عن قضبان القفص، والابتعاد عن جناح الطيور الكاسرة، والمتوحشة، وطيور الحب، والأخرى التي لم تروض بعد، فضلا ً عن البرمائيات الطائرة، والزاحفة ذات الأجنحة الرمزية…، وهو يتمتم: والأخرى الخاملة، الشبيهة بالعاطلين عن العمل، مهمتها المراقبة، والرصد، وإصدار التنبيهات، والتحذيرات، وبث موجات صوتية مهمتها إثارة الريبة، الحذر، والخشوع. لأنه طالما خاطب صديقه بأنه يعيش في نهاية عصر بالكاد يمتلك علامة تميزه، ودالة عليه. ود لو تحول إلى غيمة، أو إلى إشعاع، أو تحول إلى فراغ. إنما ذلك، دار بباله، لا يليق بعجوز هرم عاطل عن العمل، مثل 99% من سكان الحديقة! فالطيران تضمن عدم الرضا العنيد، قال لصديقه، ذات مرة، انه كف عن البحث ـ البحث عن إجابات لمحض المساومة مع الزمن، أو مداراة من يمثله ـ فالجسد لم يعد إلا ماكنة معطوبة. ماذا قلت؟ تلك هي كلمة صديقه، الأكبر سنا ً منه بعقد، بعد أن ساعده أطباء الحدائق البعيدة للبقاء أطول فترة في مواجهة الغياب. لم يقاوم طرفة خطرت بباله: كلانا يعرف انه آخر من سيتخلى عن أسلحته….، إنما كلانا، قال لنفسه، خارج الخدمة: أصبحنا من الأسلاف..!
لكنه لم يجد مناسبة تسمح له باستعادة الأنفاس، كلذّة الارتفاع قليلا ً في الهواء. ثمة لجوء ما إلى جهة تغمره بالاطمئنان، لكن لم يولها تمام الثقة: الهواء….، والدوران، دورة كاملة، من ثم الانخفاض، والارتفاع مجددا ً، حتى عاد وقال لنفسه انه الآن فك لغز جده عندما لم يبح له بكلمة حول الخلاص…، لقد أدرك أن جده ترك جرثومة لم يتم القضاء عليها حتى عندما أعلنت إدارة الحديقة على لسان مستشارتها السيدة الببغاء عن تجفيف منابعها واستئصالها من الجذر. جرثومة اللجوء إلى قوة ما …، تزيح كابوس مشاعر الريبة، والخوف، والإحساس بانعدام الآمان…، فقد قال له صديقه انه لم يصب بها، جرثومة الاستغناء عن حساب الممكنات، والاحتمالات لفهم معنى كل منهما على انفراد. فليست المهمة هي الحصول على مصادر للسعادة، والممتلكات، والحياة ببذخ، بل المعضلة تعني: إلى متى تمضي تمشي مترنحا ً في عالم وجد مصيره فيه مهددا ً على مدار الساعة..؟
ولم يتخيل انه ـ من غير حذر ـ سيعيد تفكيك قراءة المروية التي دفنها عميقا ً حتى انه لم يسمح لنفسه بمعرفة موقعها داخل تريليونات الخلايا ذات القدرات العالية على الخزن والتمويه…، صديقه لمّح بالمفتاح بعد أن بات من المستحيل العثور على القفل، فمن ذا سيدله على الثقب…؟ جده لم يبح له لا بالأمل ولا بالخلاص ولا بالمصير…، كل ما باح به له: احرص أن لا تقع فريسة سوء الاختيار….، لكن ما معنى أن يدير قفاه لحياة أدرك إنها لو كانت فائضة فمن ذا باستطاعته أن يبرر له سحقها، ومحوها…؟ قال صديقه له إن المفتاح ليس الخطوة البيضاء في الدرب…، فالدرب ذاته لا تكونه إلا ما لا يحصى من مفاتيحه المندثرة، وهي ـ أعاد التفكير ـ تتناسل وفق عدد الخلايا، هندسيا ً وليس رياضيا ً، إزاء القفل، الذي أغلق أي مفهوم للعدد، والحساب! ذلك لأنه تذكر إن الحروب لا تحدث إلا وفق التناسب بين الحساب والهندسة، وما الضحايا، إلا الغبار الذي يسم الدرب بعلاماته، وليس لان آليات التصادم حاصلة بسبب تصادمات التراكم، بين من يمتلك الأدوات، وبين من جرد عنها، لمحو العلامات كافة في خاتمة المطاف، مما يجعل سياق عمل الجرثومة، ديناميا ً، حتى بجودها الافتراضي، أو بواقعيتها المرة.
كاد يتكوم بسبب خدر حصل في مفاصل جناحيه، وتسلل إلى نهايات ساقيه، بل حتى كاد يلامس أظافره التي تنبه لوجدها للحظة، لكن الخدر لم يقترب من خلاياه العليا، داخل جمجمته، وكأنها محصنة، أو تتمتع بمناعة لا تقهر، وإنها تعرف آليا ً كيف تؤدي واجبها في التنفيذ. فجده ـ خاطب نفسه ـ لم يرضخ للبطش، والتهديدات المتكررة، ولم يرض بحياة باذخة لوّحت له، حتى كان يرها أكثر قربا ً من أية نهاية سوداء محتملة أخرى…، بل فضل الكف عن مواصلة الدفاع. صديقه لفت نظره إلى حوار قديم جرى بينهما، دار حول لغز الشيطان الذي أخفاه ـ كما قال ـ عن الرب نفسه، وإلا فان مشروعه لن يكتب له النجاح، حتى لو كان على مدى حقبة ممارسته مع ضعيفي الإيمان، كأمراء الحروب، اللصوص، وكبار الأثرياء، ورؤساء الشركات العملاقة، والنسوة ذات الرهافة، والبنات المولعات بالتحول إلى أمهات، ومدراء الأجنحة، وأساتذة الشر، وعظماء فاقدي الشفقة…الخ، فكر الصقر إن صديقه ـ هو الآخر ـ قبل أن يشد العزم على الرحيل، والمغادرة، أكد له ما جعله يغطس عميقا ً في المحنة، ابعد مما توقع، قائلا ً إن الشيطان لا يوهم، ولا يغوي، ولا يخدع….، لأنه وحده ـ بالقياس إلى الأقل مرتبة منه ـ يعرف أكثر مما يجب بما جرى …، بل يكاد يكون الأكثر قربا ً من الإله، والعارف بأسراره، فقال صديقه انه اطلع على الألواح كاملة التي ترجع إلى زمن ما قبل الطوفان الأعظم بقرون …، وقد كانت حكاية تماثل عمل النار إزاء خالقها، ليست مهمتها الحرق، والحرق، وتحويل الغابات، بكائناتها، وكنوزها، إلى رماد، بل، على العكس، إلى: تطهيرها! فالنار ليست أداة إبادة، واجتثاث، بل ـ سمعه يتغنى بلحن رقيق وناعم شبيه بنسيم الفجر البارد ـ بوصفها السكينة المستعادة من غير شوائب، ولا غبار!
اندفع إلى الأمام:
ـ ولكن أي لغز هذا الذي سمح له أن يواصل، من غير كلل، ولا تردد، دوره الضار..، فهل كان ينكل بنفسه، كمصاب بمرض لا علاج له…؟ أم لا يعرف ماذا يعمل…، أم يتباهى بعنجهيته أمام الإله..؟ لم يجد إجابة لديه على ما دار بذهنه، فأعاد السؤال:
ـ إذا كان ـ هو ـ وحده أكثر المخلوقات قربا ً من الإله، ومعرفة بالخفايا، والأسرار الكامنة في الأسرار، أو تلك التي تصبح خارجها، فمن ذا منحه بسالة التمرد بإغواء هذا الحشد من الإثمين، الفاسدين، سفاكي الدماء، المزورين، وباعي الضمائر، وهادمي الحدائق… ؟
أغلق فمه بأمر لا إرادي.
ـ ربما هو أمر ذاته… وكفى!
سمع صديقه يخاطبه عبر الأثير:
ـ قلنا إنها حكاية عفا عليها الزمن، ولا تحتمل المزيد من التأويل…
هز رأسه متمتما ً:
ـ اقصد كيف لم يتم قرأتها على نحو يظهر أن الشيطان دفع للغواية أو وقع فيها ببراءة….، ومن غير قصد مسبق…، قل بعفوية، أو مثل من يزل لسانه بما يضمر…؟
ـ آ ….، عدنا إلى السؤال الذي بلغ درجة الصفر لدي ّ، وهي درجة تجعل الموت في أعلاها، فهربت، قبل أن يتم اجتثاثي، وحرقي، أو التنكيل بي، أو تركي أتعفن في جحر من جحور هذا المستنقع، ولكن السؤال هو: من أغوى الشيطان وصور له انه يقوم بعمل ماجد، باذخ، جميل…..، وإلا كيف واصل بذر بذرة الخطيئة، ثم الإثم، ثم المعصية، وهو العارف بأنه تحت نظر الإله….، ما الذي يجنيه، هذا بحساب الربح والخسارة، حتى لو انتصر على الجميع، أي جميع المؤمنين الذين لا عمل لهم إلا الإفلات منه، والحصول على ركن في الفردوس…، أو فضلة ارض….؟ هل ستقول: الإله هو من أغواه…؟ ذلك لأن الإله يعرف تمام المعرفة انه لم يجحد، ولم يشرك، ولم يكفر، ولم….، فيغفر له ويمنحه موقعه في الجنان…؟
ارتج رأسه كمن أصيب بصدمات كهربائية عنيفة كادت تطيح به، وتسلبه قدرته على الطيران، حتى رآه ينفصل عنه، لكنه سرعان ما أفاق:
ـ جدي لجأ إلى الإله….، حفر، حفر، وحفر حفرة عميقة ودفن جسده فيها.
متابعا ً أضاف يخاطب صديقه:
ـ أما أنت فلذت بجلدك وفلت من الأنياب والمخالب بحثا ً عن حديقة لا قرارات جائرة فيها، فلا أوامر بتحويل البلابل إلى ضفادع، والضباع إلى ليوث، والجرذان إلى ذئاب….، حديقة من لا يعمل فيها يجبر على أما على العمل أو العمل أو يذهب مع الريح!
ـ اسكت!
ـ هل تطلب مني الصمت؟ تنهاني عن الصواب وتأمرني بالمنكر…، يا اعز من عرفت…؟
ـ أنا أخشى عليك أن تلقى المصير الذي فلت منه…
ـ آ …
وشعر انه يتهاوى، لا يقوى على مقاومة ثقل الأرض، لولا انه أحس انه تحرر من الجاذبية، مع إن انعدام الوزن لا يعني غيابها، أو غيابه، وتحوله إلى أثير، بل الأمر يماثل تأجيل البت بما ستؤول إليه الوقائع!
ـ يا صديقي ـ وقسما ً بضرورة عدم القسم ـ أنا لم أفكر باستبعادك من الطيران…، بل خفت عليك من العقارب، والأفاعي، والتماسيح….، فانا لم أغوك بالحياة…، مهما كانت غير فائضة، وغير تامة المعنى، وأحيانا سافلة، نذلة، واشد خساسة من الغدر…، ذلك لأنني لم أفكر بالرحمة لأدعك تموت ألف ألف ألف مرة قبل أن يصبح الموت ملاذا ً شبيها ً بالقضاء على المرض من غير عقار ومن غير كي ومن غير بتر أو استئصال …، بل حذرتك من الكلمات…. فأنت أينما تولي وجهك لا ترى إلا وجه من يرسلك إلى ما بعد الموت!
ـ صديقي…، الكلمات مثل البهائم داخل أقفاصها، لا تضر ولا تنفع..، فالألفية الثالثة، كما قلت لي، حولت عالمنا إلى حديقة تكاد لا ترى إلا بالمجهر …، مسورة، وداخل كل سور سور، مثلما خارج كل سور من أسوارها، سور أعظم….، لأن تلك الجرثومة التي تحدث عنها جدي، والتي حملتها معك في منفاك البعيد، سابقة في وجودها أسوار بغداد عندما كانت عاصمة للدنيا، وسابقة سور الصين العظيم أيضا ً…، لكنها، لا تشبه سور برلين، ولا الحصار الذي ضرب ضد سكاننا، قبيل الحرب…، فهناك الأسوار الشبيهة بهذه الأقفاص، داخل كل قفص، وخارجه، حيث لا حافات للقفص الذي نلوذ إليه، أو نهرب منه…، وليست الكلمات إلا حجارة هذه الأسوار!
ـ آ ….، كان الشيطان بعونك!
ـ أرجوك….، ماذا أقول لربي…، وأنا إيماني به سابق على وجودي هذا العارض، والذي لم أجد له موضعا ً ادعه يستقر فيه، أو انفيه بعيدا ً عنه..
ـ الم ْ اطلب منك أن تغلق فمك …؟
ـ لكنه يسمه ما في القلوب، فكيف لا يسمع ما في الحنجرة…؟
ـ آ …، هذا لا يصدر عن اله رحيم،، بل لا يصدر إلا عن إدارة خرافية لحديقة أكاد لا أرى منها سوى الرماد، والغبار…وبقايا بقع رمادية، وأخرى سوداء.
ـ أرجوك كن رحيما ً بنا …، وبنفسك أيضا ً، فانا الآن أرجوك الركون إلى الصمت! لأن إدارة حديقتنا اشد أذى من الشيطان نفسه!
عندما حاول الارتفاع قليلا ً إلى الأعلى، بدل التقدم إلى الأمام، لاحظ إن المسافة تسمح له بالصعود…، فعزم على المثابرة، كلما ارتفع انتابه إحساس بنشوة غير متوقعة، بلذّة خالصة، وفي الوقت نفسه انتابه عسر في التنفس، وصعوبة في الرؤية. كان الخدر قد اختفى، وكأنه يحلق للمرة الأولى، طليقا ً، من غير تردد، أو حذر. فدار بخلده إنها ليست لعبة، ولا غواية، أن يسترد عزيمة كاد يصدق إنها تلاشت، فعاد يرى المشبك الحديدي، المنسوج كبساط، والمغزول بإحكام، يبتعد عنه كلما تحداه ببذل جهد مضاعف في الارتفاع، فخطر له انه قد يكون وقع في كمين، وإلا ما جدوى الصعود حتى لو نجح في العثور على فتحة، أو منفذا ً للمغادرة، لأن انعدام الوزن ليس إلا مصادفة، لكنها ليست خالصة، أو من غير مصادفات، فترك جسده يستقر ملامسا ً حافات السقف، وراح يحدق في غيمة رمادية كانت تقترب منه، استنشق رائحة تراب محروق، وبول جاف، وغبار ساخن، فظن إنها سحابة صيف، لا تنذر بالمطر، إنما أدرك انه يواجه كتلة هائلة ـ لا أول لها ولا نهاية مكونة من البعوض والبرغوث والجراد ـ:
ـ هل جاءوا لسحقي…؟
أجاب كبير البعوض:
ـ لا … سيدي، لا توجد أوامر بذلك!
فسأله في الحال:
ـ ماذا تفعلون إذا ً…؟
ـ ذاهبون لتقديم العطايا والنذور ….، ومبايعة سيدنا الفيل الأعظم..
بحث عن صديقه فلم يجده. ففكر بلغز انعدام الجاذبية، وعودتها، وما إذا كانت الحقائق باطلة من غير الأوهام أم أن الأخيرة بحاجة إلى الحقائق والبراهين والاختبار..؟ أجاب كبير الجراد:
ـ لا تشغل بالك…، أيها الخفاش!
كم ود لو استعاد غريزة المواجهة، ومحاه، لولا أنه أسرع، ليرى الجراد، والبرغوث، والبعوض يسرع باتجاهه أيضا ً:
ـ ماذا تريدون مني..؟
انسحب الضوء، واحتفت الجاذبية، وانعدم الزمن …، فراح يصدق انه ربما يكون أسرف في الوهم:
ـ لا … لم تسرف، فبعد أن نؤدي يمين الطاعة والولاء وتجديد المبايعة …، سنشارك في مهرجان الخلاص والنصر المبين.
ـ الخلاص والنصر المبين…؟
ـ نعم…، أيها السنونو!
ـ لو كررتها مرة ثانية فسأضطر للاتصال بالمستشارة، بل بمكتب السيد المدير!
ـ آ …، آسف، فانا لا أرى ولا اسمع ولا مجال للحركة أو حتى التفكير..
اخبرني ماذا سيجري في هذا المؤتمر الكبير:
ـ نحن مكلفون للرد منطقيا ً على سؤال أيهما سابق على الآخر، الشر أم الأشرار، ووضع إجابة مؤكدة وشاملة ومحكمة على سؤال: وأيهما يصنع الآخر، وهل بالإمكان فصلهما عن بعض، وما تأثيرات ذلك على ديمومة هذا الذي تراه يمتد إلى ما لانهاية…، ومناقشة ماذا سيحدث إن تم القضاء على الأشرار إزاء الشر، وهل القضاء على الشر ينتج ملائكة يعمرون حديقتنا، مطهرين من جرثومة الحنين للشر أو للأشرار….؟
ابتسم سرا ً…، فقد تذكر انه كان عمل مع بغل ـ يوم كان رفع لافتة: صقر للإيجار، إبان العهد الأول بعد الطوفان ـ وكانت مهمته كتابة خطاباته، وتلقينه مبادئ تعمل وفق الاشتباك؛ فنعم لا تصير لا إلا لأن لا غير منفصلة عن نعم. ولقنه بالقول أن الجهل ما هو إلا أعلى مراتب المعرفة. فداخ البغل ـ مديرنا المسؤول عن جناح الزواحف والطيور العمياء ـ وسأله بغضب يتطاير منه الشرر: هل تسخر مني وكأنك تسخر من سيدنا المدير؟ رد الصقر بذعر: لو كانت المعرفة جديرة بالاحترام، سيدي، لكنت مديرا ً وليس راعيا ً للنعاج، والكلاب، والضفادع. فالجهل ـ أيها الزعيم ـ وحده يمتلك قدرة التحكم بالمصائر، ومنها مسارات المعرفة، وإلا ما ـ ما هو تأويلك وتفسيرك لسر فناء الثوابت والحقائق والمعارف…، وديمومة أكثر العلوم قدما ً ورسوخا ً؟
أجاب كبير البعوض:
ـ أين أنت..، أيها الصقر …؟
ـ في الظلام…
فقال بصوت مرح راقص:
ـ يبدو إنهما ـ الشر والأشرار ـ عملة ولا وجه لها ولا قفا! وهي التي تتحكم بتاريخ الأنواع ومصائرها…؟
ـ صحيح…، هذا ما كنت دوّنته في احد خطابات البغل…
ـ أي بغل؟
ـ رئيس المؤسسة العظمى الأستاذ الأبرز والعالم الخبير….
ـ آوووه…، عرفته!
وأضاف بخوف:
ـ لم تفقد ـ سيدي ـ سلطتك بعد!
فكر بشرود: لو لم افقدها لكنت تحولت إلى حفنة رماد. متابعا ً، من غير رقابة:
ـ قبل مغادرتي عشي….، وقبل سماعي نبأ ارتقاء اعز أصدقائي إلى الأعالي، طلبت المؤسسة المتحضرة للحوار المشاركة بالرد على ما يحدث …، وسألتني إذا ما كانت جرثومة الهوس بقطع الرقاب، وقطع الأرزاق، والانحدار إلى عصور ما قبل الظلمات، يكمن فينا أم لا، أم هو مؤامرة، وعدوان، وخرق للقوانين، والشرعيات، وهل باستطاعتنا الخروج من المتاهات وكأننا لم ندخلها…، ولصالح من يعمل مدراء الحظائر والزرائب والأجنحة الخلفية والأمامية على هدم أركان حديقتنا وتفكيكها وتخريبها والعودة بها إلى حقبة ما قبل تكّون جرثومة العفن، والخطيئة، ولذّة سفك دماء الأطفال والنساء، ومحو العقول وغسلها وتطهير الذاكرة من ثوابتها..؟
ـ سيدي …، أنت تفكر؟
ـ اخرس!
سمعه يقهقه، فقال كبير البرغوث:
ـ إن أغلقت فمي أم لم أغلقه فانا ذاهب لتقديم ولاء الطاعة لسيدنا الفيل، ولسيدنا الثعلب، ولسيدنا العقرب…، فهم وحدهم يعرفون ما يدور في رؤوسنا قبل أن تتكون هذه الرؤوس، وهذه الأجنحة، وهذه الشقوق، وهذه المخالب والأنياب….!
اشد الظلام، حتى أحس بكثافته تطوقه، لكنه وجد وسيلة للتعايش معه من غير عثرات، فلمح بقعا ً مدورة تتداخل تصدر أصواتا ً امتزجت فيها عطور مشعة…، ثم رأى الكتلة تحاصر جسده من الجهات كلها. وما أن بحث عن كبير البعوض، أو كبير البرغوث، أو كبير الجراد، لم ير أحدا ً منهم ما عدا ما لا يحصى من الأسماك، والطيور، والنمل، تداخلت، مركبة، ومنصهرة بنظام يعمل بدرجة عالية لا تدع أحدا ً يصطدم بأحد، فلا جرادة تغادر الجراد، ولا سمكة تشذ عن السرب، ولا برغوثة تخرج على النسق، ولا ضفدعة تتمرد على الجماعة، ولا بعوضة تتمرد، ولا طير يعصي الأوامر….
ـ لا أحد …، وفي الأخير، يتم استدعائي، ومعاقبتي إلى ابد الآبدين…؟
لم يسمع إجابة، فرد على نفسه:
ـ ليس الذنب ذنب من يعاقبك..، وليس الذنب ذنب من يعاقب..، وليس الذنب مشتركا ً بينهما….، فالوهم سيد الثوابت مادام هذا هو الذي لا يمتلك حضوره إلا بحضور الغائب…!
فقد تذكر ـ قبل لحظات ـ مروره فوق مهرجان القتل الفكاهي، حيث شاهد أعمدة تتدلى منها الأسود، والنمور، والتماسيح……، فاقترب من احد المعلقين وسأله: ماذا فعلت؟ فرد: أنا عثرت على جرثومة الشر….! فصلبوني قائلين إذا قضيت على الأشرار فماذا تفعل العدالة، فقلت لهم: تقصدون العاملين فيها! وقال الآخر: أنا قضيت على الفقر ولم اقض على الفقراء فقالوا أيها البهيمة أتهدم عرش الأغنياء. وقال آخر: أنا قضيت على الإرهاب وقلت الإرهابيين ضحايا أبرياء علينا إعادتهم إلى أمهاتهم ومنازلهم. وسمع الآخر يقول انه صلب لأنه وجد عقارا ً لا يسمح لأحد بالذهاب إلى السجن. آخر قال انه استأصل المرض فلا معنى للعقار والدواء. وأجاب سواه: أنا جرجروني إلى المشنقة لأنني وضعت خارطة طريق لا تدع أحدا ً عاطلا ً عن العمل، ذلك لأنني حسبت جهد عمل سكان هذا العالم لتفضي دراستي إلى وجود فائض لا يتراكم كي يقود إلى التصادم والى حروب الجميع ضد الجميع، فعلقوني. وأضاف آخر بصوت مذعور: أنا فككت المثنويات إلى أحاديات تعمل وكأن لا عمل لها سوى التآلف، والوحدة، فلا تصادم بين الحدود، ولا تناقضات تقود إلى التناقضات، فقالوا أنت تخرب أوامر مديرنا، فغرسوا المدية في قلبي. تابع آخر قائلا ً انه للمرة الثالثة يعلق، لأسباب مجهولة، وذلك لأنه لا يدلي إلا بالاعترافات نفسها، لا يستبدلها بأخرى، وفي كل مرة يعلق، ثم يستدرج لاستبدالها ولكن أخيرا ً قال انه لا يقول إلا ما يؤكد صوابها، وقد أيدت غزال منتزعة الجلد، أقواله، لأنها تعرضت للحالة ذاتها، فكلما سلخوا جلدها تعترف بأنها لم تعتد على جارها النمر، ولا على جارها الذئب الأسود، وإنها لا تمتلك ما يدل على ارتكابها إساءة ضدهما، ولا ضد الآخرين. فلم يجزع، مقتربا ً من حزمة شدت بالحبال شدا ً محكما ً، لم يتبيها إلا عندما ركز نظره فرآها مجموعة طيور حديثة الولادة قتلوا بتهمة الخروج على الدرب…، لكن احدهم مازال يستنجد متضرعا ً انه لم يفعلها، ليس لأنه لم ير الطريق، بل لأن الدرب لا وجود له. أما أنا فالقوا القبض على بتهمة حبي للمرح، والطرائف، وظنوا إنني خارج على قانون الظلمات، فأمروني بشرب ألكاس التي شرب منها سقراط، وهكذا نجوت، ومكثت معلقا ً، وسأبقى هكذا حتى ينفي الجديد قديمه، ولا يغدو قديما ً مادام الأمل هو أقدم بذرة لا يمكن مس ديناميتها، أو القضاء عليها.
ورفع صوته:
ـ وسألوني بصوت واحد:
ـ ماذا فعلت من اجلنا..؟
صمت برهة ثم قال:
ـ قلت لهم: أنا بغل للإيجار…، ولم اعد صقرا ً…، أو حتى نملة! فانا خرجت ابحث عن صديقي الذي أخذه من أرسله، فقلت لعلي اعثر عليه، أو يعثر علي، كي اصعد معه، أو يعود أدراجه إلينا ليقضي بعض الوقت ويتمتع بعطور هذه المستنقعات، ويستمع إلى أصداء عواء ذئاب ستموت قبل ولادتها!
ـ بغل أو حمار أو حشرة…، اهرب، هرول، ولا تصغ إلا لمن لا يتكلم!
وكاد يصطدم بالجدار الصلب الخالي من النقوش، والعلامات الهندسية، الشبيه بسطح جبل تعرض للتعرية، فغدا ناعما ً، فانحرف، بعد أن استدار، يسارا ً، متلافيا ً المحرقة، التي أثارت فيه رجات كادت تطيح به، وتسقطه أرضا ً، فضلا ً عن إدراكه للقرار الخاص بمنع أي طائر الارتفاع أعلى من مدخنتها، بحسب أوامر السيد المدير. تذكر صديقه الذي غاب، وربما تستر في مكان ما، ممتزجا ً بالغبار، أو تلاشى داخل حبيبات الزمن. ذلك لأنه استعاد تحذيراته من الاقتراب منها، فقد قال له إنها علامة تماثل الفجوة العازلة ما بين الأعالي، وما تحت الأرض، فهي شبيهة بترسانة أسلحة، لكن عملها يحافظ على الشفافية، أسوة بباقي أسلحة الدمار الشامل، الأخرى، فخاف، مبتعدا ً برغبة تلافي إثارة الشكوك، أو حدث الأنظار تجاهه، فانا مازالت كلما تفحصت المحنة، أجد إنني أتمرغ داخلها. ولكنه لم يقاوم كآبة بددت حاله المرح التي شعر بها قبل وخزات الخوف الأخيرة، فراح ينظر شزرا ً إلى الجانب الخلفي من المحرقة، حيث ترتفع أعمدتها الفولاذية، عاليا ً لتلامس الغيوم، لبرهة، تاركا ً جسده ينخفض بحدود لا تلفت أنظار المراقبين، القابعين في مراصدهم السرية، المموهة، بلون الأشجار، والممتدة مع امتداد سور الحديقة: وهو سور ـ خاطب صديقه ـ يماثل سور الصين العظيم، يعزل الحديقة عن العالم، ويعزل العالم عنها.
إنما استنشق رائحة حادة، كانت رائحة رماد، لكنه قال إنها ليست خالصة، بل مازالت مشبعة بأنفاس مليارات مليارات المليارات من الحيوات، والأنفس، والأرواح، بحسب التصنيف المتداول لسكان الحديقة. لكن كلانا لديه تصوّر يجعل اختلاف تصوراتنا أكثر إثارة للجدل.
ـ هل اختلفنا حقا ً…؟
لم يجب، لأنه انشغل بمشاهدة سلسلة من التلال الرمادية متلاصقة كانت تمتد إلى ما لانهاية، تتخللها، شواخص وعلامات قاومت التعرية، تنتمي إلى عصر ما قبل عصر المحرقة، بل ـ وخاطب صديقة بصوت مرتجف ـ إلى ما قبل ظهور الدواب في البراري، أو في المستنقعات، تلال ذات رؤوس حادة، وأخرى مدببة، وثالثة تحولت إلى هضاب، فيما كانت المدافن الأخرى تبدو مثل حصى منثور بغير نظام.
ـ أنت لذت كي تتحرر من هذا الكابوس…؟
مسترجعا ً صوت صديقه بلحن غزل بدوامات راحت تتداخل أمام ناظريه:
ـ لا اعرف من حفزني للبحث عن فضاء لا يكبلني بالحفر والأنفاق والشقوق…
بدا له المشهد كلوحة خرافية زاخرة بالظلال والصمت، تمتد أمامه من غير حيطان، أو حجابات، ولكنها كانت تبدو له مثل مدينة لم يمحها الزمن، بل عمرها، وصنع منها بساطا ً مزخرفا ً بالدغل، والحجارة، وببقايا جدران متآكلة…..
ـ لا تذهب بعيدا ً!
سمع صوت صديقه يأتيه من القريب:
ـ أصبحت لا اعرف من هو الذي يقاوم غيابه، هل هو أنت أم أنا….، فكلانا يضمر لغز ما إذا كان يدنو أم يولي فارا ً…؟
تحسس وخزات لاذعة في صدره، من الداخل، سرعان ما انتقلت إلى جناحيه، ومنها إلى الرأس:
ـ كلانا رحل قبل حضوره، مات قبل أن يكفن بقماط طفولته، وقبل أن يرى حتى أن للشمس خفايا ً وملغزات كاتمة للأنفاس….!
وتجمد، فقد لمح طيف صديقه يهبط من الأعالي…، وشاهد محياه: هالة ضوء، وخطوط متداخلة بنعومة، مترابطة، تحولت إلى بقع حادة سرعان ما توارت… بورتريه غابت عنه الذات من شدة حضورها فيه، وغاب الرسم كي يغدو أثرا ً للتشتت، والانتشار…، ولم يسرع:
ـ بإمكاني البوح ـ بل الاعتراف ـ من غير تمهيدات أو عاطفة رخوة: عندما لذت بالفرار، من حديقتنا، قبل عقود، فانك كنت تبحث عن المعنى….، الذي غاب عنا، فصرنا نتلمس اللا معنى بسنوات دثرناها بالظلام والخوف والموت!
عاد محياه يتكون عبر أشكال هندسية حلزونية، وعندما نظر إلى الأرض، لم ير سوى مساحة ممتدة ليس لها لون محدد، عدا مسحة من لون الرماد، والغبار، سحقت حتى ابيضت فغدت شبيهة بلون الأثير. وثمة أشكال تتخفى عبر توازنها بين ما تخفيه وما تريد أن تعلنه، أعمدة بدت كأشجار جذوعها خاوية، ومثل رماح موزعة بلا قانون، ومن غير نسبة ونظام للتوازن، فلم يقاوم رغبته بالكلام:
ـ قلت لك….، هنا، أعدت حفرنا لنا قبل أن نولد، ومسحوا أسمائنا قبل أن تدوّن… ، أنت هربت، لأنك عثرت على ثغرة للمغادرة….، فالعالم ـ رغم انه محكوم بالدوران والتداخل والانصهار والتلاشي ـ وجد ليعمر…، ويبنى…!
هز رأسه، تاركا ً صاحبه في استراحة:
ـ ها أنا أعود استدل بأثرك في الدرب..
فرد صديقه:
ـ لن تجد أثرا ً يدلك على … الأثر ..!
ـ ولكنك حصلت على الكثير…؟
ـ حصلت على هذا الذي أراه يغيب، حصلت على ما سأفقده.
فكر مع نفسه: إبان نزولي إلى العالم الذي لم يعد منه احد، عثرت عليك، فقلت لي: من يرى الشمس مرة فلن يتلطخ بالظلمات…
كانت الحديقة تمتد بعيدا ً في الأفق، حتى شاهدها بلا حدود، أو نهاية، فدار بخلده، انه كلما ابتعد عن المركز، أحس إنها تضيق، حتى وجد جسده يتراجع:
ـ عندما عثرت عليك، سألتك: إذا كنت تخلصت من المعاقبة، فمن هذا الذي يعاقبنا، بإفراط، من غير شفقة؟
فراح يضحك بصوت مكتوم، ويقول لنفسه:
ـ لو كنت عرفت… لكنت مت!
مرت ساعات حسبها سنوات، محلقا ً، من غير أن يرى أثرا ً للحديقة:
ـ ماذا قلت …؟
لأنه ترك جسده يهبط، فوق تل يشرف على بحر من الرمال. فشاهد ما لا يحصى من الأشكال، ومن اللا أشكال، ذبذبات ملونة، وألوان فاقدة للوضوح، بقع تتسع، وأخرى تتقلص حد التلاشي، أخرى تبتعد، وسواها يوخز بصره:
ـ قلت انك لم ترحل…، وأنا قلت لك يتحتم علينا الذهاب ابعد من الرحيل…، لا يفعلها الرب وكأنها لعبة مهووسين …، يخلقنا ليخلق الشر ثم يمتحنا ليعفو عنا ….، أنا دخت!
وشرد نظره بقراءة الأسماء التي رآها فوق عدد من الشواهد:
ـ هؤلاء كانوا يظنون إنهم صنعوا مجدنا….، بعد أن لم يتركوا لنا سوى الخراب…، والمحو…
ـ انهض.
ـ من…؟
ـ أنا النملة التي رأتك شارد الذهن، تحدث نفسك فظننت انك وجدت ما كنت تبحث عنه!
عندما آفاق لم يستطع أن يتذكر ـ عند عبوره المسافات ـ ورؤيته لعدد لا يحصى من العلامات، عدا صور متناثرة لأصداء راحت تعيد له التوازن:
ـ أنت هربت من موتك…، وطلبت مني أن اهرب…، أنت نجوت، ولأنك رأيت الدرب فمشيت، أنا قبعت داخل حدود حفرتي، حفرتي التي أعدت لي قبل أن أرى النور….
قهقهت النملة:
ـ هذه هي المحنة! لن تقدر أن تهرب منها، ولن تقدر أن تتجاهلها.
ـ المحنة…، أو المعضلة، سيدتي …
وجد الكلمات لا تغادر فمه، فأصغى لها:
ـ المحنة لم تتخل عنك، ولا أنت تركتها.
هو رأسه وأكد لها إن الأمر لا علاقة له بمغادرة الجحيم، للبحث عن زاوية أو ركن في الفردوس، بل …. المعضلة…
قالت بمرح:
ـ أنا أيضا ً اسأل السؤال نفسه، ولكني وجدت البحث عن إجابة مضيعة للوقت…، فانا لم تعد لدي ّ أسئلة، أما إننا وجدنا هكذا، أو إنهم سلبوها منها، أو إنها لا تعني سوى ….
صاح:
ـ ولا …أنا…
ـ ماذا قلت؟
ـ قلت: لِم َ نولد موتى…، أي لم لا نولد، ولماذا نولد كي نمضي حياتنا ترزح تحت النير…، نقضي العمر ننتقل من قفص للدخول في آخر، منشغلين بتلافي العثرات، فلماذا نعاقب عن أفعال لم نخترها…..؟
ـ هذه هي أسئلة صديقك أيضا ً…، فكف عنها، عندما غادر مستنقعنا، أما أنت فاخترت الدوران داخل قفصك، فما نجوت منه بالفرار، ولا مت واسترحت من نفسك!
ـ آ …، ولا احد يريد أن يصحوا…، لا احد يعمل للعثور على منفذ للخلاص، إن لم اقل إن اللعبة صاغت ديمومتها لأسباب آخر من يفكر بحلها هم نحن لأنها هكذا تماثل الحكاية التي قرأتها في الألواح: الإله يخترع الشيطان، كي تحدث الحكاية، فالشيطان هو الذي يبادر للرهان حول إخلاص أيوب …، فيتحدى الإله من اخترعه، بمعزل عنا…، هكذا صرت لا أعرف أأنا رحلت أم صديقي اجتاز بوابات الرحيل……؟
ـ صعب…الرد صعب، والإيضاح أكثر صعوبة، إن لم اقل استحالة…، فانا محض نملة، وأنت تعرف النملة لا تولد إلا لتموت نملة! كالعبيد، لا تسمع منهم إلا ضجات فارغة، للأسباب ذاتها التي تبقى كامنة عبر ديمومتها!
قرب رأسه منها كثيرا ً:
ـ لم اعد امتلك حتى رغبة بالطيران، بعد أن توارى صديقي في البعيد….، ثم ها أنت تشاهدين من يقول لي: صديقك لم يغادر! فانا بت لا افهم لماذا أثير هذا الغبار…، وأنا اعرف انه مازال يسبقني كدليل فوق هذه المدافن…؟ آ ….، لو عرفت كيف أتصالح مع هذه العثرات، وأغلق فمي، كأنني قلت ما كان يجعل قلبي يعمل بسلاسة! أم إن اللعبة ذاتها تجرجرنا حتى بعد انكشاف بهتانها، أم إنها لا تكمن إلا في هذا البهتان…؟ أنا صدمت برحيله، وها أنا لا امتلك إلا أن انفي النبأ، كي اصدق إنني أنا من أضل الدرب، وأنا هو من غادر…!
ضحكت النملة بصوت شفاف:
ـ ومن أين يعبر الضوء، وكيف يجري الزمن من غير مسامات هي ذاتها عليها أن لا ترتد، وان لا تتقدم أسرع من تنفيذ واجبها!
ـ عبر الظلمات….، لكن ما معنى هذا الضوء…، هذا القليل منه…..؟
ـ كان عليك أن ترحل، فالضوء وحده يمتلك لغز زواله…!
ـ أنا رحلت.
ـ أنت غطست، وصديقك راح يراقب ….، ثم أدرك أن الضوء سمح له ليرى كم الظلمات بلا حافات.
ـ آ …، الآن اجهل من غادر…، ومن سيغادر…، ومن ذا يفك لنا باب المغادرة، ويدعنا ندنو منها..؟
وأضاف بصوت متلعثم:
ـ كأن هذا الانشغال لا يعمل إلا عمل العقار المميت، فلا شفاء من مرض هو وحده يذهب ابعد منا، إن لم نكن نحن هو هذا المرض….؟
ـ بالضبط.
ـ إذا ًانا هو من ارتكب الاثم الذي تجنبت ارتكابه…، وصديقي الذي ظننت انه كان دليلي…، تركني….، فماذا اتتبع خطاه في الغياب؟
ـ صديقك الذي لم تره…، يقف بجوارك!
بحث…، حلق، وهبط، مسرعا ً دخل إلى عشه وخرج منه، وألقى نظرة إلى الحظائر، والزرائب، والحفر، وباقي الأجنحة….، تسمر عند المحرقة، ليشاهد، خلفها، تلال الرمال تمتد، متلاصقة، ثم تبدأ مساحات تشغلها الرمال، وبجوارها تقع المستنقعات، والبرك، يشقها مجرى النهر، يتلوى، محاطا ً بحقول القصب، والنخيل، والبردي، ليظهر إقليم البعوض، بجوار إمبراطورية البرغوث، وفي الأعلى، شاهد آلاف الغربان تتجمع، لصق النسور، والبلابل، وخلفها امتدت بحار الغبار التي خلفها الطوفان الأعظم، وبمحاذاتها، قبور الأزمنة التي لم تترك إلا معابد متآكلة ومهدمة محا أثرها الزمن، وبعثرت علاماتها الريح، والعواصف….
ـ لا أرى أحدا ً!
ـ لأنك، أيها العجوز، ولدت أعمى!
ـ ولكنني تتبعت خطا صديقي وهو يعبر من سواحل العفن إلى هذه الحدائق!
ـ وهو …، مثلك، ولد لينجو…
ـ ولكني أصبحت وحيدا ً…، فلا أجد أحدا ً اهتدي بخطاه…، ولا أجد أحدا ً يسترد روحي مني، أو يأخذها…؟
ـ تلك ـ هي ـ محنتك…، أمضيت حياتك تأمل من يكسر قيود قفصك ويقول لك: اخرج..، انتظرت بركانا ً أو طوفانا ً أو زلزلا ً يطيح بها ويقول لك: أنت طليق …، انتظرت من يحررك منها….، ومن يساعدك على النجاة ….، ولكن عندما أمسكت بالمفتاح، قلت: أنا لم يشغلني خلاصي، ولا أمر نفسي، فكل ما علي ً عمله هو أن اعرف لماذا يذهبون أفوجا ً أفواجا ًعائدين من الباب الذي خرجوا منه…، بعد أن رأيت احدهم يذبح من بجواره، ويمحو كل منهم اثر الآخر…، فهل التراب هو المفتاح أم هو القفل…؟
ووجد رأسه يتمايل:
ـ وماذا لو حصلت على الذي سأفقده… وماذا لو حصلت على ما لا وجود له… ؟
ـ ها، يا صديقي الصقر…، هذا ما دفعهم لوضعك في القفص…، وشددوا الحراسة عليك!
ـ ولكني كدت افلح بالقضاء على نفسي!
ـ هكذا اختلطت عليك التصورات…، فلو عملت مثلما يعملون، ولو صرت مثلهم، لكنت حصلت على قفص أرحب!
ـ عدنا إلى الجحيم الأشد غموضا ً من الفردوس!
ـ تقصد انك ستعود إلى الفردوس المشيد بجوار المحرقة ..؟ لأننا لم نر…، سوى: النور يخرج من الظلمات، والظلمات لا تقوى على إطفاء ضوء شمعة بحجم طائر يرفرف…؟
ـ استعدادا ً للذبح…؟
ـ أو للرقص….!
ـ اخبريني…، وكلانا ُسمح له بهذا القدر من الاسترسال….، أين هو صديقي…؟
ـ بجوارك!
ـ لكنني بحثت عنه فلم أجده.
ـ لأنك لم تبحث عنه..!
وأضافت النملة:
ـ وهل وجدت أما ً أنجبت وليدا ً ذهب ابعد من رحمها…؟
ـ أنا هو من لم يذهب ابعد من قفصه…!
ـ لكن الذي تبحث عنه أخذك معه ابعد من الغياب!
تلمس جسده، تنفس، وضرب ساق الشجرة برأسه، وعاد يحدق في عيني النملة:
ـ من علمك هذه الحكمة…؟
ـ آه …، أيها الصقر…، كيف غفلت ذلك ..؟
ـ ما هو ..؟
ـ عمرك…! فهو شبيه بالفجوة بين الإله والشيطان، والذي يماثل المسافة بين حضورك وغيابك، فالذي أمسكت به، لم تمسك به، انه هو الذي امسك بك، لكن لا أنت ذهبت ابعد منه، ولا هو تخلى عنك!
رفع رأسه يخاطب صديقه:
ـ أين أنت يا من كنت تحثني على تحطيم القيود….؟
ـ …..
أجابت النملة:
ـ أيها العجوز…، أصغ للذي يذهب ابعد من الصوت…، فالكلمات غبار، أيها العجوز أبصر للذي يذهب ابعد من الضوء، فالكلمات حبات رمل، والضوء جدار…، أيها العجوز استنشق الهواء فانه آت ٍ من سواحل العفن، وسيعود لها، فالعطر الذي فيه ما هو إلا الغواية ، أيها العجوز لا تتلمس الحقائق وكأنها وجدت داخل قفصها، فهي لن تدعك تنتظر أكثر من عبورها ابعد من السمع والبصر وباقي الحواس، لأن الحكمة وإن ولدت من هذه العناصر، لكنها إن لم تغادر قفصها فإنها لن تدعك تمسك بالمفتاح، ولن تدعك ترى القفل!
تأملها عن بعد مستنشقا ً رائحة غياب الزمن:
ـ بدأت أرى صديقي، أيتها العزيزة…، فها أنا أغيب بحضوره!
ـ ها أنت بدأت تتعلم كيف تضع قدمك في الدرب..، وتختبر معرفتك، فإذا كنت ذهبت ابعد من مسافات العبور، في دروب هذه الحديقة ومخابئها، حفرها ودهاليزها، سراديبها وزرائبها، أنفاقها وعثراتها، حظائرها وشقوقها، مدافنها ومتاحفها، جداولها ومستنقعاتها، فما كان عليك أن تفعله، هو: أن من لم ير نفسه، لن يراه احد، حتى لو نال مجد السماء، بعد مجد الأرض، فمن يرى نفسه يكون أفناها، وأزالها، وأذلها ومحاها، قبل أن تأخذه الريح معها إلى المجهول..!
ـ آ …، أيتها الحكيمة، أنا لم أكن اجهل هذه الموعظة…، لكن من ذا كان يقدر أن يتصرف وكأنه رأى الدرب…، وخطانا لم تسمح لنا إلا أن تؤكد أن الأعمى لا يمشي إلا خلف آخر يقهر الظلمات ، بعد أن فقدنا البصر، وسلبت منا البصيرة، فانا لو كنت غادرت، فانا سأحمل مصيري معي، أينما حللت، وإن مكثت ـ كما فعلت ـ فمصيري كنت رأيته حتى قبل أن أتعلم الطيران…..! وها أنت ِ تشاهدين إن الذهاب ابعد من حافات الدرب، شبيه بمن فقد الدرب تماما ً، مع أن هذا محض وهم لم يترك للفجوات إلا أن تكمل بعضها البعض الآخر، مثل الحقائق، لو كانت صحيحة، لكانت سدت أغلقت الدرب، أو لم تترك له حتى هذا الأثر الذي رحنا ندب بفضل عثراته، وبما يجعلنا أكثر قدرة على تحمل أوزاره، حتى لو كانت بحجم هذه المحنة، وبعمق هذا الفراغ…
ووجد جسده النحيل يرتفع قليلا ً، قليلا ً، في الفضاء، مبتعدا ً عن الأرض، أعلى فاعلي، حتى اصطدم جسده بالسقف، فأحس بألم القضبان يخز جناحيه، فلم يكترث لها….، لأنه وجد المسافة تمتد…، فترك بصره يدله على الدرب…، رغم انه عندما أحصى الحواجز، لم يستطع أن يضع لها عددا ً…، ولكنه وجدها تتهاوى، كما تهاوت قدام صديقه إبان الفرار، من غير الم، ليجد مصيره في مركز الهاوية.
30/6/2015
في الطريق الى المنصة
القصيدة التي تأكل نفسها
[ إنهم لا يجيئون، لا في القصائد أو كلمات السفر
إنهم لا يجيئون، لا في القصائد أو كلمات
إنهم لا يجيئون، لا في القصائد أو
إنهم لا يجيئون، لا في القصائد
إنهم لا يجيئون، لا في
إنهم لا يجيئون، لا
إنهم لا يجيئون
إنهم لا
إنهم
فاضل العزاوي
1966
ـ أمش، امش، لا تكترث…، فان لم تستطع كتابة القصيدة…، فالقصيدة هي التي ستكتبك!
وأضاف الثور، يخاطب الحمار:
ـ فانا لم تستعص علي ّ المحنة…، ما دامت الأخيرة لن تدوم أكثر من زمن زوالها!
فقال الحمار، وقد أربكه منطق الثور، وثقته بنفسه، بأنه لم يعتد نسج، ولا غزل، ولا صياغة مشاعره، حتى الغامضة منها، أو التي يجهل بواعثها الملغزة، ويفضحها أمام الآخرين، بل غالبا ً ما نهق، لا سباب لا تحصى، عدا الإفصاح عن ذلك.
ـ لكنك تعرف إن الامتناع عن المشاركة، في هذا المهرجان، بمثابة إساءة فهم…، ونقطة رمادية في الجبين…، وأنت تعرف، انه لم يعد لدينا ما ندافع عنه، ولا ما نخسره، عدا هذا العلف، وهذا الهواء، وهذه الزريبة.
وأسرع الثور قليلا ً، بعد أن سمع ملاحظات الحمار، الأخيرة، فتمتم مع نفسه، بصوت خفيض: يبدو انه لم يعد مرحا ً، أو ربما فقد سلاسته بمعالجة هذه القضايا؟
توقف الحمار عن المشي، فجأة، وقال بصوت لا يخلو من الغضب:
ـ لا! فانا لم امض حياتي في غفلة، ولم افقد مرحي أبدا ً!
ـ ماذا قلت…؟
ـ لأنك قلت بأنني لم اعد مرحا ُ…، فكيف استنتجت، ومن ذا سمح لك باتهامي، واختراع هذا التصوّر…؟
ـ أنا ـ صدقني ـ قصدت شيئا ً آخر….
ـ إذا ً …، هل خولتك لاستنطاقي…؟ فانا لم أرك مبتهجا ً أبدا ً! مع إننا، في هذه الحديقة الخالدة، لا نواجه مشكلات حقيقية كالتي واجهتنا في الماضي..
هز الثور رأسه، وهو يشاهد زرافة تقترب منهما، فقال للحمار:
ـ لا بد إنها نسجت أطول قصيدة، بالأحرى: القصيدة الطولية…، وليس الشاقولية أو ذات الأضلاع المقعرة؟
ـ صحيح…، كما يقال؛ لم تعد الجودة تقاس بالحجم، ولا بالضخامة، ولا بالفطنة أو حتى بالرهافة، بل بطول العنق، وحدة الصوت، وقوة اللكمات…؟
ـ آ …، هذا يعني أن أعظم القصائد ستكتبها الأفاعي، ولا تكتبها البلابل، مع إن الأخيرة لا تجيد سوى التغريد..، والديناصور ستكون في الطليعة، على خلاف النحل، أو الحمام ؟
لم ينتبه له، فقد انشغل الحمار باستقبال الزرافة بفم عريض:
ـ حقا ً إنها لمناسبة طريفة، ونادرة…
همست:
ـ اسكت، يا حماري الجميل، فالمستشارة ستكون حاضرة، مع سعادة المدير…، لان المهرجان سيقام تحت شعار: المجد للحدائق!
آ …، حقا ً إنها مناسبة استثنائية، دار بخلده، أم أنها كباقي المناسبات، لا تذهب ابعد من الثناء، والشتائم، ووظائف الشعر التي مضى زمنها؟
ـ لا.
اعترضت الزرافة، وخاطبت الثور:
ـ إنها خاصة بأبدية حديقتنا، مجدها الذي تنشد له العصور.
ـ فلسفة؟
ـ أية فلسفة، سيدي؛ إنها خاصة بيوم الحديقة الخالد، فأنت تعرف: من لا جذور له لا تتفتح براعمه تحت الشمس!
ـ فهمت، نعم، فهمت!
وسأل الحمار الزرافة:
ـ هل افهم ـ من هذا ـ انك ستزقزقين…، كالعصافير ؟
ـ كيف حزرت..؟
ـ وإن كانت قصائد الشتائم، رائعة في بعث الكراهية، والغضب، إلا أن لقصائد الثناء، والإطراء، والمديح، الباب الذي لا يمكن غلقه،بل ولا يمكن هدمه….!
ـ تماما ً…، فانا استلهمت الفاتحة من أقفاص الطيور، وتحديدا ً…، من تلك المخلوقات الناعمة، الحريرية، التي لها نغمات رذاذ الفجر، فهي لا تكف عن الاحتفال…، حتى انك تكتفي بما تنشد، ولا تسأل نفسك: ماذا تقول، ولمن توجه أناشيدها!
ضحك الحمار، وقال للثور:
ـ لا توجد مشكلة…، إذا ً.
ـ أنا أخبرتك بذلك، منذ البدء، شرط أن تنظف دماغك من النهيق!
ـ سأفعل، سيدي، سأفعل…، ولكن ماذا عن رائحة السكين، حتى لو كانت خالية من الدم؟
ارتج جسد الزرافة، فأسرعت وقالت:
ـ أنا ذاهبة، عذرا ً…، فالقصيدة بحاجة إلى مراجعة، فانتم تعرفون إن الثابت الوحيد في الثبات هو تتبع اللا ثابت فيها!
صمت الحمار، فقال له الثور:
ـ نذل!
ـ أنا، أأنا نذل؟
ـ لا، أنا هو النذل…، أنا هو من أرعبها وجعلها تفر، مذعورة….، تلحقها لعنة الحافات العمياء!
ـ ماذا فعلت..؟
ـ تركتها تتخيل حتفها!
ـ لا، يا أحمق، أنا قصدت السيف الكامن في السكين، السيف الأصل، الذي وجد مع الفأس، أقدم هدايا الإله للبهائم..، الأصل، لأن الكلمة جاءت بعد ذلك، رغم أنها خلعته، أو قل: أجادت المناورة، فهي تقمصت دور: الحمل والولادة!
ـ آ …، حسنا ً، دعنا نأخذ قسطا ً من الراحة، تحت هذه الشجرة ذات الألوان المتناغمة مع السماء، أمام هذا المستنقع البهيج، وهو يزهو بكائناته الجميلة…، ونراجع قصائدنا!
ـ كما تشاء…، خاصة انك لم تحسن التعبير عن أحزاني، وما في ّ من ويلات! فأنا، يا صديقي، لم أفرط في عاطفتي، وأنت تعرف التاريخ!
ـ نعم، أنا خير من يعرف التاريخ، ولكن تاريخ من…، تاريخكم، أم تاريخ النمل، أم تاريخ الثيران…؟
ـ لا …، المقصود هو التاريخ الحقيقي للتاريخ…، أي الذي لا نجد فيه صفحة من صفحاته إلا وموهت، وزيفت، وكتبت بالمقلوب…، كالحدود بيننا لا نحددها إلا بالبول! وليس بالدم! فلا احد وضع إصبعه فوق الجرح!
انفجر الحمار ضاحكا ً حتى كاد يسقط أرضا ً:
ـ تقصد الجرح الذي يتستر على الإصبع؟
ـ لا استبعد هذا الحكم…، لولا إن المشكلة، في نهاية المطاف، لا وجود لها في الأصل!
صفن الحمار قليلا ً، وراح يتأمل غيمة رمادية تحّوم فوق سطح المستنقع:
ـ أنا سأكتب قصيدة لا علاقة لها بوظائف الشعر…، سأكتب القصيدة الخالصة، وليس التي تنمو، كما ينمو الجنين، ولا التي تموت كما يموت البعير!
ـ وما علاقة البعير بالشعر…؟
ـ قل إذا ً الديناصور…، الم يكن مصوتا ً، فربما نسج أبهى الصفحات ودوّن أندر الأسفار….!
ـ آ …، يبدو إن الغيمة الرمادية ألهمتك هذا المفتاح؟
ـ لا ، ليس غيمة البعوض الرمادية تماما ً…، ولا من ثوراته الدائمة، ولا من حروبه الأبدية…، ولكن إغفال الصراع شبيه بمن لا يرى شيئا ً؟
ـ إذا ً هل هذا هو مفهومك للقصيدة الخالصة…؟
ـ أنا أتحدث عن محركات القصيدة، وليس عنها، لأنها من غير محركات مثلها مثل الذي يموت قبل الولادة.
ـ آ …، ها أنا خطرت ببالي فكرة كتابة قصيدة لن يكتبها احد.
ـ جيد، مثل الذي يولد ولن يموت؟
ـ ما هذا اللغو… لا تخلط! لأن المسافة بينهما كالمسافة بين هذا المستنقع والمجرات الواقعة ابعد من حافات هذا الكون!
ولم يدع الآخر يرد، متابعا ً بصوت أعلى:
ـ فالثيران جميعا ًتخور، ولكن هل هذا هو تحديدا ً الصوت الاستثنائي للشاعر…؟
ـ بالضبط…، فانا، كحمار، سأستغني عن النهيق العام، بوصفة صوتا ً جمعيا ً، شبيه بصوت النمل، أو النحل، أو الأسماك، أو باقي الزواحف والكواسر والبرمائيات….، بحثا ً عن الأصل، أي ـ تحديدا ًـ الذي لا وجود له، أو الذي لا يمكن الإمساك، لأن هذا الدرب هو وحده جدير ببعث الهمم!
ـ الأصل المستحدث…، أم استحداث الأصل…، أم لديك الدرب الثالث…؟
ـ تعرف، سيدي الثور، كلاهما يعملان كالخبرة المستقاة من الدرب…! فالطريق بلا مسافر مثل المسافر بلا طريق…! فان لن لم ْ تجد الدرب ستسقط..، وإن وجدته فليس عليك إلا أن تجد الآخر…، فانا لا استحدث الأصل، ولا ادع الأصل يستحدث ذاته!
ـ آ ..، كأنك امسك بالخيط…؟
ـ أي خيط…؟ وأنت ترى البعوض قد حجب عنا السماء، ومنع عنا رؤية الشمس، وسد علينا الأفق؟
ـ ها، أنا سأكتب القصيدة التي لا تمتد، ولا ترتد، ولا تتوقف في الصفر! وسأدعوها بالقصيدة الخالية من الشعر! أي التي ستمسك بهذا الذي لا وجود له، وهو الوجود الجدير بالبحث!
قال الثور:
ـ خطرت ببالي فكرة؟
ـ ما هي…؟
ـ ها أنت تسمع نقيق الضفادع، وهن يصّغين لنا، وهذا هو كبيرهم..، أنثى كان أم ذكرا ً، لا فارق، دعنا نرى ماذا كتب…؟
تقدم الثور خطوات من ضفة المستنقع، وسأل كبير الضفادع:
ـ بالتأكيد أنت احد المدعوين للمشاركة في هذا العيد…، عيد حديقتنا البهي؟
هز رأسه، وقال:
ـ نقيق.. ببق..ففاقيققق…، بمعنى: ها أنا أقول نعم من غير تردد أو اعتراض! وخلاف هذا الكلام فيعني: لن أقول إلا لا ، وأنا في طريقي إلى المنصة، سيدي!
ـ جميل!
صاح الحمار. فسأل الثور كبير الضفادع:
ـ من أين لك هذه السلاسة…؛ تقول نعم مسبوقة بالدحض، وتقول لا مؤيدة بالاستجابة…، وتقولهما بالمعنى الذي يذهب ابعد منهما…؟ إلا ترى إنها بلاغة استثنائية ازدهرت مؤخرا ً في حديقتنا الباذخة…؟
ـ هذه ـ سيدي ـ مرونة القصيدة من غير أصوات، فالمعنى خاص بالذبذبات، فما دمنا نشترك في إثم واحد…،وواجب واحد، وفي كفاح عنيد واحد ..، وفي مصير واحد يستحيل إزاحته….، فان الانحراف يغدو ضرورة تتجاوز هذه الأحادية …؟
، وما علاقة البعوض بالأمر…؟
ـ هو عمل اليد بين المغزل والغزل، كعلاقة الجاذبية في نفيها وتوكيدها للكتل!
ـ والشاعر، أين موقعه…؟
ـ لا وجود له، سيدي، لأن اختفاء الشاعر يكمل ديمومة هذا الذي يزول…!
فسأل الحمار الثور:
ـ كأنه سرق مدوّنتي، هذا الشبيه بالصرصار…
اعترض كبير الضفادع:
ـ سيدي الحمار، ما شأنك والشعر…؟
ـ وأنت…، يا ابن المستنقعات، ولا أقول المستعمرات، ما علاقتك بالحفر في الظلمات؟
ـ آ …، هكذا عدنا إلى النظام العتيق…، أما أن أشتمك كي امجد هزائمك…، وأما أن أطريك كي أتجنب نصرك..، وأما السلامة….؟
اقترب غراب ابيض ووقف فوق صخرة قريبة بمحاذاة ضفاف المستنقع، تبعه غراب ازرق، وثالث من غير لون. فقال الأول:
ـ القصيدة يا سادة يا كرام…، لا يكتبها كاتبها، ولا ـ هي ـ التي تنسج نسيجها، القصيدة، يا سادة يا كرام، لا تعبر عن معنى، ولا عن المعنى، ولا المعنى يعبر عنها…، القصيدة، يا سادة يا كرام، تكمل ماضيها من غير عثرات!
ـ عدنا إلى الحفرة..!
فقال الغراب الأزرق:
ـ أنا لا اعرف من منا تخلى عن الآخر…، فانا هو الجسر لمرور المحنة وليس للامساك بها. فانا ليس لدي ّ الذي مازال نائيا ً، أو مجهولا ً، أو لغزا ً!
سأل الثور الغراب الثالث:
ـ يا عديم اللون، ما لديك…ظ
ـ أنا كلما نبذت الشعر سكنته! وكلما أمسكت به محوته! لأنني كلما سبرت أغوار المعنى ضاع الصوت، وكلما أمسكت بالصوت تبعثر المعنى، فالأمر يتدحرج وفق قانون الشفافية المستحدث بكمال الأصل!
هز الحمار رأسه، وخاطب الجميع:
ـ كان لدينا زميل من القرود يعمل معنا في جناح الدعية، كان يقرض الشعر أو الشعر يقرضه، لا أتذكر…، ولكنه كان يسف سفه، ويشتركان بإخراج السفسفة بوصفها شعرا ً…، هذا القرد هرب من حديقتنا، فذهب إلى دنيا أخرى لا تغلق الأفواه…، فماذا فعل هذا ألشاذي، لقد راح يشتمنا، ويحرض أجهزتنا السرية وفرق الموت وحرسنا الأمين على قتلنا، تحريضا ً شعريا ً، لأنه استلهم فعل السكين عوضا ً عن رمزية الكلمة!
ـ غريب!
وسأل الغراب الأبيض الحمار:
ـ هل هذا شاعر أم ابن كركدن!
ـ لا أرجوك، لا تستخدم الكلمات النابية، ونحن ليس لدينا ما نخفيه، فعلمنا مراقب …، ثم لماذا تشتم مخلوقا ً لم يخلق فائضا ً عن الضرورة..، فهل سمعت بحرية من غير قيد، وهل ثمة قيد من غير مدى ابعد منه…؟
ـ آسف…، واعتذر للكركدن، وإن كان غائبا ً عنا، وأقول: هذا ابن ….، الزنا!
ـ كم أنت صفيق..، وهل رأيت ابن زنا يدعوا إلى سفك الدماء…؟
فقال الثور لتنجب الجدل:
ـ ما دمنا نحتفل بذكرى تأسيس حديقة المجد، فلماذا نؤذي الشعر بذكر الوساخات، وعذرا ً لزملائنا القردة الذين لا يقرضون الشعر….!
ـ أحسنت …، فالسيد المدير، زعيمنا الخالد، سيختار نخبة من ابرز شعرائنا للمشاركة في مهرجان الكون للحدائق والمحميات والمستنقعات.
اقترب الحمار من الثور:
ـ عدنا إلى المستنقع!
ـ أغلق فمك! فالذبذبات تفضح ما يدور حتى في أصلد المعادن!
ـ آ ….، أذا ً فأنت أمسكت بمفتاح القصيدة؟
فسأله:
ـ بماذا أمسكت؟
ـ بالمعادن، أو ربما بالصخور، وليس بالمفتاح؟
ـ آ …، يا ثوري الغالي، إنها علاقة سرية لا تعمل إلا عبر التمويهات، والمظاهر…، وهذا هو سر خلود شعراء هذه الحديقة…، يعلنون ما يخفون، ويخفون ما يبدو معلنا ً، ولكن المشكلة، يا سيدي الموقر، إنهم لا يمتلكون قدرات على الإخفاء، ولا على المحو!
ـ هذا هو مضمون قصيدتك العصماء؟
ـ لا…، تعرف إن أعظم القصائد هي التي تتخلى عن وظائفها التقليدية…، فالشعر الذي لم يكتب لن يكتب إلى الأبد إلا بعد أن نكون جميعا ً قد سبرنا تلك المدارج العصية…، ومادام العالم اليوم منشغلا ً بالثورات والثورات الارتدادية وبما يستقصي مكنونات بذرة الخلق الأولى وما قبلها فان المناسبة ستسمح بظهور اللا متوقع تماما ً…
اقترب فيل تائه يتمايل لا يقدر أن يمنع نفسه من هستريا الضحك، اقترب كثيرا ً منهم، وأغلق فمه، تاركا ً خرطومه يلامس تراب الأرض، فسأل الثور:
ـ كنا نود مشاركتكم بهجتكم أيها الفيل المرح؟
رد الفيل وقد انخرط في بكاء حاد:
ـ ألا تشاهدون…؟
حدقوا جميعا ً في عينيه، وقالوا بصوت واحد:
ـ لا …، لا نشاهد شيئا ً يذكر عدا غيمة البعوض مازالت تحوّم فوق الماء.
ـ واآسفاه عندما تعمى الأبصار، وتكل البصيرة…!
ـ قل ماذا تريدنا أن نراه، ولا تشغلنا بغير خفايا الشعر، وأسرار القصيدة.
ـ يا سادتي إنني احمل، فوق كاهلي، أثقل قصيدة كتبت منذ بدء الخليقة، وحتى يومنا هذا!
ـ أنت إذا ً تتعذب، وتشقى، بسبب وزن القصيدة؟
ـ كثيرا ً.
ـ لابد انك ستلد اكبر قصيدة…، سترشحك لنيل درع الزعيم للإبداع؟
ترك خرطومه يتمايل، مثل ورقة توشك على السقوط، يسارا ويمينا ً، وقال بصوت مشوب بذرات بلورية:
ـ مازالت القصيدة تجثم فوق كاهلي، أيها الشعراء!
فقال الثور:
ـ آسف…، بحضورك يغيب الشعر كي يولد! وبوجودك يبلغ الشعر ذروته كي يدشن عصره الجديد!
ـ عن أية ولادة تتحدثون…، يا سادتي، أرجوكم…، أنا جئت أطلب المساعدة منكم؟
اقترب الحمار منه، وسأله بصوت ناعم خاليا ً من النهيق:
ـ أية مساعدة تطلبها منا …؟
وأضاف الثور يخاطبه من غير خوار:
ـ لن نتخلى عنك أيها العزيز..
فقال الفيل وقد راح يتمرغ في الوحل، عند ضفة المستنقع:
ـ النملة الجاثمة فوق رأسي مازالت تدندن!
ـ آوووو…..
وأضاف الثور يخاطب الحمار:
ـ الم ْ أخبرك…، منذ التقينا، في مطلع هذا النهار السعيد، إن لم تكتب القصيدة بنفسك، فإنها هي بذاتها ستكتبك؟
ـ أرجوك …، قسما ً بالفيل، سأستدعي القصاب! فانا أشم رائحة السكين، حتى لو كانت خالية من الدم!
ـ لا تفعل…، يا صاحب ارق الأصوات، وأعذبها، لا تفعل مع شريكك في هذه الحديقة.
نهض الفيل، وعدل وقفته، وترك خرطومه يتمايل، وقال:
ـ الآن …، الآن …، أوقفت النملة جهاز الإرسال!
ـ أين هي، يا سعادة الفيل؟
ـ في رأسي!
ـ غريب.
وأضاف الحمار يخاطب الغراب الأبيض:
ـ هل سمعت…، فقد قال ما كنت تتحدث عنه؟
ـ أنا قلت: القصيدة هي التي تشغل حيزا ً تستحدث فراغاته لتواصل عملها ابعد مدى في الأبصار، وفي الاستبصار. وسعادة الفيل هو من استحدث هذا المجال للسيدة النملة التي مكثت جاثمة داخل خلاياه!
ـ بالضبط.
متابعا ً أضاف الفيل من غير عويل:
ـ فمنذ سنوات بعيدة…
اعترض الغراب الأزرق:
ـ نعرف، نعرف…، إن هناك نملة أغوتك…، ونعرف ما حصل بعد ذلك….، بعد أن رحت ضحية عشقك الحرام لها!
ـ أحسنت، ففي الإيجاز تكون البلاغة تحررت من ضرورات التأويل، وفبركات الدارسين، ولغط النقاد!
طار الغراب الثالث، متمتما ً بنعيب متذبذب:
ـ أخشى أن أقع ضحية هذا اللغط…، الغامض، فأتلوث بلون الشعر؟
رد الفيل:
ـ من هذا المتكلم…؟
ـ ما شأنك به؟
ـ كيف …، وقد جذبني لونه؟
ـ ها، ها، ها.
وسقط الحمار أرضا ً من شدة القهقهة، حتى كاد يفقد آداب الجلسة وأصولها:
ـ ها…، فهو الوحيد الذي كان يخفي لونه علينا!
ـ اعرف…، سيدي، مثل هذه النملة التي جعلتني امضي حياتي انسج لها القصائد…، وهي الآن تطلب مني أن اكتب آخر قصيدة لها!
صاحت النملة:
ـ كيف أخبركم انه باح بما أخفاه علي ّ…، الآن، وقال: إني أنا من أغوته، ولم يقل انه هو من فعل ذلك…، فانا طالما قلت له: ابحث عن البذور المتناثرة بين حبيبات الرمال وذرات الأثير….، تلك التي لا يراها احد شارد مشغول وأعمى…، ففيها تتكوّن أكثر المسافات اتساعا ً…
وسكتت النملة، جاذبة انتباه الجميع لصوتها، وحركاتها الرقيقة، لتبدد الصمت:
ـ أما حديثكم عن القرد الذي اتهم سيدنا الحمار بالعمل متلصصا ً أو جاسوسا ً لدى أمراء حديقتا وسادتها، على زملائه الشعراء، فاذهب وأسأله: عند من كنت تعمل، قبل أن تفر، متخفيا ً بثوب صرصار، وعند من تعمل الآن…، وإلا لكان حضر معنا وشاركنا ابتهاجنا بهذا اليوم الخالد؟
ولولول الحمار بصوت مخنوق:
ـ ما أدراك انه سيصبح رئيس الجلسة، والمشرف عليها! مادامت قصيدته سبقته في الحضور إلينا؟
صاح الثور:
ـ آن لي أن أعود إلى قاع المغطس، فردوسي!
فقال الفيل يخاطب النملة:
ـ كان علي ّ أن أتعلم منك هذا السر؟
ـ أي سر يا حبيبي؟
ـ سر البذرة التي تخلت عن موتها وقد وجدت مأواها في قلوبنا، بعد أن وجدت سكنها في أقاصي الرؤوس؟
ـ يا أولاد….
وصاح الثور متابعا ً:
ـ إلى المنصة، إلى المنصة…، لأن كل من يتأخر سيعرض مصير حديقتنا للدمار والأفول والزوال!
9/5/2015
عادل كامل ـ سيرة
* ولد عام 1947/ أكمل دراسته في معهد وأكاديمية الفنون الجميلة – بغداد 1966-1977./ عمل في الصحافة منذ عام 1970 ـ 2014. عضو رابطة نقاد الفن [الايكا].
الكتب المنشورة
* في النقد الفني:
[1]على هامش الحركة التشكيلية في العراق. جامعة الموصل/ 1979.[2] المصادر الأساسية للفنان التشكيلية المعاصر في العراق – الموسوعة الصغيرة – العدد 43/1979.[3] الحركة التشكيلية المعاصرة في العراق /مرحلة الرواد 1980. [4] الفن التشكيلي المعاصر في العراق ـ مرحلة الستينات 1986.[5] فرج عبو/ دارسة/ 1984. [6] حاضر النقد التشكيلي في العراق/ الموسوعة الصغيرة/ العدد 208/1986. [7] الحداثة في التشكيل العراقي/ الموسوعة الصغيرة /العدد/403/1997.[8] التشكيل العراقي – التأسيس والتنوع 2000.[9] علامات الكتابة/ الموسوعة الصغيرة / العدد/ 2000/451. [10] تضادات النص وبنية الخيال الأسطوري/ قراءة تمهيدية لرسوم عبد الكريم سعدون. جمعية التشكيليين العراقيين ـ السلسلة الفنية(6) بغداد 2002/ [11] إسماعيل الشيخلي (حداثة الرسم وجماليات الخطاب) السلسلة الفنية ـ جمعية الفنانين التشكيلين العراقيين/ السلسة الفنية، العدد (7) آذار 2002. [12] خمسة تشكيليين من كردستان العراق – وزارة الثقافة ـ السليمانية/2003. [13] إبراهيم العبدلي (واقعية الأسلوب وشفافيته) سلسلة إبداعات فنية(2) دار الأديب للصحافة والنشرـ بغداد 2006[14] الرسم المعاصر في العراق (مراحل التأسيس وتنوع الخطاب) وزارة الثقافة ـ دمشق ـ 2008. [15] تشكيليون عراقيون. مطابع دار الأديب ـ عمان ـ الأردن ـ 2009، وهو كتاب صدر لمناسبة إقامة المعرض العراقي الشامل في قاعة رؤى بعمان ـ عام 2009 وشارك فيه أكثر من80 تشكيليا ً عراقيا ً. [16] منعم فرات ـ وزارة الثقافة ـ بغداد 2013 [17] ماهر السامرائي ـ وزارة الثقافة ـ بغداد / موقع أدب وفن ـ 2013 [18] إسماعيل فتاح ـ من ديموزي إلى عصر العولمة ـ مشفرات الموت وأطياف الحرية. وزارة الثقافة ـ دائرة الفنون التشكيلية ـ بغداد 2013.[19] عدنان المبارك بين الكتابة والرسم .من السرد إلى الصمت : العلامة ومتغيراتها/ موقع القصة العراقية 2014
في القصة والرواية:
[20] صوت الغابة/ قصص/ 1979.[21] الضفاف البعيدة/ قصص/ 1982. [22]الضياء الأخر/ قصص/ 1983. [23] ذاكرة البحر/ قصص/ 1986.[24] آخر الفصول / 1995.[25] عربة الحصان الميت/ قصص ـ بغداد 2005[26] رغبات قيد الاستيقاظ / رواية/ 1984.[27] أعوام الشمس/ رواية/ 1984.[28] موقد النار / رواية / 2000 /[29] حكايات ولدي الشاطر ـ دار ثقافة الطفل ـ 2010 [30] الإمبراطور يتكلم ـ قصص ـ بغداد ـ 2013 [31] ساعات التراب/ رواية ـ موقع القصة العراقية. [32] عصر إنانا المستعاد/ موقع القصة العراقية. 2013[33] عند جذر الوردة ـ موقع القصة العراقية [34] كتاب رابعة. موقع القصة العراقية. [35] ألفية الولد الجميل ـ موقع رابطة الأدباء والفنانين العراقيين في هولندا. موقع سومريننت [36] الاحتفالات ـ موقع أدب وفن. [37] [الغزلان في السماء] موقع القصة العراقية ـ قصص/ 2015
Az4445363@gmail.com