طحنت السياسة الطائفية الوجود العراقي بهويته الوطنية مقابل حال من التمزق الذي فرضته ظاهرة بلطجة المجتمع بهراوة ميليشياوية مكّنتها عناصر أحزاب الطائفية من المشهد بدل السير في طريق بناء الدولة المدنية ومؤسساتها على وفق خيار الشعب الذي تجسد بدستور ما بعد تغيير 2003. وعلى وفق انتفاضات الشعب بخاصة منها في عامي 2011 و2015 التي مازالت مستمرة منذ حوالي الشهرين.
إنّ ما جرى على مدار ما يقارب الـ13 سنة عجافاً هو مزيد خراب في بلد أنهكته الحروب العبثية وأشكال الحصار ليدخل مرحلة اتسمت بانعدام أي خطة تنموية رافقها أعلى فساد عالمياً بحجم مافيوي تراجيدي مهول! واستمرار سياسة عسكرة المجتمع وإرهابه وإنْ بصيغ وآليات جديدة؛ هي انعكاس لإدارته الكليبتوقراطية الطائفية الهزيلة وتجسيدها فلسفات بمرجعيات غير وطنية ولا صلة لها بمصالح الشعب..
لقد أودى ذلك بحيوات مئات آلاف المواطنات والمواطنين.. وبيع العراقي بأبخس الأثمان. وتمت جرائم تصفوية في المدن والأحياء والضواحي لتعزيز استفحال العزل الطائفي وتم ارتكاب عمليات اغتيال لآلاف العلماء والمتخصصين والإعلاميين وقوى التنوير الذين تعتمدهم الدولة المدنية فيما تم تنصيب عناصر الفساد الطائفية على كرسي السلطة بوصفه جزءاً من غنيمة أخذوها ولن يعطوها على حد ما توهموه وصرحوا به…
كل هذا لم يجذب أنظار العالم للقضية العراقية بعد انتهاء حرب 2003؛ وكل ما جرى أنهم اكتفوا بالتفرج على الظواهر الخطيرة الجارية والجرائم المرتكبة حدّا وصل بها إلى تكرار جرائم الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية وليس من يتحدث عن القضية العراقية إلا من زوايا تخص مصالح جهات إقليمية ودولية وتسويق لقشمريات مافيات التحكم بالعالم لمصلحة استغلال وحشي بلا حدود!
في ظل هذا الوضع، اندفع آلاف من المحبطين، فاقدي الأمل من إمكان إحداث التغيير المنشود وتحقيق الاستقرار والأمن وإطلاق فرص إعادة الإعمار، ليتجهوا تحت ضغط العنف المفرط إلى مهاجر حلموا بأن تستوعبهم إنسانياً! وما وجدوا سوى مخيمات حدود الجوار فوقعوا أسرى تجار البشر ومافيات أخرى طحنتهم حتى انتفضوا لرحلة جديدة (ربما) ينعتقون بها في دول الاتحاد الأوروبي!؟ لكنهم من جديد دفعوا بهذه الرحلة ضحايا وقرابين للتضاغطات السياسية وللمافيات، عشرات آلاف الذين التهمهم البحر وقضت عليهم أحراش وأدغال برية فضلا عمن تم تصفيتهم من تجار أعضاء الأجساد البشرية في غابات التوحش!
أما القسم الذي وعى وأدرك المجريات فخرج بتظاهرات شعبية بحجم هبة جماهيرية واسعة. وهؤلاء هم من أعاد القضية العراقية إلى واجهة الحدث. وهم من ناصبتهم (بعض) قوى إقليمية ودولية مجدداً حرباً تصفوية من أجل احتوائهم وإطفاء شعلة ربما تعيد وحدة العراق وبناء دولة مدنية تنطلق فيها قدرات التنمية..
هنا بالضبط خاضت الهبة الجماهيرية معركتها ليس مع عناصر هزيلة أدارت الوضع في المدة المنصرمة بل مع من يخطط من وراء الحدود.. فجابهت التهديدات التصفوية ومحاولات شراء الذمم وإعادة الانقسام على أسس طائفية..
غير أنّ الحركات الشعبية عندما تأخذ طابع الهبات تستطيع لا الوقوف على أعتاب التغيير وإزاحة قوى الفساد بل كذلك تستطيع توجيه رسائل حازمة وحاسمة تجاه القوى التي أوغلت في التدخل ومحاولات دفع العراقيين لمهالك التمزق وتشتيت الشمل وحتى إخضاعهم للتمترس خلف قوى الاحتراب الطائفي التي لم تقدم فرداً رخيصا منها ضحية بوقت أدارت وتدير فيه مطحنة آلتها الجهنمية بحق الشعب وهذه هي القوى التي تستهدف الهبة الشعبية إزاحتها من على كاهل الناس ووجه الوطن المبتلى!
إنّ عوامل إظهار القضية العراقية هذه المرة تنبع من كونها تنطلق من داخل الوطن ومن قضايا تخص مسيرة استعادة انعتاقه وتكمن أيضا في سعة الهبة الجماهيرية.. وفي طابع التقدم ببرامجها وبتنظيم أسس حراكها وآلياته وبالتأكيد تكمن في وضوح مطالبها الإنسانية الحقوقية سواء منها الخدمية أم تلك السياسية التي قضت بإجراء تغييرات شاملة تستجيب لإبعاد أسباب المشكلة التي عانى منها العراقيون. ثم تأتي عوامل أخرى منها التضامن الأممي بخاصة من قوى وحركات ومنظمات معروفة بدفاعها عن حقوق الشعوب وحرياتها..
لكنّ ما يجب التنبيه عليه هنا، هو أن سبباً آخر أبرَزَ القضية العراقية إلى الواجهة هو تلك الجهات الإقليمية والدولية التي تهددت مصالحها جوهرياً.. ومعروفة هي تلك الجهات وحجم تدخلاتها وطابع مصالحها وكيف ساهمت وتواصل في ارتكاب أبشع الجرائم بحق الشعب العراقي ووجوده وسلامة دولته…
إن حجم المصالح والمآرب الإقليمية والدولية مازال مستفحلا في دوافع وجوده. سواء تجاه نوازع ثأرية وتصدير حالات الاحتراب مما يقع بين قوى متعارضة أم بشأن مطامع في غنيمة يريدونها من الثروات العراقية التي لا يمكن استغلالها من دون تمزيق البلد وإخضاعه لمافيات الجريمة المُدارة من تلك الجهات أو بدفع منها..
وهكذا باتت القضية العراقية بالواجهة لإدراك جميع الأطراف أنّ انتصار إرادة الشعب العراقي وتمكنه من إدارة مسيرته يعني استعادة وجود وطن بهوية عمرها عشرة آلاف عام ودولة بعمر ناهز القرن وسيعني أداءً يخدم الشعب العراقي بكامل مكوناته.. تلك المكونات التي اعتدت عليها النظم المتعاقبة وقواها العنفية المسلحة بعمليات إبادة منذ سوميل مروراً بجريمة القرن العشرين في حلبجة والأنفال وليس انتهاء بجرائم سنجار والموصل بحق المسيحيين والأيزيدية وجرائم مهولة أخرى…
إن دفع القضية العراقية إلى الواجهة له وجهان أحدهما إيجابي وآخر سلبي! فالإيجابي يتمثل في جذب التضامن الأممي وفي التأثير بالمجتمع الدولي كي يلعب دوره بوقف نزيف البلاد بخاصة في قدراتها البشرية. الأمر الذي يمكن أن يستعيد العراق وضعا بنيوياً مختلفا..
ونحن نذكّر هنا بهذا الشأن بما جرى من تعطيل الطاقات العلمية وشلّ العقل العلمي سواء بتوطينه في المهاجر مع فروض بين استغلاله وبين عيشه عاطلا تقتله البطالة أم بتصفيته في داخل الوطن أو بإخضاعه لآليات البطالة المقنعة ومنعه من إدارة مسيرة بناء وتنمية في مجتمعه.
وكي لا نبتعد كثيرا عن مسألة عودة القضية العراقية إلى الواجهة، نشير إلى الوجه السلبي من هذه الحقيقة، إذ أننا مع تقدم الهبة الجماهيرية إلى أمام ومع وضوح برامجها أهدافاً وآليات تصاعدت وتتصاعد بوجهها التحديات وتتفاقم التدخلات وبين حجم غير نوعي للحراك التضامني الأممي وتحدده بالتعاطف الإنساني أو بصياغة أوضح بحدود العاطفة لا الفعل وبين قدرات الفعل الإقليمي والدولي للتدخلات تطفو معالم الجانب السلبي في التوازن …
إنّ الكرة اليوم بملعب العراقيين وعليهم الانتقال الفوري إلى مرحلة جديدة نوعية من الحراك وعدم الاكتفاء بالتظاهر أيام الجمع والسبوت أو التطلع لأيادٍ خارجية يمكنها أن تنقذهم! وليس صديقا لهم اليوم إلا أنفسهم وكل القوى المحلية والأجنبية لا تقف إلا مع الطرف الذي يفرض وجوده ويقف مدافعاً قوياً عن مصالحه..
والحراك بيديه فرصة واحدة ومنقذ واحد، إنه الشعب وتقدمه بشكل موحد في حراكه.. وقضية التوحيد لا تكمن بتنسيقية آنية إجرائية بل تكمن في قيادة لها خبراتها وتجاريبها.. وعندما نتحدث عن مطلب وجود قيادة مجربة إنما لدواع وأسباب تتمثل في أنّ: الصراع الدائر في الميادين ليس قضية تقنية يمكن للكوادر الأكاديمية التصدي له ولكنه، أيّ الصراع، قضية سياسية تتعلق بخيار نظام حكم بديل لكل ما انحدرت إليه الأوضاع من نظام بات بامتياز نظاماً كليبتوقراطياً وظهرت طبقة تدافع عنه هي طبقة الفساد [الكريبتوقراط] المستندة لخلفية طائفية وطبعا هذه القوة المرضية تمتلك وسائلها وقدراتها في ضرب الهبة الجماهيرية… وهذا ما ينبغي أن تتصدى له القيادة المجربة وأن تلتفت غليه كل العناصر الشابة التي ظهرت بالتنسيقيات بما ينتقل بالهبة إلى وضع جديد ويمتنع عن التراجع بها مثلما تتطلع غليه بعض القوى.
عراقيا كون الحراك الشعبي حراكاً مدنياً فإن قوى اليسار والديموقراطية هي المعنية بالنزول إلى الحراك بجهدها المباشر وببرامجها وآليات اشتغالها.. وبقاء تلك القوى وقياداتها تتعامل بدفع جمهورها وسط الحراك لم يعد يكفي في هذه المرحلة.. لأن قوى الفساد بدأت بلعبتها الأخطر سواء بتمزيق الصفوف أم بتفعيل بعض عناصرها التي دسوها في المرحلة السابقة..
إنّ البحث اليوم عن الحلفاء الاستراتيجيين وتحديداً اشير إلى إقليم كوردستان كونه الركن الذي احتضن دوما الانتفاضات ومناضليها أمر جد إيجابي وقوة مهمة لصالح التغيير وعلينا أن نقرأ هذا التحالف من زواياه الأعمق كي نستطيع فهم خطى الأداء بشانه.. كما ينبغي أن نحتضن القوى الوطنية بكل الأطياف وباحترام بل بقدسية للتنوع والتعددية، تطمينا للمشاركة الشعبية الأشمل بلحظة صارت بحاجة لكل مواطنة ومواطن..
ويلزم هنا استثمار ظهور القضية العراقية دولياً لنستثمرها بمطلب التغيير ومحاسبة عناصر الفساد بمد جسور التحالف الأممي الدولي في هذه اللحظة.. ولكسر الصلات النفعية العابرة مع عناصر الفساد وتجارتهم الخاسرة..
إنّ ذلك هو ما سيؤدي إلى ولادة عراق جديد يساوي بين مكوناته ويحترم وجودهم ويستطيع أن يبني قواته الوطنية التي تحمي سيادته وتتصدى للخروقات المهلكة ولقوى الإرهاب..
فهلا التفتنا لقراءات استراتيجية تسعفنا في لحظات الحسم!؟ ذلك ما ستكشفه الأيام القليلة القابلة، ولنا وقفة جديدة لاستكمال المعالجة.