هذه المعالجة ستركز بمحاولتها على تقديم إجابة مخصوصة بسؤالها الذي وضعناه عنوانا لها.. ومن هنا نذكّر بأنّ الوضع يتطلب دراسات أخرى تجيب عن كثير من الأسئلة الحيوية الرئيسة المهمة التي تجابه الجميع.
وطوال المدة التي أعقبت التغيير في العراق منذ 2003 حتى يومنا، دافع الشعب العراقي عن خياره في بناء دولة مدنية لعراق ديموقراطي فديرالي جديد. لكن المعضلة تركزت في طابع النظام السياسي ومنهج من تحكم بالسلطة بوصفه منهجاً طائفيا استخدم خطاب المحاصصة ففتح الأبواب على مصاريعها للفساد والمفسدين، حتى بات العراق بين أعلى دول العالم فساداً وأكثر دوله فشلا.. ما جسَّد ويجسد طابع النظام الذي ظهر بعد مسيرة 13 سنة من الانحدار؛ إنّه نظام كليبتوقراطي طائفي بامتياز!
فلقد تفاقمت في ظل هذا النظام وآلياته مشكلات الفقر ونسبه عمودياً أفقياً، ونسب البطالة بأشكالها الحقيقية والمقنَّعَة. وازدادت نسب الجريمة والانفلات الأمني إلى الحد الذي جرى فيه تسليم ثلث الأرض العراقية لقوى الإرهاب وترك أبناء تلك المساحة الشاسعة لاستعباد تلك القوى الدموية البشعة وإذلالها للناس.
وظهرت مجدداً جرائم الاتجار بالبشر وظواهر العبودية الجنسية مثلما تعرضت له الأيزيديات والمسيحيات وكثيرات من الأرامل ومن النازحات اللواتي تدهورت أوضاعهنّ وصودر وجودهنّ الإنساني. وباتت ظواهر أطفال الشوارع وملايين المحتاجين لسلة الغذاء والدواء متفاقمة واضحة تعلن عن نفسها بشكل سافر!
ولهذا السبب انتفض الشعب في شباط 2011 وتم اغتيال الانتفاضة بخديعة الوعد بتلبية المطالب في 100 يوم. ليدبج، لاحقا، من أطلق الوعد وهو [السيد المالكي] المجال لصراعات مفتعلة، كيما يتخلص من وعده ويطمطم عليه ليتناساه نهائياً. وتلك الحيل معروفة مكشوفة عند وعي الشعب وإدراكه المجريات..
ومجدداً وبسبب من تفاقم الأوضاع المنهارة، اندلعت انتفاضة شعبية واسعة هي انتفاضة تموز 2015 التي نقلت مطالبها نوعيا من حدود مطالب الخدمات وتوفير سبل العيش الإنساني الكريم إلى مطالب يمكن عند تلبيتها أن تضمن استجابة فعلية للحقوق والحريات كافة وأنْ تحميها، تلك هي المطالب السياسية والاقتصادية الأشمل، أي مكافحة ظاهرتي الفساد والطائفية والقضاء عليهما نهائيا في مؤسسات الحكم كافة للشروع ببناء الدولة المدنية الخالية منهما تأمينا لمسيرة تحقق العدالة الاجتماعية.
لقد أدرك الشعب بحسه ووعيه أنّ مصائبه وتراجيديا وجوده لم تأتِ إلا من الطائفية والفساد وهما صنوان لتهديد الإرهاب وجرائمه. وأنه لا يمكن مكافحة الإرهاب والقضاء عليه ما لم يتم شنّ حرب شاملة تتضمن الحرب على الفساد وإنهائه وقطع دابر المفسدين بما يوفر شروط الانتصار للحظة الخلاص من الفساد ومافياته وآليات وجوده التي جعلته يعشعش في الدولة…
ولكن، وفي أجواء الانتفاضة الشعبية المستمرة حتى يومنا في ميادين التظاهر: هل يمكن للطابع السلمي أن يوفر شروط الانتصار والتغيير؟ وهل يعني الطابع السلمي الامتناع عن تشخيص قوى الفساد من أحزاب وشخصيات وقوى وإيجاد سبل إزاحتها عن المناصب التي احتلتها بالخديعة والتضليل؟ وهل دعم مؤسسات الدولة في خطاها التي تلبي مطالب الشعب يعني تأييدا مجانيا لشخصية أو حزب كانا طوال الـ13 سنة جزءا من المشكلة ومن التسبب في مآسي الناس!؟
ومن أجل التركيز على الإجابة عن سؤال المعالجة نركز الأمر بسؤال: هل يمكن لذات الشخصيات (الطائفية) أن تنهض بمهمة التحول والتغيير الذي تتطلع غليه الجماهير وتسعى انتفاضة الشعب إليه؟
إنّه من العبث الاعتقاد بصواب فكرة التأييد المجاني، غير المشروط للشخصيات المتنفذة التي تقود الحكومة اليوم، لإحداث التغيير وتلبية مطالب الشعب وانتفاضته. ذلك أن كل الشخصيات التي كانت ومازالت جزءاً من أحزاب الطائفية ومنهجها لم تغادر حتى يومنا طابع التفكير والآليات المحاصصاتية من جهة ولا حرصها على التمسك بما تسميه غنيمتها التي لن تقبل بخسارتها؛ فوجود تلك الحركات وزعاماتها قائم على الربح المادي وعلى فرض قسري لخطابها وتحكمه بالناس استعبادا واستبدادا وإذلالا وكذلك يشكل نظام الفساد حالا من التشابك والاتحاد بين عناصره بما يتطلب إزالتها جميعا منعا للعودة من الشباك لمن سيتم إخراجه من الباب…
إنّ قوى الطائفية كما أثبتت الأحداث والوقائع طوال مدة الانتفاضة التي مضى عليها قرابة الشهر سخرت من العراقيين ومن مطالبهم ووصمتهم بالخونة المتآمرين والعملاء لجهات أجنبية مثلما رفضت إقرار مطالبهم وحقوقهم لأنّ الطائفيين يرون التظاهرات تريد انتزاع ما يسمونه (غنيمة) ملكا خاصا بهم كونهم ورثة الله على الأرض…
وبالكاد تجد بعض أصواتهم التي تتحدث عما لا يمثل بديلا ولكنه بجوهره يدخل بنطاق المناورة والتضليل ولا يدخل قطعا في باب الحل المؤمل الذي تنشده الانتفاضة الشعبية. من هنا وجدنا تلك الحركات مارست البلطجة ضد المتظاهرات والمتظاهرين وأمام أنظار القوى الأمنية التي يُفترض أن تحميهم وتتدخل لفض أي اشتباك..
وهي، اي القوى الطائفية، دفعت بلعبة شق التظاهرات والنزول وسطها بكل ثقلها الأمر الذي فشل؛ فدفعت باتجاه النزول بمواعيد تسبق التظاهرات كي تحصر جمهورها وتأسره بشعاراتها الجوفاء التي لا تعبر عن دين وقيم أخلاقية وليس لها من علاقة بمطالب الشعب إن لم نقل أنها تُطلق من باب التشويش والتعتيم على مطالب الشعب. من قبيل شعارات غلق محال المشروبات الروحية وكأن أزمات أكثر من خمسة مليون نازح ومهجّر وثمانية مليون طفل بحاجة للغذاء الصحي المفتقد وملايين الفقراء ممن بحاجة لسلة الغذاء والدواء ومئات آلاف أطفال الشوارع وملايين العاطلين عن العمل، كأن كل هذا سببه بضع محال للمشروبات الروحية!!؟ وكأن الأزمة الأخلاقية التي صنعتها الطائفية هي قضية بضع محال يجري شن الحرب عليها!!
وللحقيقة فإنها تريد بإطلاق تلك الشعارات التعتيم على جرائم الإرهابيين وعلى أسباب ضياع ثلث الوطن بأيديهم ومحاولة فرض تناسي جرائم سبايكر وجرائم الإعدام والقتل الجماعي وتدمير الآثار ونهبها وسرقة الثروة الوطنية بالتركيز على شعارات لا علاقة لها بالدين لو جرى الحديث عنه ولا علاقة لها بالقيم الأخلاقية لو جرى البحث فيها حيث يرتكب الطائفيون المتاجرة بكرامة الإنسان وشرفه بفروضهم الاستغلالية الاستبدادية واستعبادهم ملايين الأرامل والأطفال عبر جرائم يعجز علم وعالم عن قراءتها لهول ما فيها من انتهاكات!
فهل يمكن لشخصية مسؤولة من بين مسؤولي الحكومات المتعاقبة منذ 2003 أن تكون وصية على العهد في بناء دولة مدنية خالية من الفساد؟ لقد هتف الشعب ((حاميها حراميها!)) وهو على حق. وشخّص الفساد في القضاء المسيّس التابع للسلطة التنفيذية وطالب بإقالة رأسه وبتغيير تركيبته ليس بالمجيء بوجوه مثيلة من داخل حركات الإسلام السياسي الطائفية وفسادها بل ببديل نوعي مختلف.. وطالب الشعب بحل البرلمان والتوجه إلى حكومة إنقاذ تحقق ضبط الوضع الأمني المنفلت وأن تبني جيشا وطنيا صحيحا كفءا مدربا وذا جاهزية…
إنّ ذلك جعل قوى التحكم بالسلطة الطائفية الحامية للفساد تجتمع بصوت واحد في توصيات لم ترق لمطلب واحد من مطالب الجماهير المنتفضة بل هي جزئية من مطلب جاءت لذر الرماد في العيون.. الكارثة أنهم حركوا محاولات شراء الذمم وأصوات بعينها لتتحدث عن سلطة استجابت للمطالب فلماذا استمرار الانتفاضة!!؟
إن اجتماع رئيس الحكومة مع العناصر التي شخَّصها الشعب بكونها رؤوس الفساد يعني تمسكه بها وبنهجها الطائفي المحاصصاتي الفاسد! وكذلك تركيزه بالتغييرات على إعفاء العناصر النزيهة وتثبيت الفاسدة! إنّ ذلك يمنح الشعب فكرة عن استحالة تحقيق التغيير من داخل قوى الطائفية وأن البديل يجب أن يكون ممنهجا بمشروع وطني شامل للتغيير تسلم تلك القوى بوساطته السلطة إلى الشعب بترتيبات وإجراءات فرض تشريع القوانين وعلى وفق منطق الدولة المدنية وأفضل ما يلبي حقوق الشعب أسوة بكل شعوب المعمورة.. ثم التوجه لإعادة بناء المؤسسات على وفق القوانين السليمة التي تفرضها الانتفاضة.
إذن، لا يجوز الركون إلى شخصية بعينها ومنحها التفويض والتأييد بشيك على بياض. لأنها كما أشارت كل خطاها مازالت جزءا من ذات النهج الطائفي الذي أودى بالعراقيين إلى المهالك.
لكن من يمكنه أن يقوم بمهمة التغيير، هو القوى الوطنية الديموقراطية التي عرفها الشعب بالنزاهة وبالأيادي البيضاء وببرامج البناء والتنمية ورسم خطى التقدم وإعادة إعمار الوطن والأنفس…
ومن أجل ذلك فإن الإجابة عن أسئلتنا تؤكد أنه: كلا لا يمكن للطائفي أن يقود مسيرة التغيير وبناء عراق جديد.. وأن من يمكنه تحقيق ذلك هو من تبنى برامج بناء الدولة المدنية وهؤلاء هم الذين التقوا فعليا بانتفاضة الشعب وأهدافها بل هدفها الأساس الرئيس متمثلا بدولة مدنية بلا فساد ولا مفسدين…
ومن مجمل ما تقدم يمكن القول: إن الإجابة عن سؤال: هل يمكن للطابع السلمي أن يوفر شروط الانتصار والتغيير؟ نقول بلى (جوهريا) ممكن لأنه يؤكد تمسك الشعب بطابع الحياة الإنسانية السلمي ، طابع أجواء البناء ورفض العنف الذي لا يعني سوى التخريب والتدمير والهدم وهذا بحاجة لذكاء في التنفيذ وفي الآليات..
أما الإجابة عن سؤال: هل يعني الطابع السلمي الامتناع عن تشخيص قوى الفساد من أحزاب وشخصيات وقوى؟ فنقول: كلا، بل الصحيح والأنجع والأسلم أن الشعب يجب أن يشخّص بالاسم عدوه وأن يزيحه من التحكم به كي يستطيع الشروع بالبناء.
ومن أجل ذلك سيعني دعم مؤسسات الدولة في خطاها التي تلبي مطالب الشعب رفضا لتأييد أية شخصية أو حزب كانا طوال الـ13 سنة جزءا من المشكلة وسببا في مآسي الناس..
ولانتفاضة ببغداد حتى البصرة، أن تفرض بقوة تماسكها من تريده بديلا في موقع المسؤولية بحكومة تجمع بين التكنوقراط العراقي الوطني التنويري المؤمن بالدولة المدنية والتحالف السياسي صاحب برامج البناء الأنجع..
هنا فقط ستتحقق آمال الشعب وتنتصر إرادته في السير نحو التغيير المنشود وبناء عراق ديموقراطي فديرالي يستجيب لمبادئ العدل والمساواة ودولة المواطنة مع احترام لكامل حقوق مكوناته القومية والدينية باسس موضوعية تلبي حق تقرير المصير للجميع بلا استثناء.