في وقت تنشغل قوى التأسلم السياسي بإسقاطاتها الدينية كي تستكمل تمرير أجنداتها المرضية المعادية لمصالح الشعب، نجد في الوقت ذاته تدهوراً مستمراً في الوضع العام في البلاد. وكوردستانيا لا تشذ قوى التأسلم عن زميلاتها ببغداد في خطابها التضليلي.. وها نحن وجدنا قوى إسلاموية تتصدى بمحاولاتها لأسلمة الدستور الكوردستاني، في ظل ذرائعية وأساليب ملتوية لا نتيجة لها سوى مزيد مشاغلة وعرقلة لمسيرة بناء أسس الدولة العصرية المكينة في كوردستان تحديداً.
إنّ نموذج برامج الإسلام السياسي يتجسد في صورة الوضع في العراق الفديرالي. فبينما تنحدر أوضاع فئات الشعب وتختفي الطبقة الوسطى يتفاقم وجود طبقة كريبتوقراطية لا يستر فسادها سوى ورق توت الطائفية السياسية ومزاعم التديّن. والإحصاءات التي يجري التكتم عليها والمعلومات التي يجري التشويش على قراءتها تفضح الأحداث والجرائم التي تُرتكب بحق الشعب.
وإذا أخذنا بعض المقاييس التي سجلتها مؤشرات عالمية فسنجد جانباً من تلك الحقائق. ففي وقت تصدرت دولة صغيرة مثل بنما مؤشر السعادة السنوي، حيث أبرز معايير المؤشر تتجسد في درجة شعور الإنسان بوجود هدف له في الحياة، وكذلك في مستوى الرفاهية المالية واستقرار الوضع العام له وخلوّه من الضغوط والتوترات واستقرار وضعه الصحي فضلا عن حجم التمتع بالسعادة وفرص ممارسة الضحك والشعور بالمسرة، في الوقت ذاته نجد العراق يحتل موقعاً جد سيء في هذا المؤشر وتسلسله العالمي، حيث درجة التذمر وانعدام الرضا عن الأوضاع برمتها وبكل تفاصيلها وحيث الشعور السلبي تجاه ارتباط العراقيين بمحيطهم وتجاه الدولة بأسوأ أوضاعه…
في مثل هذه الظروف تتداعى الأمور لتنفلت من عقالها كما يجري اليوم في عراق ما بعد 2003؛ وفي ضوء ذلك تتبدى معالم الدولة الأكثر فشلا والأكثر فساداً على وفق مؤشرات دولية معروفة بحياديتها واستقلاليتها، والعراق كذلك بموقع الدولة الأكثر هشاشة كما في المؤشر الدولي الذي يعتمد بمعاييره على اثني عشر عاملا لتحديد ترتيب الدولة الهشة بين أقرانها عالمياً. بالإشارة إلى مفردات منها: ضغوط المتغيرات الديموغرافية وما أوسع وأكبر تلك المتغيرات التي تتبدى بقراءة نسب الطحن والتطهير الديني والعرقي للمسيحيين والأيزيدية والمندائيين وللعزل الطائفي في ضواحي المدن والمحافظات وما يجابه مختلف الأجيال والفئات العمرية والجنسية من معضلات ومخاطر عيش وسوداويته.. أما ضغوط اللجوء والنزوح والتشرد فإنها عراقيا تُقرأ بالملايين حتى وصل حجم المحتاجين للدعم والمساعدة إلى أكثر من 8 مليون عراقية وعراقي! بينهم حوالي 4 مليون نازح!! وبينهم كذلك، مئات آلاف من المشردين بخاصة من الأطفال الأيتام وما يجابهونه من حجم الاستباحة والاستغلال والاعتداءات المسجلة عليهم..
أما معيار الضغط الثالث الذي نود الإشارة إليه بمعالجتنا هذه، مما تقرأه المؤشرات وتكشف الوضع العراقي المتردي، فهو حجم التنمية غير المتوازنة وتدنيها إلى حدّ الانعدام بل إلى حدّ بات العراق (الجديد) يأكل مما كان بناه العراقيون طوال عقود من الزمن، ليجتر صوراً مأساوية من ماضيه الغابر؛ كما حل التدهور الاقتصادي، واتسع مشهد الخراب واستشرت قيم الفساد وآلياته وتفاقم وجود العنف المسلح ومن يرتكبه من ميليشيات إلى مستوى هدد شرعية الدولة، وأخلّ بمستويات الخدمة العامة، وانتهك كل حقوق الإنسان وحرياته.. وتمّ التفريط بسيادة القانون وتهاوت قدرات الأجهزة الأمنية والعسكرية مع تعمق جريمة استيلاد (الفضائيين) منفذاً للفساد ولتعزيز سطوة مفهوم الغنيمة الخاضع لمحاصصة التحزب الطائفي السياسي؛ دع عنك مستوى التدخل الخارجي والاختراقات المخابراتية وغيرها.. وانهارت الأمور حتى احتاجت الدولة اليوم إلى المساعدات الخارجية لتلبية واجباتها وأداء وظائفها كدولة.
وهكذا وفي ضوء مؤشر الدولة الهشة الذي قرأ أوضاع 177 دولة و وجد تصدر جنوب السودان للهشاشة في ضوء أزمة غذائية وعوامل التحزب السياسي والتهجير القسري والعنف الذي شرّد نحو 200.0000 الف شخص وتضاعف عدد المحتاجين للمساعدات من 2.5 مليون إلى 4.6 مليون.. في ضوء هذا المؤشر لا يمكن للعراق وبناء على الأرقام الموجودة على الأرض أن يكون في المرتبة 12 من 177 إذ مقابل الـ4 مليون محتاج سوداني هناك 8 مليون محتاج عراقي ومقابل نزوح أقل من ربع مليون سوداني هناك 4 مليون نازح عراقي.. ومقابل انتهاك القانون وحقوق الإنسان بات 8 مليون طفل عراقي بحال تعرض للانتهاك بمختلف أشكال الانتهاكات!! فهل ترتيب (12) الثاني عشر من 177 ترتيب واقعي أم أن الأمور أشد خطورة في هشاشتها…!؟
ولنمر سريعاً على عدد من الكوارث الجارية في عراق ما بعد 2003.. ولنقرأ بعضاً مما يمارسه الإسلام السياسي في جناحه التكفيري الإرهابي حيث استمرار ارتكاب جريمة استعباد الناس من أتباع الديانات التي لا تؤمن بما يعتقده من خرافات يُسقط القدسية [الدينية] عليها كما استمراره في ارتكاب جريمة يسميها السبي الـ(حلال) للنساء وفتحه أسواق النخاسة [الحلال] ليبيع ويشتري بهنّ!
وفي هذا الإطار، أمامنا شهر على الذكرى السنوية لجريمة اختطاف الأيزيديات في أغسطس 2014.. وما زال يوزع ويبيع مئات منهن! مع صمت وسلبية من الدولة العراقية وحكومتها [الاتحادية] ببغداد وبرامج عمل فاشلة في مقابل ما يجسده المؤشر من استقرار في دول أوروبا ومن ثم مقابل الفشل والهشاشة وتصدير اللاجئين تقوم دول الاتحاد الأوروبي باستيعاب عشرات ألوف منهم.. حيث أقرّ المجلس الأوروبي الأسبوع المنصرم نقل 40 ألف شخص من إيطاليا واليونان إلى دول أخرى في الاتحاد الأوروبي على مدار العامين المقبلين.
إنني هنا أتساءل عن الحجم الحقيقي للانتهاكات التي يتعرض لها ملايين الأطفال العراقيين بكل المجالات والميادين وكيف يجري ابتزازهم وتشغيلهم بالسخرة أو لمصلحة بلطجية مافيات وعصابات منظمة وكيف يتم الاتجار بهم وتُنتهك أجسادهم الغضة وتشوّه أنفسهم الفتية!؟ وأؤكد تساؤلي ليس برقم الـ8 مليون طفل الذين أشارت إليهم اليونسكو والذين قالت أنهم يمكن أن يصلوا إلى 10 مليون قريباً! ولكن السؤال يخص فقط وفقط الانتهاكات الجنسية الوحشية المهينة والمذلة التي تمتهنهم وتبدأ بذلك مشروع تحويلهم إلى أعضاء في سوق الجريمة بأشكالها!؟
ربما تتستر الأجنحة السياسية للميليشيات المسلحة التي تسمي نفسها أحزاباً ببعض مما يجري بكونه أمراً مشروعا دينياً!! بتمريره بمسميات الزواج المختلفة وهي جزءاً من لعبة البيع والشراء أو الاستعباد بخاصة عندما تُقدَّم الطفلة لحل الصراعات المجتمعية العشائرية العنفية بالفصلية والكصة بكصة وما أشبه من قبيل العرفي والمتعة وغيرهما في ظل الانفلات الشامل ليس لسلطة القانون حسب بل للأوضاع القيمية المنهارة مجتمعياً…
وإذا ما استمرت الأمور على تلك الوتيرة من التداعيات، فإننا في أمد غير بعيد، لن يمكننا الحديث عن دولة عراقية ولا حتى عن دويلات عراقية على النمط السوداني أو الصومالي بل ستحل كارثة التفكك بصيغ كانتونات بلا هوية جغرافية ولا غير جغرافية.. ذلكم ما سيقع من كارثة، إذا ما تُرِكت الأمور سبهللة ولم يحسم الشعب أمره في تغيير هوية المسيرة وطابعها من سطوة ثالوث الطائفية الفساد الإرهاب إلى الحكم الرشيد والبحث في وسائل تحقيق أسباب الاستقرار والسلم الأهلي..
إنّ مؤشرات بنية الدولة بكل محاورها وتفاصيل ما تضعه من تحذيرات هي في الواقع جهد إحصائي تحليلي يساعد على رسم توجهات الدول نحو تحقيق الاستقرار والتقعيد لأسس التنمية والتطور وخدمة المجتمعات وسعادة الشعوب.. ولهذا باتت المؤشرات الدولية المتخصصة أداة جدية مسؤولة في كشف معالم الطريق ودفع الشعوب والدول للتنافس إيجابيا بدل وقوعها أسيرة الصراعات السلبية التخريبية التي تهدم ولا تبني..
وإذا كان عراق ما بعد 2003 قد حلّ بظروفه في أسوأ مراتب المؤشرات فإن ذلك انعكاس لمعاناة شعبه ومكوناته وأطيافه وما اجترحته المواجع والآلام من فواجع كارثية قد قرعت لها نواقيس كل المؤشرات.. والحل بيد الشعب وقواه الحية ولن يأتي الحل من القوى التي برهنت التجاريب فشلها وفشل برامجها بل تعمد قواها لتخريب البلاد واستغلال العباد لمآرب وضيعة..
أفلا يدرك الشعب، أن ركوب طرقات المنافي الخارجية والداخلية ليس حلا!؟ أفلا يدرك الشعب وقواه أن خيار التصالح مع الذات وإنهاء أشكال الاحتراب وعدم الخضوع لمآرب القوى العنفية ورفض وجود قوى الجريمة وسطه، هو الحل وهو البديل؟ أفلا يدرك أن تجربة الركن الأبرز في الفديرالية العراقية بالإشارة إلى كوردستان وطابع مسيرتها الإيجابية المميزة تمثل النموذج الحي كي يرسم برامج التحول بعيدا عن قوى الطائفية والفساد؟؟
ثقة وطيدة بالشعب وبحسمه الموقف موضوعيا وبحراك سلمي مكين يمكنه إنقاذ الدولة من الأماكن المسيئة في أسفل قوائم المؤشرات العالمية؟
ثقة وطيدة بالتغيير الآتي..